* مؤلّف يجمع بين قوّة الرّقة ورقّة القوة لاسيما عند وصف حرارة العطف وجمال الحب العميق لامرأة
"في انتظار خبر إنّ"هو عنوان رواية الأستاذ الطاهر لبيب. صدرت عن دار محمد علي للنشر في الأشهر الأولى من سنة 2023. وجاءت في مائتين وسبع وثمانين صفحة من الحجم المتوسط.
طاولة عليها أوراق التّدوين تلهو بها حفيدة المؤلّف جوليا، كما تلهو بما حولها من كتب وأشياء أخرى، تلك هي صورة الغلاف التي كانت من تصميم الرّوائي الطاهر لبيب. هذا الرجل صاحب "سوسيولوجيا الغزل العربي" ينتقل من علم الاجتماع إلى رواية يواجه فيها عبثية أوضاع تفشى فيها التافه وفساد المعنى، ولعله يواجه أيضا، بنوع من الصياغة، نمطا سائدا من الكتابة. 1
الأستاذ الطاهر لبيب ذاع صيته في صفوف الطلبة منذ بداية ثمانينات القرن المنقضي. كان له باع وذراع الشيء الذي جعل دروسه تلقى استحسانا ورغبة من طلبته ومن لهم صلة بطلبته. وتميّز الأستاذ الطاهر لبيب أيضا بقربه الشديد من مريديه إلى قاعة الدرس وحتى خارجها. كان متواضعا يبلّغ نظريات علم الاجتماع وما تعدّد فيها من مدارس في مشارق الأرض ومغاربها بيداغوجية لا تخلو من سلالة في المضمون والشكل.هذا كلّه والبشاشة لا تفارق وجهه الصّبوح.
لطالما حفّز الأستاذ الطاهر لبيب طلبته على العلم والمعرفة وتحدّي الصّعاب. وحدّث الأستاذ طلبته قائلا إنّه قد أتاهم بعلمه، الذي نهله من أساتذته، في بلاده وخارجها، بعد أن تجاوز العقبات التي وجدها في قريته وشوارعها،التي بلا أسماء،أين سلّ أبوه قوت أسرته وباع ما يملك الشويهات ليواصل أبناؤه دراستهم.
لقد تعمدنا التوقف للتعريف بهذا الرّاوي الذي ينظم لأول مرة في عالم كتابة جنس الرّواية، ونرجو ألاّ تكون الأخيرة،لأنّنا وجدنا في الرّواية امتدادا لما تميزت به شخصية الرجل، فهو المثقف العضوي بامتياز الرّافض لكلّ ما هو آت من سلطة القرار لأنها لا تمثل إلاّ نفسها وغايتها حسب تعبيره. نذكر أنّه في سنوات خلت، لم يعترض الأستاذ الطاهر لبيب فقط على ندوة فكرية عنوانها "الغزو الثقافي في البلدان العربية"، بل إنّه انسحب منها لأنه يعتقد جازما أنّ الغزو هو ضرب من ضروب العنف المادي والمعنوي في حين أنّه في قضيّة الحال فتحت الأبواب والمنافذ كلّها لتتسرّب الثقافات الأجنبية التي تصبو إلى الهيمنة وانصهار الشعوب المغلوبة فيها.
رواية "في انتظار خبر إنّ" تؤكد في كلّ صفحاتها أنّ حقائب الأستاذ الطاهر لبيب تعبت من التّرحال إلى لبنان، إلى بيروت بالتحديد، وقد اتخذ منها سكنا لوجدانه وعقله... وبذلك انبرى يتحدث عنها، عن سعادتها، عن حزنها، عن نجاحاتها، عن إخفاقاتها، عن نورها، عن ظلمتها، عن تفتحها واستيعابها لكلّ من هبّ ودبّ من افكار وإيديولوجيات إلى حدّ الغرق في حروب وتطاحن لم يعرفا الهدوء بين مختلف التيّارات السياسّية والفكريّة ولاسيما الطائفيّةالتي أدّت إلى خراب ودمار أتى على جمال لبنان وسحر أيام بيروت ولياليها.
