لسنوات العمر الخمسين أحكامها التي لا مفر منها، مسألة قد لا يدركها من هم دون هذا السن، فما تزال لعبة الحياة بكل ألوانها تبهجهم وتغريهم وتشد حبال وصلهم مع كل زين الحياة الدنيا، أما وأنت تدشن أبواب الخمسين مقبلا على سنوات الانحدار الفيزيولوجي فقد تتغير نظرتك للأشياء وتصبح قارئا جيدا للحياة بأفراحها وأتراحها متفاعلا مع قبيحها وجميلها برصانة وترو،كما تبدأ تلك الأسئلة المستفزة تطاردك في كل خطوة تقوم بها، فتتساءل عن سنوات العمر التي مضت والسنوات المقبلة، وتكون أمام الاختيارات الوجودية الصعبة، هل سأواصل نفس المسار أم أحدث قطيعة مع ما كان لأطرق أبوابا أخرى حاولت جاهدا أن تظل مغلقة أمام لظى السؤال مستكينا محبّا لبرد اليقين.
أسئلة وأسئلة عن الوجود وأسراره والحياة ومآلتها، تشعرك بأن هذا الذي يسكنك ليس إلا مرجلا لحداد لا تعرفه يزيد في سرعة دوران عجلة مرجله فتزداد معها حرقة الأسئلة، أعلم صديقتي وصديقي أنك إذا وصلت إلى هذه المرحلة فأنت تطرق أبواب البحث عن يقين منشود تحاول معه أن تبحث عن سكينة وطمأنينة لطالما افتقدتها في هذا النسق الجحيمي الذي تعيشه بين جدران هذه المدن البالية التي ترتادها.
تمر الصور أمامك فتتعجب مما قطعت من مسافات بين ثنايا هذا الوجود، هي حيرة الإنسان أينما كان، الإنسان الذي يُصبغ معان عن وجوده تعجبه أحيانا فيشعر أنها نسائم صيفية تداعب روحه الشقية، ويمقتها أحيانا أخرى فيشعر بأن رمضاء الربع الخالي تلفح وجهه المكشوف في عراء هذه البلدان.
أسئلة تطرحها وأنت تقرأ كتاب الروائي البرازيلي جورج أمادو "ميتتان لرجل واحد"، شيء من الواقعية السحرية اللاتينية التي تحملك في دروب أخرى من الخيال، فبطل الحكاية المسمى "جواكيم سواريس دا كونيا" ذلك الموظف المثالي في مصلحة الضرائب والمنتمي إلى عائلة ارستقراطية اختار عند بلوغ الخمسين أن يغير نسق الحياة التي عاشها ليتحول إلى "كينكاس هدير الماء" زعيم مشردي مدينة باهيا البرازيلية يعيش حياة التشرد بين حانتها يطلق لحيته ويرتدي أثوابا رثة بعد أن كان حريصا على حلاقة وجهه يوميا وتلميع حذائه الذي يغمرك بالبريق المنبعث منه. "كينكاس هدير الماء" اختار حياة أخرى بعد حياة اختارتها له النظم الاجتماعية القائمة ليموت في الستين في إحدى الحانات وتبدأ مراسم دفن لرجل مات ميتتين ميتة زعيم متشردي باهيا وميتة الموظف الحكومي في مصلحة الضرائب الذي ستقام له مراسم جنائزية تليق بسمعة عائلته الارستقراطية، فيحملك جورج أمادو في مسيرة حياة لرجل اختار التفرد حتى في مماته فقد كان يقول في كلمات وداعه الأخير "على كل فرد أن يعتني بدفن نفسه، فلا وجود لمستحيل".
الروائي البرازيلي كتب تحفة فنية صادمة رغم أن عدد صفحاتها قليل لكنها مشبعة بالحكايات التي تثير الرغبة في السؤال، فالسؤال هنا علامة حياة لا عنوان موت، فويل لمن لا يطرح السؤال عمّا فات وعمّا هو مقبل عليه من حياة، رحلة في البحث عن المعنى أدعو من يريد الاستمتاع بالأدب اللاتيني أن يقرأها، فقد قرأتها منذ ثلاث سنوات وأعيد قراءتها كلما شعرت باختناق في الحلق من وقع الأيام فيعيدني جورج أمادو إلى دائرة السؤال، فأعلم حينها أننا مجرّد أقنعة لعدد من الوجوه التي اخترنا بعضها وفُرض علينا بعضها الآخر احتراما للضوابط الاجتماعية التي تحكمنا، فطوبى لمن تحرر من السؤال وأدرك برد اليقين مهاجرا لحرّ السؤال.
