مسألة استقلالية البنك المركزي من المسائل التي لم تحظ بإجماع واسع حول أهميتها ومن خيارات الثورة التي لاقت معارضة شرسة منذ الإعلان عنها في سنة 2016 حينما صادق مجلس نواب الشعب على هذا التمشي الجديد الذي أصبح بموجبه هذا الجهاز الهام مستقلا عن السلطة الحاكمة وخاصة عن السلطة التنفيذية ولم يعد تابعا لها.. واليوم لا يزال موضوع الاستقلالية يثير الكثير من نقاط الاستفهام في علاقة بالسياسة المالية للدولة ودور هذا الجهاز في عضد جهد الحكومات في زمن الأزمات والوقوف إلى جانبها خلال مرورها بفترات التقلبات الحرجة والصعوبات المالية المؤثرة.. ولا تزال هذه القضية تسيل الكثير من الحبر وتثير المواقف حول صواب هذا الخيار في علاقة مسألة الاستقلالية بمسألة السيادة الوطنية وعلوية الدولة وهيمنتها على كل أجهزتها وخضوع كل الهياكل الموجودة داخل التراب الوطني للدولة. وقد عاد الحديث مرة أخرى وبإلحاح شديد حول فكرة استقلالية البنك المركزي عن السلطة التنفيذية وخيار فك ارتباط هذا الجهاز الحساس عن الدولة التي يتبعها بعد أن تفاقمت الأزمة المالية الحالية بعد مسار 25 جويلية والتحول الذي شهدته منظومة الحكم وكل الصعوبات التي يعيش على وقعها القطاع المصرفي والمخاطر التي تعرفها المالية العمومية جراء صعوبة توفير السيولة اللازمة لتمويل نفقات الدولة وخلاص مزوديها العموميين وسداد ديونها وما تحتاجه من بضائع ومواد حياتية موردة بالعملة الصعبة .
ولأهمية هذه القضية وفي محاولة لفتح الموضوع من جديد، ارتأت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات أن تساهم في هذا النقاش المجتمعي الذي يدور حول قضية الاستقلالية التي منحت للبنك المركزي وأن تجري حوار هادئا ولكن بلغة العلم والمعرفة حول هذا الخيار السياسي الذي أقدمت عليه الدولة التونسية بعد الثورة وأن تضع فكرة أن يكون البنك المركزي مستقلا وعلى مسافة من تدخل السياسي والجهاز التنفيذي على طاولة النقاش وأن تسائل الأفكار التي تقاوم من أجل أن يتم التراجع وأن يتم العود عن فكرة الاستقلالية وأن تحاور العقل الاقتصادي والمالي الذي يرى الأمر الطبيعي في أن يكون البنك المركزي تابعا للدولة وفي خدمتها بدل أن يكون مستقلا عنها وذلك باستضافة الدكتور ياسين بن اسماعيل الجامعي والباحث في السياسات الاقتصادية والقضايا المالية والنقدية في ندوة التأمت صبيحة يوم السبت 6 ماي 2023 .
والسؤال المطروح هل من معنى وهل من فائدة ترجى ونفع يعود على الحكومات وعلى الشعوب حينما تعطى للبنوك المركزية صلاحيات تجعل منها أجهزة مستقلة بذاتها عن حياة الحكومات وتأثيراتها وعن الدول التابعة لها؟ وإذا كان الجواب بنعم فبأي صورة وأي طريقة تكون هذه الاستقلالية؟ ويتبع هذا السؤال المدخل سؤال آخر يتعلق بالمفهوم الذي أعطي لمعنى الاستقلالية ومدى التزام البنوك المركزية بجوهر الاستقلالية والغاية الرئيسية التي قام عليها هذا الخيار وهذا التوجه في إدارة المسألة المالية ؟ وفي علاقة بالحالة التونسية هل أفادت فكرة استقلالية البنك المركزي التونسي الدولة التونسية ؟ وهل حافظ هذا الجهاز على غايات الاستقلالية وساعد على تطوير عمل الحكومة وساهم في حل الأزمات المالية التي تطرأ؟ أم تحول هو نفسه إلى أزمة جديدة حادة ترهق الدولة وتضاف إلى أزمات الحكومة الأخرى وزادت من تعميق ارتهان الدولة للخارج وارتباطها بالأجنبي في علاقة بموضوع السيادة الوطنية واستقلال القرار السيادي؟
