*هناك إهمال شبه كامل في العلوم الاجتماعية العربية الحديثة لدراسة دلالات السلوكيات اللغوية التي قد تختلف فيها النساء العربيات عن نظائرهن من الرجال.
تكثر الدراسات للغة العربية في المجتمعات العربية ويتم الدفاع عنها دون منهجية علمية ذات مصداقية عالية تدرس اللغة كظاهرة اجتماعية. من جهتنا، حاولنا دراسة وضع اللغة العربية خاصة في المجتمعات المغاربية بواسطة أدوات البحث في علميْ النفس والاجتماع فتوصلنا إلى ابتكار مفاهيم مستلة من التربية الاجتماعية لتلك المجتمعات مثل مفاهيم التعريب النفسي والفرنكوأراب الأنثوية والحجر اللغوي. تتجلى هذه الرؤية العلمية في الرصيد الفكري التحليلي لعلاقة التونسيات باللغة الوطنية/ العربية في أقسام هذا المقال.
اللغة واختلاف تعامل الجنسين معها
يهتم هذا المقال بطرح ظاهرة لا يكاد يتحدث عنها أحد من المثقفات والمثقفين التونسيين ومن نظيراتهم ونظرائهم في العالم العربي. تتمثل هذه الظاهرة في اختلاف الرجال والنساء في بعض معالم التعامل مع اللغة. بدأ هذا الإدراك للاختلاف بين الجنسين في الدراسات اللغوية في المجتمعات الغربية منذ 1972. فبعد أكثر من نصف قرن من اهتمام الغرب بهذه الظاهرة وفقدان الاهتمام بها في المجتمعات العربية، نوّد طرح المسألة باختصار في سطور قليلة للحديث والتحليل لاختلاف لغوي محدَّد بين التونسيات والتونسيين. يتمثل هذا الاختلافُ في ميل التونسيات إلى استعمال اللغة الفرنسية (الأجنبية) في الحديث والكتابة وحبها والدفاع عنها أكثر من الرجال. يُعتبر الكتاب (The Handbook of Language and Gender by J.Holmes and M.Meyerhoff 2005) مرجعا رئيسيا في اختلاف الجنسين في التعامل مع اللغة.
اهتمامنا بالفروق اللغوية بين الجنسين
لقد انطلق انشغالنا بهذا الموضوع منذ بداية الثمانينات من القرن العشرين بدراسة ظاهرة الرغبة الكبيرة لدى النساء المغاربيات في استعمال اللغة الفرنسية. ورغم التركيز في هذا المقال على هذه الظاهرة في المجتمع التونسي اليوم، إلا أنه يسهل تعميم ملاحظات ونتائج طرحه على النساء في الجزائر والمغرب وربما على بنات حواء في بعض المجتمعات العربية الأخرى. تتلخص المقولة الرئيسية هنا في القول بأن اللغة ليست مجرد أداة تواصل بين الناس فحسب بل هي قد تكون أيضا أداة رمزية تعكس أيضا وضع المرأة المستعملة لها على المستويات النفسية والاجتماعية والثقافية كما سيتضح ذلك في بقية أجزاء هذه المقال.
المواطنة اللغوية
نطرح هنا مصطلح المواطنة اللغوية كمفهوم جديد يندرج في نظريتنا للرموز الثقافية. ويعني هذا المفهوم أن المجتمع وأفراده يتصفون بالمواطنة اللغوية الكاملة متى كانت اللغة الوطنية تحتل المكانة الأولى في قلوب المواطنات والمواطنين وفي السمعة الاجتماعية في مجتمعها وفي الاستعمال اليومي فيه لدى الأفراد وفي المؤسسات والقطاعات المجتمعية المختلفة. يستند هذا التعريف للمواطنة اللغوية على أن العلاقة السوّية بين اللغة الوطنية والمجتمع وأفراده يجب أن تكون علاقة طبيعية سليمة وحميمة باعتبار اللغة مكونا رئيسيا من هوية المواطنات والمواطنين والوطن الأمر الذي يتطلب منهم الولاء الكامل للغة الوطنية والمحافظة عليها وحمايتها والدفاع عنها مثلها مثل ثروة وعلم وحدود البلاد. وهذا ما نجده، مثلا، سائدا اليوم في مجتمعات الإتحاد الأوروبي.
مفهوما التحرش والاغتصاب اللغويين
عند ضُعف أو غياب المواطنة اللغوية الكاملة في المجتمع كما هو الحال في المجتمع التونسي بين التونسيات مثلا، يبرز مفهومان يجوز استعمالهما في الحديث عن علاقتهن بلغتهن الوطنية/العربية. هذان المفهومان هما التحرش اللغوي الأنثوي والاغتصاب اللغوي الأنثوي. إنهما استعارتان مستلتان من الجانب الجنسي لمفردتيْ التحرش والاغتصاب. فالتحرش الجنسي من طرف الرجال يعني مشاكسة النساء والاعتداء عليهن بسلوكيات ذات خلفيات جنسية في الشوارع وأمكنة العمل وغيرها. أما الاغتصاب الجنسي فهو الامتداد الأقصى ومنه الأخطر للتحرش الجنسي. استنادا على هذا الفرق بين المفهومين يجوز تشبيه هذا الفرق بالاختلاف بين التحرش اللغوي الأنثوي والاغتصاب اللغوي الأنثوي، أي أن سلوك التحرش اللغوي لدى المرأة التونسية يتمثل في ضُعف احترام اللغة العربية/الوطنية وذلك باستعمال اللغة الفرنسية أحيانا بدل اللغة العربية حتى في أبسط الأشياء. في المقابل، فالاغتصاب اللغوي الأنثوي يشير إلى استعمال التونسيات كثيرا للغة الفرنسية أو استعمالها فقط في أسرهن ومؤسساتهن ومؤلفاتهن وغيرها. يفيد هذان التعريفان أن أغلبية التونسيات المتعلمات يمارسن التحرش اللغوي ويعتبرْنه ليس سلوكا عاديا فحسب بل يفتخرْن به لأنه في نظرهن رمز للحداثة والتقدم.
الجندر واستعمال اللغة
نركز هنا على مسألة التعامل المختلف لدى المرأة التونسية مع اللغتين العربية والفرنسية.هناك إهمال شبه كامل في العلوم الاجتماعية العربية الحديثة لدراسة دلالات السلوكيات اللغوية التي قد تختلف فيها النساء العربيات عن نظائرهن من الرجال.من ناحيتنا، فقد لفتت نظرنا ملاحظاتُنا الميدانية لبعض ملامح السلوك اللغوي الأنثوي المختلف عن نظيره الذكوري لدى التونسية . فهذا المقال يثير نظريا مفهوميْ الجنس والنوع الجنسي/جندر كما يُستعملان منذ عقود في دراسات العلوم الاجتماعية وفي طليعتها علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والنفس واللسانيات.تعتبر مارجريت ميد عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية الشهيرة رائدة في ميلاد مفهوميْ الجنس والنوع الجنسي .إذ اكتشفت من خلال دراستها لقبائل أراباشس بغينيا الجديدة أن الرجال يتصفون ببعض السلوكيات التي تُنسب عادة في مجتمعات أخرى إلى النساء مثل حب الأطفال والانفعال والحساسية. فنشر أول عمل في 1972 حول
.Sex, Gender and Society/ Ann Oakaly آن أوأكالي الجنس والنوع الجنسي في المجتمع للعالمة
تعرف أوأكلي النوع الجنسي بطريقة معاكسة لمفهوم الجنس. فكلمة الجنس تشير عندها إلى الفروق الفيزيولوجية والبيولوجية بين المرأة والرجل، بينما يفيد مصطلح النوع الجنسي بأنه سلوك الجنسين المتأثر بثقافة مجتمعهما، أي أن النوع الجنسي هو نتيجة لتصنيف اجتماعي ثنائي لما هو ذكوري أو أنثوي كما تراهما ثقافة المجتمع. ووفقا لمنظور علماء الاجتماع، فالمجتمع طالما يقوم بتقسيم الأدوار على الجنسين بطريقة غير متساوية.
غياب المفهومين في علم الاجتماع العربي
ليس من المبالغة القول بأن الباحثين في علم الاجتماع العربي لا يكادون يستعملون مفهوميْ الجنس والنوع الجنسي كما ورد تعريفهما.فعلى سبيل المثال، نشرت مجلة إضافات الصادرة عن الجمعية العربية لعلم الاجتماع في عددها السادس لربيع 2009 ملفا بأربعة بحوث حول الجنس في المجتمعات العربية. يتضح من عناوين تلك الدراسات غياب مفهوميْ الجنس والنوع الجنسي بالمعنيين المشار إليهما: الجنس كهوية فيزيولوجية بيولوجية لكل من المرأة والرجل والنوع الجنسي كهوية لكلا الجنسين يتعلمانها من ثقافة مجتمعهما. فأصحاب تلك البحوث يركزون على النشاط الجنسي عند الخادمات وعند المرأة العربية/المغربية وعند الشباب المراهقين في مجتمعات الوطن العربي. ومنه، هناك مشروعية كبيرة للقول بأنه كان من المنتظر أن يهتم علماء الاجتماع العرب بمفهوم النوع الجنسي على الخصوص. إذ إن ثقافات المجتمعات العربية ذات تأثير كبير على تحديد شخصيتيْ المرأة والرجل العربيين وسلوكهما وأدوارهما المختلفة في تلك المجتمعات. وبذلك، فالنوع الجنسي هو مفهوم سوسيولوجي مشروع ومفتاحي لدراسة وفهم وتفسير العديد من الظواهر الاجتماعية العربية المتنوعة والمختلفة بين النساء والرجال في المجتمعات العربية .
مدرّسات الروضات وارتباك علاقة الأطفال بالعربية
لا يكاد يتحدث أحد في المجتمع التونسي عن المضار التي تتعرض لها علاقة الأطفال التونسيين باللغة العربية في الروضات. فعلم النفس يؤكد أن السنَّ المبكرة هي المرحلة المثالية التي يكسب فيها الطفلُ علاقة سليمة وحميمة مع لغته إذا لم يتدخل تعلّمُ لغات أخرى في ذلك العمر المبكر فتفسد العلاقة الطبيعية السوية مع اللغة الوطنية لدى هؤلاء الأطفال الذين سيحملون هذا العبء معهم إلى سنّ الكهولة وما بعدها حتى الشيخوخة. ومما يزيد الطين بلّة أن جلُّ النساء المدرّسات في الروضات يملْن- كما ذكرنا- إلى جذب الأطفال أكثر إلى تعلّم اللغتين الفرنسية والانكليزية وذلك بتقمصهن ضمنيا أو جهارا لسلوكيات يتعلم منها الأطفال أن هاتين اللغتين أفضل من العربية. إن هذا السلوك اللغوي النسائي المتحيز للغات الأجنبية ليس بالأمر المفاجئ بالنسبة لتفسير هذه الظاهرة. يتمثل تفسيرنا الخاص في أن موقع المرأة في شبكة ثلاثية ( الفرنسي/الفرنسية والتونسي والتونسية) يدفعها إلى التحيّز إلى اللغة الفرنسية وغيرها. يأتي هذا من أنها تحتل المكانة السفلى في تلك الشبكة الثلاثية حيث يكون الفرنسي/الفرنسية في المكانة العليا والتونسي في المرتبة الثانية والتونسية في المكانة الأخيرة. ولرفع موقعها تلجأ المرأة التونسية إلى أدوات رمزية تعتقد أنها تحسّن من وضعها الاجتماعي وتُكسبها معالم الحداثة والتقدّم وهي استعمال اللغة الفرنسية شفويا وكتابة أكثر من التونسي وبنبرة باريسية. ومن ثم، يُنتظر أن يؤثر ذلك السلوك سلبا على علاقة هؤلاء الأطفال بلغتهم الوطنية. تمثل هذه السلوكيات اللغوية التونسية من الروضات إلى أعلى السلطات ما ينبغي تسميتها منظومة الاستلاب اللغوي في القمة والقاعدة ومن بينهما ولدى الكبار والصغار في المجتمع التونسي بعد أكثر من نصف قرن من 'الاستقلال'.
غياب دفاع التونسيات على العربية
يوجد عدد من الشخصيات والمثقفين التونسيين الذين يدافعون بحماس على اللغة الوطنية. أما الشخصيات النسائية والمثقفات التونسيات اللائي يدافعن على اللغة العربية فهناك غياب بعد الاستقلال 1956. والسؤال العلمي لماذا ليست هناك نساء تونسيات مثقفات أو وزيرات يدافعن بقوة على اللغة الوطنية ؟. يفسر ما ذكرنا من أسباب تعامل المرأة التونسية مع اللغات ظاهرة هذا الغياب. فمفهومنا لمكانة التونسية في الشبكة الثلاثية المذكورة سابقا يفسر تحيز المثقفة والمتعلمة التونسيتين إلى اللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية/الوطنية. فالتحيز إلى استعمال الفرنسية في الحديث والكتابة نجده حاضرا بقوة في مركز البحوث والدراسات والتوثيق والمعلومات حول المرأة Crédif في تونس العاصمة. فجميع الأمثلة الواردة تشير بوضوح إلى ضُعف المواطنة اللغوية لدى النساء التونسيات المتعلمات وهن الأغلبية اليوم. ومن ثم، يرتبك حضور لغة الأم في التعامل في المجتمع التونسي كما تشهد على ذلك حروف كتابة اللافتات في المدن والقرى التونسية. ويجوز بهذا الصدد القول إن معظم النساء التونسيات المتعلمات يحتضن الاستعمار اللغوي الفرنسي بقوة أكبر من احتضان نظرائهن له من الرجال. ومن ثم، فاستيطان هذا الاستعمار في المجتمع التونسي تعزز التونسيات تواصله إلى أجل طويل.
* عالم الاجتماع – تونس
بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي *
*هناك إهمال شبه كامل في العلوم الاجتماعية العربية الحديثة لدراسة دلالات السلوكيات اللغوية التي قد تختلف فيها النساء العربيات عن نظائرهن من الرجال.
تكثر الدراسات للغة العربية في المجتمعات العربية ويتم الدفاع عنها دون منهجية علمية ذات مصداقية عالية تدرس اللغة كظاهرة اجتماعية. من جهتنا، حاولنا دراسة وضع اللغة العربية خاصة في المجتمعات المغاربية بواسطة أدوات البحث في علميْ النفس والاجتماع فتوصلنا إلى ابتكار مفاهيم مستلة من التربية الاجتماعية لتلك المجتمعات مثل مفاهيم التعريب النفسي والفرنكوأراب الأنثوية والحجر اللغوي. تتجلى هذه الرؤية العلمية في الرصيد الفكري التحليلي لعلاقة التونسيات باللغة الوطنية/ العربية في أقسام هذا المقال.
اللغة واختلاف تعامل الجنسين معها
يهتم هذا المقال بطرح ظاهرة لا يكاد يتحدث عنها أحد من المثقفات والمثقفين التونسيين ومن نظيراتهم ونظرائهم في العالم العربي. تتمثل هذه الظاهرة في اختلاف الرجال والنساء في بعض معالم التعامل مع اللغة. بدأ هذا الإدراك للاختلاف بين الجنسين في الدراسات اللغوية في المجتمعات الغربية منذ 1972. فبعد أكثر من نصف قرن من اهتمام الغرب بهذه الظاهرة وفقدان الاهتمام بها في المجتمعات العربية، نوّد طرح المسألة باختصار في سطور قليلة للحديث والتحليل لاختلاف لغوي محدَّد بين التونسيات والتونسيين. يتمثل هذا الاختلافُ في ميل التونسيات إلى استعمال اللغة الفرنسية (الأجنبية) في الحديث والكتابة وحبها والدفاع عنها أكثر من الرجال. يُعتبر الكتاب (The Handbook of Language and Gender by J.Holmes and M.Meyerhoff 2005) مرجعا رئيسيا في اختلاف الجنسين في التعامل مع اللغة.
اهتمامنا بالفروق اللغوية بين الجنسين
لقد انطلق انشغالنا بهذا الموضوع منذ بداية الثمانينات من القرن العشرين بدراسة ظاهرة الرغبة الكبيرة لدى النساء المغاربيات في استعمال اللغة الفرنسية. ورغم التركيز في هذا المقال على هذه الظاهرة في المجتمع التونسي اليوم، إلا أنه يسهل تعميم ملاحظات ونتائج طرحه على النساء في الجزائر والمغرب وربما على بنات حواء في بعض المجتمعات العربية الأخرى. تتلخص المقولة الرئيسية هنا في القول بأن اللغة ليست مجرد أداة تواصل بين الناس فحسب بل هي قد تكون أيضا أداة رمزية تعكس أيضا وضع المرأة المستعملة لها على المستويات النفسية والاجتماعية والثقافية كما سيتضح ذلك في بقية أجزاء هذه المقال.
المواطنة اللغوية
نطرح هنا مصطلح المواطنة اللغوية كمفهوم جديد يندرج في نظريتنا للرموز الثقافية. ويعني هذا المفهوم أن المجتمع وأفراده يتصفون بالمواطنة اللغوية الكاملة متى كانت اللغة الوطنية تحتل المكانة الأولى في قلوب المواطنات والمواطنين وفي السمعة الاجتماعية في مجتمعها وفي الاستعمال اليومي فيه لدى الأفراد وفي المؤسسات والقطاعات المجتمعية المختلفة. يستند هذا التعريف للمواطنة اللغوية على أن العلاقة السوّية بين اللغة الوطنية والمجتمع وأفراده يجب أن تكون علاقة طبيعية سليمة وحميمة باعتبار اللغة مكونا رئيسيا من هوية المواطنات والمواطنين والوطن الأمر الذي يتطلب منهم الولاء الكامل للغة الوطنية والمحافظة عليها وحمايتها والدفاع عنها مثلها مثل ثروة وعلم وحدود البلاد. وهذا ما نجده، مثلا، سائدا اليوم في مجتمعات الإتحاد الأوروبي.
مفهوما التحرش والاغتصاب اللغويين
عند ضُعف أو غياب المواطنة اللغوية الكاملة في المجتمع كما هو الحال في المجتمع التونسي بين التونسيات مثلا، يبرز مفهومان يجوز استعمالهما في الحديث عن علاقتهن بلغتهن الوطنية/العربية. هذان المفهومان هما التحرش اللغوي الأنثوي والاغتصاب اللغوي الأنثوي. إنهما استعارتان مستلتان من الجانب الجنسي لمفردتيْ التحرش والاغتصاب. فالتحرش الجنسي من طرف الرجال يعني مشاكسة النساء والاعتداء عليهن بسلوكيات ذات خلفيات جنسية في الشوارع وأمكنة العمل وغيرها. أما الاغتصاب الجنسي فهو الامتداد الأقصى ومنه الأخطر للتحرش الجنسي. استنادا على هذا الفرق بين المفهومين يجوز تشبيه هذا الفرق بالاختلاف بين التحرش اللغوي الأنثوي والاغتصاب اللغوي الأنثوي، أي أن سلوك التحرش اللغوي لدى المرأة التونسية يتمثل في ضُعف احترام اللغة العربية/الوطنية وذلك باستعمال اللغة الفرنسية أحيانا بدل اللغة العربية حتى في أبسط الأشياء. في المقابل، فالاغتصاب اللغوي الأنثوي يشير إلى استعمال التونسيات كثيرا للغة الفرنسية أو استعمالها فقط في أسرهن ومؤسساتهن ومؤلفاتهن وغيرها. يفيد هذان التعريفان أن أغلبية التونسيات المتعلمات يمارسن التحرش اللغوي ويعتبرْنه ليس سلوكا عاديا فحسب بل يفتخرْن به لأنه في نظرهن رمز للحداثة والتقدم.
الجندر واستعمال اللغة
نركز هنا على مسألة التعامل المختلف لدى المرأة التونسية مع اللغتين العربية والفرنسية.هناك إهمال شبه كامل في العلوم الاجتماعية العربية الحديثة لدراسة دلالات السلوكيات اللغوية التي قد تختلف فيها النساء العربيات عن نظائرهن من الرجال.من ناحيتنا، فقد لفتت نظرنا ملاحظاتُنا الميدانية لبعض ملامح السلوك اللغوي الأنثوي المختلف عن نظيره الذكوري لدى التونسية . فهذا المقال يثير نظريا مفهوميْ الجنس والنوع الجنسي/جندر كما يُستعملان منذ عقود في دراسات العلوم الاجتماعية وفي طليعتها علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والنفس واللسانيات.تعتبر مارجريت ميد عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية الشهيرة رائدة في ميلاد مفهوميْ الجنس والنوع الجنسي .إذ اكتشفت من خلال دراستها لقبائل أراباشس بغينيا الجديدة أن الرجال يتصفون ببعض السلوكيات التي تُنسب عادة في مجتمعات أخرى إلى النساء مثل حب الأطفال والانفعال والحساسية. فنشر أول عمل في 1972 حول
.Sex, Gender and Society/ Ann Oakaly آن أوأكالي الجنس والنوع الجنسي في المجتمع للعالمة
تعرف أوأكلي النوع الجنسي بطريقة معاكسة لمفهوم الجنس. فكلمة الجنس تشير عندها إلى الفروق الفيزيولوجية والبيولوجية بين المرأة والرجل، بينما يفيد مصطلح النوع الجنسي بأنه سلوك الجنسين المتأثر بثقافة مجتمعهما، أي أن النوع الجنسي هو نتيجة لتصنيف اجتماعي ثنائي لما هو ذكوري أو أنثوي كما تراهما ثقافة المجتمع. ووفقا لمنظور علماء الاجتماع، فالمجتمع طالما يقوم بتقسيم الأدوار على الجنسين بطريقة غير متساوية.
غياب المفهومين في علم الاجتماع العربي
ليس من المبالغة القول بأن الباحثين في علم الاجتماع العربي لا يكادون يستعملون مفهوميْ الجنس والنوع الجنسي كما ورد تعريفهما.فعلى سبيل المثال، نشرت مجلة إضافات الصادرة عن الجمعية العربية لعلم الاجتماع في عددها السادس لربيع 2009 ملفا بأربعة بحوث حول الجنس في المجتمعات العربية. يتضح من عناوين تلك الدراسات غياب مفهوميْ الجنس والنوع الجنسي بالمعنيين المشار إليهما: الجنس كهوية فيزيولوجية بيولوجية لكل من المرأة والرجل والنوع الجنسي كهوية لكلا الجنسين يتعلمانها من ثقافة مجتمعهما. فأصحاب تلك البحوث يركزون على النشاط الجنسي عند الخادمات وعند المرأة العربية/المغربية وعند الشباب المراهقين في مجتمعات الوطن العربي. ومنه، هناك مشروعية كبيرة للقول بأنه كان من المنتظر أن يهتم علماء الاجتماع العرب بمفهوم النوع الجنسي على الخصوص. إذ إن ثقافات المجتمعات العربية ذات تأثير كبير على تحديد شخصيتيْ المرأة والرجل العربيين وسلوكهما وأدوارهما المختلفة في تلك المجتمعات. وبذلك، فالنوع الجنسي هو مفهوم سوسيولوجي مشروع ومفتاحي لدراسة وفهم وتفسير العديد من الظواهر الاجتماعية العربية المتنوعة والمختلفة بين النساء والرجال في المجتمعات العربية .
مدرّسات الروضات وارتباك علاقة الأطفال بالعربية
لا يكاد يتحدث أحد في المجتمع التونسي عن المضار التي تتعرض لها علاقة الأطفال التونسيين باللغة العربية في الروضات. فعلم النفس يؤكد أن السنَّ المبكرة هي المرحلة المثالية التي يكسب فيها الطفلُ علاقة سليمة وحميمة مع لغته إذا لم يتدخل تعلّمُ لغات أخرى في ذلك العمر المبكر فتفسد العلاقة الطبيعية السوية مع اللغة الوطنية لدى هؤلاء الأطفال الذين سيحملون هذا العبء معهم إلى سنّ الكهولة وما بعدها حتى الشيخوخة. ومما يزيد الطين بلّة أن جلُّ النساء المدرّسات في الروضات يملْن- كما ذكرنا- إلى جذب الأطفال أكثر إلى تعلّم اللغتين الفرنسية والانكليزية وذلك بتقمصهن ضمنيا أو جهارا لسلوكيات يتعلم منها الأطفال أن هاتين اللغتين أفضل من العربية. إن هذا السلوك اللغوي النسائي المتحيز للغات الأجنبية ليس بالأمر المفاجئ بالنسبة لتفسير هذه الظاهرة. يتمثل تفسيرنا الخاص في أن موقع المرأة في شبكة ثلاثية ( الفرنسي/الفرنسية والتونسي والتونسية) يدفعها إلى التحيّز إلى اللغة الفرنسية وغيرها. يأتي هذا من أنها تحتل المكانة السفلى في تلك الشبكة الثلاثية حيث يكون الفرنسي/الفرنسية في المكانة العليا والتونسي في المرتبة الثانية والتونسية في المكانة الأخيرة. ولرفع موقعها تلجأ المرأة التونسية إلى أدوات رمزية تعتقد أنها تحسّن من وضعها الاجتماعي وتُكسبها معالم الحداثة والتقدّم وهي استعمال اللغة الفرنسية شفويا وكتابة أكثر من التونسي وبنبرة باريسية. ومن ثم، يُنتظر أن يؤثر ذلك السلوك سلبا على علاقة هؤلاء الأطفال بلغتهم الوطنية. تمثل هذه السلوكيات اللغوية التونسية من الروضات إلى أعلى السلطات ما ينبغي تسميتها منظومة الاستلاب اللغوي في القمة والقاعدة ومن بينهما ولدى الكبار والصغار في المجتمع التونسي بعد أكثر من نصف قرن من 'الاستقلال'.
غياب دفاع التونسيات على العربية
يوجد عدد من الشخصيات والمثقفين التونسيين الذين يدافعون بحماس على اللغة الوطنية. أما الشخصيات النسائية والمثقفات التونسيات اللائي يدافعن على اللغة العربية فهناك غياب بعد الاستقلال 1956. والسؤال العلمي لماذا ليست هناك نساء تونسيات مثقفات أو وزيرات يدافعن بقوة على اللغة الوطنية ؟. يفسر ما ذكرنا من أسباب تعامل المرأة التونسية مع اللغات ظاهرة هذا الغياب. فمفهومنا لمكانة التونسية في الشبكة الثلاثية المذكورة سابقا يفسر تحيز المثقفة والمتعلمة التونسيتين إلى اللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية/الوطنية. فالتحيز إلى استعمال الفرنسية في الحديث والكتابة نجده حاضرا بقوة في مركز البحوث والدراسات والتوثيق والمعلومات حول المرأة Crédif في تونس العاصمة. فجميع الأمثلة الواردة تشير بوضوح إلى ضُعف المواطنة اللغوية لدى النساء التونسيات المتعلمات وهن الأغلبية اليوم. ومن ثم، يرتبك حضور لغة الأم في التعامل في المجتمع التونسي كما تشهد على ذلك حروف كتابة اللافتات في المدن والقرى التونسية. ويجوز بهذا الصدد القول إن معظم النساء التونسيات المتعلمات يحتضن الاستعمار اللغوي الفرنسي بقوة أكبر من احتضان نظرائهن له من الرجال. ومن ثم، فاستيطان هذا الاستعمار في المجتمع التونسي تعزز التونسيات تواصله إلى أجل طويل.