يكتبها: محمد معمري
لسنوات العمر الخمسين أحكامها التي لا مفر منها، مسألة قد لا يدركها من هم دون هذا السن، فما تزال لعبة الحياة بكل ألوانها تبهجهم وتغريهم وتشد حبال وصلهم مع كل زين الحياة الدنيا، أما وأنت تدشن أبواب الخمسين مقبلا على سنوات الانحدار الفيزيولوجي فقد تتغير نظرتك للأشياء وتصبح قارئا جيدا للحياة بأفراحها وأتراحها متفاعلا مع قبيحها وجميلها برصانة وترو،كما تبدأ تلك الأسئلة المستفزة تطاردك في كل خطوة تقوم بها، فتتساءل عن سنوات العمر التي مضت والسنوات المقبلة، وتكون أمام الاختيارات الوجودية الصعبة، هل سأواصل نفس المسار أم أحدث قطيعة مع ما كان لأطرق أبوابا أخرى حاولت جاهدا أن تظل مغلقة أمام لظى السؤال مستكينا محبّا لبرد اليقين.
أسئلة وأسئلة عن الوجود وأسراره والحياة ومآلتها، تشعرك بأن هذا الذي يسكنك ليس إلا مرجلا لحداد لا تعرفه يزيد في سرعة دوران عجلة مرجله فتزداد معها حرقة الأسئلة، أعلم صديقتي وصديقي أنك إذا وصلت إلى هذه المرحلة فأنت تطرق أبواب البحث عن يقين منشود تحاول معه أن تبحث عن سكينة وطمأنينة لطالما افتقدتها في هذا النسق الجحيمي الذي تعيشه بين جدران هذه المدن البالية التي ترتادها.
تمر الصور أمامك فتتعجب مما قطعت من مسافات بين ثنايا هذا الوجود، هي حيرة الإنسان أينما كان، الإنسان الذي يُصبغ معان عن وجوده تعجبه أحيانا فيشعر أنها نسائم صيفية تداعب روحه الشقية، ويمقتها أحيانا أخرى فيشعر بأن رمضاء الربع الخالي تلفح وجهه المكشوف في عراء هذه البلدان.
أسئلة تطرحها وأنت تقرأ كتاب الروائي البرازيلي جورج أمادو "ميتتان لرجل واحد"، شيء من الواقعية السحرية اللاتينية التي تحملك في دروب أخرى من الخيال، فبطل الحكاية المسمى "جواكيم سواريس دا كونيا" ذلك الموظف المثالي في مصلحة الضرائب والمنتمي إلى عائلة ارستقراطية اختار عند بلوغ الخمسين أن يغير نسق الحياة التي عاشها ليتحول إلى "كينكاس هدير الماء" زعيم مشردي مدينة باهيا البرازيلية يعيش حياة التشرد بين حانتها يطلق لحيته ويرتدي أثوابا رثة بعد أن كان حريصا على حلاقة وجهه يوميا وتلميع حذائه الذي يغمرك بالبريق المنبعث منه. "كينكاس هدير الماء" اختار حياة أخرى بعد حياة اختارتها له النظم الاجتماعية القائمة ليموت في الستين في إحدى الحانات وتبدأ مراسم دفن لرجل مات ميتتين ميتة زعيم متشردي باهيا وميتة الموظف الحكومي في مصلحة الضرائب الذي ستقام له مراسم جنائزية تليق بسمعة عائلته الارستقراطية، فيحملك جورج أمادو في مسيرة حياة لرجل اختار التفرد حتى في مماته فقد كان يقول في كلمات وداعه الأخير "على كل فرد أن يعتني بدفن نفسه، فلا وجود لمستحيل".
الروائي البرازيلي كتب تحفة فنية صادمة رغم أن عدد صفحاتها قليل لكنها مشبعة بالحكايات التي تثير الرغبة في السؤال، فالسؤال هنا علامة حياة لا عنوان موت، فويل لمن لا يطرح السؤال عمّا فات وعمّا هو مقبل عليه من حياة، رحلة في البحث عن المعنى أدعو من يريد الاستمتاع بالأدب اللاتيني أن يقرأها، فقد قرأتها منذ ثلاث سنوات وأعيد قراءتها كلما شعرت باختناق في الحلق من وقع الأيام فيعيدني جورج أمادو إلى دائرة السؤال، فأعلم حينها أننا مجرّد أقنعة لعدد من الوجوه التي اخترنا بعضها وفُرض علينا بعضها الآخر احتراما للضوابط الاجتماعية التي تحكمنا، فطوبى لمن تحرر من السؤال وأدرك برد اليقين مهاجرا لحرّ السؤال.