إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تسببت في الإطاحة بحكومات و"تهاوي" تحالفات.. الإصلاحات الشاملة الاختبار الأكبر أمام مسار 25 جويلية

 

-انتهاج "سياسة "المطافئ" في التعاطي مع الإشكاليات والقضايا الناجمة عن ذلك لم يمكن من تحقيق النجاحات

تونس – الصباح

هل تنجح منظومة الحكم التي يقودها رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس حكومته أحمد الحشاني في تخطي عقبة "الإصلاحات" بما يضمن نجاح المسار ومواصلة مضيه في طريق تكريس جمهورية جديدة تقطع مع هنات ونقائص وإكراهات وتجاوزات منظومات الحكم السابقة والطبقة السياسية التي كانت مكونة للمشهد السياسي لاسيما منها الحكومات التي تعاقبت على السلطة خلال عشرية ما بعد 2011 والتي فشلت في تعاطيها مع هذه المسألة وتنكرت لها مقابل توجيه سياساتها إلى تحقيق أهداف أخرى؟

فمسألة الإصلاحات الشاملة والمراجعة الجذرية لمنظومة الدولة كانت عاملا مباشرا لاشتعال فتيل ثورة تونس نهاية 2010، وشكلت عنوانا كبيرا للمطالب التي رفعها المنتفضون في كامل جهات الجمهورية على نظام الراحل زين العابدين علي، وكانت أيضا سببا وعنصرا مغذيا للظروف والعوامل التي أدت إلى هروبه إلى خارج أرض الوطن وسقوط منظومة الحكم التي يقودها. وهي نفس الإصلاحات التي لخصتها شعارات "شغل، حرية، كرامة وطنية، نظام ديمقراطي" الذي حمله التواقون لمنظومة جديدة وشكلت بمثابة المرجع والمقياس المحدد لبوصلة ومضامين وأهداف المبادرات والرؤى والتصورات والمشاريع والبرامج التي يفترض أن إصلاحية شاملة بامتياز.

ولكن لم تلتزم الحكومات والأطراف المكونة لمنظومة الحكم في تونس ما بعد ثورة 2011 بهذه الإصلاحات، التي أجمع عديد المتابعين والمختصين في الشؤون الوطنية والسياسية والاقتصادية من داخل تونس وخارجها، على أنها مسألة مفصلية وعامل مهم لنجاح منظومة الحكم وتحقيق جانب من أهداف الثورة إن لم يكن كل الانتظارات والمطالب والاستحقاقات الحافة بها. ولم تعرف بلادنا طيلة العشرية الماضية بوادر إصلاح أو برامج عملية للقيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية. فحافظت على المناويل التنموية والفلاحية والمائية والصناعية التي تم وضعها في سياقات مختلفة منذ السنوات الأولى لدولة الاستقلال، باعتبار أن المراجعات والتعديلات التي عرفتها في مناسبات سابقة لم تعد تتماشى مع التغيرات الجذرية التي عرفها العالم وتعرفها بلادنا على جميع المستويات. والشأن نفسه تقريبا بالنسبة للقوانين والمجلات والاتفاقيات المبرمة والمنظمة للقطاعات التجارية والصناعية والمالية والخدمات الأساسية في الصحة والنقل والتعليم وغيرها، بما يضمن العدالة الاجتماعية ويراعي كل طبقات وفئات المجتمع لتكفل الدولة وتوفر شروط العيش الكريم للجميع.

فكان أن غيرت منظومة الحكم السابقة مجرى هذه الانتظارات العامة التي اتحد حولها كل المواطنين بمختلف أعمارهم وتوجهاتهم وأوساطهم تقريبا، لتصبح سياسة الدولة موجهة لخدمة أجندات وأهداف وبرامج حزبية سياسوية ضيقة تخدم أو تتنزل في جوانب منها في سياق أجندات أجنبية ليست لها علاقة بمطالب وأهداف التونسيين وانتظاراتهم من دولة ما بعد زين العابدين بن علي وحكم الحزب الواحد. ليساهم المناخ السياسي الجديد في إفراز ظواهر وممارسات أخرى للطبقة السياسية كرس في أبعاده وتجلياته على أرض الواقع منطق وثقافة "الغنيمة" والجري وراء المصالح الحزبية والشخصية والفئوية الضيقة في التعاطي سياسة إدارة دواليب الدولة. فكانت "التوافقات" و"التكتلات" العنوان الكبير لسياسة الدولة في العشرية الماضية، الذي غطى ما حملته لافتات المطالب وتصدعت به الحناجر في الحركات الاحتجاجية المتواصلة التي ميزت المرحلة في تعبير مباشر عن رفض ما جري على أمل أن تعود تلك الطبقة السياسية إلى رشدها الثوري. ولتتجه إلى القيام بالإصلاحات المطلوبة بما يخدم المصلحة العامة اجتماعيا وثقافيا وفكريا واقتصاديا.

لذلك لم تعمر طويلا كل "الزيجات" الحزبية والتوافقات سواء بالنسبة "للترويكا" في حكومة وبرلمان ما بعد أول انتخابات تشريعية بعد الثورة في نهاية 2011 المتكونة من كل من حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل أو غيرها من الجبهات والتكتلات التي تكونت خارج دائرة الحكم أي في صفوف المعارضة وأبرزها الجبهة الشعبية. إذ سريعا ما كان مآلها التصدع. والنهاية نفسها تقريبا بالنسبة لحالة التوافق والتحالف بين كل من نداء تونس الفائز بأغلبية المقاعد في البرلمان في الانتخابات التشريعية 1014 إلى جانب فوز رئيسه الراحل الباجي قائد السبسي بالرئاسة في أول انتخابات رئاسية في نفس العام. ومرة أخرى تحافظ النهضة على تماسك تنظيمها بعد الخروج من تحالف كانت الحركة الكاسب الأكبر من المرحلة، بعد أن استطاعت التغلغل في مفاصل الدولة مقابل الرمي بعرض الحائط للمطالب والانتظارات الإصلاحية. لتصبح ما بعد انتخابات 2019 هذه الإصلاحات من قبيل المستحيل خاصة أن حركة النهضة خرجت مرة أخرى المستفيد من المرحلة والمتحكم في منظومة الحكم والمشهد السياسي خاصة أن دستور 2014، حسب قراءة بعض المختصين في القانون الدستوري والمتابعين للوضع يقرون بأنه دستور قُدَّ بشكل خادم لمشروع سياسي أكثر منه إيديولوجي، رغم ما واجهه المجلس الوطني التأسيسي المكلف بكتابته من رفض وتحركات مدنية أدت إلى تعديله ليخرج بالشكل الذي كان عليه، حيث نظام حكم برلماني شبه مختلط تقود منظومة الحكم فيه قبة باردو بدرجة أولى و"القصبة" بدرجة ثانية فيما يجرد الدستور رئيس الجمهورية من الصلاحيات والاكتفاء بمنحه بعض الصلاحيات الشكلية لا غير. رغم أن عديد الحكومات كانت قد رفعت شعار "الإصلاحات" بما في ذلك مقاومة الفساد خاصة بالنسبة لحكومة يوسف الشاهد، ولكن لم يتم تنفيذ ذلك على أرض الواقع. بل انتهجت الحكومات سياسة ساهمت في تأزيم وتردي الوضع اقتصاديا واجتماعيا مقابل تزايد "الدكاكين" الحزبية والسياسية والهياكل المدنية التي لم تختلف في توجهاتها وأهدافها عن توجهات منظومة الحكم في رؤيتها لإصلاح وتحقيق المطالب الاجتماعية والإصلاحية العالقة.

وكان لمواصلة حكومة ما بعد 2019 نفس سياسة الهروب إلى الأمام والمضي على نفس خط سياسية الحكومات، لاسيما منها حكومة هشام مشيشي بعد استقالة حكومة الفخفاخ، تأثيره في تأجيج الرأي العام ضد منظومة الحكم. خاصة في ظل تحول الخلاف بين رئيس الجمهورية قيس سعيد والائتلاف الحزبي المكون للحكومة إلى صراع بين رأسي المؤسسة التشريعية والتنفذية بكل من باردو والقصبة من ناحية وسعيد من ناحية أخرى خاصة بعد أن لعب الائتلاف الحزبي الحاكم دوره في الإطاحة بحكومة الفخفاخ، التي كانت حاملة لمشروع إصلاحي على خلاف سابقاتها. فيما ترفض الجهات المتنفذة واللوبيات المتحكمة في مفاصل الدولة وفي منظومة الحكم تلك أي مبادرة أو محاولة للإصلاح.