كانت هذه هواجس الندوة التي أجاب عليها الدكتور ياسين بن اسماعيل بكل وضوح ووثوقية علمية معتبرا أنه من الأخطاء الفادحة التي ارتكبت بعد الثورة ومن الخيارات الخاطئة التي سارت عليها البلاد جعل البنك المركزي مستقلا عن الدولة وسحب المسؤولية منه في تحديد المالية العمومية ذلك أن الحالة الطبيعية والوضعية السليمة هي التي يكون فيها هذا الجهاز تابعا للدولة وفي خدمتها وتحت رقابتها بصفته المسؤول الأول عن الاقتصاد المالي والنقدي داخل الدول والمسؤول عن المالية العمومية للحكومات حيث تعود إليه وحده المسؤولية في طباعة الأوراق المالية وتحديد نسب الفائدة ومعالجة مسألة التضخم وإقراض الدولة في زمن الأزمات المالية والوقوف مع الحكومات في فترات الركود المالي ويلعب دورا كبيرا في عملية الاستثمار من خلال توفير السيولة اللازمة والمطلوبة ما يجعله مؤثرا في عملية النمو الاقتصادي هذا إلى جانب دوره الرقابي في متابعة نشاط القطاع المصرفي ومراقبة البنوك وما توفر لديها من ودائع لخدمة الدورة الاقتصادية وهو يتدخل في مراحل الركود التي تمر بها الحكومات ويراقب كل عملية مصرفية وتحويل للعملة الأجنبية لضمان سلامة هذه المعاملات المالية وشفافية الأنشطة المصرفية.. المفيد هو في أن يعمل البنك المركزي في تناغم مع الحكومة وأن يسندها بالسيولة اللازمة وفي مراقبة حركة المال في البلاد وكل التدفقات والتحويلات المتأتية من الخارج ويعمل على الحفاظ على قيمة العملة الوطنية وضمان عدم تراجعها في علاقة بالعملات الأجنبية المؤثرة وخاصة الدولار واليورو.. هذا الدور وهذه الوظيفة التي يضطلع بها البنك المركزي قد تم سحبها منه بعد قرار الاستقلالية الذي اتخذ في سنة 2016 والذي نزع منه أهم مهامه السيادية وهو كونه المقرض الأخير للدولة والممول الرئيسي لخزينتها وذلك تنفيذا لدوره المباشر تجنيب الحكومة مخاطر الاقتصاد .
(يتبع)
بقلم: نوفل سلامة
مسألة استقلالية البنك المركزي من المسائل التي لم تحظ بإجماع واسع حول أهميتها ومن خيارات الثورة التي لاقت معارضة شرسة منذ الإعلان عنها في سنة 2016 حينما صادق مجلس نواب الشعب على هذا التمشي الجديد الذي أصبح بموجبه هذا الجهاز الهام مستقلا عن السلطة الحاكمة وخاصة عن السلطة التنفيذية ولم يعد تابعا لها.. واليوم لا يزال موضوع الاستقلالية يثير الكثير من نقاط الاستفهام في علاقة بالسياسة المالية للدولة ودور هذا الجهاز في عضد جهد الحكومات في زمن الأزمات والوقوف إلى جانبها خلال مرورها بفترات التقلبات الحرجة والصعوبات المالية المؤثرة.. ولا تزال هذه القضية تسيل الكثير من الحبر وتثير المواقف حول صواب هذا الخيار في علاقة مسألة الاستقلالية بمسألة السيادة الوطنية وعلوية الدولة وهيمنتها على كل أجهزتها وخضوع كل الهياكل الموجودة داخل التراب الوطني للدولة. وقد عاد الحديث مرة أخرى وبإلحاح شديد حول فكرة استقلالية البنك المركزي عن السلطة التنفيذية وخيار فك ارتباط هذا الجهاز الحساس عن الدولة التي يتبعها بعد أن تفاقمت الأزمة المالية الحالية بعد مسار 25 جويلية والتحول الذي شهدته منظومة الحكم وكل الصعوبات التي يعيش على وقعها القطاع المصرفي والمخاطر التي تعرفها المالية العمومية جراء صعوبة توفير السيولة اللازمة لتمويل نفقات الدولة وخلاص مزوديها العموميين وسداد ديونها وما تحتاجه من بضائع ومواد حياتية موردة بالعملة الصعبة .
ولأهمية هذه القضية وفي محاولة لفتح الموضوع من جديد، ارتأت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات أن تساهم في هذا النقاش المجتمعي الذي يدور حول قضية الاستقلالية التي منحت للبنك المركزي وأن تجري حوار هادئا ولكن بلغة العلم والمعرفة حول هذا الخيار السياسي الذي أقدمت عليه الدولة التونسية بعد الثورة وأن تضع فكرة أن يكون البنك المركزي مستقلا وعلى مسافة من تدخل السياسي والجهاز التنفيذي على طاولة النقاش وأن تسائل الأفكار التي تقاوم من أجل أن يتم التراجع وأن يتم العود عن فكرة الاستقلالية وأن تحاور العقل الاقتصادي والمالي الذي يرى الأمر الطبيعي في أن يكون البنك المركزي تابعا للدولة وفي خدمتها بدل أن يكون مستقلا عنها وذلك باستضافة الدكتور ياسين بن اسماعيل الجامعي والباحث في السياسات الاقتصادية والقضايا المالية والنقدية في ندوة التأمت صبيحة يوم السبت 6 ماي 2023 .
والسؤال المطروح هل من معنى وهل من فائدة ترجى ونفع يعود على الحكومات وعلى الشعوب حينما تعطى للبنوك المركزية صلاحيات تجعل منها أجهزة مستقلة بذاتها عن حياة الحكومات وتأثيراتها وعن الدول التابعة لها؟ وإذا كان الجواب بنعم فبأي صورة وأي طريقة تكون هذه الاستقلالية؟ ويتبع هذا السؤال المدخل سؤال آخر يتعلق بالمفهوم الذي أعطي لمعنى الاستقلالية ومدى التزام البنوك المركزية بجوهر الاستقلالية والغاية الرئيسية التي قام عليها هذا الخيار وهذا التوجه في إدارة المسألة المالية ؟ وفي علاقة بالحالة التونسية هل أفادت فكرة استقلالية البنك المركزي التونسي الدولة التونسية ؟ وهل حافظ هذا الجهاز على غايات الاستقلالية وساعد على تطوير عمل الحكومة وساهم في حل الأزمات المالية التي تطرأ؟ أم تحول هو نفسه إلى أزمة جديدة حادة ترهق الدولة وتضاف إلى أزمات الحكومة الأخرى وزادت من تعميق ارتهان الدولة للخارج وارتباطها بالأجنبي في علاقة بموضوع السيادة الوطنية واستقلال القرار السيادي؟
كانت هذه هواجس الندوة التي أجاب عليها الدكتور ياسين بن اسماعيل بكل وضوح ووثوقية علمية معتبرا أنه من الأخطاء الفادحة التي ارتكبت بعد الثورة ومن الخيارات الخاطئة التي سارت عليها البلاد جعل البنك المركزي مستقلا عن الدولة وسحب المسؤولية منه في تحديد المالية العمومية ذلك أن الحالة الطبيعية والوضعية السليمة هي التي يكون فيها هذا الجهاز تابعا للدولة وفي خدمتها وتحت رقابتها بصفته المسؤول الأول عن الاقتصاد المالي والنقدي داخل الدول والمسؤول عن المالية العمومية للحكومات حيث تعود إليه وحده المسؤولية في طباعة الأوراق المالية وتحديد نسب الفائدة ومعالجة مسألة التضخم وإقراض الدولة في زمن الأزمات المالية والوقوف مع الحكومات في فترات الركود المالي ويلعب دورا كبيرا في عملية الاستثمار من خلال توفير السيولة اللازمة والمطلوبة ما يجعله مؤثرا في عملية النمو الاقتصادي هذا إلى جانب دوره الرقابي في متابعة نشاط القطاع المصرفي ومراقبة البنوك وما توفر لديها من ودائع لخدمة الدورة الاقتصادية وهو يتدخل في مراحل الركود التي تمر بها الحكومات ويراقب كل عملية مصرفية وتحويل للعملة الأجنبية لضمان سلامة هذه المعاملات المالية وشفافية الأنشطة المصرفية.. المفيد هو في أن يعمل البنك المركزي في تناغم مع الحكومة وأن يسندها بالسيولة اللازمة وفي مراقبة حركة المال في البلاد وكل التدفقات والتحويلات المتأتية من الخارج ويعمل على الحفاظ على قيمة العملة الوطنية وضمان عدم تراجعها في علاقة بالعملات الأجنبية المؤثرة وخاصة الدولار واليورو.. هذا الدور وهذه الوظيفة التي يضطلع بها البنك المركزي قد تم سحبها منه بعد قرار الاستقلالية الذي اتخذ في سنة 2016 والذي نزع منه أهم مهامه السيادية وهو كونه المقرض الأخير للدولة والممول الرئيسي لخزينتها وذلك تنفيذا لدوره المباشر تجنيب الحكومة مخاطر الاقتصاد .