إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

حكاياتهم .. عياض بن عاشور

 

يرويها: أبوبكر الصغير

يخشى قادة الأنظمة والحكام عادة المفكرين وأصحاب العقول الكبيرة، لنا في تجربة الأكاديمية الفرنسية أكبر مثال على ذلك، خاصة في عهدي الرئيسين شارل ديغول وفرانسوا ميتران عندما حاولا وضع اليد عليها، الى حدّ حرمانها من التمويل العمومي، بقيت لسنوات طويلة تعيش من أملاكها الخاصة، لا تتلقى من الدولة إلاّ ذلك المقر الذي يأويها وهو قصر مازارين أو قصر المعهد الذي تشترك فيه مع الأكاديميات الأخرى.

 عاش حياته للعمل الأكاديمي والبحث والتأليف والنشر، اتسمت مسيرته بالهدوء والبعد عن الأضواء، كان منزويا لا يختلط ولا يجتمع إلا مع من يختاره ومن يريده من نخبة المثقفين والطلاب من أصدقائه.

كتب ذلك المحامي رضا الأجهوري عندما حصل الخلاف الشهير بين أساتذة ومدرّسي الحقوق بالمركب الجامعي بما أدى الى تأسيس كلية ثانية وهي "كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس" سلسلة من المقالات في جريدة "الرأي" يهاجمه فيها، وقّعها باسم "ابن الشعب" كإشارة الى ارستقراطيته وتعاليه على بقية زملائه. "ثورة في بلاد الإسلام"، مؤلّف صدر بالفرنسية ترجمه فتحي بلحاج يحي، في تقدير موقف عديد المختصين والخبراء والمفكرين أخطر ما كُتب عن أحداث 14 جانفي 2011، لأنه يقدم قراءة تاريخية وسياسية واجتماعية شاملة، مكتملة للثورة التونسية.

 فاجأ عياض بن عاشور في احدث تصريحاته لصحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية بقوله: "ثورة تونس تعرضت للخيانة.."، قبل ذلك انتقد بشدّة مآلات هذه الثورة نفسها. يتحمل بن عاشور مسؤولية سياسية أخلاقية بما آلت إليه أوضاع تونس اليوم باعتبار صفته كرئيس "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" وما تمخّض عنها من مأسسة منظومة سياسية هجينة خدمة لأطراف وأجندات معيّنة. أنّ التفوق الذي يمنح للتعاطي مع الأحداث والتطورات بمنطق "الفكر" على مجرد الوجود اليومي بمعنى تمكين المثقف بالتفرّد بحلّ المشاكل له عواقبه الخطيرة. هو انتصار لمنطق الديماغوجية وما لها من انعكاس حصيف بل جذري للقيم. إن عقلية الأكاديمي المثقف تنحو دائمًا إلى أقصى حدودها.

عندما يظهر سؤال الحلّ، تلتمسه يدفعه إلى الأسفل. لذلك سمح المثقف لنفسه بأن يمسك بمسألة السياسة المطلقة بعيدا عن كلّ أشكال التنسيب إذا أجاب، مثل الكثيرين، بنعم على هذه الفئة من السياسة، تصبح حياته بدون استقلالية: إنها تندمج مع حياة هذه السياسة المشوهة، حياة قصيرة، بفترات قصيرة، لا علاقة لها بإيقاع الفكر لتضيع في الحسابات السياسوية والتفاصيل. الجواب المعاكس المنطقي للمثقف العقلاني، هو الرفض المطلق للسياسة لمجرّد الفعل فيها، لأنه في حال الفشل لن تكون لذلك إلا التبعات الوخيمة ليس على صورته فحسب بل كذلك على فكره. أعلى مراحل المعرفة والثقافة التي يمكن الوصول إليها هو الوعي والإدراك أن علينا الانتصار لأفكارنا والقطع مع إغراءات السياسة.

 

 

 

 

 

 حكاياتهم  .. عياض بن عاشور

 

يرويها: أبوبكر الصغير

يخشى قادة الأنظمة والحكام عادة المفكرين وأصحاب العقول الكبيرة، لنا في تجربة الأكاديمية الفرنسية أكبر مثال على ذلك، خاصة في عهدي الرئيسين شارل ديغول وفرانسوا ميتران عندما حاولا وضع اليد عليها، الى حدّ حرمانها من التمويل العمومي، بقيت لسنوات طويلة تعيش من أملاكها الخاصة، لا تتلقى من الدولة إلاّ ذلك المقر الذي يأويها وهو قصر مازارين أو قصر المعهد الذي تشترك فيه مع الأكاديميات الأخرى.

 عاش حياته للعمل الأكاديمي والبحث والتأليف والنشر، اتسمت مسيرته بالهدوء والبعد عن الأضواء، كان منزويا لا يختلط ولا يجتمع إلا مع من يختاره ومن يريده من نخبة المثقفين والطلاب من أصدقائه.

كتب ذلك المحامي رضا الأجهوري عندما حصل الخلاف الشهير بين أساتذة ومدرّسي الحقوق بالمركب الجامعي بما أدى الى تأسيس كلية ثانية وهي "كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس" سلسلة من المقالات في جريدة "الرأي" يهاجمه فيها، وقّعها باسم "ابن الشعب" كإشارة الى ارستقراطيته وتعاليه على بقية زملائه. "ثورة في بلاد الإسلام"، مؤلّف صدر بالفرنسية ترجمه فتحي بلحاج يحي، في تقدير موقف عديد المختصين والخبراء والمفكرين أخطر ما كُتب عن أحداث 14 جانفي 2011، لأنه يقدم قراءة تاريخية وسياسية واجتماعية شاملة، مكتملة للثورة التونسية.

 فاجأ عياض بن عاشور في احدث تصريحاته لصحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية بقوله: "ثورة تونس تعرضت للخيانة.."، قبل ذلك انتقد بشدّة مآلات هذه الثورة نفسها. يتحمل بن عاشور مسؤولية سياسية أخلاقية بما آلت إليه أوضاع تونس اليوم باعتبار صفته كرئيس "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" وما تمخّض عنها من مأسسة منظومة سياسية هجينة خدمة لأطراف وأجندات معيّنة. أنّ التفوق الذي يمنح للتعاطي مع الأحداث والتطورات بمنطق "الفكر" على مجرد الوجود اليومي بمعنى تمكين المثقف بالتفرّد بحلّ المشاكل له عواقبه الخطيرة. هو انتصار لمنطق الديماغوجية وما لها من انعكاس حصيف بل جذري للقيم. إن عقلية الأكاديمي المثقف تنحو دائمًا إلى أقصى حدودها.

عندما يظهر سؤال الحلّ، تلتمسه يدفعه إلى الأسفل. لذلك سمح المثقف لنفسه بأن يمسك بمسألة السياسة المطلقة بعيدا عن كلّ أشكال التنسيب إذا أجاب، مثل الكثيرين، بنعم على هذه الفئة من السياسة، تصبح حياته بدون استقلالية: إنها تندمج مع حياة هذه السياسة المشوهة، حياة قصيرة، بفترات قصيرة، لا علاقة لها بإيقاع الفكر لتضيع في الحسابات السياسوية والتفاصيل. الجواب المعاكس المنطقي للمثقف العقلاني، هو الرفض المطلق للسياسة لمجرّد الفعل فيها، لأنه في حال الفشل لن تكون لذلك إلا التبعات الوخيمة ليس على صورته فحسب بل كذلك على فكره. أعلى مراحل المعرفة والثقافة التي يمكن الوصول إليها هو الوعي والإدراك أن علينا الانتصار لأفكارنا والقطع مع إغراءات السياسة.