تحرص القنوات التلفزيونية في تونس وفي اغلب البلدان العربية على بث أعمال تلفزيونية جديدة مع شهر رمضان. فرمضان واضافة إلى جوانبه الدينية والروحية، هو عبارة عن فرصة يلتقي فيها افراد العائلة حول مائدة الافطار ويقضون قسما من السهرة أمام التلفزيون. ويستغل المنتجون هذه الفترة لتقديم أفضل ما لديهم لشد انتباه الجمهور وتحقيق نسب مشاهدة عالية التي تمكنهم من امضاء صفقات اشهارية مربحة وهو ما يفسر كثافة الومضات الاشهارية في رمضان وخاصة في أوقات ذروة المشاهدة التي تأتي مباشرة بعد الافطار. لكن يتبين مع الأعوام أن نسب المشاهدة صارت المتحكم الوحيد تقريبا في الاذواق وبالتالي في نوعية الانتاج. إنها ذلك السيف المسلط على الابداع ويمكنها أن تنسف أي عمل مهما كانت قيمته ومهما كان مستوى الأداء ومهما كانت اهمية الفكرة وجدية الطرح وجرأته.
ولئن كانت نسب المشاهدة مهمة في كل بلدان العالم، إلا أن المسألة تأخذ ابعادا خطيرة في تونس، لقلة الانتاج وقلة الاختيارات امام الجمهور. ففي تونس اليوم تسقط كل الحسابات– والانتاج الدرامي الرمضاني لهذا العام دليل على ذلك- أمام عامل وحيد وهو نسب المشاهدة. يمكن أن تقدم عملا ابداعيا محترما لكنه لا يحقق نسب مشاهدة كبيرة، فتسقط كل الجهود في الماء. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن يكون العمل رديئا من مختلف الجوانب، لكنه يحظى بنسب مشاهدة عالية، فيصبح في نظر الناس، عملا ناجحا، بل تتخذ نسب المشاهدة العالية، كحجة لا تقبل الدحض وترفع في وجه كل من يحاول أن ينقد العمل أو أن يعبر عن عدم اقتناعه به.
عمل أول من حيث حجم الجمهور لكنه ليست فلتفة من فلتات الانتاج
ونعتقد أن مسلسل فلوجة الذي تبثه قناة الحوار التونسي ضمن برمجتها لرمضان لهذا العام، من الأمثلة التي تؤكد أن نسب المشاهدة قد اصبحت المتحكم الأساسي في عملية الانتاج الدرامي الرمضاني. فالمسلسل وهو من اخراج سوسن الجمني، وتتقمص فيه ريم الرياحي ونعيمة الجاني ومحمد علي بن جمعة ومحمد مراد وزياد التواتي وكوكبة من الممثلين الجدد ابرز الأدوار، لا يعتبر فلتة من فلتات الزمان ولا هو بالإبداع المبهر إنما هو عمل عادي، وربما اقل من العادي قياسا بالتوقعات، لكنه يحظى بنسب مشاهدة عالية جعلته يحتل المرتبة الأولى بأرقام بعيدة عن منافسيه بشكل واضح.
هذا المسلسل الذي اثار منذ الحلقة الأولى جدلا واسعا وهو الذي استغل معهدا ثانويا عموميا لتصوير عددا من المشاهد حول المحيط التلمذي في تونس، ورأى فيه مربّون انه اساء لصورة التعليم العمومي في تونس، إلى درجة أن وزير التربية قد هدد برفع قضية من اجل إيقاف بثه، وبمقايسس فنية بحتة هو في نهاية الأمر عمل مخيب للآمال. صحيح، هناك وجوه شابة واعدة، لكن العمل ورغم أنه يطرح قضية حارقة وهي رواج المخدرات بين الشباب التلمذي، إلا أنه كان رتيبا ، تطول فيه المشاهد كثيرا إلى حد الملل وهو وعلى الرغم من الاصرار على أنه ينقل الواقع، وهو في قضية الحال، واقعا مظلما، إلا أن ديكورات المسلسل وخاصة الشقق واثاثها بما في ذلك غرف الأولاد والبنات، تتحدث عن واقع آخر لا يشبهنا كثيرا. فمن من التونسيين يجهل البيئة المدرسية في تونس، مما يرجح فرضية أنه لم يسبقه بحث حول المدرسة في تونس وحول علاقة التلاميذ فيما بينهم. صحيح، هناك مخدرات في المدارس، وقد حذر منها أهل الاختصاص، ولكن تبقى البيئة التلمذية، بيئة لها مميزاتها وتبقى للتلاميذ "قوانينهم " وطقوسهم في المعاملات التي لم يحط بها المسلسل، وذلك إما لأنه لم يسبقه فعلا بحث حقيقي حول البيئة التلمذية في تونس، أو لأن الهدف منذ البداية هو الاثارة واستقطاب المشاهد مع محاولات للإيهام بنقل الواقع. ثم إن السيناريو فيه تداخل كبير، إلى درجة تشوش على الفرجة. حكايات داخل حكايات وكل ذلك يتم بشكل عاجل وبأسلوب يخلو من العمق. فقصة مثل قصة التلميذة رحمة مثلا، تلك التي اختفت فجأة، ثم ظهرت في منزل لرجل دين، بالجوار، كان من الممكن أن تبني احداث المسلسل كلها حولها . قصة التلميذة مرام التي انهوا حياتها في المسلسل بعد استهلاكها للمخدرات، وكانت مشاهدها وهي مسجاة طويلة جدا، كان من الممكن أن يبنى عليها كل احداث المسلسل ايضا.
فلوجة لماذا؟
ونعتقد أن المسلسل لا يدخل ضمن خانة الواقعية القديمة أو الجديدة، لأنه بعيد عن الواقع. فالأعمال الواقعية، تكون على النقيض تماما مع مسلسلات من نوع فلوجة. إنها تتطلب عمقا اكبر بكثير وتتطلب اشتغالا اكبر بكثير على الشخصيات في حين يغلب على هذا العمل التسرع والاثارة والسطحية. وقلة قليلة من الشخصيات تبقى في البال. وحتى تلك العاطفة التي شعر بها أحد التلاميذ تجاه استاذته ( استاذة الرياضيات التي هي بالأحرى شخصية شبيهة بالدراما التركية) تبدو مركبة وما اصرار التلاميذ في حلقة من حلقات العمل على أن هذه العلاقة شبيهة بقصة الرئيس الفرنسي ماكرون مع زوجته ( علاقة نشأت في المعهد بينه وبين استاذته) إلا دليلا على انها مفتعلة لذلك لم تكن قصة التلميذ واستاذته مؤثرة وإنما في اقصى الحالات قصة للتندر في حين أن القضية أعمق من ذلك بكثير خاصة اذا ما عدنا إلى محيط التلميذ العائلي وهو محيط محكوم بعنف الاب ( الشرطي) وبشخصية الأم الضعيفة.
ومسلسل "فلوجة" الذي يثير الاستغراب منذ العنوان (فلوجة المدينة الشهيدة في حرب العراق الأولى والثانية حيث سقط فيها مئات القتلى في حرب 2003 وظلت طويلا تحت الحصار) من الاعمال الفنية التي يراهن اصحابها في كل تفاصيلها على اثارة الاهتمام وخلق الجدل وقد نجحوا في ذلك. فبعمل يحاكي اعمالا اجنبية ناجحة تعالج ظاهرة المخدرات واساسا المسلسل الأمريكي "يوفوريا "الذي تؤدي فيه البطولة الممثلة زندايا وحصلت عنه عن جوائز قيمة، مع اسقاطات واضحة على الواقع التونسي، تمكنوا من حصد اعلى نسب للمشاهدة. صحيح لا يمكن الحديث هذا العام عن انتاج درامي جيد في العموم لكن مسلسل " فلوجة " ليس أفضلها.
حياة السايب
تونس- الصباح
تحرص القنوات التلفزيونية في تونس وفي اغلب البلدان العربية على بث أعمال تلفزيونية جديدة مع شهر رمضان. فرمضان واضافة إلى جوانبه الدينية والروحية، هو عبارة عن فرصة يلتقي فيها افراد العائلة حول مائدة الافطار ويقضون قسما من السهرة أمام التلفزيون. ويستغل المنتجون هذه الفترة لتقديم أفضل ما لديهم لشد انتباه الجمهور وتحقيق نسب مشاهدة عالية التي تمكنهم من امضاء صفقات اشهارية مربحة وهو ما يفسر كثافة الومضات الاشهارية في رمضان وخاصة في أوقات ذروة المشاهدة التي تأتي مباشرة بعد الافطار. لكن يتبين مع الأعوام أن نسب المشاهدة صارت المتحكم الوحيد تقريبا في الاذواق وبالتالي في نوعية الانتاج. إنها ذلك السيف المسلط على الابداع ويمكنها أن تنسف أي عمل مهما كانت قيمته ومهما كان مستوى الأداء ومهما كانت اهمية الفكرة وجدية الطرح وجرأته.
ولئن كانت نسب المشاهدة مهمة في كل بلدان العالم، إلا أن المسألة تأخذ ابعادا خطيرة في تونس، لقلة الانتاج وقلة الاختيارات امام الجمهور. ففي تونس اليوم تسقط كل الحسابات– والانتاج الدرامي الرمضاني لهذا العام دليل على ذلك- أمام عامل وحيد وهو نسب المشاهدة. يمكن أن تقدم عملا ابداعيا محترما لكنه لا يحقق نسب مشاهدة كبيرة، فتسقط كل الجهود في الماء. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن يكون العمل رديئا من مختلف الجوانب، لكنه يحظى بنسب مشاهدة عالية، فيصبح في نظر الناس، عملا ناجحا، بل تتخذ نسب المشاهدة العالية، كحجة لا تقبل الدحض وترفع في وجه كل من يحاول أن ينقد العمل أو أن يعبر عن عدم اقتناعه به.
عمل أول من حيث حجم الجمهور لكنه ليست فلتفة من فلتات الانتاج
ونعتقد أن مسلسل فلوجة الذي تبثه قناة الحوار التونسي ضمن برمجتها لرمضان لهذا العام، من الأمثلة التي تؤكد أن نسب المشاهدة قد اصبحت المتحكم الأساسي في عملية الانتاج الدرامي الرمضاني. فالمسلسل وهو من اخراج سوسن الجمني، وتتقمص فيه ريم الرياحي ونعيمة الجاني ومحمد علي بن جمعة ومحمد مراد وزياد التواتي وكوكبة من الممثلين الجدد ابرز الأدوار، لا يعتبر فلتة من فلتات الزمان ولا هو بالإبداع المبهر إنما هو عمل عادي، وربما اقل من العادي قياسا بالتوقعات، لكنه يحظى بنسب مشاهدة عالية جعلته يحتل المرتبة الأولى بأرقام بعيدة عن منافسيه بشكل واضح.
