رئيسة المنتدى التونسي للاستشعار ومقاومة الجريمة الاقتصادية
لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات من الفساد سواء كانت مجتمعات متخلفة او متطوّرة.فقيرة أم غنية لكن منسوب الفساد يختلف من مجتمع لآخر وكذلك طرق مقاومته .
ففي بعض الدول تمّ تركيز هيئات مستقلة أو مرتبطة بأجهزة لتحديد مفهوم الفساد ومقاومته وفي دول أخرى الأجهزة الرقابية داخل الوزارات والإدارات موكول لها هذه المهمة .
وفيما تختلف التعريفات بخصوص الفساد الذي وجب مقاومته تختلف أيضا الأعمال غير القانونية التي تدرج تحت مفهومه.
الفساد هو نقيض الصّلاح وهو كل عمل غير نزيه يقوم به أيّ شخص في السلطة أو الوظيفة ، وذلك لتحقيق مكاسب خاصة، ومن الأمثلة على ظواهر الفساد إعطاء وقبول الرشاوى والهدايا غير الملائمة، والمعاملات السياسية غير القانونية، والغش أو الخداع، والتلاعب في نتائج الانتخابات، وتحويل الأموال، والاحتيال، وغسيل الأموال والتعامل المزدوج ، والمعاملات السرية، وتحويل الأموال بطرق غير مشروعة، والاحتيال على المستثمرين ..
و الفساد نوعان:الفساد الصغير والذي يتجسّد في المعاملات اليومية والإدارية وهو أساس قائم على راش ومرتشي لتسهيل خدمة ما أو تقليص آجال الحصول عليها أو الإفلات من عقوبات خفيفة كتجاوزات قانون الطرقات والسير. والفساد الكبير والذي يتقاطع فيه المالي مع السياسي مع الإداري وهو سلوك ممنهج يتمّ الإعداد له عبر شخصين على الأقل أو عبر وفاق إجرامي هدفه الابتزاز وتحقيق مكاسب غير شرعية مالية كانت أم سلطوية .
ويتخذ الفساد أشكالا متعددة منها :
*الفساد الأخلاقي وهو القاطرة لكل أشكال الفساد الأخرى ولذلك يعد الأخطر على الإطلاق. والفساد السياسي وهو جملة من التجاوزات كتقديم دعم مالي لأحزاب سياسية من قبل أفراد للحصول على مصالح معينة، أو خيانة المصالح الوطنية لصالح جهات خارجية، أو إخضاع المواطنين لتنفيذ قوانين معينة ليست في صالح الوطن، وتداول المعلومات وتسريبها إلى جهات غير مخوّلة بمعرفتها.وهذا النوع خبره التونسيون جيدا في العشرية السوداء و اكتووا بناره. والفساد الاقتصادي وهو التكسّب من الوظيفة بشكلٍ غير مشروع، والسرقات المالية، والتسهيلات المقدمة لأشخاص معينين مقابل أموال، بالإضافة إلى غسيل الأموال أو اختلاسها من الأشخاص والمؤسسات بطرقٍ غير مشروعة. وكذلك الفساد الوظيفي يتمثل هذا الشكل من أشكال الفساد بالمحسوبية التي تمنح لأشخاص ، كتعيين الأقارب والأصهار في وظائف لا يستحقونها، بالإضافة إلى استغلال الوظيفة والمنصب بشكلٍ غير مشروع، وتقديم المصلحة الخاصة في الوظيفة على المصلحة العامة..
التجربة الفاشلة
أول شعار كان يرفع من قبل السياسيين والحكام منذ 2011 هو مقاومة الفساد دون وضع آليات واضحة لذلك ودون أن تتخطى الشعارات الى الأفعال بل ان هذه المقاومة كانت كلمة حق أريد بها باطل في كثير من الأحيان وكانت أسلوبا لتصفية الخصوم السياسيين وطريقة ابتزاز لرجال الأعمال والمستثمرين.
وكانت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أول جهة رسمية تنشأ لهذا الغرض وذلك في 24 نوفمبر 2011 خلفا للجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة التي أنشئت مباشرة بعد الثورة. والواقع أن تركيبة الهيئة وأعضاؤها لم يكونا يساعدان على القيام بمهامها فهي كانت مكبلة ولم يكن بإمكانها أن تكون مستقلة وهي هيئة متحزبة تتحكم فيها الأحزاب خاصة الحاكمة منها .
بل انّ ما يعاب على الهيئة هو تركيزها على الفساد الصغير دون الكبير. ولم يسجّل خلال كامل مدة انتصابها إثارتها لقضية فساد كبير واحدة حتى تحوّلت الى نقيضها.
كل ّهذا أدّى الى إغلاقها بعد إجراءات 25 جويلية 2021 والتحفظ على كامل ملفاتها وإداراتها وتمّ وضع آخر رئيس لها في الإقامة الجبرية لأشهر.
هيئة مستقلة جديدة
بما تقدّم من تقييم مقتضب لأداء الهيئة المذكورة وبما خفي من تجاوزاتها لم يعد ممكنا إعادتها للعمل بنفس القانون المنشأ لها .لكن إلحاق بعض مصالحها الحيوية بالوزارة الأولى لم يكن الحل الأنسب.
والنتيجة عودة قوية للفساد خاصة الصغير منه وظهور أنواع خطيرة من الفساد أهمها الاحتكار والمضاربة وتعطيل الحياة اليومية للمواطنين والعبث بالآمن القومي الغذائي. وهذا ما يحتّم إنشاء هيئة جديدة .
ما يحتّم تركيز هيئة جديدة بمواصفات مختلفة هو تراجع مرتبة تونس في مؤشرات مقاومة الفساد حيث حلت بلادنا في المرتبة 85 عالميا من أصل 180 دولة، ضمن مؤشر مدركات الفساد لسنة 2022 وهي المرتبة الأدنى التي تحل بها تونس منذ سنة 2012. وقد بات واضحا فشل أجهزة الدولة التقليدية في التصدي لهذه الأنواع الجديدة من الفساد والأمر يستدعي مقاربة كاملة ومشروع وطني لمقاومة الفساد تتكفل به هيئة بهاته المواصفات كي تستطيع القيام بمهامها على أكمل وجه وأهمها:
• أن تكون هيئة عليا لا تتلقّى الأوامر من أية جهة .
• أن تكون هيئة مستقلة عن الحكومة والرئاسة ومختلف الوزارات.
• أن يتوسع اختصاصها ليشمل الفساد المالي والإداريوالسياسي.
• أن يكون أعضاؤها معينون بالتناظر وأن تشمل كافة الاختصاصات الممكنة.
• أن تكون تقنية بحتة.
• تمنح بعضا من صلاحيات الضابطة العدلية.
• تخضع للمساءلة مرة واحدة في السنة أمام مجلس النواب وتنشر تقريرها السنوي .
والأهمّ من هذا كله أن تضم هذه الهيئة قسما للتصدي لمختلف الجرائم الاقتصادية والتوقّي منها وتتبع مسارات غسل الأموال.
وهو ما تقوم به دول تعدّ مرجعا في مقاومة الفساد والتوقي من الجرائم الاقتصادية كسويسرا التي تحتل المرتبة الرابعة عالميا تسبقها كل من فنلندا والدنمارك ونيوزيلندا. وكذلك الدول الخليجية التي وضعت آليات صارمة لمقاومة الفساد بدأت تؤتي أكلها.
ان بلادنا بحاجة ماسة الى هذه الهيئة ومن المهم تمتيعها بالاستقلالية التامة والسلطة الضرورية وألا تكون مجرد هيئة تقبل الشكاوي والاشعارات وتشرف على عملية التصريح بالمكاسب وإثارة القضايا. بل يجب أن تكون هيئة قوية ومهابة ولها آليات التتبع والردع.
