بقلم: صلاح بوزيّان
قال : كان أمري عجبا في الأسفار، سريتُ عند الفجر مع قافلة في مفازة ، وكانت ناقتي هادئة ، وأذكرُ أنّني أوذيت كثيرا و كنتُ أصفح وأتجاوز، وأبى القوم عليّ مؤونة العلم ضرارا وحسدا ، وكان ذلك قبل سنة 2011 ،وأذكرُ أنّني خرجتُ من الإعدادية إلى المعهد وأشرفتُ على الباكلوريا، وبدأتُ أفهم الأمور، وأستمتعُ مع والدي بنشرة الأخبار وتوجيهات بورقيبة، وكنتُ أطرحُ كثيرًا من الأسئلة أقلقت والدي وعمّي وجدّي، وضجر منّي أستاذ الفلسفة لمّا بدأتُ أشكّك في فوكو وهيدغير، حفرت في تاريخ المقاهي والمناجم والسكك الحديديّة والموانئ والواحات، وكانت والدتي تستأمنني على خباياها وأسرارها و تبعثني رسولا إلى أخواتها وأهلها وصديقاتها اللاّتي يشاركنها نسيج الزّرابي وبيع الأدباش ، فأجمعُ النّقود وأنقلُ الأكياس ولا أفشي سرّ بيتنا مهما دخل النسوة بين الجلد والعظم ، و تدرّبتُ على المصاعب شأني كشأن لداتي ، وسخرتُ من مطرقة نيتشه، وهجرت حكايات الكاهنة، وغرائب المخزن الحفصي، لقد تكشّفت لي حقائق الدوعاجي والحداد..و فهمت بورقيبة والثّعالبي، أشياء كثيرة تدور في ذهني، الغلاء عمّ البلاد، حاصر الخلق، وبدأت الدّنيا تحيد عن أبي، فأضحى كئيبًا منكسرًا، لا نفعته قراءة القرآن ولا مواساة أمّي، و لا صَبَّرَهُ الوقوف على أطلال القوم، وكنتُ كلّما أبصرتُ أبي حزينًا أغادرُ البيتَ وأطوف المدينة باكيًّا،وأقصدُ بيت الإمام سحنون صارخًا: " أيّها القاضي تبدّلت أحوالنا وأنت في سبات، أين محكمتك ؟ أين مجلسك ؟ وأين نصرتك المظلوم ؟ و ماذا بعد ؟ ارفع عنّا عاديات القوم وقد أمسينا أغرابًا في تربة الأجداد، وأشرف كبريت الصّبر على النفاد، ولكن ما عند الله باقٍ ". كان بيت سحنون مأوايا حينما أحتدمُ.. وكنّا خمسة أبناء وأبي وأمّي، سبعة أشخاص وثمن الخبزة بمائة مليم وكنّا ننعم بلحم الخروف والفراريج والأجداء والتونة والسّردين، و كنّا نأكل الحلوى والشّامية والكاكويّة بالشّاي الأحمر، شاي تطبخه أمّي على الكانون، وكنّا نقرأ القصص نتحلّق قرب الزّربية التي تنسجها أمّي ، أو نذهبُ إلى دار الثّقافة نشاهد فيلما، كبرنا وكبر حلمنا، و مرّت الأيّام فصار الإنفاق يزعج أبي بعد 2011 ، و اشتدّ الكرب، كانت رؤية أبي على تلك الحال تحزنني وتدفعني إلى طرح كلّ الأسئلة التي تحيط بي، هجرتُ الرّاحة في فصل الصّيف ومضيتُ أشتغلُ في الأسواق أكسبُ القوت وأعين أبي،في النّهار أشتغلُ وأطوفُ وفي اللّيل أطالعُ الكُتب وأحيانا أغسلُ الصّوفَ، وفجأة سمعتُ بأمر هذه الدّار وعجيب شأنها، و رغبتُ في معرفتها من بابها إلى محرابها، و أنّى لي ذلك ، وقد انتصب العسس قدّامها ووراءها وعن يمينها وعن شمالها ، كأنّها دار البدور، وكنتُ من قبلُ أمرّ بالقرب منها وأنا طفلٌ ، أعود من الكُتّاب حاملا لوحتي ، وأمكث برهة أطالعُ الباب الخشبي الضّخم ، وتتأمّل كسوات الجند وسيوفهم وبنادقهم. كنتُ أتعمّد المرور أمام القشلة وقد غلبني الشّوق غلبة عظيمة ، وأنا أتشوّف إلى ما خلف الأسوار، و أتوقّعُ أن تنطحني عربة الأمير على حين غفلة فأظفر برؤيته، وأنال التّعويض وأعود إلى البيت فأروي لأبي وأمّي وإخوتي، ولكن عزّ ذلك، واعتدتُ المرور من هناك، و أنا أتذكّر صبايا وأتذكّر أفلام الكوباي المشحونة بالكذب والقتل وملاحقة القتلة واللّصوص، وأتذكّر الأسد الذي يتثاءبُ في بداية كلّ فيلم، ربّما كان يتوثّبُ إلى الهيمنة ، واكتشفتُ أنّها علامة هوليوود التي تصنعُ أعاجيب الكذب والتّمويه، والآن وأنا أمام القشلة الغريبة الغامضة طابت نفسي لهذه الأهواء والشّواغل ولصوت الطبول والمزامير العسكريّة، كأنّه عزف الزّلاقة، ولم يعد منظر العسس يرهبني، ولا بريق السّيوف المغمودة ولا البارودات، كلّها حكايات أوهام، غبتُ مدّة عن القشلة ولمّا قدمتُ إلى المدينة أضحت القشلة فندقا سياحيًّا، وتبخّر العسس، كنتُ مندهشا بسرعة وقع كلّ شيء، وفجأة خرج فارس من سور باب تونس ، انخلع قلبي ، أويتُ إلى ركن مكين ، والفارس يلاحقني وهو يقول: " لا تخف أنا محرز بن خلف ، قل لهم قدرة الله أكبر منكم و منهم، تونس لها الخير والعزّ والمجد". وغاب، كنتُ مذهولاً القشلة اندثرت وهذا فارس يخرج من السّور. التفتُ حولي فرأيتُ النّاس يضحكون و يغنّون كأنّه فرح ، وكأنّهم لم يتفطّنوا لما حدث. و كأنّني لمحتُ سفينة نوح وناقة صالح وإخوة يوسف وهدهد سليمان، و هبّ نسيم وانتشرت رائحة الفلّ والياسمين.
بقلم: صلاح بوزيّان
قال : كان أمري عجبا في الأسفار، سريتُ عند الفجر مع قافلة في مفازة ، وكانت ناقتي هادئة ، وأذكرُ أنّني أوذيت كثيرا و كنتُ أصفح وأتجاوز، وأبى القوم عليّ مؤونة العلم ضرارا وحسدا ، وكان ذلك قبل سنة 2011 ،وأذكرُ أنّني خرجتُ من الإعدادية إلى المعهد وأشرفتُ على الباكلوريا، وبدأتُ أفهم الأمور، وأستمتعُ مع والدي بنشرة الأخبار وتوجيهات بورقيبة، وكنتُ أطرحُ كثيرًا من الأسئلة أقلقت والدي وعمّي وجدّي، وضجر منّي أستاذ الفلسفة لمّا بدأتُ أشكّك في فوكو وهيدغير، حفرت في تاريخ المقاهي والمناجم والسكك الحديديّة والموانئ والواحات، وكانت والدتي تستأمنني على خباياها وأسرارها و تبعثني رسولا إلى أخواتها وأهلها وصديقاتها اللاّتي يشاركنها نسيج الزّرابي وبيع الأدباش ، فأجمعُ النّقود وأنقلُ الأكياس ولا أفشي سرّ بيتنا مهما دخل النسوة بين الجلد والعظم ، و تدرّبتُ على المصاعب شأني كشأن لداتي ، وسخرتُ من مطرقة نيتشه، وهجرت حكايات الكاهنة، وغرائب المخزن الحفصي، لقد تكشّفت لي حقائق الدوعاجي والحداد..و فهمت بورقيبة والثّعالبي، أشياء كثيرة تدور في ذهني، الغلاء عمّ البلاد، حاصر الخلق، وبدأت الدّنيا تحيد عن أبي، فأضحى كئيبًا منكسرًا، لا نفعته قراءة القرآن ولا مواساة أمّي، و لا صَبَّرَهُ الوقوف على أطلال القوم، وكنتُ كلّما أبصرتُ أبي حزينًا أغادرُ البيتَ وأطوف المدينة باكيًّا،وأقصدُ بيت الإمام سحنون صارخًا: " أيّها القاضي تبدّلت أحوالنا وأنت في سبات، أين محكمتك ؟ أين مجلسك ؟ وأين نصرتك المظلوم ؟ و ماذا بعد ؟ ارفع عنّا عاديات القوم وقد أمسينا أغرابًا في تربة الأجداد، وأشرف كبريت الصّبر على النفاد، ولكن ما عند الله باقٍ ". كان بيت سحنون مأوايا حينما أحتدمُ.. وكنّا خمسة أبناء وأبي وأمّي، سبعة أشخاص وثمن الخبزة بمائة مليم وكنّا ننعم بلحم الخروف والفراريج والأجداء والتونة والسّردين، و كنّا نأكل الحلوى والشّامية والكاكويّة بالشّاي الأحمر، شاي تطبخه أمّي على الكانون، وكنّا نقرأ القصص نتحلّق قرب الزّربية التي تنسجها أمّي ، أو نذهبُ إلى دار الثّقافة نشاهد فيلما، كبرنا وكبر حلمنا، و مرّت الأيّام فصار الإنفاق يزعج أبي بعد 2011 ، و اشتدّ الكرب، كانت رؤية أبي على تلك الحال تحزنني وتدفعني إلى طرح كلّ الأسئلة التي تحيط بي، هجرتُ الرّاحة في فصل الصّيف ومضيتُ أشتغلُ في الأسواق أكسبُ القوت وأعين أبي،في النّهار أشتغلُ وأطوفُ وفي اللّيل أطالعُ الكُتب وأحيانا أغسلُ الصّوفَ، وفجأة سمعتُ بأمر هذه الدّار وعجيب شأنها، و رغبتُ في معرفتها من بابها إلى محرابها، و أنّى لي ذلك ، وقد انتصب العسس قدّامها ووراءها وعن يمينها وعن شمالها ، كأنّها دار البدور، وكنتُ من قبلُ أمرّ بالقرب منها وأنا طفلٌ ، أعود من الكُتّاب حاملا لوحتي ، وأمكث برهة أطالعُ الباب الخشبي الضّخم ، وتتأمّل كسوات الجند وسيوفهم وبنادقهم. كنتُ أتعمّد المرور أمام القشلة وقد غلبني الشّوق غلبة عظيمة ، وأنا أتشوّف إلى ما خلف الأسوار، و أتوقّعُ أن تنطحني عربة الأمير على حين غفلة فأظفر برؤيته، وأنال التّعويض وأعود إلى البيت فأروي لأبي وأمّي وإخوتي، ولكن عزّ ذلك، واعتدتُ المرور من هناك، و أنا أتذكّر صبايا وأتذكّر أفلام الكوباي المشحونة بالكذب والقتل وملاحقة القتلة واللّصوص، وأتذكّر الأسد الذي يتثاءبُ في بداية كلّ فيلم، ربّما كان يتوثّبُ إلى الهيمنة ، واكتشفتُ أنّها علامة هوليوود التي تصنعُ أعاجيب الكذب والتّمويه، والآن وأنا أمام القشلة الغريبة الغامضة طابت نفسي لهذه الأهواء والشّواغل ولصوت الطبول والمزامير العسكريّة، كأنّه عزف الزّلاقة، ولم يعد منظر العسس يرهبني، ولا بريق السّيوف المغمودة ولا البارودات، كلّها حكايات أوهام، غبتُ مدّة عن القشلة ولمّا قدمتُ إلى المدينة أضحت القشلة فندقا سياحيًّا، وتبخّر العسس، كنتُ مندهشا بسرعة وقع كلّ شيء، وفجأة خرج فارس من سور باب تونس ، انخلع قلبي ، أويتُ إلى ركن مكين ، والفارس يلاحقني وهو يقول: " لا تخف أنا محرز بن خلف ، قل لهم قدرة الله أكبر منكم و منهم، تونس لها الخير والعزّ والمجد". وغاب، كنتُ مذهولاً القشلة اندثرت وهذا فارس يخرج من السّور. التفتُ حولي فرأيتُ النّاس يضحكون و يغنّون كأنّه فرح ، وكأنّهم لم يتفطّنوا لما حدث. و كأنّني لمحتُ سفينة نوح وناقة صالح وإخوة يوسف وهدهد سليمان، و هبّ نسيم وانتشرت رائحة الفلّ والياسمين.