يصعب الحديث عن الوضع التونسي بهدوء في ظل ما يعيشه التونسيون والتونسيات من ضغط شامل تتعدد مكوناته وتتنوع مادام المجتمع التونسي يواجه منذ أكثر من عقدين موجة تحولات يتعين إنجازها ولكن لم يقع أي إنجاز يذكر في أي مجال. بعض هذه التحولات يتجاوز ، بكل تأكيد، حدود تونس وإمكانياتها كالتحول البيئي والتحول الطاقي. ولكن هناك تحولات يمكن القول أن "التحكم" فيها يعود للنخب التونسية ونكتفي بالإشارة هنا إلى التحول الديمقراطي والتحول الرقمي إضافة إلى التحول من اقتصاد الريع إلى اقتصاد يقوم على الإنتاج . ولا شك أن العنوان الأكبر للتحولات الفاشلة أو" المجهضة " والذي يمكن أن تنضوي تحته كل العناوين السابقة هو الانتقال من دولة الولاء للشخص أو الحزب إلى دولة الكفاءة والإنجاز. هناك اليوم مظاهر في سطح الحياة الاجتماعية يمكن أن تفسر إلى حد كبير مظاهر التفكك و لعطالة في بنية العلاقات والبنى المجتمعية وأول ما يمكن الانطلاق منه هو ضمور حضور المؤسسات وتقلص دورها بشكل كبير. أصبحت صورة الحقل السياسي لدى الرأي العام سلبية وتجاوز مستوى لامبالاة التونسيين والتونسيات بالشأن السياسي المستوى الذي كان سائدا في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس زين العابدين بن علي. وما دام الحديث قد تطرق إلى زين العابدين بن علي فإن من مظاهر القطيعة بين النخب السياسية التي تتصدر المشهد السياسي حاليا و"الرأي العام " ( الذي لا وجود له حاليا إلا في عملية سبر آراء تنشر بشكل دوري و يتمحور الجدل حول مصداقيتها أكثر مما يهتم بما تقدمه من نتائج ) هو ما يظهر في ردود فعل، ما انفكت تزداد، تبرز بشكل عفوي في المقاهي ووسائل النقل العمومي والمناسبات العائلية وفيها حنين لفترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي. لن نتناول هذا " الحنين " في بعده السياسي السطحي بل كدليل على ضعف الثقة في المستقبل وخاصة غياب رؤية واضحة عن المستقبل لدى الذين يديرون الحقل السياسي ويتحكمون فيه. هذا أمر لم يستجد مع قيس سعيد بل يمثل ظاهرة تشكلت وتطورت منذ جانفي 2011 . غابت البرامج الواقعية والمنطقية وحضرت طوباويات يمينية ويسارية ودستورية زادت في تعميق الأزمة وخلفت ردود فعل نفسية عمقت مظاهر التوتر بين الفئات الاجتماعية والجهات وساهمت في انتشار العنف والعدوانية. ولا شك أنه يصعب القيام بقراءة موضوعية للحياة الاجتماعية في تونس دون وضع سردية " الثورة التي أبهرت العالم " محل نقد وتشكيك ودون تنزيل ما حدث في تونس في جانفي 2011 ضمن مشروع " الفوضى الخلاقة " الذي وقع تعليبه لغايات " تسويقية" في علبة أسمها "الربيع العربي".هذه الإشارة لا تعني أن نظام الرئيس بن علي كان مثاليا وما تهاويه أمام مخطط الفوضى الخلاقة الا دليل على أنه فقد الكثير من أسباب البقاء خاصة مع عجزه عن حل مشاكل بعضها بسيط ، على الأقل في الظاهر، كتوسيع مجال المشاركة السياسية. وهناك مشاكل أعمق كظهور تفاوت بين الجهات وخاصة معضلة الحوض المنجمي. دولة ما بعد جانفي 2011 أو بالأحرى ما بقي من الدولة عجزت عن حل المشاكل الموروثة وأضافت إليها مشاكل أخرى. وهناك تشبيه يردده بعض المهتمين بالشأن العام في تونس ومفاده أن زين العابدين غادر الحكم وتونس تشكو من نزلة برد حادة ولكن من جاءوا بعده عجزوا عن إيجاد العلاج فتفاقمت الحالة وأصبحت تونس تعاني من مرض عضال يهدد وجودها. وفي ذات السياق يتندر التونسيون هذه الأيام للتخفيف من وقع الأزمة الشاملة التي يرزحون تحتها بالتذكير بالشعار الذي رفع في الأيام التي سبقت رحيل زين العابدين بن علي و هو " خبز و ماء و بن علي لا " بالقول لقد ذهب بن علي وأيضا الخبز والماء. هناك بديهيتان في النظر للدولة ودورها و تتمثل الأولى في أن الدولة هي " أداة تخطيط وإنجاز " في حين تعتبر الثانية أن الدولة الناجحة هي تلك التي تحل المشاكل أكثر مما تخلق الأزمات. هذا ما فشلت فيه دولة ما بعد جانفي 2011 التي كانت " دولة ثرثرة " منذ ترويكا النهضة التي تحدثت عن تحول ديمقراطي لا وجود له فعليا إلا في أذهان أصحابه وصولا إلى مرحلة " العلو الشاهق " الذي يتطلع إليه قيس سعيد و لكن الواقع يزداد تدهورا ونزولا إلى الحضيض يوما بعد يوم. يقال أن الأرقام لا تكذب وهو ما يمكن قبوله بنسبة كبيرة لأن الأرقام تخضع بدورها للتوظيف وأيضا لعمليات " تجميل" . ولكن كل الأرقام التي ترتبط بالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في تونس هي دون ما كان في السابق. و بما أن من لا يتقدم يتراجع ويتأخر فإن المجتمع التونسي قد تخلف بشكل كبير خاصة وأنه لم توجد في العشرية الأخيرة سياسات دولة واضحة في القطاعات الحيوية من تعليم وصحة ونقل وفلاحة وبحث علمي. وهذا ما أوجد قطاعات مأزومة تزيد في معاناة المواطن. ومما عمق الأزمة الرؤية الصراعية والقطاعية والفئوية التي تحرك الفاعلين السياسيين والاجتماعيين وهو ما عمق منطق الغنيمة وأصاب ثقافة العمل في مقتل.
هناك مظاهر "مجتمعية" لا يمكن الحديث عن الوضع التونسي في جانبه الاجتماعي دون التطرق إليها وتتمثل في تفاقم هجرة الكفاءات والتي تحول دون تجدد النخب بشكل سليم وخاصة دون تطور المجتمع التونسي في كل المجالات. ويشهد المجتمع التونسي " تطبيعا " مع العنف وخاصة ذلك الذي يستهدف المرأة. هجرة رعايا دول جنوب الصحراء إلى تونس تحولت إلى مشكلة مجتمعية بعد أن عجزت الدولة في بداياتها عن احتوائها وتوجيهها وكشفت بعض ردود الفعل عن عدوانية قد تتطور خاصة في ظل غياب رؤية لدى الماسكين بدواليب الدولة للتعامل مع مهاجري دول جنوب الصحراء. ومن أشد المظاهر خطورة حاليا تفشي منطق الاستخفاف بالقانون ويكفي النظر إلى طريقة اعتداء التونسيين، اليومي والشامل، لقوانين المرور للتأكد من هذا الاستخفاف ومن أن طغيان الأنانية والبحث عن الحل الفردي وضعف الروابط الاجتماعية قد أصبحت خطرا يهدد الحياة الاجتماعية ويؤكد طغيان " اللامعيارية الاجتماعية " بما تعنيه من ضعف تمثل القيم وتداخلها وعجزها عن توجيه السلوك الفردي و الجماعي.
هشام الحاجي
برلماني سابق
يصعب الحديث عن الوضع التونسي بهدوء في ظل ما يعيشه التونسيون والتونسيات من ضغط شامل تتعدد مكوناته وتتنوع مادام المجتمع التونسي يواجه منذ أكثر من عقدين موجة تحولات يتعين إنجازها ولكن لم يقع أي إنجاز يذكر في أي مجال. بعض هذه التحولات يتجاوز ، بكل تأكيد، حدود تونس وإمكانياتها كالتحول البيئي والتحول الطاقي. ولكن هناك تحولات يمكن القول أن "التحكم" فيها يعود للنخب التونسية ونكتفي بالإشارة هنا إلى التحول الديمقراطي والتحول الرقمي إضافة إلى التحول من اقتصاد الريع إلى اقتصاد يقوم على الإنتاج . ولا شك أن العنوان الأكبر للتحولات الفاشلة أو" المجهضة " والذي يمكن أن تنضوي تحته كل العناوين السابقة هو الانتقال من دولة الولاء للشخص أو الحزب إلى دولة الكفاءة والإنجاز. هناك اليوم مظاهر في سطح الحياة الاجتماعية يمكن أن تفسر إلى حد كبير مظاهر التفكك و لعطالة في بنية العلاقات والبنى المجتمعية وأول ما يمكن الانطلاق منه هو ضمور حضور المؤسسات وتقلص دورها بشكل كبير. أصبحت صورة الحقل السياسي لدى الرأي العام سلبية وتجاوز مستوى لامبالاة التونسيين والتونسيات بالشأن السياسي المستوى الذي كان سائدا في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس زين العابدين بن علي. وما دام الحديث قد تطرق إلى زين العابدين بن علي فإن من مظاهر القطيعة بين النخب السياسية التي تتصدر المشهد السياسي حاليا و"الرأي العام " ( الذي لا وجود له حاليا إلا في عملية سبر آراء تنشر بشكل دوري و يتمحور الجدل حول مصداقيتها أكثر مما يهتم بما تقدمه من نتائج ) هو ما يظهر في ردود فعل، ما انفكت تزداد، تبرز بشكل عفوي في المقاهي ووسائل النقل العمومي والمناسبات العائلية وفيها حنين لفترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي. لن نتناول هذا " الحنين " في بعده السياسي السطحي بل كدليل على ضعف الثقة في المستقبل وخاصة غياب رؤية واضحة عن المستقبل لدى الذين يديرون الحقل السياسي ويتحكمون فيه. هذا أمر لم يستجد مع قيس سعيد بل يمثل ظاهرة تشكلت وتطورت منذ جانفي 2011 . غابت البرامج الواقعية والمنطقية وحضرت طوباويات يمينية ويسارية ودستورية زادت في تعميق الأزمة وخلفت ردود فعل نفسية عمقت مظاهر التوتر بين الفئات الاجتماعية والجهات وساهمت في انتشار العنف والعدوانية. ولا شك أنه يصعب القيام بقراءة موضوعية للحياة الاجتماعية في تونس دون وضع سردية " الثورة التي أبهرت العالم " محل نقد وتشكيك ودون تنزيل ما حدث في تونس في جانفي 2011 ضمن مشروع " الفوضى الخلاقة " الذي وقع تعليبه لغايات " تسويقية" في علبة أسمها "الربيع العربي".هذه الإشارة لا تعني أن نظام الرئيس بن علي كان مثاليا وما تهاويه أمام مخطط الفوضى الخلاقة الا دليل على أنه فقد الكثير من أسباب البقاء خاصة مع عجزه عن حل مشاكل بعضها بسيط ، على الأقل في الظاهر، كتوسيع مجال المشاركة السياسية. وهناك مشاكل أعمق كظهور تفاوت بين الجهات وخاصة معضلة الحوض المنجمي. دولة ما بعد جانفي 2011 أو بالأحرى ما بقي من الدولة عجزت عن حل المشاكل الموروثة وأضافت إليها مشاكل أخرى. وهناك تشبيه يردده بعض المهتمين بالشأن العام في تونس ومفاده أن زين العابدين غادر الحكم وتونس تشكو من نزلة برد حادة ولكن من جاءوا بعده عجزوا عن إيجاد العلاج فتفاقمت الحالة وأصبحت تونس تعاني من مرض عضال يهدد وجودها. وفي ذات السياق يتندر التونسيون هذه الأيام للتخفيف من وقع الأزمة الشاملة التي يرزحون تحتها بالتذكير بالشعار الذي رفع في الأيام التي سبقت رحيل زين العابدين بن علي و هو " خبز و ماء و بن علي لا " بالقول لقد ذهب بن علي وأيضا الخبز والماء. هناك بديهيتان في النظر للدولة ودورها و تتمثل الأولى في أن الدولة هي " أداة تخطيط وإنجاز " في حين تعتبر الثانية أن الدولة الناجحة هي تلك التي تحل المشاكل أكثر مما تخلق الأزمات. هذا ما فشلت فيه دولة ما بعد جانفي 2011 التي كانت " دولة ثرثرة " منذ ترويكا النهضة التي تحدثت عن تحول ديمقراطي لا وجود له فعليا إلا في أذهان أصحابه وصولا إلى مرحلة " العلو الشاهق " الذي يتطلع إليه قيس سعيد و لكن الواقع يزداد تدهورا ونزولا إلى الحضيض يوما بعد يوم. يقال أن الأرقام لا تكذب وهو ما يمكن قبوله بنسبة كبيرة لأن الأرقام تخضع بدورها للتوظيف وأيضا لعمليات " تجميل" . ولكن كل الأرقام التي ترتبط بالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في تونس هي دون ما كان في السابق. و بما أن من لا يتقدم يتراجع ويتأخر فإن المجتمع التونسي قد تخلف بشكل كبير خاصة وأنه لم توجد في العشرية الأخيرة سياسات دولة واضحة في القطاعات الحيوية من تعليم وصحة ونقل وفلاحة وبحث علمي. وهذا ما أوجد قطاعات مأزومة تزيد في معاناة المواطن. ومما عمق الأزمة الرؤية الصراعية والقطاعية والفئوية التي تحرك الفاعلين السياسيين والاجتماعيين وهو ما عمق منطق الغنيمة وأصاب ثقافة العمل في مقتل.
هناك مظاهر "مجتمعية" لا يمكن الحديث عن الوضع التونسي في جانبه الاجتماعي دون التطرق إليها وتتمثل في تفاقم هجرة الكفاءات والتي تحول دون تجدد النخب بشكل سليم وخاصة دون تطور المجتمع التونسي في كل المجالات. ويشهد المجتمع التونسي " تطبيعا " مع العنف وخاصة ذلك الذي يستهدف المرأة. هجرة رعايا دول جنوب الصحراء إلى تونس تحولت إلى مشكلة مجتمعية بعد أن عجزت الدولة في بداياتها عن احتوائها وتوجيهها وكشفت بعض ردود الفعل عن عدوانية قد تتطور خاصة في ظل غياب رؤية لدى الماسكين بدواليب الدولة للتعامل مع مهاجري دول جنوب الصحراء. ومن أشد المظاهر خطورة حاليا تفشي منطق الاستخفاف بالقانون ويكفي النظر إلى طريقة اعتداء التونسيين، اليومي والشامل، لقوانين المرور للتأكد من هذا الاستخفاف ومن أن طغيان الأنانية والبحث عن الحل الفردي وضعف الروابط الاجتماعية قد أصبحت خطرا يهدد الحياة الاجتماعية ويؤكد طغيان " اللامعيارية الاجتماعية " بما تعنيه من ضعف تمثل القيم وتداخلها وعجزها عن توجيه السلوك الفردي و الجماعي.