بقلم:ريم بالخذيري
رئيسة المنتدى التونسي للاستشعار ومقاومة الجريمة الاقتصادية
لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات من الفساد سواء كانت مجتمعات متخلفة او متطوّرة.فقيرة أم غنية لكن منسوب الفساد يختلف من مجتمع لآخر وكذلك طرق مقاومته .
ففي بعض الدول تمّ تركيز هيئات مستقلة أو مرتبطة بأجهزة لتحديد مفهوم الفساد ومقاومته وفي دول أخرى الأجهزة الرقابية داخل الوزارات والإدارات موكول لها هذه المهمة .
وفيما تختلف التعريفات بخصوص الفساد الذي وجب مقاومته تختلف أيضا الأعمال غير القانونية التي تدرج تحت مفهومه.
الفساد هو نقيض الصّلاح وهو كل عمل غير نزيه يقوم به أيّ شخص في السلطة أو الوظيفة ، وذلك لتحقيق مكاسب خاصة، ومن الأمثلة على ظواهر الفساد إعطاء وقبول الرشاوى والهدايا غير الملائمة، والمعاملات السياسية غير القانونية، والغش أو الخداع، والتلاعب في نتائج الانتخابات، وتحويل الأموال، والاحتيال، وغسيل الأموال والتعامل المزدوج ، والمعاملات السرية، وتحويل الأموال بطرق غير مشروعة، والاحتيال على المستثمرين ..
و الفساد نوعان:الفساد الصغير والذي يتجسّد في المعاملات اليومية والإدارية وهو أساس قائم على راش ومرتشي لتسهيل خدمة ما أو تقليص آجال الحصول عليها أو الإفلات من عقوبات خفيفة كتجاوزات قانون الطرقات والسير. والفساد الكبير والذي يتقاطع فيه المالي مع السياسي مع الإداري وهو سلوك ممنهج يتمّ الإعداد له عبر شخصين على الأقل أو عبر وفاق إجرامي هدفه الابتزاز وتحقيق مكاسب غير شرعية مالية كانت أم سلطوية .
ويتخذ الفساد أشكالا متعددة منها :
*الفساد الأخلاقي وهو القاطرة لكل أشكال الفساد الأخرى ولذلك يعد الأخطر على الإطلاق. والفساد السياسي وهو جملة من التجاوزات كتقديم دعم مالي لأحزاب سياسية من قبل أفراد للحصول على مصالح معينة، أو خيانة المصالح الوطنية لصالح جهات خارجية، أو إخضاع المواطنين لتنفيذ قوانين معينة ليست في صالح الوطن، وتداول المعلومات وتسريبها إلى جهات غير مخوّلة بمعرفتها.وهذا النوع خبره التونسيون جيدا في العشرية السوداء و اكتووا بناره. والفساد الاقتصادي وهو التكسّب من الوظيفة بشكلٍ غير مشروع، والسرقات المالية، والتسهيلات المقدمة لأشخاص معينين مقابل أموال، بالإضافة إلى غسيل الأموال أو اختلاسها من الأشخاص والمؤسسات بطرقٍ غير مشروعة. وكذلك الفساد الوظيفي يتمثل هذا الشكل من أشكال الفساد بالمحسوبية التي تمنح لأشخاص ، كتعيين الأقارب والأصهار في وظائف لا يستحقونها، بالإضافة إلى استغلال الوظيفة والمنصب بشكلٍ غير مشروع، وتقديم المصلحة الخاصة في الوظيفة على المصلحة العامة..
التجربة الفاشلة
أول شعار كان يرفع من قبل السياسيين والحكام منذ 2011 هو مقاومة الفساد دون وضع آليات واضحة لذلك ودون أن تتخطى الشعارات الى الأفعال بل ان هذه المقاومة كانت كلمة حق أريد بها باطل في كثير من الأحيان وكانت أسلوبا لتصفية الخصوم السياسيين وطريقة ابتزاز لرجال الأعمال والمستثمرين.
وكانت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أول جهة رسمية تنشأ لهذا الغرض وذلك في 24 نوفمبر 2011 خلفا للجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة التي أنشئت مباشرة بعد الثورة. والواقع أن تركيبة الهيئة وأعضاؤها لم يكونا يساعدان على القيام بمهامها فهي كانت مكبلة ولم يكن بإمكانها أن تكون مستقلة وهي هيئة متحزبة تتحكم فيها الأحزاب خاصة الحاكمة منها .
بل انّ ما يعاب على الهيئة هو تركيزها على الفساد الصغير دون الكبير. ولم يسجّل خلال كامل مدة انتصابها إثارتها لقضية فساد كبير واحدة حتى تحوّلت الى نقيضها.
كل ّهذا أدّى الى إغلاقها بعد إجراءات 25 جويلية 2021 والتحفظ على كامل ملفاتها وإداراتها وتمّ وضع آخر رئيس لها في الإقامة الجبرية لأشهر.
هيئة مستقلة جديدة
بما تقدّم من تقييم مقتضب لأداء الهيئة المذكورة وبما خفي من تجاوزاتها لم يعد ممكنا إعادتها للعمل بنفس القانون المنشأ لها .لكن إلحاق بعض مصالحها الحيوية بالوزارة الأولى لم يكن الحل الأنسب.
والنتيجة عودة قوية للفساد خاصة الصغير منه وظهور أنواع خطيرة من الفساد أهمها الاحتكار والمضاربة وتعطيل الحياة اليومية للمواطنين والعبث بالآمن القومي الغذائي. وهذا ما يحتّم إنشاء هيئة جديدة .
ما يحتّم تركيز هيئة جديدة بمواصفات مختلفة هو تراجع مرتبة تونس في مؤشرات مقاومة الفساد حيث حلت بلادنا في المرتبة 85 عالميا من أصل 180 دولة، ضمن مؤشر مدركات الفساد لسنة 2022 وهي المرتبة الأدنى التي تحل بها تونس منذ سنة 2012. وقد بات واضحا فشل أجهزة الدولة التقليدية في التصدي لهذه الأنواع الجديدة من الفساد والأمر يستدعي مقاربة كاملة ومشروع وطني لمقاومة الفساد تتكفل به هيئة بهاته المواصفات كي تستطيع القيام بمهامها على أكمل وجه وأهمها:
• أن تكون هيئة عليا لا تتلقّى الأوامر من أية جهة .
• أن تكون هيئة مستقلة عن الحكومة والرئاسة ومختلف الوزارات.
• أن يتوسع اختصاصها ليشمل الفساد المالي والإداريوالسياسي.
• أن يكون أعضاؤها معينون بالتناظر وأن تشمل كافة الاختصاصات الممكنة.
• أن تكون تقنية بحتة.
• تمنح بعضا من صلاحيات الضابطة العدلية.
• تخضع للمساءلة مرة واحدة في السنة أمام مجلس النواب وتنشر تقريرها السنوي .
والأهمّ من هذا كله أن تضم هذه الهيئة قسما للتصدي لمختلف الجرائم الاقتصادية والتوقّي منها وتتبع مسارات غسل الأموال.
وهو ما تقوم به دول تعدّ مرجعا في مقاومة الفساد والتوقي من الجرائم الاقتصادية كسويسرا التي تحتل المرتبة الرابعة عالميا تسبقها كل من فنلندا والدنمارك ونيوزيلندا. وكذلك الدول الخليجية التي وضعت آليات صارمة لمقاومة الفساد بدأت تؤتي أكلها.
ان بلادنا بحاجة ماسة الى هذه الهيئة ومن المهم تمتيعها بالاستقلالية التامة والسلطة الضرورية وألا تكون مجرد هيئة تقبل الشكاوي والاشعارات وتشرف على عملية التصريح بالمكاسب وإثارة القضايا. بل يجب أن تكون هيئة قوية ومهابة ولها آليات التتبع والردع.