هذا المسلسل الذي اثار منذ الحلقة الأولى جدلا واسعا وهو الذي استغل معهدا ثانويا عموميا لتصوير عددا من المشاهد حول المحيط التلمذي في تونس، ورأى فيه مربّون انه اساء لصورة التعليم العمومي في تونس، إلى درجة أن وزير التربية قد هدد برفع قضية من اجل إيقاف بثه، وبمقايسس فنية بحتة هو في نهاية الأمر عمل مخيب للآمال. صحيح، هناك وجوه شابة واعدة، لكن العمل ورغم أنه يطرح قضية حارقة وهي رواج المخدرات بين الشباب التلمذي، إلا أنه كان رتيبا ، تطول فيه المشاهد كثيرا إلى حد الملل وهو وعلى الرغم من الاصرار على أنه ينقل الواقع، وهو في قضية الحال، واقعا مظلما، إلا أن ديكورات المسلسل وخاصة الشقق واثاثها بما في ذلك غرف الأولاد والبنات، تتحدث عن واقع آخر لا يشبهنا كثيرا. فمن من التونسيين يجهل البيئة المدرسية في تونس، مما يرجح فرضية أنه لم يسبقه بحث حول المدرسة في تونس وحول علاقة التلاميذ فيما بينهم. صحيح، هناك مخدرات في المدارس، وقد حذر منها أهل الاختصاص، ولكن تبقى البيئة التلمذية، بيئة لها مميزاتها وتبقى للتلاميذ "قوانينهم " وطقوسهم في المعاملات التي لم يحط بها المسلسل، وذلك إما لأنه لم يسبقه فعلا بحث حقيقي حول البيئة التلمذية في تونس، أو لأن الهدف منذ البداية هو الاثارة واستقطاب المشاهد مع محاولات للإيهام بنقل الواقع. ثم إن السيناريو فيه تداخل كبير، إلى درجة تشوش على الفرجة. حكايات داخل حكايات وكل ذلك يتم بشكل عاجل وبأسلوب يخلو من العمق. فقصة مثل قصة التلميذة رحمة مثلا، تلك التي اختفت فجأة، ثم ظهرت في منزل لرجل دين، بالجوار، كان من الممكن أن تبني احداث المسلسل كلها حولها . قصة التلميذة مرام التي انهوا حياتها في المسلسل بعد استهلاكها للمخدرات، وكانت مشاهدها وهي مسجاة طويلة جدا، كان من الممكن أن يبنى عليها كل احداث المسلسل ايضا.
فلوجة لماذا؟
ونعتقد أن المسلسل لا يدخل ضمن خانة الواقعية القديمة أو الجديدة، لأنه بعيد عن الواقع. فالأعمال الواقعية، تكون على النقيض تماما مع مسلسلات من نوع فلوجة. إنها تتطلب عمقا اكبر بكثير وتتطلب اشتغالا اكبر بكثير على الشخصيات في حين يغلب على هذا العمل التسرع والاثارة والسطحية. وقلة قليلة من الشخصيات تبقى في البال. وحتى تلك العاطفة التي شعر بها أحد التلاميذ تجاه استاذته ( استاذة الرياضيات التي هي بالأحرى شخصية شبيهة بالدراما التركية) تبدو مركبة وما اصرار التلاميذ في حلقة من حلقات العمل على أن هذه العلاقة شبيهة بقصة الرئيس الفرنسي ماكرون مع زوجته ( علاقة نشأت في المعهد بينه وبين استاذته) إلا دليلا على انها مفتعلة لذلك لم تكن قصة التلميذ واستاذته مؤثرة وإنما في اقصى الحالات قصة للتندر في حين أن القضية أعمق من ذلك بكثير خاصة اذا ما عدنا إلى محيط التلميذ العائلي وهو محيط محكوم بعنف الاب ( الشرطي) وبشخصية الأم الضعيفة.
ومسلسل "فلوجة" الذي يثير الاستغراب منذ العنوان (فلوجة المدينة الشهيدة في حرب العراق الأولى والثانية حيث سقط فيها مئات القتلى في حرب 2003 وظلت طويلا تحت الحصار) من الاعمال الفنية التي يراهن اصحابها في كل تفاصيلها على اثارة الاهتمام وخلق الجدل وقد نجحوا في ذلك. فبعمل يحاكي اعمالا اجنبية ناجحة تعالج ظاهرة المخدرات واساسا المسلسل الأمريكي "يوفوريا "الذي تؤدي فيه البطولة الممثلة زندايا وحصلت عنه عن جوائز قيمة، مع اسقاطات واضحة على الواقع التونسي، تمكنوا من حصد اعلى نسب للمشاهدة. صحيح لا يمكن الحديث هذا العام عن انتاج درامي جيد في العموم لكن مسلسل " فلوجة " ليس أفضلها.