..."بيروتهم "مدينة البدايات"..."فتنة محمية"..."عهر، طهر، فجر"... "ورقة توت"..."خيمة أخيرة، نجمة أخيرة"..."شطرنج كلام"..."هندسة خراب"..."موت لا يعرف كيف يموت..."محراب أخير"..."ست الدنيا، أنثى، حبيبة، معشوقة، مجنونة"...."يحترق نهداها، تراود، تعاشر، تضاجع"..."2
وأنت تقرأ صفحات الرواية، تبهرك اللغة الشاعرية.مؤلّف يجمع بين قوّة الرّقة ورقّة القوة لاسيما عند وصف حرارة العطف وجمال الحب العميق لامرأة، لمعشوقة، لحبيبة في بال الكاتب وعالمه الافتراضي وقد تكون في عالمه الواقعي. يقول الكاتب:
..." اليوم، لم يعد لي من صور بيروت القديمة ما اغطيها به: تعرت من الشعر ومن أغانيها وسال جدالها في شقوق الأرصفة. تُركت للسرد. غمغمت. كيف لهذه التي كان لهذا السّحر بأصناف الكلام أن تتلعثم؟ أخشى عليها من فوضى المعنى: فوضى المعنى عارض مبكر من أعراض فوضى الحياة. يلامسني إشفاق عليها. أطرده، فأقسى ما يصيب المحبوب الإشفاق عليه. بيروت ذلك المثنى، تلك التي هما، أحببتها في كل حالاتها. علاقتي بها ذاتية، كما يقال. لم أعرف مدينة تغيرت بتغير حال مثلما تغيرت بيروت فيّ."3
ولا تخلو رواية "في انتظار خبر إنّ" من الحديث عمّا جدّ بتونس قبيل 17 ديسمبر 2010 وبعد 14 جانفي 2011 بدء من الشّرارة التي أوقدها البوعزيزي مرورا بهروب بن علي وصولا إلى ما أحدثته الثورة من فرحة عارمة في صفوف البسطاء والمعدمين. ولكن سرعان ما حل الفراغ وانتصب السؤال يسأل عن جواب: وماذا بعد الثورة وما أحدثته من فراغ؟
..."تابعت كيف أسطر المدّ الشعبي بطلا بلا بطولة بروميثيوس الذي تحدى رب الأرباب زوس ووهب الناس الشمس له كناية في ما قال الناس: "أنت شعلة أنارت سبيلنا يا بوعزيزي". 4
ولم يغب في سرديّة الأستاذ الطاهر لبيبما استفحل في وسائل الاعلام وغيرها من رداءة وتفاهة تُسوّق على أنّها الواقع ويواصل فيها أصحابها ومروّجوها غبائهم وحمقهم، بل يزدادون فيه تقّدما.
..."سؤال أخير أن لا يزعجك:أنت كنت امرأة مغمورة، كما يقال،أعني مجهولة تماما. فجأة،أصبحت "ستار" في الشاشات وفي حديث الناس، لا لشيء إلاّ لأنك تعرضين صور جسدك وأزيائك في وسائل التواصل الاجتماعي. لا وجود لك خارج هذه الصور. ألا تعتقدين أن هذه طريقة سهلة يتبعها من لا يجدون طريقة أفضل لاكتساب حياتهم معنى؟" 5
لقد توصل الرّاوي بأسلوب سلس بعيد عن المباشرتية، بفضل لغة التلميح، إلى تعرية "الزعماء السياسييّن" الذين ضخمت وسائل الإعلام صورهم وعظّمت قدراتهم ومنزلتهم. وعبّر الكاتب عن اشمئزازه في سخرية لاذعة من خطبهم البلهاء وما تحتويه من السين وسوف وتاء التأنيث البلهاء والعنترية التي ما قتلت ذبابة. وقد توقف عند ذلك في معظم ردهات الرّواية. ولعلّ هذه العوامل كان سببا من الأسباب التي جعلته يطلّ علينا بروايته "في انتظار خبر إنّ".
..."هكذا، من مواقع مختلفة، كنّا حوالي أربعين شخصا في قاعة موحشة، في خواء جملة لا تكتمل، نشيع جنازة "خطبة عربية" ".6
..."سمعت خطبا كثيرة عن الأمة والذات والهوية والتراث وعن مجد ولى ومجد آت، ولكنّي لم أر، في حياتي ما رأيت ذلك اليوم، من تراجيديا العلاقة باللغة: شخص معلّق في اللغة، كالمشنوق، وتحته لا شيء".7
لقد ذاق الأستاذ الطاهر لبيب ذرعا من حضرة المحاضر الجهبذ الذي لم يقنع نفسه بما يقوله على امتداد محاضرته قبل أن يقنع غيره. وفي أسلوب رومنسيّ شاعريّ ولغة مشرقة جالت بنا ذاكرة الأستاذ الطاهر لبيب في حقبة مهمة من تاريخ لبنان والعالم العربي من خلال مروره على اندلاع الثورة في تونس وانعكاساتها على بقية الدول العربية.لقد رواح الرّاوي بين الواقع المعيش الذي أفقد كلّمعنى في تونس والوطن العربي وبين المعنى والقيم والمبادئ التي ظلت في بؤبؤ عيوننا لأزمنة طويلة.
1- مأخوذ من قفا غلاف الكتاب المذكور.
2- ص.42.
3- ص.262-263.
