إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي/ تونس والصين.. تردد تونسي غير منتج

 

تخضع قراءة العلاقات بين الدول إلى ثوابت تتداخل مع المتغيرات. ولا شك أن الحرص على السيادة الوطنية وما يرتبط بها من مصالح ورهانات هو الأرضية التي تنبني عليها العلاقات التي تقيمها كل دولة في العالم. ولكن المتغيرات تلعب دورا حاسما في توجيه السياسات ويمكن أن تؤدي إلى تحولات في نوعية العلاقات من التحالف إلى الفتور أو حتى المواجهة وربما من المواجهة إلى المهادنة وحتى التحالف. وغالبا ما يخضع نسق العلاقات بين الدول إلى السياق الإقليمي والدولي الذي تتنزل فيه. يمكن أن يرى البعض في هذا التقديم تكرارا لما يعتبر من "البديهيات" التي يعرفها الجميع. ولكن آفة "البديهيات" أنه يقع تناسيها باستمرار خاصة حين لا تملك الدولة الرغبة ، أو القدرة ، في قراءة المتغيرات سواء منها تلك المتعلقة بها أو بالسياق الإقليمي والدولي. وهذا ما ينطبق إلى حد كبير على السياسة الخارجية التونسية. كان من المفترض أن تكون هناك سياسة خارجية جديدة لتونس بعد 14 جانفي 2011 تنسجم، على الأقل، مع شعارين وقع ترديدهما وهما الحرية والكرامة الوطنية .وهذا يعني التوجه نحو كل ما من شأنه أن يضعف الارتهان لمنطق الأحادية القطبية. السنوات التي أعقبت 14 جانفي 2011 لم تختر هذا النهج بل اختارت الانخراط في سياسة محاور ضارة ألحقت تونس بصراعات إقليمية وجعلت محل صراع بين دول تعمل ، بالوكالة، لفائدة الولايات المتحدة الأمريكية حتى وإن كان بعضها يتظاهر بعكس ذلك. بعد انتخاب قيس سعيد رئيسا للجمهورية لم يتغير الأمر فعليا حتى وإن كان الخطاب السياسي أخذ يركز أكثر على السيادة الوطنية ويلوح بالاستعداد لإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية التونسية.

ولكن السياسات ليست أقوالا بل هي أفعال وهذا ما يتأكد خاصة في الرياضات للخارجية لأنها مجال لا تغذيه الوعود أو الشعارات و لا يقبل لعبة الإرجاء إلى ما لانهاية. وتعطي محاولات تخطي الأحادية القطبية " دروسا تطبيقية " في هذا المجال خاصة إذا كان المنطلق تجنب العداء المطلق والإيمان بأن العلاقات بين الدول تخضع إلى أبعد الحدود لمنطق المصلحة وتستفيد إلى حد ما من دروس التاريخ. منطق المصلحة يفرض على تونس مزيد الانفتاح المدروس وتنويع الشراكات إلى أبعد حد ويفرض عليها ، بشكل أخص، أن توظف موقعها الجغرافي لتكون همزة الوصل ونقطة التفاعل بين آسيا وأوروبا وإفريقيا. ما يصيب الحضارة الأورو-الأطلسية من تهرم وخاصة من استخفاف بالجانب القيمي يمثل دافعا آخر للبحث عن شركاء جدد أكثر حرصا على القيم وخاصة منها التي توفر استقرارا حقيقيا في العلاقات الدولية لأنها لا تنطلق من رؤية عنصرية ولا تبرر الاستعمار. هناك انسجام مع تمسكنا بالدفاع عن القضايا العادلة يجب أن نحافظ عليه. هذه العوامل ، إلى جانب ضرورة الانفتاح على تجارب تنموية ناجحة ، تدفعنا إلى التوجه صوب القارة الآسيوية التي تزخر بتجارب ناجحة سبق أن تحدثنا عن بعضها سابقا.

ولا يمكن الحديث عن القارة الآسيوية اليوم دون الحديث عن جمهورية الصين الشعبية التي تحولت إلى رقم صعب في المعادلات الإقليمية و الدولية على مختلف الأصعدة. يضيق المجال لاستعراض أوجه التطور الصيني ولكن الاحتفال بمرور خمسين عاما على بداية التعاون بين تونس والصين في المجال الصحي يمثل مناسبة للتوقف ، ولو سريعا، عند ما يمكن أن ينجزه تقارب أكثر بين تونس والصين. الثقافة الصينية ثرية وفيها من القيم ومن التاريخ أساسا من التفاعل الخلاق مع الواقع ما يوفر مادة خصبة لتونس في بحثها عن نموذج جديد لاستعادة المكانة والدور وخاصة الفاعلية على جميع المستويات لأن مجتمعنا يعاني حاليا من استخفاف مخيف بقيم الجدوى والنجاعة والإنتاج. وتخلو العلاقة مع الصين من رواسب الماضي السلبية لأن الصين لم تستعمر الشعوب العربية والإفريقية وهي غير منحازة بشكل صريح أو حتى ضمني للكيان الصهيوني وهو ما يبعد ورقة مقايضة التعاون الإقتصادي بالتطبيع مع الكيان البغيض والتي غالبا ما تحضر في السياسات الأورو-الأطلسية. ومن ناحية أخرى يكشف مسار التعاون بين تونس و جمهورية الصين الشعبية أن بكين تمثل صديقا حقيقيا، له حساباته ومصالحه وهذا طبيعي في العلاقات الدولية، ولكنه لا يفرض رؤيته ولا يتخلى عن أصدقائه. تكفي الإشارة هنا إلى أن جمهورية الصين الشعبية لم تفكر على امتداد خمسين عاما من التعاون مع تونس في ترويج الإيديولوجيا التي تؤمن بها في بلادنا ولم تشترط تبني تونس لمواقف معينة في المستوى الدولي. ويضاف إلى ذلك أن بكين كانت إلى جانب تونس كلما اقتضى الأمر ذلك وما أزمة وباء الكوفيد 19 إلا خير و آخر دليل.

التردد التونسي في تطوير العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية يطرح أكثر من علامة استفهام في ظل الحاجة التونسية إلى هذا التعاون وما يبديه الجانب الصيني من حرص على ذلك ومن غياب العوائق الموضوعية أو حتى النفسية التي يمكن أن تكون حائلا دون تطوير حقيقي للعلاقات بين تونس وبكين. تبدو تونس متخلفة في هذا المجال حتى عن تحولات السياسة الخارجية في منطقة المغرب العربي.  الأشقاء في الجزائر والمغرب أدركوا أهمية تنويع الشراكات وأصبحت لهم علاقات اقتصادية متطورة مع أغلب الأقطاب بما في ذلك الصين. وحين نتحدث عن المغرب فإننا نشير إلى دولة تسعى سياساتها لعدم إزعاج واشنطن ولكنها مع ذلك لا تتوانى عن تطوير العلاقات الاقتصادية مع جمهورية الصين الشعبية. التردد التونسي في تطوير العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية غير مفهوم وغير منتج ويمكن أن يجعلنا نخسر الكثير بما في ذلك "صبر " الصديق الصيني أمام هذا التردد لأنه بقدر ما يعرف عن الثقافة الصينية تثمينها لقيمة الصبر فإن للصبر، في العلاقات الدولية وفي عالم مضطرب ومتحرك، حدودا كما قالت أم كلثوم.

هشام الحاجي

رأي/   تونس والصين.. تردد تونسي غير منتج

 

تخضع قراءة العلاقات بين الدول إلى ثوابت تتداخل مع المتغيرات. ولا شك أن الحرص على السيادة الوطنية وما يرتبط بها من مصالح ورهانات هو الأرضية التي تنبني عليها العلاقات التي تقيمها كل دولة في العالم. ولكن المتغيرات تلعب دورا حاسما في توجيه السياسات ويمكن أن تؤدي إلى تحولات في نوعية العلاقات من التحالف إلى الفتور أو حتى المواجهة وربما من المواجهة إلى المهادنة وحتى التحالف. وغالبا ما يخضع نسق العلاقات بين الدول إلى السياق الإقليمي والدولي الذي تتنزل فيه. يمكن أن يرى البعض في هذا التقديم تكرارا لما يعتبر من "البديهيات" التي يعرفها الجميع. ولكن آفة "البديهيات" أنه يقع تناسيها باستمرار خاصة حين لا تملك الدولة الرغبة ، أو القدرة ، في قراءة المتغيرات سواء منها تلك المتعلقة بها أو بالسياق الإقليمي والدولي. وهذا ما ينطبق إلى حد كبير على السياسة الخارجية التونسية. كان من المفترض أن تكون هناك سياسة خارجية جديدة لتونس بعد 14 جانفي 2011 تنسجم، على الأقل، مع شعارين وقع ترديدهما وهما الحرية والكرامة الوطنية .وهذا يعني التوجه نحو كل ما من شأنه أن يضعف الارتهان لمنطق الأحادية القطبية. السنوات التي أعقبت 14 جانفي 2011 لم تختر هذا النهج بل اختارت الانخراط في سياسة محاور ضارة ألحقت تونس بصراعات إقليمية وجعلت محل صراع بين دول تعمل ، بالوكالة، لفائدة الولايات المتحدة الأمريكية حتى وإن كان بعضها يتظاهر بعكس ذلك. بعد انتخاب قيس سعيد رئيسا للجمهورية لم يتغير الأمر فعليا حتى وإن كان الخطاب السياسي أخذ يركز أكثر على السيادة الوطنية ويلوح بالاستعداد لإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية التونسية.

ولكن السياسات ليست أقوالا بل هي أفعال وهذا ما يتأكد خاصة في الرياضات للخارجية لأنها مجال لا تغذيه الوعود أو الشعارات و لا يقبل لعبة الإرجاء إلى ما لانهاية. وتعطي محاولات تخطي الأحادية القطبية " دروسا تطبيقية " في هذا المجال خاصة إذا كان المنطلق تجنب العداء المطلق والإيمان بأن العلاقات بين الدول تخضع إلى أبعد الحدود لمنطق المصلحة وتستفيد إلى حد ما من دروس التاريخ. منطق المصلحة يفرض على تونس مزيد الانفتاح المدروس وتنويع الشراكات إلى أبعد حد ويفرض عليها ، بشكل أخص، أن توظف موقعها الجغرافي لتكون همزة الوصل ونقطة التفاعل بين آسيا وأوروبا وإفريقيا. ما يصيب الحضارة الأورو-الأطلسية من تهرم وخاصة من استخفاف بالجانب القيمي يمثل دافعا آخر للبحث عن شركاء جدد أكثر حرصا على القيم وخاصة منها التي توفر استقرارا حقيقيا في العلاقات الدولية لأنها لا تنطلق من رؤية عنصرية ولا تبرر الاستعمار. هناك انسجام مع تمسكنا بالدفاع عن القضايا العادلة يجب أن نحافظ عليه. هذه العوامل ، إلى جانب ضرورة الانفتاح على تجارب تنموية ناجحة ، تدفعنا إلى التوجه صوب القارة الآسيوية التي تزخر بتجارب ناجحة سبق أن تحدثنا عن بعضها سابقا.

ولا يمكن الحديث عن القارة الآسيوية اليوم دون الحديث عن جمهورية الصين الشعبية التي تحولت إلى رقم صعب في المعادلات الإقليمية و الدولية على مختلف الأصعدة. يضيق المجال لاستعراض أوجه التطور الصيني ولكن الاحتفال بمرور خمسين عاما على بداية التعاون بين تونس والصين في المجال الصحي يمثل مناسبة للتوقف ، ولو سريعا، عند ما يمكن أن ينجزه تقارب أكثر بين تونس والصين. الثقافة الصينية ثرية وفيها من القيم ومن التاريخ أساسا من التفاعل الخلاق مع الواقع ما يوفر مادة خصبة لتونس في بحثها عن نموذج جديد لاستعادة المكانة والدور وخاصة الفاعلية على جميع المستويات لأن مجتمعنا يعاني حاليا من استخفاف مخيف بقيم الجدوى والنجاعة والإنتاج. وتخلو العلاقة مع الصين من رواسب الماضي السلبية لأن الصين لم تستعمر الشعوب العربية والإفريقية وهي غير منحازة بشكل صريح أو حتى ضمني للكيان الصهيوني وهو ما يبعد ورقة مقايضة التعاون الإقتصادي بالتطبيع مع الكيان البغيض والتي غالبا ما تحضر في السياسات الأورو-الأطلسية. ومن ناحية أخرى يكشف مسار التعاون بين تونس و جمهورية الصين الشعبية أن بكين تمثل صديقا حقيقيا، له حساباته ومصالحه وهذا طبيعي في العلاقات الدولية، ولكنه لا يفرض رؤيته ولا يتخلى عن أصدقائه. تكفي الإشارة هنا إلى أن جمهورية الصين الشعبية لم تفكر على امتداد خمسين عاما من التعاون مع تونس في ترويج الإيديولوجيا التي تؤمن بها في بلادنا ولم تشترط تبني تونس لمواقف معينة في المستوى الدولي. ويضاف إلى ذلك أن بكين كانت إلى جانب تونس كلما اقتضى الأمر ذلك وما أزمة وباء الكوفيد 19 إلا خير و آخر دليل.

التردد التونسي في تطوير العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية يطرح أكثر من علامة استفهام في ظل الحاجة التونسية إلى هذا التعاون وما يبديه الجانب الصيني من حرص على ذلك ومن غياب العوائق الموضوعية أو حتى النفسية التي يمكن أن تكون حائلا دون تطوير حقيقي للعلاقات بين تونس وبكين. تبدو تونس متخلفة في هذا المجال حتى عن تحولات السياسة الخارجية في منطقة المغرب العربي.  الأشقاء في الجزائر والمغرب أدركوا أهمية تنويع الشراكات وأصبحت لهم علاقات اقتصادية متطورة مع أغلب الأقطاب بما في ذلك الصين. وحين نتحدث عن المغرب فإننا نشير إلى دولة تسعى سياساتها لعدم إزعاج واشنطن ولكنها مع ذلك لا تتوانى عن تطوير العلاقات الاقتصادية مع جمهورية الصين الشعبية. التردد التونسي في تطوير العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية غير مفهوم وغير منتج ويمكن أن يجعلنا نخسر الكثير بما في ذلك "صبر " الصديق الصيني أمام هذا التردد لأنه بقدر ما يعرف عن الثقافة الصينية تثمينها لقيمة الصبر فإن للصبر، في العلاقات الدولية وفي عالم مضطرب ومتحرك، حدودا كما قالت أم كلثوم.

هشام الحاجي

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews