إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

إقصاء السّرديّة البورقيبيّة للطاهر بن عمار مهندس مفاوضات الاستقلال (2/2)

 

بقلم: حياة عمامو (*)

 وما زاد في عرقلة المفاوضات التّونسيّة الفرنسيّة من أجل الاستقلال الدّاخلي هو سقوط حكومة منداس فرانس يوم 5 فيفري 1955، بعد النّقد الشّديد الذي تعرّضت له حكومته في البرلمان الفرنسي بسبب اتّهامه بتوخّي سياسة التّفريط في شمال إفريقيا، وقد كان حاضرا في هذه الجلسة الطّاهر بن عمّار والمنجي سليم. واكبت المرحلة الثالثة من المفاوضات التّونسيّة الفرنسيّة في فترة رئاسة الطاهر بن عمّار للحكومة الأولى، تشكيل حكومة إدغار فور الّتي نالت ثقة البرلمان الفرنسي يوم 23 فيفري 1955، وقرّرت إثر انعقاد مجلس وزاري مضيّق استئناف المفاوضات مع حكومة الطّاهر بن عمّار.

وقد جاء استئناف هذه المفاوضات في ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة عسيرة اتّسمت بانتشار البؤس جرّاء الجفاف وهو ما جعل الطّاهر بن عمّار يقوم بجولة في الوسط والجنوب التّونسي ليشرف على توزيع المساعدات الغذائيّة القادمة من فرنسا. كما كان عليه إيجاد الحلول الملائمة للمشاكل الإداريّة والاجتماعيّة المتراكمة، كما أعلن عن ذلك في خطابه الذي ألقاه أمام الباي يوم 12 أوت 1954، هذا فضلا على مطالبة الاتحاد العام التّونسي للشغل للحكومة بإصدار قانون خاص بالعملة الفلاحيّين الذين بدأ المعمّرون في طردهم بعد خطاب منداس فرانس ليوم 31 جويلية 1954، فوفد الكثير منهم إلى العاصمة وتوجّهوا إلى مقرّ الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل بعد أن كوّنوا جامعة البطّالين (انظر ص. 403 و404). وبالرّغم من كلّ هذه الصّعوبات تُوّجت المفاوضات التّونسيّة الفرنسيّة بإمضاء الطاهر بن عمّار وإدغار فور على الاتّفاق المبدئي للاستقلال الذّاتي يوم 22 أفريل 1955، وهو ما أدّى إلى إطلاق سراح الكثير من المساجين بمن فيهم الحبيب بورقيبة. وفي مرحلة أخيرة أمضى كلّ من الطّاهر بن عمّار والمنجي سليم على الاتّفاقيات التّونسيّة - الفرنسيّة للاستقلال الدّاخلي يوم 3 جوان 1955، أي بعد يومين فقط من عودة الحبيب بورقيبة إلى تونس، وهنا لا بدّ من لفت الانتباه إلى ما صرّح به الطّاهر بن عمّار في الجلسة الاختتاميّة للمفاوضات وعند قدومه إلى تونس في المطار بأنّه غير راض تماما على نتائجها وهو ما جعله يتّفق مع إدغار فور على إنشاء مجلس تأسيسي والغاية منه إعلان الاستقلال التّام لتونس من طرف واحد داخل المجلس في حال تنكّرت فرنسا لإتمام هذا الوعد. وعلى هذا الأساس تمّ الختم من طرف الباي على الأمر العلي يوم 29 ديسمبر 1955 بتأليف مجلس تأسيسي للمملكة التونسيّة يتمّ بالانتخاب الحر المباشر ويتولى وضع دستور ديمقراطي للبلاد تسير على هداه وتعيش في نظامه . واستقالت بعد حكومة الطّاهر بن عمّار الأولى يوم 13 سبتمبر 1955، وعاد صالح بن يوسف في نفس اليوم من القاهرة لينطلق الصّراع المفتوح بينه وبين بورقيبة.

لم يمض على استقالة الحكومة الأولى برئاسة الطّاهر بن عمّار سوى يوم واحد حتّى استدعاه الباي لتشكيل الحكومة الثّانية علما وأنّ بورقيبة رفض تشكيل مثل هذه الحكومة بتعلّة انشغاله بإعادة هيكلة الحزب ومدّعيا أنّ الطاهر بن عمّار هو خير من يواصل في هذه التجربة. ولمّا رفض الطّاهر ين عمّار تشكيل الحكومة ألحّت عليه كلّ المنظّمات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والدّينيّة من خلال أبرز شخصيّاتها مثل الحبيب بورقيبة والمنجي سليم وعلي البلهوان ومحمد المصمودي والطيب المهيري والصادق المقدّم... وأحمد التليلي ومحمود الخياري وأحمد بن صالح... والفرجاني بالحاج عمّار، لقبول هذا المنصب معبّرين له على مساندتهم المطلقة، فانتهى الأمر بقبول الطاهر بن عمّار لهذه المهمّة ثانية. وبعد مفاوضات دامت أربعة أيام نجح في تشكيل حكومة متجانسة تتكوّن من ستّة مستقلّين وخمسة دستوريّين واشتراكيّ واحد، دون التّوصّل إلى إقناع صالح بن يوسف للمشاركة فيها (أنظر إلى تصريح الحبيب بورقيبة ص 420). والجدير بالذكر فيما يتعلّق بصالح بن يوسف أنّه قد تمّ طرده أثناء انعقاد مؤتمر الحزب بين 15 و18 نوفمبر 1955، وفراره في الليلة الفاصلة بين 27 و28 جانفي 1956، بعد أن أبلغه الطاهر بن عمّار عن طريق سعيد محمّد عمر الخطر الذي يُحدق به وحثّه على مغادرة البلاد. وبالرّغم من المناخ السياسي المتوتّر جرّاء الصراع المفتوح اليوسفي - البورقيبي أمكن للطاهر بن عمّار رئيس هذه الحكومة من تحقيق عديد الإنجازات مثل قبول تونس دولة عضو في منظّمة الأمم المتّحدة للتّغذية والزراعة (FAO)، بفضل ما له من علاقات في المنظّمات الدّوليّة، إذ لم يكن يقبل داخلها إلاّ الدول كاملة السيادة، وتحقيق مجانية التّعليم، وإنشاء المدرسة القوميّة للإدارة لتحضير كوادر يمكنها تعويض الموظفين الفرنسيّين تدريجيّا عند مغادرتهم للبلاد (ص. 454 و455). وفضلا عن هذه الإنجازات، قاد الطّاهر بن عمّار مفاوضات الاستقلال العسيرة خلال حصص ماراطونيّة مع الحكومة الفرنسيّة التي ترأسها الاشتراكي غي مُلاّي (Guy Mollet)، انطلاقا من 29 فيفري (ص. 461)، خاصّة وأنّ المسألة التّونسيّة قد وقع عرضها على الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة ورغم اعتراضات فرنسا فقد وقع إدراجها في جدول أعمالها يوم 15 أكتوبر 1952، وانتهت النقاشات بتبنّي قرار عرضته البرازيل ولقي مساندة 44 صوتا لصالح العريضة التونسيّة بما فيها صوت الولايات المتّحدة الأمريكية ذلك أنّ القضيّة التونسيّة أصبحت نقطة ثابتة تدرج كل سنة في جدول أعمال الجمعيّة العامة وكذلك الحال بالنسبة إلى القضيّة المغربية بل صارت القضيّة التونسيّة موضوع نقاشات عسيرة على السياسة الاستعماريّة الفرنسيّة وهذا إلى سنة 1956 التي شهدت استقلال كل من المغرب وتونس.

وإثر خطاب غي ملاّي تقابل الطّاهر بن عمّار والحبيب بورقيبة يوم 1 فيفري 1956 لتحليل مضمون هذا الخطاب ومناقشته لاّتخاذ موقف مما ورد فيه. وقد وجدا في هذا الخطاب يدا ممدودة وأنّه يجب اغتنام هذه الفرصة للمطالبة حالا بفتح مفاوضات تهدف إلى تطوير العلاقات التونسيّة – الفرنسيّة نحو الاستقلال. ولقي الحبيب بورقيبة موافقة من الطّاهر بن عمّار على التّحول فَوْرًا إلى فرنسا لجسّ نبض الحكومة الفرنسيّة. فأجرى الحبيب بورقيبة سلسلة من المحادثات في باريس مع كبار مسؤولي الدّولة الفرنسيّة انطلاقا من يوم 2 فيفري 1956، عكّر صفوها بتصريحات للصّحف حول المسألة الجزائريّة أزعجت كثير الحكومة الفرنسيّة. وساهم الباي بدوره يوم 10 فيفري 1956، إثر استقباله بقصر قرطاج لروجي سيدو المندوب السامي لفرنسا بتونس ومن معه وبحضور الطاهر بن عمّار والحبيب الشطّي المكلّف بالإعلام لدى رئيس الحكومة في استئناف المفاوضات قصد تطوير العلاقات التونسيّة الفرنسيّة لتمكين تونس من الاستقلال التّام. وانتهت كلّ هذه اللقاءات بانعقاد مجلس وزاري مضيق يوم 24 فيفري 1956، تشكل على إثره الوفد التّفاوضي برئاسة الطّاهر بن عمّار الذي انتقل إلى باريس ليقود المفاوضات حول الاستقلال يوم 29 فيفري 1956 (انظر برقيّة بورقيبة إلى الطاهر بن عمار بمناسبة افتتاح المفاوضات ص 478) وبعد عديد الجلسات التي تمّ فيها التّفاوض بعسر شديد تمّ التّوقيع على وثيقة الاستقلال يوم 20 مارس 1956.

هكذا يتّضح بعد قراءة هذا الكتاب الضّخم والجيّد التوثيق أنّ الطاهر بن عمّار رئيس الحكومة لمرّتين هو المهندس الرّئيسي للمفاوضات التي قادت إلى الاستقلال الذّاتي ثمّ الاستقلال التّامّ. وبالرّغم من الدّور الذي اضطلع به، فإنّ مؤلّف الكتاب لم ينكر الأدوار الأخرى التي قامت بها عديد الشّخصيّات وعديد المنظّمات وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة، بدليل أنّ الطّاهر بن عمّار كان هو من اقترح على الباي تعيينه رئيسا للحكومة. ولا يمكن فهم إصرار بورقيبة على إقصاء مهندس مفاوضات الاستقلال وتلفيق التّهم الواهية له ولزوجته، إلاّ برغبته بناء سرديّة لا يتفوّق فيها أحد عليه. وقد استغلّ في ترويج هذه السّرديّة مختلف أجهزة الدّولة ومنها خاصّة وسائل الإعلام بمختلف أنواعها والبرامج المدرسيّة من أجل إقصاء كلّ الذين من شأنهم أن يخفتوا من صيته وعلى رأسهم الطاهر بن عمّار للانفراد بالزعامة.

• أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة تونس

 

 

 

 

إقصاء السّرديّة البورقيبيّة للطاهر بن عمار مهندس مفاوضات الاستقلال (2/2)

 

بقلم: حياة عمامو (*)

 وما زاد في عرقلة المفاوضات التّونسيّة الفرنسيّة من أجل الاستقلال الدّاخلي هو سقوط حكومة منداس فرانس يوم 5 فيفري 1955، بعد النّقد الشّديد الذي تعرّضت له حكومته في البرلمان الفرنسي بسبب اتّهامه بتوخّي سياسة التّفريط في شمال إفريقيا، وقد كان حاضرا في هذه الجلسة الطّاهر بن عمّار والمنجي سليم. واكبت المرحلة الثالثة من المفاوضات التّونسيّة الفرنسيّة في فترة رئاسة الطاهر بن عمّار للحكومة الأولى، تشكيل حكومة إدغار فور الّتي نالت ثقة البرلمان الفرنسي يوم 23 فيفري 1955، وقرّرت إثر انعقاد مجلس وزاري مضيّق استئناف المفاوضات مع حكومة الطّاهر بن عمّار.

وقد جاء استئناف هذه المفاوضات في ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة عسيرة اتّسمت بانتشار البؤس جرّاء الجفاف وهو ما جعل الطّاهر بن عمّار يقوم بجولة في الوسط والجنوب التّونسي ليشرف على توزيع المساعدات الغذائيّة القادمة من فرنسا. كما كان عليه إيجاد الحلول الملائمة للمشاكل الإداريّة والاجتماعيّة المتراكمة، كما أعلن عن ذلك في خطابه الذي ألقاه أمام الباي يوم 12 أوت 1954، هذا فضلا على مطالبة الاتحاد العام التّونسي للشغل للحكومة بإصدار قانون خاص بالعملة الفلاحيّين الذين بدأ المعمّرون في طردهم بعد خطاب منداس فرانس ليوم 31 جويلية 1954، فوفد الكثير منهم إلى العاصمة وتوجّهوا إلى مقرّ الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل بعد أن كوّنوا جامعة البطّالين (انظر ص. 403 و404). وبالرّغم من كلّ هذه الصّعوبات تُوّجت المفاوضات التّونسيّة الفرنسيّة بإمضاء الطاهر بن عمّار وإدغار فور على الاتّفاق المبدئي للاستقلال الذّاتي يوم 22 أفريل 1955، وهو ما أدّى إلى إطلاق سراح الكثير من المساجين بمن فيهم الحبيب بورقيبة. وفي مرحلة أخيرة أمضى كلّ من الطّاهر بن عمّار والمنجي سليم على الاتّفاقيات التّونسيّة - الفرنسيّة للاستقلال الدّاخلي يوم 3 جوان 1955، أي بعد يومين فقط من عودة الحبيب بورقيبة إلى تونس، وهنا لا بدّ من لفت الانتباه إلى ما صرّح به الطّاهر بن عمّار في الجلسة الاختتاميّة للمفاوضات وعند قدومه إلى تونس في المطار بأنّه غير راض تماما على نتائجها وهو ما جعله يتّفق مع إدغار فور على إنشاء مجلس تأسيسي والغاية منه إعلان الاستقلال التّام لتونس من طرف واحد داخل المجلس في حال تنكّرت فرنسا لإتمام هذا الوعد. وعلى هذا الأساس تمّ الختم من طرف الباي على الأمر العلي يوم 29 ديسمبر 1955 بتأليف مجلس تأسيسي للمملكة التونسيّة يتمّ بالانتخاب الحر المباشر ويتولى وضع دستور ديمقراطي للبلاد تسير على هداه وتعيش في نظامه . واستقالت بعد حكومة الطّاهر بن عمّار الأولى يوم 13 سبتمبر 1955، وعاد صالح بن يوسف في نفس اليوم من القاهرة لينطلق الصّراع المفتوح بينه وبين بورقيبة.

لم يمض على استقالة الحكومة الأولى برئاسة الطّاهر بن عمّار سوى يوم واحد حتّى استدعاه الباي لتشكيل الحكومة الثّانية علما وأنّ بورقيبة رفض تشكيل مثل هذه الحكومة بتعلّة انشغاله بإعادة هيكلة الحزب ومدّعيا أنّ الطاهر بن عمّار هو خير من يواصل في هذه التجربة. ولمّا رفض الطّاهر ين عمّار تشكيل الحكومة ألحّت عليه كلّ المنظّمات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والدّينيّة من خلال أبرز شخصيّاتها مثل الحبيب بورقيبة والمنجي سليم وعلي البلهوان ومحمد المصمودي والطيب المهيري والصادق المقدّم... وأحمد التليلي ومحمود الخياري وأحمد بن صالح... والفرجاني بالحاج عمّار، لقبول هذا المنصب معبّرين له على مساندتهم المطلقة، فانتهى الأمر بقبول الطاهر بن عمّار لهذه المهمّة ثانية. وبعد مفاوضات دامت أربعة أيام نجح في تشكيل حكومة متجانسة تتكوّن من ستّة مستقلّين وخمسة دستوريّين واشتراكيّ واحد، دون التّوصّل إلى إقناع صالح بن يوسف للمشاركة فيها (أنظر إلى تصريح الحبيب بورقيبة ص 420). والجدير بالذكر فيما يتعلّق بصالح بن يوسف أنّه قد تمّ طرده أثناء انعقاد مؤتمر الحزب بين 15 و18 نوفمبر 1955، وفراره في الليلة الفاصلة بين 27 و28 جانفي 1956، بعد أن أبلغه الطاهر بن عمّار عن طريق سعيد محمّد عمر الخطر الذي يُحدق به وحثّه على مغادرة البلاد. وبالرّغم من المناخ السياسي المتوتّر جرّاء الصراع المفتوح اليوسفي - البورقيبي أمكن للطاهر بن عمّار رئيس هذه الحكومة من تحقيق عديد الإنجازات مثل قبول تونس دولة عضو في منظّمة الأمم المتّحدة للتّغذية والزراعة (FAO)، بفضل ما له من علاقات في المنظّمات الدّوليّة، إذ لم يكن يقبل داخلها إلاّ الدول كاملة السيادة، وتحقيق مجانية التّعليم، وإنشاء المدرسة القوميّة للإدارة لتحضير كوادر يمكنها تعويض الموظفين الفرنسيّين تدريجيّا عند مغادرتهم للبلاد (ص. 454 و455). وفضلا عن هذه الإنجازات، قاد الطّاهر بن عمّار مفاوضات الاستقلال العسيرة خلال حصص ماراطونيّة مع الحكومة الفرنسيّة التي ترأسها الاشتراكي غي مُلاّي (Guy Mollet)، انطلاقا من 29 فيفري (ص. 461)، خاصّة وأنّ المسألة التّونسيّة قد وقع عرضها على الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة ورغم اعتراضات فرنسا فقد وقع إدراجها في جدول أعمالها يوم 15 أكتوبر 1952، وانتهت النقاشات بتبنّي قرار عرضته البرازيل ولقي مساندة 44 صوتا لصالح العريضة التونسيّة بما فيها صوت الولايات المتّحدة الأمريكية ذلك أنّ القضيّة التونسيّة أصبحت نقطة ثابتة تدرج كل سنة في جدول أعمال الجمعيّة العامة وكذلك الحال بالنسبة إلى القضيّة المغربية بل صارت القضيّة التونسيّة موضوع نقاشات عسيرة على السياسة الاستعماريّة الفرنسيّة وهذا إلى سنة 1956 التي شهدت استقلال كل من المغرب وتونس.

وإثر خطاب غي ملاّي تقابل الطّاهر بن عمّار والحبيب بورقيبة يوم 1 فيفري 1956 لتحليل مضمون هذا الخطاب ومناقشته لاّتخاذ موقف مما ورد فيه. وقد وجدا في هذا الخطاب يدا ممدودة وأنّه يجب اغتنام هذه الفرصة للمطالبة حالا بفتح مفاوضات تهدف إلى تطوير العلاقات التونسيّة – الفرنسيّة نحو الاستقلال. ولقي الحبيب بورقيبة موافقة من الطّاهر بن عمّار على التّحول فَوْرًا إلى فرنسا لجسّ نبض الحكومة الفرنسيّة. فأجرى الحبيب بورقيبة سلسلة من المحادثات في باريس مع كبار مسؤولي الدّولة الفرنسيّة انطلاقا من يوم 2 فيفري 1956، عكّر صفوها بتصريحات للصّحف حول المسألة الجزائريّة أزعجت كثير الحكومة الفرنسيّة. وساهم الباي بدوره يوم 10 فيفري 1956، إثر استقباله بقصر قرطاج لروجي سيدو المندوب السامي لفرنسا بتونس ومن معه وبحضور الطاهر بن عمّار والحبيب الشطّي المكلّف بالإعلام لدى رئيس الحكومة في استئناف المفاوضات قصد تطوير العلاقات التونسيّة الفرنسيّة لتمكين تونس من الاستقلال التّام. وانتهت كلّ هذه اللقاءات بانعقاد مجلس وزاري مضيق يوم 24 فيفري 1956، تشكل على إثره الوفد التّفاوضي برئاسة الطّاهر بن عمّار الذي انتقل إلى باريس ليقود المفاوضات حول الاستقلال يوم 29 فيفري 1956 (انظر برقيّة بورقيبة إلى الطاهر بن عمار بمناسبة افتتاح المفاوضات ص 478) وبعد عديد الجلسات التي تمّ فيها التّفاوض بعسر شديد تمّ التّوقيع على وثيقة الاستقلال يوم 20 مارس 1956.

هكذا يتّضح بعد قراءة هذا الكتاب الضّخم والجيّد التوثيق أنّ الطاهر بن عمّار رئيس الحكومة لمرّتين هو المهندس الرّئيسي للمفاوضات التي قادت إلى الاستقلال الذّاتي ثمّ الاستقلال التّامّ. وبالرّغم من الدّور الذي اضطلع به، فإنّ مؤلّف الكتاب لم ينكر الأدوار الأخرى التي قامت بها عديد الشّخصيّات وعديد المنظّمات وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة، بدليل أنّ الطّاهر بن عمّار كان هو من اقترح على الباي تعيينه رئيسا للحكومة. ولا يمكن فهم إصرار بورقيبة على إقصاء مهندس مفاوضات الاستقلال وتلفيق التّهم الواهية له ولزوجته، إلاّ برغبته بناء سرديّة لا يتفوّق فيها أحد عليه. وقد استغلّ في ترويج هذه السّرديّة مختلف أجهزة الدّولة ومنها خاصّة وسائل الإعلام بمختلف أنواعها والبرامج المدرسيّة من أجل إقصاء كلّ الذين من شأنهم أن يخفتوا من صيته وعلى رأسهم الطاهر بن عمّار للانفراد بالزعامة.

• أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة تونس

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews