معرضُ تونس الدولي للكتاب احتفى بالمبدعين وفتح أبوابه قبلةً لآلافٍ مؤلفة من الزوار من كل الأعمار.
مختار: مختار اللواتي(*)
برغم الارتباك الذي خلّفه سحب أحد الكتب المعروضة بسبب "مخالفة دار نشره للشروط المسبقة المطلوبة"(وهي إعلام الهيئة المديرة للمعرض، كما جاء في توضيحها، بجميع تفاصيل معروضات كل جهة مشاركة)، وغلقِها جناحها احتجاجا لساعات،فإن الدورة السابعة والثلاثين لمعرض تونس الدولي للكتاب قد نجحت في إضفاء أجواء البهجة على أروقة وأجنحة المعرض بتلك الحركية المنعشة التي يشترك فيها زوار يقدمون من كل أرجاء الوطن، كما تعودوا في كل دورة، بحثا عن جديد أو استمتاعا بحضور ندوة فكرية أو مشاركةً في حوار مع كاتبة أو كاتب أصبحوا من معجبيه/ها.
وكم هي المرات التي يعيد فيها كثيرون وكثيرات حساب ما اجتهدوا في توفيره من مال وهم متجمدون أمام كتابٍ وقعوا في غرامه وهم حائرون إزاء ارتفاع سعره، بين المغامرة بشرائه والتضحية بكتب أخرى مَنّوا النفوس باقتنائها، أو التضحية به وبالتخفيض البسيط الذي يحظون به في السعر حين شرائه، من أجل مشتريات قد تكون أخفض ثمنا وتلبي رغبة أكثر من عضو واحد في العائلة..
على كل، وحتى لانُقَلِّبَ المواجع، على قول أشقائنا المصريين، أعود إلى مظاهر الفرح والإحتفال التي كان أبرزها وأبهجها تكريم عدد من المبدعين في شتى ضروب المعرفة ومجازاتهم/هن على ما أبدعوه، سرداً وبحثاً وترجمةً. أَوَ ليست الجوائز عرفانا بجميل ما بذلوه من جهد واجتهاد وعطاء، وإشهاداً للملإ على القدر المُعلّى الذي استحقه أولئك المبدعون بما أثروا به الحياة الثقافية والعلمية من مؤلفات ومراجع تظل علامات منيرة على درب الرقي الإنساني والإزدهارالحضاري؟.
وقد زاد من منسوب ابتهاجي وأنا أتابع على الوطنية 1 النقل المباشر لحفل توزيع الجوائز على الفائزين بها في مساء يوم افتتاح المعرض، أن أحد أبناء صفاقس البررة، الدكتور نزار شقرون قد استحق جائزة البشير خريف عن روايته "زول الله في رواية أخت الصفا" وكان من بين من نالهم شرف المجازاة يومها في ذلك الحفل.
فرحت لنيل الدكتور نزار شقرون هذه الجائزة واعتبرتها بدايةَ اعتراف رسمي بتميز هذا المثقف الجاد في بحثه المضني من أجل أقوم المسالك للإسهام بقلمه وإبداعه في تحقيق رقي شعبه، وكل أمة العرب حتى تحتل مكانا رفيعا بين جميع الأمم، أساسه العلم والمعرفة والإخاء والتحابب، بعيدا عن البغضاء والاحتراب، ضمن الأسرة الواسعة الأكبر التي هي البشرية جمعاء. فهنيئا له ولكل المتوَّجين الجادين أمثاله.
أما عن روايته هذه التي ظفر بفضلها بالجائزة،وهي قد صدرت في ثلاث طبعات، إحداها الطبعة التونسية عن دار مسكلياني، واثنتان في الخارج، فيقول ناشرها "لكأنّ الشخصيّات في هذه الرواية أشباحٌ في مهبّ المعنى، تحضر وتغيب، كيفما حرّكتها رياح السرد وأسئلتُه المُضنية، فلا تبقى منها غير آثارها، وكلّ حاضرٍ ينفخ في أثرٍ غائبٍ، أليست الكتابةُ نداءً للغياب؟ ما كان لـ "زول الله" أن يروي بعضَ فصولٍ من سيرة الإنسان في هذا الوطن المنكوب لولا أختٌ في شبكة الأعوان ورّاقةٌ شَغَلَها، كما شغل الأصفياءَ من إخوانها، أمرُ حفظ الماضي خوفًا من تتار العصر. جاءت تجرّه إلى الدكّان مولودَ يومِه من جديدٍ، وقد أفلتَ من فكّ السلطة، فصار الدكّانُ مستودعَ حكاياتٍ وملتقى فنونٍ، بل غرفةَ عمليّاتٍ وتخطيطٍ، لا لمجموعة حزبيّةٍ أو طائفةٍ دينيّةٍ بل لإخوانِ صفا جُددٍ اجتمعوا على الفكر الحرّ والإيمان بالإنسان، فلم يجدوا أمامَهم من حبال النجاة سوى الرّحيل، وقد نسيتْ دارُ السلام أن تكون دارَ سلام."
تنطلق أحداث الرواية من العراقفي ظل الدمار الذي أصابه في مطلع الألفية الثالثة حيث تتولى السرد فيها امرأةٌ تشتغل وراقة في بغداد. وفي ذلك إحالة على دور المكتبات أو الوراقات عبر التاريخ العربي، وما ارتبط بها من سردٍوتدوينٍ ونسخ. ولم تغب المرأة عن الفعل فيها برغم ندرة الحضور. غير إن هذه المرأة واسمها "ثناء" في الرواية، وابنة العصر الحديث، قد احتفظت بحبلها السري الرابط بالجذورحيث يقول عنها المؤلف في حوار أجرته معه صحيفة النهار العربي بواسطة الصحفية بثينة عبد العزيز غريبي. "تتولّى ثناء السرد، لنسمع الحكاية من وجهة نظرها. إنّها تروي حكايتها وحكاية الزول، الشخصيّة المحوريّة أيضًا. هي تُعيد كتابة نقوشه من جديد، وهي تدّعي نسخها باعتبار حرفتها كورّاقة. ولكن لا يُمكن الجزم بأنّ ما يُنقلُ وينسخُ طيلة حقب طويلة من تاريخ الوراقة العربيّة هو بريء من التغيير، حتّى لا أقول من التّعديل والتحريف بحسب مواضعات زمن النّسخ".
من البداية تبدو "ثناء" امرأةً عليمةً حبلى بأسرار كثيرة حين تقول بعد أن كُلفت بالعناية بغريب لا تعلم عنه شيئا.."تعلمت طوال سنواتٍ أن الكلمات تُخفي المعنى أكثر مما تُفصحُ عنه. سترٌ لمعنىً دفينٍ، أصداءٌ تأتي من قاع البئر كلما ارتطم الدلو بسطح الماء"ويبدع الكاتب في رسم لوحة الإطار الزمكاني لتحريك أحداث وشخوص روايته وتسهيل اندماج القاريء فيها ومعها. تقول ثناء : "كان عليّ أن أحمل الغريب إلى الدكان وأكتم أمره. أدخله من الباب الخلفي، عند غروب الشمس، لحظة علو ِّ اذان المغرب من مسجد الوزير. كانت الشمس تخلع آخر قمصانها البرتقالية الشاحبة وتلقي بها في نهر دجلة، والشوارع ماتزال مكتظة بالباعة المتجولين، وأزيز السيارات يختلط بأصوات صبيان مطاعم الأكلات السريعة. حاولت أن أعدو، لكنه تكاسل في خطاه حتى كاد يسقط. حدجني رجل الشرطة بنظرة شك. كل واحد هنا مُعرضٌ للشك والاتهام إلى أن يثبت غيرُ ذلك !.
نزار شقرون بدأ مسيرته شاعرا طلائعيا غير تقليدي. لكنه لم يستطب المقام الدائم في رحابه، فظل مبادلا له بين الحين والآخر وبحسب محطات تعليمه، دراسة وتدريسا، ببحوث ودراسات فنية في الجماليات مثل إشرافه على تأليف جماعي حمل عنوانا له "قضايا الممارسات الفنية المعاصرة" ،وإنجازه بحثا مهما عنونه "معاداة الصورة في المنظورين الغربي والشرقي". ومما يفصح عنه في هذه الدراسة قوله " "وإذا كان الموقف العربي من قراءة اللوحة والصورة بشكل عام، يجوّز استخدام آليات قراءة النص الأدبي عليها، ولا يرى فارقا جوهريا بين الخطابين، فهو أمر يحتاج إلى مراجعة، للفارق النوعي بين "المكتوب" وبين "الصورة".. ثم يضيف في مكان متقدم. "وإذا كانت قراءتنا للنص تبحث دائما عن الفكرة، وتتلخص في: ماذا يريد النص أن يقول؟ بدل أن نقف عند مقتضيات بناء القول ذاته، فإن هذه الآلية تتحكم في علاقتنا بالصورة، لهذا تنتج القراءة العجولة وعيا قاصرا لدى المشاهد وتفقد الصورة ألقهاّ".
وقد تكون محطته الراهنة في فضاء الرواية هو الأقرب إلى عقله وقلبه معاً. ولعل تآليفه الثلاثة الأخيرة"الناقوس والمئذنة" و"دم الثور"، الباب المفقود في كليلة ودمنة، و"زول الله في رواية أخت الصفا" هي الأكثر دلالة على الميناء الجديد الذي أرسى مراكبه فيه.وقد كرر أكثر من مرة أن الكتاب والمعرفة هما طوق النجاةمتسائلا بألم"هل يستطيع النّظام الثقافي العربي الصّمود أمام التغييرات السريعة التي يعيش على وقعها العالم؟ ثمّ ألم يحن الوقت للتسليم بالمنزع الإنساني كي يكون "خيمتنا" المشتركة قبل حلول العاصفة؟ "
إلى أن يقول "كلّها أسئلة كانت تطاردني ولا تزال، والرواية بحث في هذه الأسئلة وتقليب في معرقلات طرحها أيضًا بفعل هيمنة العقل الارتكاسي على ثقافتنا المعاصرة". ويذكرني مسار الدكتور نزار شقرون بمحطاته المتنوعة، بحديث الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ في مطلع التسعينات مع الكاتب والصحفي الكبير رجاء النقاش عن محطات مسيرته الإبداعية حيث قال "في سني المبكرة قرأت لكبار الأدباء في ذلك الوقت وحاولت تقليد أسلوب المنفلوطي في "النظرات" و"العبرات". وحاولت كتابة قصة حياتي على غرار "الأيام" لطه حسين، وأسميتها "الأعوام". وملت للشعر وكتبت فيه. وكان العام 1936 هو العام الفاصل في حياتي، فيه قررت احتراف كتابة القصة بعد أن مررت بصراع نفسي رهيب في المفاضلة بين الفلسفة والأدب". إلى أن يقول "اخترت طريق الرواية رغم صعوبته لأني أدركت أن الرواية يمكن أن يكون لها دور مؤثر في معالجة قضايا المجتمع".
ولكن من يدري فلعل صاحب رواية "زول الله في رواية أخت الصفا"، الدكتور نزار شقرون يفضل عدم إطالة البقاء في محطة بعينها وسيواصل الترحال. وقد يكون عنوان كتابه الجديد "بحثا عن هوية" في الحقل الفلسفي التنويري إيذانا بدخول محطة جديدة !
*إعلامي
معرضُ تونس الدولي للكتاب احتفى بالمبدعين وفتح أبوابه قبلةً لآلافٍ مؤلفة من الزوار من كل الأعمار.
مختار: مختار اللواتي(*)
برغم الارتباك الذي خلّفه سحب أحد الكتب المعروضة بسبب "مخالفة دار نشره للشروط المسبقة المطلوبة"(وهي إعلام الهيئة المديرة للمعرض، كما جاء في توضيحها، بجميع تفاصيل معروضات كل جهة مشاركة)، وغلقِها جناحها احتجاجا لساعات،فإن الدورة السابعة والثلاثين لمعرض تونس الدولي للكتاب قد نجحت في إضفاء أجواء البهجة على أروقة وأجنحة المعرض بتلك الحركية المنعشة التي يشترك فيها زوار يقدمون من كل أرجاء الوطن، كما تعودوا في كل دورة، بحثا عن جديد أو استمتاعا بحضور ندوة فكرية أو مشاركةً في حوار مع كاتبة أو كاتب أصبحوا من معجبيه/ها.
وكم هي المرات التي يعيد فيها كثيرون وكثيرات حساب ما اجتهدوا في توفيره من مال وهم متجمدون أمام كتابٍ وقعوا في غرامه وهم حائرون إزاء ارتفاع سعره، بين المغامرة بشرائه والتضحية بكتب أخرى مَنّوا النفوس باقتنائها، أو التضحية به وبالتخفيض البسيط الذي يحظون به في السعر حين شرائه، من أجل مشتريات قد تكون أخفض ثمنا وتلبي رغبة أكثر من عضو واحد في العائلة..
على كل، وحتى لانُقَلِّبَ المواجع، على قول أشقائنا المصريين، أعود إلى مظاهر الفرح والإحتفال التي كان أبرزها وأبهجها تكريم عدد من المبدعين في شتى ضروب المعرفة ومجازاتهم/هن على ما أبدعوه، سرداً وبحثاً وترجمةً. أَوَ ليست الجوائز عرفانا بجميل ما بذلوه من جهد واجتهاد وعطاء، وإشهاداً للملإ على القدر المُعلّى الذي استحقه أولئك المبدعون بما أثروا به الحياة الثقافية والعلمية من مؤلفات ومراجع تظل علامات منيرة على درب الرقي الإنساني والإزدهارالحضاري؟.
وقد زاد من منسوب ابتهاجي وأنا أتابع على الوطنية 1 النقل المباشر لحفل توزيع الجوائز على الفائزين بها في مساء يوم افتتاح المعرض، أن أحد أبناء صفاقس البررة، الدكتور نزار شقرون قد استحق جائزة البشير خريف عن روايته "زول الله في رواية أخت الصفا" وكان من بين من نالهم شرف المجازاة يومها في ذلك الحفل.
فرحت لنيل الدكتور نزار شقرون هذه الجائزة واعتبرتها بدايةَ اعتراف رسمي بتميز هذا المثقف الجاد في بحثه المضني من أجل أقوم المسالك للإسهام بقلمه وإبداعه في تحقيق رقي شعبه، وكل أمة العرب حتى تحتل مكانا رفيعا بين جميع الأمم، أساسه العلم والمعرفة والإخاء والتحابب، بعيدا عن البغضاء والاحتراب، ضمن الأسرة الواسعة الأكبر التي هي البشرية جمعاء. فهنيئا له ولكل المتوَّجين الجادين أمثاله.
أما عن روايته هذه التي ظفر بفضلها بالجائزة،وهي قد صدرت في ثلاث طبعات، إحداها الطبعة التونسية عن دار مسكلياني، واثنتان في الخارج، فيقول ناشرها "لكأنّ الشخصيّات في هذه الرواية أشباحٌ في مهبّ المعنى، تحضر وتغيب، كيفما حرّكتها رياح السرد وأسئلتُه المُضنية، فلا تبقى منها غير آثارها، وكلّ حاضرٍ ينفخ في أثرٍ غائبٍ، أليست الكتابةُ نداءً للغياب؟ ما كان لـ "زول الله" أن يروي بعضَ فصولٍ من سيرة الإنسان في هذا الوطن المنكوب لولا أختٌ في شبكة الأعوان ورّاقةٌ شَغَلَها، كما شغل الأصفياءَ من إخوانها، أمرُ حفظ الماضي خوفًا من تتار العصر. جاءت تجرّه إلى الدكّان مولودَ يومِه من جديدٍ، وقد أفلتَ من فكّ السلطة، فصار الدكّانُ مستودعَ حكاياتٍ وملتقى فنونٍ، بل غرفةَ عمليّاتٍ وتخطيطٍ، لا لمجموعة حزبيّةٍ أو طائفةٍ دينيّةٍ بل لإخوانِ صفا جُددٍ اجتمعوا على الفكر الحرّ والإيمان بالإنسان، فلم يجدوا أمامَهم من حبال النجاة سوى الرّحيل، وقد نسيتْ دارُ السلام أن تكون دارَ سلام."
تنطلق أحداث الرواية من العراقفي ظل الدمار الذي أصابه في مطلع الألفية الثالثة حيث تتولى السرد فيها امرأةٌ تشتغل وراقة في بغداد. وفي ذلك إحالة على دور المكتبات أو الوراقات عبر التاريخ العربي، وما ارتبط بها من سردٍوتدوينٍ ونسخ. ولم تغب المرأة عن الفعل فيها برغم ندرة الحضور. غير إن هذه المرأة واسمها "ثناء" في الرواية، وابنة العصر الحديث، قد احتفظت بحبلها السري الرابط بالجذورحيث يقول عنها المؤلف في حوار أجرته معه صحيفة النهار العربي بواسطة الصحفية بثينة عبد العزيز غريبي. "تتولّى ثناء السرد، لنسمع الحكاية من وجهة نظرها. إنّها تروي حكايتها وحكاية الزول، الشخصيّة المحوريّة أيضًا. هي تُعيد كتابة نقوشه من جديد، وهي تدّعي نسخها باعتبار حرفتها كورّاقة. ولكن لا يُمكن الجزم بأنّ ما يُنقلُ وينسخُ طيلة حقب طويلة من تاريخ الوراقة العربيّة هو بريء من التغيير، حتّى لا أقول من التّعديل والتحريف بحسب مواضعات زمن النّسخ".
من البداية تبدو "ثناء" امرأةً عليمةً حبلى بأسرار كثيرة حين تقول بعد أن كُلفت بالعناية بغريب لا تعلم عنه شيئا.."تعلمت طوال سنواتٍ أن الكلمات تُخفي المعنى أكثر مما تُفصحُ عنه. سترٌ لمعنىً دفينٍ، أصداءٌ تأتي من قاع البئر كلما ارتطم الدلو بسطح الماء"ويبدع الكاتب في رسم لوحة الإطار الزمكاني لتحريك أحداث وشخوص روايته وتسهيل اندماج القاريء فيها ومعها. تقول ثناء : "كان عليّ أن أحمل الغريب إلى الدكان وأكتم أمره. أدخله من الباب الخلفي، عند غروب الشمس، لحظة علو ِّ اذان المغرب من مسجد الوزير. كانت الشمس تخلع آخر قمصانها البرتقالية الشاحبة وتلقي بها في نهر دجلة، والشوارع ماتزال مكتظة بالباعة المتجولين، وأزيز السيارات يختلط بأصوات صبيان مطاعم الأكلات السريعة. حاولت أن أعدو، لكنه تكاسل في خطاه حتى كاد يسقط. حدجني رجل الشرطة بنظرة شك. كل واحد هنا مُعرضٌ للشك والاتهام إلى أن يثبت غيرُ ذلك !.
نزار شقرون بدأ مسيرته شاعرا طلائعيا غير تقليدي. لكنه لم يستطب المقام الدائم في رحابه، فظل مبادلا له بين الحين والآخر وبحسب محطات تعليمه، دراسة وتدريسا، ببحوث ودراسات فنية في الجماليات مثل إشرافه على تأليف جماعي حمل عنوانا له "قضايا الممارسات الفنية المعاصرة" ،وإنجازه بحثا مهما عنونه "معاداة الصورة في المنظورين الغربي والشرقي". ومما يفصح عنه في هذه الدراسة قوله " "وإذا كان الموقف العربي من قراءة اللوحة والصورة بشكل عام، يجوّز استخدام آليات قراءة النص الأدبي عليها، ولا يرى فارقا جوهريا بين الخطابين، فهو أمر يحتاج إلى مراجعة، للفارق النوعي بين "المكتوب" وبين "الصورة".. ثم يضيف في مكان متقدم. "وإذا كانت قراءتنا للنص تبحث دائما عن الفكرة، وتتلخص في: ماذا يريد النص أن يقول؟ بدل أن نقف عند مقتضيات بناء القول ذاته، فإن هذه الآلية تتحكم في علاقتنا بالصورة، لهذا تنتج القراءة العجولة وعيا قاصرا لدى المشاهد وتفقد الصورة ألقهاّ".
وقد تكون محطته الراهنة في فضاء الرواية هو الأقرب إلى عقله وقلبه معاً. ولعل تآليفه الثلاثة الأخيرة"الناقوس والمئذنة" و"دم الثور"، الباب المفقود في كليلة ودمنة، و"زول الله في رواية أخت الصفا" هي الأكثر دلالة على الميناء الجديد الذي أرسى مراكبه فيه.وقد كرر أكثر من مرة أن الكتاب والمعرفة هما طوق النجاةمتسائلا بألم"هل يستطيع النّظام الثقافي العربي الصّمود أمام التغييرات السريعة التي يعيش على وقعها العالم؟ ثمّ ألم يحن الوقت للتسليم بالمنزع الإنساني كي يكون "خيمتنا" المشتركة قبل حلول العاصفة؟ "
إلى أن يقول "كلّها أسئلة كانت تطاردني ولا تزال، والرواية بحث في هذه الأسئلة وتقليب في معرقلات طرحها أيضًا بفعل هيمنة العقل الارتكاسي على ثقافتنا المعاصرة". ويذكرني مسار الدكتور نزار شقرون بمحطاته المتنوعة، بحديث الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ في مطلع التسعينات مع الكاتب والصحفي الكبير رجاء النقاش عن محطات مسيرته الإبداعية حيث قال "في سني المبكرة قرأت لكبار الأدباء في ذلك الوقت وحاولت تقليد أسلوب المنفلوطي في "النظرات" و"العبرات". وحاولت كتابة قصة حياتي على غرار "الأيام" لطه حسين، وأسميتها "الأعوام". وملت للشعر وكتبت فيه. وكان العام 1936 هو العام الفاصل في حياتي، فيه قررت احتراف كتابة القصة بعد أن مررت بصراع نفسي رهيب في المفاضلة بين الفلسفة والأدب". إلى أن يقول "اخترت طريق الرواية رغم صعوبته لأني أدركت أن الرواية يمكن أن يكون لها دور مؤثر في معالجة قضايا المجتمع".
ولكن من يدري فلعل صاحب رواية "زول الله في رواية أخت الصفا"، الدكتور نزار شقرون يفضل عدم إطالة البقاء في محطة بعينها وسيواصل الترحال. وقد يكون عنوان كتابه الجديد "بحثا عن هوية" في الحقل الفلسفي التنويري إيذانا بدخول محطة جديدة !