ولئن بدأ التململ يدب في أوساط التونسيين الذين صنعوا ربيع 25 جويلية 2021 أو ساندوا ودعموا ما جاء فيه من مطالب وما تبعت موجة الغضب العامة في كامل جهات الجمهورية من قرارات وإجراءات رئاسية جاءت بعد نجاح قصر قرطاج في التقاط اللحظة وتحويلها إلى مشروع سياسي عنوانه الإصلاح لا غير، في محاولة لاستحضار لحظة 14 جانفي 2011، خاصة بعد مضي أكثر من سنتين من ذلك التاريخ، فإن الانتقادات الموجهة إلى سياسة سعيد تؤكد تقاطعه مع نفس سياسة منظومة حكم ما بعد الثورة، التي غيبت الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. لاسيما أن سعيد اختار هو أيضا المرور غلى الإصلاحات الدستورية والسياسية بالأساس في حين أن المطالب التي رفعها الشارع التونسي في الذكرى 64 لعيد الجمهورية حركتها مطالب اقتصادية واجتماعية بالأساس فضلا عن المطالب بحل البرلمان والحكومة وتغيير الحكومة.

تحد ورهان

ورغم اختلاف القراءات لهذه التوجهات بين من يعتبرها ضرورية للتمهيد للقيام بتغييرات شاملة وجذرية في المنظومة المحددة للنظام القائم في الدولة بما يقطع الطريق أمام كل محاولة للتسلسل أو العودة أو التراجع عن الإصلاح عبر تمهيد الأرضية الإصلاحية تشريعيا وسياسيا. بعد القضاء على الأجسام الحزبية والوسيطة والعودة إلى المربع الصفر في تكريس الجمهورية الجديدة التي لطالما تحدث عنها سعيد وأكد المختصون في القوانين الدستورية أن دستور 2022 يمهد لنظام جديد خاصة من خلال ما يمنحه لرئيس الجمهورية من صلاحيات وما يتضمنه من إعادة ترتيب الأوراق في علاقة باللعبة السياسية بالأساس.

فيما يراهن البعض الآخر، لاسيما المعارضة للمسار الذي يقوده سعيد على حالة التململ في الشراع التونسي اليوم والملل الذي يكاد يبلغ اليأس لدى البعض من إمكانية حدوث إصلاحات قادرة على إعادة الاعتبار لحياة البعض كمواطنين، بعد أن أصبحت فرص التمتع بالحقوق في العيش الكريم والخدمات المنتظرة على غاية من الصعوبة. لتساهم عدم قدرة سلطة الإشراف في التحكم في الوضع والظواهر المنغصة لحياة المواطنين من غلاء فاحش للأسعار وفقدان لمواد الاستهلاك الأساسية والأدوية والتراجع الكبير في الخدمات الصحية والنقل والإدارة وغيرها. ليكون التأخير في الدخول في إصلاحات فعلية وعملية عاملا لخروج الشارع التونسي مرة أخرى لقلب الأوضاع وموازين القوى ضد هذا المسار. فما قدمته رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن من برنامج إصلاحي الذي كانت أعلنت عنه في بادية ديسمبر 2022 وتجند وزراء حكومتها في مراحل لاحقة للتسويق له، لم ينجح في تغيير وضع الدولة ووجهة المنظومة ولم بالقدر المنتظر من النجاعة والشمولية الذي انتظره الجميع من حكومة ما بعد 25 جويلية. وكانت النتيجة تراكم الأزمات والفشل، رغم أن البعض حمل المسؤولية في ذلك لاختيارات غير الصائبة لرجالات الدولة في هذه المرحلة.

لذلك يفتح تعيين الحشاني على رأس الحكومة صفحة أخرى لانتظارات التونسيين لبرنامج إصلاحي شامل كفيل بالخروج من دائرة "السياسي" والدخول عمليا في مرحلة التنفيذ والتفعيل والإصلاحات التي من شأنها أن تحقق برامج تنموية كبرى وترتقي بالخدمات وتوفر فرض العمل وظروف العيش الكريم. لأن سياسة مجاراة ما هو موجود وانتهاج "سياسة "المطافئ" في التعاطي مع الإشكاليات والقضايا الناجمة عن ذلك لم يمكن من تحقيق النجاحات وصنع الأنظمة والبلدان. وهو تقريبا الرهان والتحدي المطروح على رئيس الجمهورية والحكومة اليوم أكثر من أي وقت مضى.

نزيهة الغضباني

 

 

 

 

تسببت في الإطاحة بحكومات و"تهاوي" تحالفات..   الإصلاحات الشاملة الاختبار الأكبر أمام مسار 25 جويلية

 

-انتهاج "سياسة "المطافئ" في التعاطي مع الإشكاليات والقضايا الناجمة عن ذلك لم يمكن من تحقيق النجاحات

تونس – الصباح

هل تنجح منظومة الحكم التي يقودها رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس حكومته أحمد الحشاني في تخطي عقبة "الإصلاحات" بما يضمن نجاح المسار ومواصلة مضيه في طريق تكريس جمهورية جديدة تقطع مع هنات ونقائص وإكراهات وتجاوزات منظومات الحكم السابقة والطبقة السياسية التي كانت مكونة للمشهد السياسي لاسيما منها الحكومات التي تعاقبت على السلطة خلال عشرية ما بعد 2011 والتي فشلت في تعاطيها مع هذه المسألة وتنكرت لها مقابل توجيه سياساتها إلى تحقيق أهداف أخرى؟

فمسألة الإصلاحات الشاملة والمراجعة الجذرية لمنظومة الدولة كانت عاملا مباشرا لاشتعال فتيل ثورة تونس نهاية 2010، وشكلت عنوانا كبيرا للمطالب التي رفعها المنتفضون في كامل جهات الجمهورية على نظام الراحل زين العابدين علي، وكانت أيضا سببا وعنصرا مغذيا للظروف والعوامل التي أدت إلى هروبه إلى خارج أرض الوطن وسقوط منظومة الحكم التي يقودها. وهي نفس الإصلاحات التي لخصتها شعارات "شغل، حرية، كرامة وطنية، نظام ديمقراطي" الذي حمله التواقون لمنظومة جديدة وشكلت بمثابة المرجع والمقياس المحدد لبوصلة ومضامين وأهداف المبادرات والرؤى والتصورات والمشاريع والبرامج التي يفترض أن إصلاحية شاملة بامتياز.

ولكن لم تلتزم الحكومات والأطراف المكونة لمنظومة الحكم في تونس ما بعد ثورة 2011 بهذه الإصلاحات، التي أجمع عديد المتابعين والمختصين في الشؤون الوطنية والسياسية والاقتصادية من داخل تونس وخارجها، على أنها مسألة مفصلية وعامل مهم لنجاح منظومة الحكم وتحقيق جانب من أهداف الثورة إن لم يكن كل الانتظارات والمطالب والاستحقاقات الحافة بها. ولم تعرف بلادنا طيلة العشرية الماضية بوادر إصلاح أو برامج عملية للقيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية. فحافظت على المناويل التنموية والفلاحية والمائية والصناعية التي تم وضعها في سياقات مختلفة منذ السنوات الأولى لدولة الاستقلال، باعتبار أن المراجعات والتعديلات التي عرفتها في مناسبات سابقة لم تعد تتماشى مع التغيرات الجذرية التي عرفها العالم وتعرفها بلادنا على جميع المستويات. والشأن نفسه تقريبا بالنسبة للقوانين والمجلات والاتفاقيات المبرمة والمنظمة للقطاعات التجارية والصناعية والمالية والخدمات الأساسية في الصحة والنقل والتعليم وغيرها، بما يضمن العدالة الاجتماعية ويراعي كل طبقات وفئات المجتمع لتكفل الدولة وتوفر شروط العيش الكريم للجميع.

فكان أن غيرت منظومة الحكم السابقة مجرى هذه الانتظارات العامة التي اتحد حولها كل المواطنين بمختلف أعمارهم وتوجهاتهم وأوساطهم تقريبا، لتصبح سياسة الدولة موجهة لخدمة أجندات وأهداف وبرامج حزبية سياسوية ضيقة تخدم أو تتنزل في جوانب منها في سياق أجندات أجنبية ليست لها علاقة بمطالب وأهداف التونسيين وانتظاراتهم من دولة ما بعد زين العابدين بن علي وحكم الحزب الواحد. ليساهم المناخ السياسي الجديد في إفراز ظواهر وممارسات أخرى للطبقة السياسية كرس في أبعاده وتجلياته على أرض الواقع منطق وثقافة "الغنيمة" والجري وراء المصالح الحزبية والشخصية والفئوية الضيقة في التعاطي سياسة إدارة دواليب الدولة. فكانت "التوافقات" و"التكتلات" العنوان الكبير لسياسة الدولة في العشرية الماضية، الذي غطى ما حملته لافتات المطالب وتصدعت به الحناجر في الحركات الاحتجاجية المتواصلة التي ميزت المرحلة في تعبير مباشر عن رفض ما جري على أمل أن تعود تلك الطبقة السياسية إلى رشدها الثوري. ولتتجه إلى القيام بالإصلاحات المطلوبة بما يخدم المصلحة العامة اجتماعيا وثقافيا وفكريا واقتصاديا.

لذلك لم تعمر طويلا كل "الزيجات" الحزبية والتوافقات سواء بالنسبة "للترويكا" في حكومة وبرلمان ما بعد أول انتخابات تشريعية بعد الثورة في نهاية 2011 المتكونة من كل من حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل أو غيرها من الجبهات والتكتلات التي تكونت خارج دائرة الحكم أي في صفوف المعارضة وأبرزها الجبهة الشعبية. إذ سريعا ما كان مآلها التصدع. والنهاية نفسها تقريبا بالنسبة لحالة التوافق والتحالف بين كل من نداء تونس الفائز بأغلبية المقاعد في البرلمان في الانتخابات التشريعية 1014 إلى جانب فوز رئيسه الراحل الباجي قائد السبسي بالرئاسة في أول انتخابات رئاسية في نفس العام. ومرة أخرى تحافظ النهضة على تماسك تنظيمها بعد الخروج من تحالف كانت الحركة الكاسب الأكبر من المرحلة، بعد أن استطاعت التغلغل في مفاصل الدولة مقابل الرمي بعرض الحائط للمطالب والانتظارات الإصلاحية. لتصبح ما بعد انتخابات 2019 هذه الإصلاحات من قبيل المستحيل خاصة أن حركة النهضة خرجت مرة أخرى المستفيد من المرحلة والمتحكم في منظومة الحكم والمشهد السياسي خاصة أن دستور 2014، حسب قراءة بعض المختصين في القانون الدستوري والمتابعين للوضع يقرون بأنه دستور قُدَّ بشكل خادم لمشروع سياسي أكثر منه إيديولوجي، رغم ما واجهه المجلس الوطني التأسيسي المكلف بكتابته من رفض وتحركات مدنية أدت إلى تعديله ليخرج بالشكل الذي كان عليه، حيث نظام حكم برلماني شبه مختلط تقود منظومة الحكم فيه قبة باردو بدرجة أولى و"القصبة" بدرجة ثانية فيما يجرد الدستور رئيس الجمهورية من الصلاحيات والاكتفاء بمنحه بعض الصلاحيات الشكلية لا غير. رغم أن عديد الحكومات كانت قد رفعت شعار "الإصلاحات" بما في ذلك مقاومة الفساد خاصة بالنسبة لحكومة يوسف الشاهد، ولكن لم يتم تنفيذ ذلك على أرض الواقع. بل انتهجت الحكومات سياسة ساهمت في تأزيم وتردي الوضع اقتصاديا واجتماعيا مقابل تزايد "الدكاكين" الحزبية والسياسية والهياكل المدنية التي لم تختلف في توجهاتها وأهدافها عن توجهات منظومة الحكم في رؤيتها لإصلاح وتحقيق المطالب الاجتماعية والإصلاحية العالقة.

وكان لمواصلة حكومة ما بعد 2019 نفس سياسة الهروب إلى الأمام والمضي على نفس خط سياسية الحكومات، لاسيما منها حكومة هشام مشيشي بعد استقالة حكومة الفخفاخ، تأثيره في تأجيج الرأي العام ضد منظومة الحكم. خاصة في ظل تحول الخلاف بين رئيس الجمهورية قيس سعيد والائتلاف الحزبي المكون للحكومة إلى صراع بين رأسي المؤسسة التشريعية والتنفذية بكل من باردو والقصبة من ناحية وسعيد من ناحية أخرى خاصة بعد أن لعب الائتلاف الحزبي الحاكم دوره في الإطاحة بحكومة الفخفاخ، التي كانت حاملة لمشروع إصلاحي على خلاف سابقاتها. فيما ترفض الجهات المتنفذة واللوبيات المتحكمة في مفاصل الدولة وفي منظومة الحكم تلك أي مبادرة أو محاولة للإصلاح.

ولئن بدأ التململ يدب في أوساط التونسيين الذين صنعوا ربيع 25 جويلية 2021 أو ساندوا ودعموا ما جاء فيه من مطالب وما تبعت موجة الغضب العامة في كامل جهات الجمهورية من قرارات وإجراءات رئاسية جاءت بعد نجاح قصر قرطاج في التقاط اللحظة وتحويلها إلى مشروع سياسي عنوانه الإصلاح لا غير، في محاولة لاستحضار لحظة 14 جانفي 2011، خاصة بعد مضي أكثر من سنتين من ذلك التاريخ، فإن الانتقادات الموجهة إلى سياسة سعيد تؤكد تقاطعه مع نفس سياسة منظومة حكم ما بعد الثورة، التي غيبت الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. لاسيما أن سعيد اختار هو أيضا المرور غلى الإصلاحات الدستورية والسياسية بالأساس في حين أن المطالب التي رفعها الشارع التونسي في الذكرى 64 لعيد الجمهورية حركتها مطالب اقتصادية واجتماعية بالأساس فضلا عن المطالب بحل البرلمان والحكومة وتغيير الحكومة.

تحد ورهان

ورغم اختلاف القراءات لهذه التوجهات بين من يعتبرها ضرورية للتمهيد للقيام بتغييرات شاملة وجذرية في المنظومة المحددة للنظام القائم في الدولة بما يقطع الطريق أمام كل محاولة للتسلسل أو العودة أو التراجع عن الإصلاح عبر تمهيد الأرضية الإصلاحية تشريعيا وسياسيا. بعد القضاء على الأجسام الحزبية والوسيطة والعودة إلى المربع الصفر في تكريس الجمهورية الجديدة التي لطالما تحدث عنها سعيد وأكد المختصون في القوانين الدستورية أن دستور 2022 يمهد لنظام جديد خاصة من خلال ما يمنحه لرئيس الجمهورية من صلاحيات وما يتضمنه من إعادة ترتيب الأوراق في علاقة باللعبة السياسية بالأساس.

فيما يراهن البعض الآخر، لاسيما المعارضة للمسار الذي يقوده سعيد على حالة التململ في الشراع التونسي اليوم والملل الذي يكاد يبلغ اليأس لدى البعض من إمكانية حدوث إصلاحات قادرة على إعادة الاعتبار لحياة البعض كمواطنين، بعد أن أصبحت فرص التمتع بالحقوق في العيش الكريم والخدمات المنتظرة على غاية من الصعوبة. لتساهم عدم قدرة سلطة الإشراف في التحكم في الوضع والظواهر المنغصة لحياة المواطنين من غلاء فاحش للأسعار وفقدان لمواد الاستهلاك الأساسية والأدوية والتراجع الكبير في الخدمات الصحية والنقل والإدارة وغيرها. ليكون التأخير في الدخول في إصلاحات فعلية وعملية عاملا لخروج الشارع التونسي مرة أخرى لقلب الأوضاع وموازين القوى ضد هذا المسار. فما قدمته رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن من برنامج إصلاحي الذي كانت أعلنت عنه في بادية ديسمبر 2022 وتجند وزراء حكومتها في مراحل لاحقة للتسويق له، لم ينجح في تغيير وضع الدولة ووجهة المنظومة ولم بالقدر المنتظر من النجاعة والشمولية الذي انتظره الجميع من حكومة ما بعد 25 جويلية. وكانت النتيجة تراكم الأزمات والفشل، رغم أن البعض حمل المسؤولية في ذلك لاختيارات غير الصائبة لرجالات الدولة في هذه المرحلة.

لذلك يفتح تعيين الحشاني على رأس الحكومة صفحة أخرى لانتظارات التونسيين لبرنامج إصلاحي شامل كفيل بالخروج من دائرة "السياسي" والدخول عمليا في مرحلة التنفيذ والتفعيل والإصلاحات التي من شأنها أن تحقق برامج تنموية كبرى وترتقي بالخدمات وتوفر فرض العمل وظروف العيش الكريم. لأن سياسة مجاراة ما هو موجود وانتهاج "سياسة "المطافئ" في التعاطي مع الإشكاليات والقضايا الناجمة عن ذلك لم يمكن من تحقيق النجاحات وصنع الأنظمة والبلدان. وهو تقريبا الرهان والتحدي المطروح على رئيس الجمهورية والحكومة اليوم أكثر من أي وقت مضى.

نزيهة الغضباني

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews