25 جويلية 2021 .. تاريخ لا يمكن تجاهله أو القفز عليه أو محوه من الزمن التونسي الحديث.. ففي هذا التاريخ كان المنعرج الذي سيقود تونس الى مرحلة جديدة من تاريخها بخصوصيات وملامح سياسية جديدة ومختلفة، أنتجت بدورها واقعا جديدا تشكل في إطار الاستثناء الدستوري والقانوني ووضع نقطة نهاية لعشرية الانتقال الديمقراطي بكل اختلافاتها وخلافاتها وصراعاتها وسياقاتها وارتداداتها وهزّاتها واهتزازاتها ..
منذ سنتين، اختار الرئيس قيس سعيد أن يذهب بعيدا في اتخاذ القرار السياسي الذي لم يتوقعه أحدا.. ففي ذلك اليوم كان الوضع العام قد بلغ ذروة التأزّم .. جائحة كورونا تحصد آلاف الأرواح، ومنظومة صحية تنهار وغياب لأبسط أدوات مواجهة الفيروس القاتل في بعض المستشفيات المحلية والجهوية خاصّة، وتحوّلت أخبار الموت الى أخبار يومية، مقابل فشل حكومة المشيشي في إيجاد حلول لتلك الكارثة الإنسانية واستخفافها بالغضب والحنق الشعبي الذي بات يهدّد بانفجار اجتماعي، خاصة بعد تسرّب صور لوزراء في حكومة المشيشي قبل ذلك بأسابيع وهم بصدد الاستجمام في منتجعات سياحية دون أدنى اكتراث بالوضع الصحي المأساوي التي تعيشه البلاد، بالإضافة الى استنزاف البرلمان بالصراعات الحزبية التي أنهكته وعطّلت أداءه وباتت الجلسات العامة عبارة عن حلبة مصارعة بين القوى السياسية وخاصة بين كتلتي الدستوري الحرّ من جهة وحركة النهضة وائتلاف الكرامة من جهة أخرى ..
ومن وسط كل تلك الفوضى السياسية وتفكك مؤسسات الدولة والجائحة التي تعصف يوميا بمئات الأرواح.. يباغت رئيس الجمهورية قيس سعيد الجميع بالقرار السياسي الأكثر جرأة ومجازفة بعد الثورة، مستغلا حالة من الغضب الشعبي يومها وبلغت حدّ حرق مقرات حركة النهضة في أكثر من جهة مع تزايد مؤشرات الاحتقان والغضب الشعب ..
ولم تنته ليلة 25 جويلية 2021 حتى كان القرار الذي ظل قبلها يتداول في الكواليس.. بل اقترحته صراحة بعض الأحزاب ومنها الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي، محمد عبو ..
أمام مجلس الأمني القومي وفي اجتماع تاريخي بأرفع القيادات الأمنية والعسكرية، قرّر الرئيس قيس سعيد تفعيل الفصل 80 من دستور 2014 الذي ينصّ على أنه "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدّولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشّعب وإعلام رئيس المحكمة الدّستورية، ويعلن عن التّدابير في بيان إلى الشعب".
وقد أعلن ليلتها رئيس الجمهورية انه فعّل الفصل 80 واتخذ جملة من التدابير الاستثنائية لمدة شهر قابلة للتجديد أقال خلالها حكومة هشام المشيشي الذي قدّم استقالته مساء نفس اليوم بعد تداول أخبار حول احتجازه، كما تم تجميد مهام مجلس نواب الشعب وغلقه بقوات عسكرية ورفع الحصانة عن نوابه، وذلك قبل أن يعلن رئيس الجمهورية بعد ذلك وبأشهر وبعد أن عقد البرلمان المجمّد وقتها جلسة برلمانية افتراضية، حيث بعد تلك الجلسة مباشرة اتخذ قيس سعيد، قرارا بحلّ البرلمان.. ومع الإجراءات الاستثنائية، اتخذ الرئيس قيس سعيد قرارا بتعليق عمل هيئة مراقبة دستورية القوانين وهي هيئة وقتية ..
والإجراءات الاستثنائية التي تم إعلانها، امتدت الى غلق مقرّ هيئة مكافحة الفساد بعد ذلك ووضع عدد من الشخصيات السياسية تحت الإقامة الجبرية وبينهم قيادات حزبية بارزة مثل رئيس كلتة حركة النهضة في البرلمان المنحل نور الدين البحيري وحتى بعض الشخصيات الحقوقية مثل عميد المحامين السابق، شوقي الطبيب الذي ترأس سابقا هيئة مكافحة الفساد..
وفي سياق مسار 25 جويلية والتدابير الاستثنائية، تم إصدار الأمر الرئاسي 117 الذي اعدّه وصاغها ثلة من أبرز رجال القانون الدستوري المقربين من الرئيس قيس سعيد وقتها وهم أمين محفوظ والصادق بلعيد ومحمد صالح بن عيسى.. ومنذ إصدار هذا الأمر الذي ينظم حالة الاستثناء ويضبط قواعد جديدة للحكم ولعلاقات المؤسسات الرسمية للدولة في 21 سبتمبر، بدا واضحا توجّه المسار نحو ترسيخ حكم فردي وسلطة تنفيذية مهيمنة على كل مؤسسات الدولة .
وبعد إصدار ذلك الأمر، تم تعيين حكومة جديدة هي حكومة نجلاء بودن، ليتواصل المسار في محطات لاحقة منها الاستشارة الوطنية لتحديد مطالب الشعب من المرحلة الشعب وتصوراته حولها ، ولئن لم تسجل تلك الاستشارة الإقبال المتوقّع فإن الرواية الرسمية بررت ذلك بالاستهداف الالكتروني للاستشارة بما أثّر عن نجاحها، وتلا الدستور تعيين لجنة بقيادة الصادق بلعيد وأمين لصياغة دستور للبلاد وبعد الانتهاء من عملها رفض سعيّد دستورها المقترح واقترح دستورا آخر عرضه على الاستفتاء، وبعد ذلك تمت صياغة قانون جديد للانتخاب كرّس نظاما جديدا وهو نظام الاقتراع على الأفراد والذي انتهى بانتخاب البرلمان الجديد وتعيين إبراهيم بودربالة رئيسا له ..
المسار الحكومي.. فشل متواصل
يوم 29 سبتمبر كّلف رئيس الجمهورية قيس سعيد أستاذة التعليم العالي بالمدرسة الوطنية للمهندسين والمختصة في علوم الجيولوجيا، نجلاء بودن بتشكيل أول حكومة بعد إعلان إجراءات 25 جويلية وهي الحكومة التي ما زالت صامدة الى اليوم.. وكان تعيين نجلاء بودن والتي كانت مُكلفة بخطة تنفيذ برامج البنك الدولي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مفاجأة كبيرة، وخاصة وأنها لم تكن معروفة قبل ذلك لا على الصعيد السياسي ولا الحقوقي .
ورغم أنها لم تكن من التونسيات المؤثرات والمعروفات في أي مجال من المجالات، إلا أن تعيينها على المستوى الاتصالي كان له وقعه وتأثيره الإيجابي على صورة مسار 25 جويلية، وخاصة وهي أول امرأة تونسية تتقلّد هذا المنصب الرفيع وتصبح رئيسة حكومة، ورغم أن نجلاء بودن لم تكن لها مسيرة سياسية ولا حقوقية معروفة إلا أنها كانت كفاءة أكاديمية حيث تم تعيينها في 2011، مديرة عامة مكلفة بالجودة بوزارة التعليم العالي، كما شغلت منصب رئيسة وحدة تصرف حسب الأهداف بالوزارة ذاتها، وكُلّفت بمهمة بديوان وزير التعليم العالي السابق شهاب بودن سنة 2015.
يوم 11 أكتوبر 2021 أعلنت عن تركيبة الحكومة التي ستقودها وكانت تتكوّن من 24 حقيبة وزارية مع كتابة دولة، فريق وزاري يعتبر نسبيا من أصغر الفرق الحكومية التي تولت إدارة الشأن العام بعد الثورة .. وتكوّن الفريق الوزاري الذي اعتمدته بودن من كفاءات إدارية لم يكن لأغلبها علاقة بالسياسة او النشاط الحقوقي او صلب المجتمع المدني .
حكومة نجلاء بودن التي ولدت في سياق سياسي جديد كانت تختلف عن كل الحكومات السابقة حيث أن هذه الحكومة يتم تعيينها مباشرة من رئيس الجمهورية وهي مسؤولة مباشرة أمامه وليس كما كان الأمر في السابق عندما كان تعيين الحكومة ومساءلتها وإقالتها خاضع للبرلمان وفق دستور 2014 ، ولكن الأمر 117 الذي غيّر طبيعة النظام السياسي من برلماني معدّل الى رئاسي، منح لرئيس الجمهورية صلاحية قيادة الجهاز التنفيذي للدولة من خلال تعيين وإعفاء أعضاء الحكومة وقد تكرّس التوجّه نحو النظام الرئاسي في دستور الاستفتاء الذي جعل السلطة التنفيذية بمختلف صلاحياتها في يد رئيس الدولة في حين تحوّلت الحكومة الى جهاز تنفيذي يلتزم بقرارات الرئيس وينفّذها ..
ورغم أن حكومة نجلاء بودن تعتبر من أكثر الحكومات استقرارا، وما زالت بعد سنتين في عددها الأكبر تحظى بثقة رئيس الدولة، إلا أن ذلك لا يعني أن أدائها كان مميزا ولافتا، بل كانت حكومة باهتة دون شخصية ودون ملامح، كما بدا الارتباك على عمل أغلب وزرائها الذي بدا أدائهم محدودا ومهتزا وغير مغيّرا للواقع وذلك بسبب افتقاد الخبرة والكفاءة ، بالنسبة للأغلبية، حيث كان معيار تعيينهم الولاء وقرب أغلبهم من الرئيس بشكل مباشر وبعضهم كان من أبناء ومنظّري مشروع البناء القاعدي .
ورغم التحويرات الجزئية التي قام بها رئيس الدولة في تركيبة لضخ دماء جديد في الفريق الحكومي إلا أن مردود الحكومة لم يتحسّن بشكل لافت، خاصة أن أغلب مجهود الحكومة كان متجها الى إعداد ملف القرض والتفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي لم يسفر الى اليوم عن أي نتيجة تذكر رغم الوفود والزيارات واللقاءات بأكبر المسؤولين في الصندوق .
ومن الملفات التي فشلت فيها الحكومة بشكل واضح هو الملف الاجتماعي حيث لم تحقق الى اليوم أي انجاز يذكر كما أغلقت منذ البداية باب التفاوض مع الاتحاد ومع أغلب النقابات وتعاملت بسياسة فرض الأمر الواقع، ورغم أنها سجلت نقاط مهمة على حساب اغلب النقابات والقطاعات إلا أن ذلك عمّق أزمة بعض القطاعات وأثقل الملفات الاجتماعية التي تحاول الحكومة دائما تجاهلها .
ومن أكثر الانتقادات التي توجّه الى هذه الحكومة أنها حكومة صامتة ومقتصدة جدا في عقد الندوات الصحفية أو في تصريحات وزرائها حيث يتجنّب اغلب الوزراء الإدلاء بحوارات صحفية، وهي الصفة التي تكاد تغلب اليوم على كل مسؤولين الدولة.. وبالنسبة لرئيسة الحكومة نجلاء بودن ورغم تمسّك الرئيس قيس سعيد بها إلا أنه بان بالكاشف أنها وفي السياقات الراهنة مع تعمّق الأزمة الاقتصادية الاجتماعية غير قادرة على تقديم الإضافة كامرأة دولة بصرف النظر عن ولائها للرئيس ودفاعها المستميت عن مسار 25 جويلية، ولكن المرحلة تقتضي وبإجماع كل الملاحظين وجود شخصية اقتصادية على رأي الحكومة ذات كفاءة وخبرة في تسيير دواليب الدولة، كما وان الحكومة بأكملها تحتاج تحويرا عميقا وشاملا خاصة أن هناك وزراء الى اليوم وبعد سنتين لم يحققوا أدنى انجاز يذكر لهم .
المسار البرلماني.. محاولة إثبات الذات
كان البرلمان الذي أنتجته الانتخابات التشريعية في 2019 من أبرز الأسباب التي حتّمت تفعيل الفصل 80 من الدستور، حيث بلغ الصراع والصدام أشدّه في ذلك المجلس الذي كان يترأسه زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي وكان وجوده على رأس البرلمان أحد أبرز أسباب الاحتقان خاصة بين كتلة حركة النهضة وائتلاف الكرامة من جهة وكتلة الدستوري الحر بقيادة عبير موسي من جهة، وذلك الصراع أدّى الى توقّف أعمال المجلس عدة مرات وتعطيل أشغال الجلسات العام وقد انعكس ذلك على أداء الحكومة بالتزامن مع جائحة كورونا التي عقّدت كل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالإضافة الى انهيار منظومة الصحة العمومية وتسجيل نقص فادح في المعدات اللازمة لمواجهة الفيروس .
وكل ذلك أعطى صورة سيئة جدا عن البرلمان، الى درجة كانت هناك مطالب صريحة بحله والذهاب الى انتخابات مبكرة.. ولذلك كان تجميد البرلمان هو أحد أبرز الإجراءات التي أعلنها قيس سعيد بعد تفعيل الفصل 80 بالإضافة الى رفع الحصانة على النواب، قبل أن يذهب بعد ذلك الى قرار حلّ البرلمان بشكل نهائي .
وبعد حوالي سنة من تجميد البرلمان القديم وحلّه بعد ذلك، وبعد المصادقة على دستور الاستفتاء الجديد وعلى القانون الانتخابي، كان الموعد يوم 17 ديسمبر 2022 مع الانتخابات التشريعية وفق قانون الاقتراع على الأفراد وهو نظام تصويت جديد برّه رئيس الجمهورية بأن الفرد أقرب الى الحزب في معرفة مشاكل الجهة التي ينتمي إليها والدفاع عليها .
لكن هذا البرلمان الجديد ومنذ الانتخابات مُني بفشل ذريع حيث بلغت نسبة الإقبال على التصويت في الدورة الثانية للانتخابات التشريعية التي 11.4% وفقا للأرقام النهائية وتلك النسبة الهزيلة أكدت أن حوالي 90% من الناخبين قد عزفوا عن المشاركة بنسبة عزوف تاريخية. وتعد نسبة الإقبال الهزيلة تلك الأضعف منذ ثورة 2011 ورأى من خلالها الملاحظون أنها مؤشرا سلبيا في علاقة بمشروع الرئيس قيس سعيّد الذي برّر تلك النسبة بقوله أن هذه النتيجة تعود إلى أن "البرلمان لم يعد يعني شيئا" بالنسبة للتونسيين. بعد ذبك اختار نواب البرلمان الجديد عميد المحامين السابق إبراهيم والذي عرف بمساندته القوية لمسار 25 جويلية ولقيس سعيّد، رئيسا للمجلس النيابي بأغلبية الأصوات.. وقد عقد البرلمان الجديد جلسته الافتتاحية وسط احتجاجات كبيرة في صفوف الصحفيين بعد منعهم من دخول مقر البرلمان لتغطية الجلسة، فيما رفضت المعارضة الاعتراف بالمجلس ووصفته بـ"ثمرة دستور الانقلاب" وبالتزامن مع انطلاق أشغال المجلس قال رئيس الجمهورية في زيارة ميدانية له وقتها الى منطقة غار الدماء التابعة لولاية جندوبة، إن على المشرّعين الذين باشروا أعمالهم في مجلس النواب أن يضعوا التشريعات المناسبة لإرادة الشعب، وألا ينسوا أن الشعب قد يسحب منهم الوكالة بعد سنة إذا لم يلتزموا بوعودهم لناخبيهم، حسب قوله. كما أكد سعيد وقتها أنه ستتم محاسبة من يعتبر نفسه امتدادا لحزب أو تنظيم أو مجموعة ما، لأن المرافق العمومية تقوم على مبدأ الحياد. ولم تعترف القوى المعارضة لمسار 25 جويلية بالبرلمان الجديد وما زالت لا تعترف به، حيث أعلنت جبهة الخلاص الوطني المعارضة أنها لن تعترف بالمجلس النيابي المنبثق عن دستور انقلاب غير شرعي وانتخابات قاطعتها الأغلبية الساحقة وفق بيان لها، مشددة على تمسكها بدستور 2014 المصادق عليه من قبل ملايين التونسيين عبر نوابهم في المجلس الوطني التأسيسي. كما عبّرت كتلة حركة النهضة في البرلمان التونسي المنحل عن عدم اعترافها بالبرلمان الجديد وتمسكها بدستور 2014 مصدرا وحيدا للشرعية.
ورغم هذا الرفض من المعارضة إلا أن الأحزاب الداعمة للمسار والكتل التي تشكلت داخل البرلمان تحاول أن تقوم بكل ما في وسعها لإثبات أن هذا البرلمان في مستوى اللحظة التاريخية وانه يمارس مهامه بكل أريحية إلا أن ذلك لا يمنع من كون صورة البرلمان لم تعد ذات الصورة السابقة حيث بدت السلطة التشريعية مهيمنة تماما على المجلس النيابي.
المسار الدستوري.. تغيير ملامح الحكم
رغم أن مسار 25 جويلية ارتكز على تفعيل الفصل 80 من دستور 2014 إلا أن ذلك الدستور سرعان ما تم تعليق العمل به، لتعويضه تشريعيا بالأمر الرئاسي 117 الذي نظّم عمل وعلاقة مؤسسات الدولة وصلاحيات كل مؤسسة، وتجربة تعليق العمل بالدستور ليست الأولى بعد الثورة حيث تم تعليق العمل بدستور 1959 بعد الثورة، وبعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي تم صياغة دستور مؤقت لتنظيم العمل بين السلط الى حين الانتهاء من صياغة دستور 2014 .
وبعد هذا التعليق طرح رئيس الجمهورية استشارة وطنية لاستفتاء الشعب حول نظام الحكم الذي يريده وتصوّراته لإدارة الشأن العام ولعلاقة السلط بعضها ببعض ولمهام مؤسسات وأجهزة الدولة كما يراها التونسيين.. إلا أن هذه الاستشارة لم تجد إقبالا عليها ولم يتحمّس التونسيين للإجابة عن الأسئلة التي تضمّنتها وكانت نسب المشاركة محتشمة ولم تتجاوز عتبة الـ500 ألف مشارك.. ولكن ذلك لم يثن الرئيس عن اعتمادها واعتبارها أكثر وثيقة عبّرت بحرية عن إرادة التونسيين ورغباتهم واحتياجاتهم ..
وبناء على تلك الاستشارة الوطنية، تم تكوين لجنة لإعداد وثيقة الدستور الجديد برئاسة الصادق بلعيد والذي قام باختيار شخصيات مختلفة أغلبها شخصيات مغمورة للمشاركة في إعداد وصياغة الدستور الجديد، بناء على نتائج الاستشارة الوطنية ..
ولكن نسخة دستور الصادق بلعيد وأمين محفوظ والتي نشرتها جريدة "الصباح" حصريا وفي عدد تاريخي.. تم رفضها من طرف رئيس الجمهورية لأسباب لم يفصح عنها الرئيس بشكل كامل، معتبرا أن تلك النسخة لم تعبّر بشكل جيدا عن تطلعات التونسيين..
وطرح بعد ذلك رئيس الجمهورية قيس سعيد على التونسيين دستوره للاستفتاء في 25 جويلية من السنة الفارطة وصوّت لصالح الدستور الجديد حوالي 2.5 مليون ناخب، ودخل بذلك الدستور حيز النفاذ إلا أنه وبعد سنة من صدوره لا يبدو الدستور محل اهتماما من الرأي العام بل إن أغلب نصوصه لم تعد تثير الجدل ولا تفتح النقاش.. بل هناك مراسيم احتكرت النقاش العام أكثر من الدستور مثل المرسوم 54 المثير الذي يجمع اغلب الملاحظين انه يضرب حرّية التعبير وبسبب هذا المراسيم تم إحالة العشرات على الفرق الأمنية وعلى القضاء .
وإذا كانت خطيئة دستور 2014 الكبرى أنه لم ينته بتركيز محكمة دستورية فإن الأمر لا يبدو مختلفا اليوم مع دستور قيس سعيد الذي وبعد سنة من صدوره لم يتم بعد تركيز المحكمة الدستورية كما نصّ على ذلك الدستور الجديدة رغم أن رئيس الدولة غيّر شروط تكوينها واختار وظيفيا أعضائه وبالتالي لم يعد تكوينها يمرّ عبر البرلمان أو يطرح إشكالا إلا أنه ورغم ذلك هناك تلكؤ في تكوينها .
ومن أبرز القواعد الجديد التي أتى بها الدستور الجديدة هو تمتع رئيس الدولة بحصانة مطلقة أثناء أدائه لمهامه حيث انه لا يُسأل ولا يُعزل مهما كانت الأسباب هذا بالإضافة الى هيمنة السلطة التنفيذية على أجهزة الدولة وتحويل بقية السلط كالقضاء والعمل البرلماني الى مجرّد وظائف .
مسار ديبلوماسي.. متذبذب
منذ تاريخ إعلان الإجراءات الاستثنائية وانطلاق مسار 25 جويلية، شهدت الديبلوماسية التي يقودها رئيس الجمهورية قيس سعيد، مرحلتين، مختلفتين باختلاف وزير الخارجية، فمرحلة عثمان جراندي تختلف كليا عن مرحلة نبيل عمّار .
أول فشل واجهته الديبلوماسية مع عثمان الجراندي هو الفشل في التسويق الى 25 جويلية حيث انتصرت دوليا رواية المعارضة وبأن ما حصل انقلاب وليس تصحيحا للمسار كما يؤكد ذلك رئيس الجمهورية، حيث في الثلاثة أشهر التي تلت تفعيل الفصل 80 واجه النظام انتقادات دولية حادة من قوى إقليمية ودولية ومن منظمات حقوقية دولية، وتغذّى ذلك النقد بالأساس من إجراءات غير حقوقية تم اتخاذها ضدّ شخصيات وطنية وضع بعضها تحت الإقامة الجبرية بقرار من وزير الداخلية دون توضيح لأسباب الوضع أو الرفع بعد ذلك ..
وقد حاول رئيس الجمهورية في كل لقاء مع مسؤولي الدولة أو مسؤولين دوليين، توضيح موقفه ووجهة نظره وتجديد التزامه بحقوق الإنسان إلا أن ذلك لم يحصل دائما وكانت هناك انحرافات خطيرة في أكثر من مناسبة ومن حدث .
وبعد تعيين نبيل عمار سفير تونس السابق بالاتحاد الأوروبي، تم إدخال بعض الحيوية على العمل الديبلوماسي حيث كانت وزارة الخارجية لدحض أي اتهام ضد تونس بشكل فوري وتفنيد المواقف المتهمة والصادرة عن أطراف دولية، كما كانت الخارجية أكثر جرأة في التعبير عن موقفه بعدم السماح لأي طرف أجنبي بالتدخّل في شأن تونسي .
وتبقى عودة العلاقات مع سوريا التي انقطعت منذ 2012 أبرز العناوين الديبلوماسية في مسار 25 جويلية، هذا بالإضافة المفاوضات الراهنة مع الاتحاد الأوروبي بشأن ملف الهجرة غير النظامية والتي سيكون بعد الانتهاء منها واقعا جديدا في حوض المتوسط ربما سيتسمر لعقود قادمة وسيغيّر نهائيا شكل ملامح علاقة دول جنوب المتوسط بشماله .
تونس – الصباح
25 جويلية 2021 .. تاريخ لا يمكن تجاهله أو القفز عليه أو محوه من الزمن التونسي الحديث.. ففي هذا التاريخ كان المنعرج الذي سيقود تونس الى مرحلة جديدة من تاريخها بخصوصيات وملامح سياسية جديدة ومختلفة، أنتجت بدورها واقعا جديدا تشكل في إطار الاستثناء الدستوري والقانوني ووضع نقطة نهاية لعشرية الانتقال الديمقراطي بكل اختلافاتها وخلافاتها وصراعاتها وسياقاتها وارتداداتها وهزّاتها واهتزازاتها ..
منذ سنتين، اختار الرئيس قيس سعيد أن يذهب بعيدا في اتخاذ القرار السياسي الذي لم يتوقعه أحدا.. ففي ذلك اليوم كان الوضع العام قد بلغ ذروة التأزّم .. جائحة كورونا تحصد آلاف الأرواح، ومنظومة صحية تنهار وغياب لأبسط أدوات مواجهة الفيروس القاتل في بعض المستشفيات المحلية والجهوية خاصّة، وتحوّلت أخبار الموت الى أخبار يومية، مقابل فشل حكومة المشيشي في إيجاد حلول لتلك الكارثة الإنسانية واستخفافها بالغضب والحنق الشعبي الذي بات يهدّد بانفجار اجتماعي، خاصة بعد تسرّب صور لوزراء في حكومة المشيشي قبل ذلك بأسابيع وهم بصدد الاستجمام في منتجعات سياحية دون أدنى اكتراث بالوضع الصحي المأساوي التي تعيشه البلاد، بالإضافة الى استنزاف البرلمان بالصراعات الحزبية التي أنهكته وعطّلت أداءه وباتت الجلسات العامة عبارة عن حلبة مصارعة بين القوى السياسية وخاصة بين كتلتي الدستوري الحرّ من جهة وحركة النهضة وائتلاف الكرامة من جهة أخرى ..
ومن وسط كل تلك الفوضى السياسية وتفكك مؤسسات الدولة والجائحة التي تعصف يوميا بمئات الأرواح.. يباغت رئيس الجمهورية قيس سعيد الجميع بالقرار السياسي الأكثر جرأة ومجازفة بعد الثورة، مستغلا حالة من الغضب الشعبي يومها وبلغت حدّ حرق مقرات حركة النهضة في أكثر من جهة مع تزايد مؤشرات الاحتقان والغضب الشعب ..
ولم تنته ليلة 25 جويلية 2021 حتى كان القرار الذي ظل قبلها يتداول في الكواليس.. بل اقترحته صراحة بعض الأحزاب ومنها الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي، محمد عبو ..
أمام مجلس الأمني القومي وفي اجتماع تاريخي بأرفع القيادات الأمنية والعسكرية، قرّر الرئيس قيس سعيد تفعيل الفصل 80 من دستور 2014 الذي ينصّ على أنه "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدّولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشّعب وإعلام رئيس المحكمة الدّستورية، ويعلن عن التّدابير في بيان إلى الشعب".
وقد أعلن ليلتها رئيس الجمهورية انه فعّل الفصل 80 واتخذ جملة من التدابير الاستثنائية لمدة شهر قابلة للتجديد أقال خلالها حكومة هشام المشيشي الذي قدّم استقالته مساء نفس اليوم بعد تداول أخبار حول احتجازه، كما تم تجميد مهام مجلس نواب الشعب وغلقه بقوات عسكرية ورفع الحصانة عن نوابه، وذلك قبل أن يعلن رئيس الجمهورية بعد ذلك وبأشهر وبعد أن عقد البرلمان المجمّد وقتها جلسة برلمانية افتراضية، حيث بعد تلك الجلسة مباشرة اتخذ قيس سعيد، قرارا بحلّ البرلمان.. ومع الإجراءات الاستثنائية، اتخذ الرئيس قيس سعيد قرارا بتعليق عمل هيئة مراقبة دستورية القوانين وهي هيئة وقتية ..
والإجراءات الاستثنائية التي تم إعلانها، امتدت الى غلق مقرّ هيئة مكافحة الفساد بعد ذلك ووضع عدد من الشخصيات السياسية تحت الإقامة الجبرية وبينهم قيادات حزبية بارزة مثل رئيس كلتة حركة النهضة في البرلمان المنحل نور الدين البحيري وحتى بعض الشخصيات الحقوقية مثل عميد المحامين السابق، شوقي الطبيب الذي ترأس سابقا هيئة مكافحة الفساد..
وفي سياق مسار 25 جويلية والتدابير الاستثنائية، تم إصدار الأمر الرئاسي 117 الذي اعدّه وصاغها ثلة من أبرز رجال القانون الدستوري المقربين من الرئيس قيس سعيد وقتها وهم أمين محفوظ والصادق بلعيد ومحمد صالح بن عيسى.. ومنذ إصدار هذا الأمر الذي ينظم حالة الاستثناء ويضبط قواعد جديدة للحكم ولعلاقات المؤسسات الرسمية للدولة في 21 سبتمبر، بدا واضحا توجّه المسار نحو ترسيخ حكم فردي وسلطة تنفيذية مهيمنة على كل مؤسسات الدولة .
وبعد إصدار ذلك الأمر، تم تعيين حكومة جديدة هي حكومة نجلاء بودن، ليتواصل المسار في محطات لاحقة منها الاستشارة الوطنية لتحديد مطالب الشعب من المرحلة الشعب وتصوراته حولها ، ولئن لم تسجل تلك الاستشارة الإقبال المتوقّع فإن الرواية الرسمية بررت ذلك بالاستهداف الالكتروني للاستشارة بما أثّر عن نجاحها، وتلا الدستور تعيين لجنة بقيادة الصادق بلعيد وأمين لصياغة دستور للبلاد وبعد الانتهاء من عملها رفض سعيّد دستورها المقترح واقترح دستورا آخر عرضه على الاستفتاء، وبعد ذلك تمت صياغة قانون جديد للانتخاب كرّس نظاما جديدا وهو نظام الاقتراع على الأفراد والذي انتهى بانتخاب البرلمان الجديد وتعيين إبراهيم بودربالة رئيسا له ..
المسار الحكومي.. فشل متواصل
يوم 29 سبتمبر كّلف رئيس الجمهورية قيس سعيد أستاذة التعليم العالي بالمدرسة الوطنية للمهندسين والمختصة في علوم الجيولوجيا، نجلاء بودن بتشكيل أول حكومة بعد إعلان إجراءات 25 جويلية وهي الحكومة التي ما زالت صامدة الى اليوم.. وكان تعيين نجلاء بودن والتي كانت مُكلفة بخطة تنفيذ برامج البنك الدولي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مفاجأة كبيرة، وخاصة وأنها لم تكن معروفة قبل ذلك لا على الصعيد السياسي ولا الحقوقي .
ورغم أنها لم تكن من التونسيات المؤثرات والمعروفات في أي مجال من المجالات، إلا أن تعيينها على المستوى الاتصالي كان له وقعه وتأثيره الإيجابي على صورة مسار 25 جويلية، وخاصة وهي أول امرأة تونسية تتقلّد هذا المنصب الرفيع وتصبح رئيسة حكومة، ورغم أن نجلاء بودن لم تكن لها مسيرة سياسية ولا حقوقية معروفة إلا أنها كانت كفاءة أكاديمية حيث تم تعيينها في 2011، مديرة عامة مكلفة بالجودة بوزارة التعليم العالي، كما شغلت منصب رئيسة وحدة تصرف حسب الأهداف بالوزارة ذاتها، وكُلّفت بمهمة بديوان وزير التعليم العالي السابق شهاب بودن سنة 2015.
يوم 11 أكتوبر 2021 أعلنت عن تركيبة الحكومة التي ستقودها وكانت تتكوّن من 24 حقيبة وزارية مع كتابة دولة، فريق وزاري يعتبر نسبيا من أصغر الفرق الحكومية التي تولت إدارة الشأن العام بعد الثورة .. وتكوّن الفريق الوزاري الذي اعتمدته بودن من كفاءات إدارية لم يكن لأغلبها علاقة بالسياسة او النشاط الحقوقي او صلب المجتمع المدني .
حكومة نجلاء بودن التي ولدت في سياق سياسي جديد كانت تختلف عن كل الحكومات السابقة حيث أن هذه الحكومة يتم تعيينها مباشرة من رئيس الجمهورية وهي مسؤولة مباشرة أمامه وليس كما كان الأمر في السابق عندما كان تعيين الحكومة ومساءلتها وإقالتها خاضع للبرلمان وفق دستور 2014 ، ولكن الأمر 117 الذي غيّر طبيعة النظام السياسي من برلماني معدّل الى رئاسي، منح لرئيس الجمهورية صلاحية قيادة الجهاز التنفيذي للدولة من خلال تعيين وإعفاء أعضاء الحكومة وقد تكرّس التوجّه نحو النظام الرئاسي في دستور الاستفتاء الذي جعل السلطة التنفيذية بمختلف صلاحياتها في يد رئيس الدولة في حين تحوّلت الحكومة الى جهاز تنفيذي يلتزم بقرارات الرئيس وينفّذها ..
ورغم أن حكومة نجلاء بودن تعتبر من أكثر الحكومات استقرارا، وما زالت بعد سنتين في عددها الأكبر تحظى بثقة رئيس الدولة، إلا أن ذلك لا يعني أن أدائها كان مميزا ولافتا، بل كانت حكومة باهتة دون شخصية ودون ملامح، كما بدا الارتباك على عمل أغلب وزرائها الذي بدا أدائهم محدودا ومهتزا وغير مغيّرا للواقع وذلك بسبب افتقاد الخبرة والكفاءة ، بالنسبة للأغلبية، حيث كان معيار تعيينهم الولاء وقرب أغلبهم من الرئيس بشكل مباشر وبعضهم كان من أبناء ومنظّري مشروع البناء القاعدي .
ورغم التحويرات الجزئية التي قام بها رئيس الدولة في تركيبة لضخ دماء جديد في الفريق الحكومي إلا أن مردود الحكومة لم يتحسّن بشكل لافت، خاصة أن أغلب مجهود الحكومة كان متجها الى إعداد ملف القرض والتفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي لم يسفر الى اليوم عن أي نتيجة تذكر رغم الوفود والزيارات واللقاءات بأكبر المسؤولين في الصندوق .
ومن الملفات التي فشلت فيها الحكومة بشكل واضح هو الملف الاجتماعي حيث لم تحقق الى اليوم أي انجاز يذكر كما أغلقت منذ البداية باب التفاوض مع الاتحاد ومع أغلب النقابات وتعاملت بسياسة فرض الأمر الواقع، ورغم أنها سجلت نقاط مهمة على حساب اغلب النقابات والقطاعات إلا أن ذلك عمّق أزمة بعض القطاعات وأثقل الملفات الاجتماعية التي تحاول الحكومة دائما تجاهلها .
ومن أكثر الانتقادات التي توجّه الى هذه الحكومة أنها حكومة صامتة ومقتصدة جدا في عقد الندوات الصحفية أو في تصريحات وزرائها حيث يتجنّب اغلب الوزراء الإدلاء بحوارات صحفية، وهي الصفة التي تكاد تغلب اليوم على كل مسؤولين الدولة.. وبالنسبة لرئيسة الحكومة نجلاء بودن ورغم تمسّك الرئيس قيس سعيد بها إلا أنه بان بالكاشف أنها وفي السياقات الراهنة مع تعمّق الأزمة الاقتصادية الاجتماعية غير قادرة على تقديم الإضافة كامرأة دولة بصرف النظر عن ولائها للرئيس ودفاعها المستميت عن مسار 25 جويلية، ولكن المرحلة تقتضي وبإجماع كل الملاحظين وجود شخصية اقتصادية على رأي الحكومة ذات كفاءة وخبرة في تسيير دواليب الدولة، كما وان الحكومة بأكملها تحتاج تحويرا عميقا وشاملا خاصة أن هناك وزراء الى اليوم وبعد سنتين لم يحققوا أدنى انجاز يذكر لهم .
المسار البرلماني.. محاولة إثبات الذات
كان البرلمان الذي أنتجته الانتخابات التشريعية في 2019 من أبرز الأسباب التي حتّمت تفعيل الفصل 80 من الدستور، حيث بلغ الصراع والصدام أشدّه في ذلك المجلس الذي كان يترأسه زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي وكان وجوده على رأس البرلمان أحد أبرز أسباب الاحتقان خاصة بين كتلة حركة النهضة وائتلاف الكرامة من جهة وكتلة الدستوري الحر بقيادة عبير موسي من جهة، وذلك الصراع أدّى الى توقّف أعمال المجلس عدة مرات وتعطيل أشغال الجلسات العام وقد انعكس ذلك على أداء الحكومة بالتزامن مع جائحة كورونا التي عقّدت كل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالإضافة الى انهيار منظومة الصحة العمومية وتسجيل نقص فادح في المعدات اللازمة لمواجهة الفيروس .
وكل ذلك أعطى صورة سيئة جدا عن البرلمان، الى درجة كانت هناك مطالب صريحة بحله والذهاب الى انتخابات مبكرة.. ولذلك كان تجميد البرلمان هو أحد أبرز الإجراءات التي أعلنها قيس سعيد بعد تفعيل الفصل 80 بالإضافة الى رفع الحصانة على النواب، قبل أن يذهب بعد ذلك الى قرار حلّ البرلمان بشكل نهائي .
وبعد حوالي سنة من تجميد البرلمان القديم وحلّه بعد ذلك، وبعد المصادقة على دستور الاستفتاء الجديد وعلى القانون الانتخابي، كان الموعد يوم 17 ديسمبر 2022 مع الانتخابات التشريعية وفق قانون الاقتراع على الأفراد وهو نظام تصويت جديد برّه رئيس الجمهورية بأن الفرد أقرب الى الحزب في معرفة مشاكل الجهة التي ينتمي إليها والدفاع عليها .
لكن هذا البرلمان الجديد ومنذ الانتخابات مُني بفشل ذريع حيث بلغت نسبة الإقبال على التصويت في الدورة الثانية للانتخابات التشريعية التي 11.4% وفقا للأرقام النهائية وتلك النسبة الهزيلة أكدت أن حوالي 90% من الناخبين قد عزفوا عن المشاركة بنسبة عزوف تاريخية. وتعد نسبة الإقبال الهزيلة تلك الأضعف منذ ثورة 2011 ورأى من خلالها الملاحظون أنها مؤشرا سلبيا في علاقة بمشروع الرئيس قيس سعيّد الذي برّر تلك النسبة بقوله أن هذه النتيجة تعود إلى أن "البرلمان لم يعد يعني شيئا" بالنسبة للتونسيين. بعد ذبك اختار نواب البرلمان الجديد عميد المحامين السابق إبراهيم والذي عرف بمساندته القوية لمسار 25 جويلية ولقيس سعيّد، رئيسا للمجلس النيابي بأغلبية الأصوات.. وقد عقد البرلمان الجديد جلسته الافتتاحية وسط احتجاجات كبيرة في صفوف الصحفيين بعد منعهم من دخول مقر البرلمان لتغطية الجلسة، فيما رفضت المعارضة الاعتراف بالمجلس ووصفته بـ"ثمرة دستور الانقلاب" وبالتزامن مع انطلاق أشغال المجلس قال رئيس الجمهورية في زيارة ميدانية له وقتها الى منطقة غار الدماء التابعة لولاية جندوبة، إن على المشرّعين الذين باشروا أعمالهم في مجلس النواب أن يضعوا التشريعات المناسبة لإرادة الشعب، وألا ينسوا أن الشعب قد يسحب منهم الوكالة بعد سنة إذا لم يلتزموا بوعودهم لناخبيهم، حسب قوله. كما أكد سعيد وقتها أنه ستتم محاسبة من يعتبر نفسه امتدادا لحزب أو تنظيم أو مجموعة ما، لأن المرافق العمومية تقوم على مبدأ الحياد. ولم تعترف القوى المعارضة لمسار 25 جويلية بالبرلمان الجديد وما زالت لا تعترف به، حيث أعلنت جبهة الخلاص الوطني المعارضة أنها لن تعترف بالمجلس النيابي المنبثق عن دستور انقلاب غير شرعي وانتخابات قاطعتها الأغلبية الساحقة وفق بيان لها، مشددة على تمسكها بدستور 2014 المصادق عليه من قبل ملايين التونسيين عبر نوابهم في المجلس الوطني التأسيسي. كما عبّرت كتلة حركة النهضة في البرلمان التونسي المنحل عن عدم اعترافها بالبرلمان الجديد وتمسكها بدستور 2014 مصدرا وحيدا للشرعية.
ورغم هذا الرفض من المعارضة إلا أن الأحزاب الداعمة للمسار والكتل التي تشكلت داخل البرلمان تحاول أن تقوم بكل ما في وسعها لإثبات أن هذا البرلمان في مستوى اللحظة التاريخية وانه يمارس مهامه بكل أريحية إلا أن ذلك لا يمنع من كون صورة البرلمان لم تعد ذات الصورة السابقة حيث بدت السلطة التشريعية مهيمنة تماما على المجلس النيابي.
المسار الدستوري.. تغيير ملامح الحكم
رغم أن مسار 25 جويلية ارتكز على تفعيل الفصل 80 من دستور 2014 إلا أن ذلك الدستور سرعان ما تم تعليق العمل به، لتعويضه تشريعيا بالأمر الرئاسي 117 الذي نظّم عمل وعلاقة مؤسسات الدولة وصلاحيات كل مؤسسة، وتجربة تعليق العمل بالدستور ليست الأولى بعد الثورة حيث تم تعليق العمل بدستور 1959 بعد الثورة، وبعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي تم صياغة دستور مؤقت لتنظيم العمل بين السلط الى حين الانتهاء من صياغة دستور 2014 .
وبعد هذا التعليق طرح رئيس الجمهورية استشارة وطنية لاستفتاء الشعب حول نظام الحكم الذي يريده وتصوّراته لإدارة الشأن العام ولعلاقة السلط بعضها ببعض ولمهام مؤسسات وأجهزة الدولة كما يراها التونسيين.. إلا أن هذه الاستشارة لم تجد إقبالا عليها ولم يتحمّس التونسيين للإجابة عن الأسئلة التي تضمّنتها وكانت نسب المشاركة محتشمة ولم تتجاوز عتبة الـ500 ألف مشارك.. ولكن ذلك لم يثن الرئيس عن اعتمادها واعتبارها أكثر وثيقة عبّرت بحرية عن إرادة التونسيين ورغباتهم واحتياجاتهم ..
وبناء على تلك الاستشارة الوطنية، تم تكوين لجنة لإعداد وثيقة الدستور الجديد برئاسة الصادق بلعيد والذي قام باختيار شخصيات مختلفة أغلبها شخصيات مغمورة للمشاركة في إعداد وصياغة الدستور الجديد، بناء على نتائج الاستشارة الوطنية ..
ولكن نسخة دستور الصادق بلعيد وأمين محفوظ والتي نشرتها جريدة "الصباح" حصريا وفي عدد تاريخي.. تم رفضها من طرف رئيس الجمهورية لأسباب لم يفصح عنها الرئيس بشكل كامل، معتبرا أن تلك النسخة لم تعبّر بشكل جيدا عن تطلعات التونسيين..
وطرح بعد ذلك رئيس الجمهورية قيس سعيد على التونسيين دستوره للاستفتاء في 25 جويلية من السنة الفارطة وصوّت لصالح الدستور الجديد حوالي 2.5 مليون ناخب، ودخل بذلك الدستور حيز النفاذ إلا أنه وبعد سنة من صدوره لا يبدو الدستور محل اهتماما من الرأي العام بل إن أغلب نصوصه لم تعد تثير الجدل ولا تفتح النقاش.. بل هناك مراسيم احتكرت النقاش العام أكثر من الدستور مثل المرسوم 54 المثير الذي يجمع اغلب الملاحظين انه يضرب حرّية التعبير وبسبب هذا المراسيم تم إحالة العشرات على الفرق الأمنية وعلى القضاء .
وإذا كانت خطيئة دستور 2014 الكبرى أنه لم ينته بتركيز محكمة دستورية فإن الأمر لا يبدو مختلفا اليوم مع دستور قيس سعيد الذي وبعد سنة من صدوره لم يتم بعد تركيز المحكمة الدستورية كما نصّ على ذلك الدستور الجديدة رغم أن رئيس الدولة غيّر شروط تكوينها واختار وظيفيا أعضائه وبالتالي لم يعد تكوينها يمرّ عبر البرلمان أو يطرح إشكالا إلا أنه ورغم ذلك هناك تلكؤ في تكوينها .
ومن أبرز القواعد الجديد التي أتى بها الدستور الجديدة هو تمتع رئيس الدولة بحصانة مطلقة أثناء أدائه لمهامه حيث انه لا يُسأل ولا يُعزل مهما كانت الأسباب هذا بالإضافة الى هيمنة السلطة التنفيذية على أجهزة الدولة وتحويل بقية السلط كالقضاء والعمل البرلماني الى مجرّد وظائف .
مسار ديبلوماسي.. متذبذب
منذ تاريخ إعلان الإجراءات الاستثنائية وانطلاق مسار 25 جويلية، شهدت الديبلوماسية التي يقودها رئيس الجمهورية قيس سعيد، مرحلتين، مختلفتين باختلاف وزير الخارجية، فمرحلة عثمان جراندي تختلف كليا عن مرحلة نبيل عمّار .
أول فشل واجهته الديبلوماسية مع عثمان الجراندي هو الفشل في التسويق الى 25 جويلية حيث انتصرت دوليا رواية المعارضة وبأن ما حصل انقلاب وليس تصحيحا للمسار كما يؤكد ذلك رئيس الجمهورية، حيث في الثلاثة أشهر التي تلت تفعيل الفصل 80 واجه النظام انتقادات دولية حادة من قوى إقليمية ودولية ومن منظمات حقوقية دولية، وتغذّى ذلك النقد بالأساس من إجراءات غير حقوقية تم اتخاذها ضدّ شخصيات وطنية وضع بعضها تحت الإقامة الجبرية بقرار من وزير الداخلية دون توضيح لأسباب الوضع أو الرفع بعد ذلك ..
وقد حاول رئيس الجمهورية في كل لقاء مع مسؤولي الدولة أو مسؤولين دوليين، توضيح موقفه ووجهة نظره وتجديد التزامه بحقوق الإنسان إلا أن ذلك لم يحصل دائما وكانت هناك انحرافات خطيرة في أكثر من مناسبة ومن حدث .
وبعد تعيين نبيل عمار سفير تونس السابق بالاتحاد الأوروبي، تم إدخال بعض الحيوية على العمل الديبلوماسي حيث كانت وزارة الخارجية لدحض أي اتهام ضد تونس بشكل فوري وتفنيد المواقف المتهمة والصادرة عن أطراف دولية، كما كانت الخارجية أكثر جرأة في التعبير عن موقفه بعدم السماح لأي طرف أجنبي بالتدخّل في شأن تونسي .
وتبقى عودة العلاقات مع سوريا التي انقطعت منذ 2012 أبرز العناوين الديبلوماسية في مسار 25 جويلية، هذا بالإضافة المفاوضات الراهنة مع الاتحاد الأوروبي بشأن ملف الهجرة غير النظامية والتي سيكون بعد الانتهاء منها واقعا جديدا في حوض المتوسط ربما سيتسمر لعقود قادمة وسيغيّر نهائيا شكل ملامح علاقة دول جنوب المتوسط بشماله .