4- 6 ص.222.
5- ص.122.
6- ص.259.
7- ص.279.
بقلم:مصدّق الشّريف
* مؤلّف يجمع بين قوّة الرّقة ورقّة القوة لاسيما عند وصف حرارة العطف وجمال الحب العميق لامرأة
"في انتظار خبر إنّ"هو عنوان رواية الأستاذ الطاهر لبيب. صدرت عن دار محمد علي للنشر في الأشهر الأولى من سنة 2023. وجاءت في مائتين وسبع وثمانين صفحة من الحجم المتوسط.
طاولة عليها أوراق التّدوين تلهو بها حفيدة المؤلّف جوليا، كما تلهو بما حولها من كتب وأشياء أخرى، تلك هي صورة الغلاف التي كانت من تصميم الرّوائي الطاهر لبيب. هذا الرجل صاحب "سوسيولوجيا الغزل العربي" ينتقل من علم الاجتماع إلى رواية يواجه فيها عبثية أوضاع تفشى فيها التافه وفساد المعنى، ولعله يواجه أيضا، بنوع من الصياغة، نمطا سائدا من الكتابة. 1
الأستاذ الطاهر لبيب ذاع صيته في صفوف الطلبة منذ بداية ثمانينات القرن المنقضي. كان له باع وذراع الشيء الذي جعل دروسه تلقى استحسانا ورغبة من طلبته ومن لهم صلة بطلبته. وتميّز الأستاذ الطاهر لبيب أيضا بقربه الشديد من مريديه إلى قاعة الدرس وحتى خارجها. كان متواضعا يبلّغ نظريات علم الاجتماع وما تعدّد فيها من مدارس في مشارق الأرض ومغاربها بيداغوجية لا تخلو من سلالة في المضمون والشكل.هذا كلّه والبشاشة لا تفارق وجهه الصّبوح.
لطالما حفّز الأستاذ الطاهر لبيب طلبته على العلم والمعرفة وتحدّي الصّعاب. وحدّث الأستاذ طلبته قائلا إنّه قد أتاهم بعلمه، الذي نهله من أساتذته، في بلاده وخارجها، بعد أن تجاوز العقبات التي وجدها في قريته وشوارعها،التي بلا أسماء،أين سلّ أبوه قوت أسرته وباع ما يملك الشويهات ليواصل أبناؤه دراستهم.
لقد تعمدنا التوقف للتعريف بهذا الرّاوي الذي ينظم لأول مرة في عالم كتابة جنس الرّواية، ونرجو ألاّ تكون الأخيرة،لأنّنا وجدنا في الرّواية امتدادا لما تميزت به شخصية الرجل، فهو المثقف العضوي بامتياز الرّافض لكلّ ما هو آت من سلطة القرار لأنها لا تمثل إلاّ نفسها وغايتها حسب تعبيره. نذكر أنّه في سنوات خلت، لم يعترض الأستاذ الطاهر لبيب فقط على ندوة فكرية عنوانها "الغزو الثقافي في البلدان العربية"، بل إنّه انسحب منها لأنه يعتقد جازما أنّ الغزو هو ضرب من ضروب العنف المادي والمعنوي في حين أنّه في قضيّة الحال فتحت الأبواب والمنافذ كلّها لتتسرّب الثقافات الأجنبية التي تصبو إلى الهيمنة وانصهار الشعوب المغلوبة فيها.
رواية "في انتظار خبر إنّ" تؤكد في كلّ صفحاتها أنّ حقائب الأستاذ الطاهر لبيب تعبت من التّرحال إلى لبنان، إلى بيروت بالتحديد، وقد اتخذ منها سكنا لوجدانه وعقله... وبذلك انبرى يتحدث عنها، عن سعادتها، عن حزنها، عن نجاحاتها، عن إخفاقاتها، عن نورها، عن ظلمتها، عن تفتحها واستيعابها لكلّ من هبّ ودبّ من افكار وإيديولوجيات إلى حدّ الغرق في حروب وتطاحن لم يعرفا الهدوء بين مختلف التيّارات السياسّية والفكريّة ولاسيما الطائفيّةالتي أدّت إلى خراب ودمار أتى على جمال لبنان وسحر أيام بيروت ولياليها.
..."بيروتهم "مدينة البدايات"..."فتنة محمية"..."عهر، طهر، فجر"... "ورقة توت"..."خيمة أخيرة، نجمة أخيرة"..."شطرنج كلام"..."هندسة خراب"..."موت لا يعرف كيف يموت..."محراب أخير"..."ست الدنيا، أنثى، حبيبة، معشوقة، مجنونة"...."يحترق نهداها، تراود، تعاشر، تضاجع"..."2
وأنت تقرأ صفحات الرواية، تبهرك اللغة الشاعرية.مؤلّف يجمع بين قوّة الرّقة ورقّة القوة لاسيما عند وصف حرارة العطف وجمال الحب العميق لامرأة، لمعشوقة، لحبيبة في بال الكاتب وعالمه الافتراضي وقد تكون في عالمه الواقعي. يقول الكاتب:
..." اليوم، لم يعد لي من صور بيروت القديمة ما اغطيها به: تعرت من الشعر ومن أغانيها وسال جدالها في شقوق الأرصفة. تُركت للسرد. غمغمت. كيف لهذه التي كان لهذا السّحر بأصناف الكلام أن تتلعثم؟ أخشى عليها من فوضى المعنى: فوضى المعنى عارض مبكر من أعراض فوضى الحياة. يلامسني إشفاق عليها. أطرده، فأقسى ما يصيب المحبوب الإشفاق عليه. بيروت ذلك المثنى، تلك التي هما، أحببتها في كل حالاتها. علاقتي بها ذاتية، كما يقال. لم أعرف مدينة تغيرت بتغير حال مثلما تغيرت بيروت فيّ."3
ولا تخلو رواية "في انتظار خبر إنّ" من الحديث عمّا جدّ بتونس قبيل 17 ديسمبر 2010 وبعد 14 جانفي 2011 بدء من الشّرارة التي أوقدها البوعزيزي مرورا بهروب بن علي وصولا إلى ما أحدثته الثورة من فرحة عارمة في صفوف البسطاء والمعدمين. ولكن سرعان ما حل الفراغ وانتصب السؤال يسأل عن جواب: وماذا بعد الثورة وما أحدثته من فراغ؟
..."تابعت كيف أسطر المدّ الشعبي بطلا بلا بطولة بروميثيوس الذي تحدى رب الأرباب زوس ووهب الناس الشمس له كناية في ما قال الناس: "أنت شعلة أنارت سبيلنا يا بوعزيزي". 4
ولم يغب في سرديّة الأستاذ الطاهر لبيبما استفحل في وسائل الاعلام وغيرها من رداءة وتفاهة تُسوّق على أنّها الواقع ويواصل فيها أصحابها ومروّجوها غبائهم وحمقهم، بل يزدادون فيه تقّدما.
..."سؤال أخير أن لا يزعجك:أنت كنت امرأة مغمورة، كما يقال،أعني مجهولة تماما. فجأة،أصبحت "ستار" في الشاشات وفي حديث الناس، لا لشيء إلاّ لأنك تعرضين صور جسدك وأزيائك في وسائل التواصل الاجتماعي. لا وجود لك خارج هذه الصور. ألا تعتقدين أن هذه طريقة سهلة يتبعها من لا يجدون طريقة أفضل لاكتساب حياتهم معنى؟" 5
لقد توصل الرّاوي بأسلوب سلس بعيد عن المباشرتية، بفضل لغة التلميح، إلى تعرية "الزعماء السياسييّن" الذين ضخمت وسائل الإعلام صورهم وعظّمت قدراتهم ومنزلتهم. وعبّر الكاتب عن اشمئزازه في سخرية لاذعة من خطبهم البلهاء وما تحتويه من السين وسوف وتاء التأنيث البلهاء والعنترية التي ما قتلت ذبابة. وقد توقف عند ذلك في معظم ردهات الرّواية. ولعلّ هذه العوامل كان سببا من الأسباب التي جعلته يطلّ علينا بروايته "في انتظار خبر إنّ".
..."هكذا، من مواقع مختلفة، كنّا حوالي أربعين شخصا في قاعة موحشة، في خواء جملة لا تكتمل، نشيع جنازة "خطبة عربية" ".6
..."سمعت خطبا كثيرة عن الأمة والذات والهوية والتراث وعن مجد ولى ومجد آت، ولكنّي لم أر، في حياتي ما رأيت ذلك اليوم، من تراجيديا العلاقة باللغة: شخص معلّق في اللغة، كالمشنوق، وتحته لا شيء".7
لقد ذاق الأستاذ الطاهر لبيب ذرعا من حضرة المحاضر الجهبذ الذي لم يقنع نفسه بما يقوله على امتداد محاضرته قبل أن يقنع غيره. وفي أسلوب رومنسيّ شاعريّ ولغة مشرقة جالت بنا ذاكرة الأستاذ الطاهر لبيب في حقبة مهمة من تاريخ لبنان والعالم العربي من خلال مروره على اندلاع الثورة في تونس وانعكاساتها على بقية الدول العربية.لقد رواح الرّاوي بين الواقع المعيش الذي أفقد كلّمعنى في تونس والوطن العربي وبين المعنى والقيم والمبادئ التي ظلت في بؤبؤ عيوننا لأزمنة طويلة.