إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

عبد اللطيف الحناشي لـ"الصباح": لا تقدم دون مراجعات نقدية عميقة لمرحلتي بورقيبة وبن علي

تونس – الصباح

أكد المؤرخ وأستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن عبد اللطيف الحناشي في حوار لـ"الصباح" أنّ المتمعن في مراحل حصول تونس على الاستقلال والمحطات التي مرت بها يُفهم خطورة ما قام به الاستعمار في تونس، فلم تكن هناك إيجابيات عن تلك الفترة على عكس ما يتم الحديث عنه.

وتحدث الحناشي في حواره عن أهمية الدور الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل في الحركة الوطنية وفي بناء دولة الاستقلال، داعيا إلى ضرورة القيام بمراجعات نقدية وعلمية لفترة بورقيبة وبن علي للتقدم وعدم إنتاج الماضي بنفس الآليات والأساليب.

وأوضح أنّ اغتيال صالح بن يوسف لم يؤثر على مصداقية مسار الحصول على الاستقلال وإنما أثر على مصداقية الدولة التونسية وعلى الحبيب بورقيبة في حد ذاته الذي واجه معارضيه بطريقة عنيفة..، وفي ما يلي نص الحوار..

حاورته: إيمان عبد اللطيف

• ما هي أبرز مراحل الاستقلال التي بقيت راسخة في الأذهان؟

-أولا الاستقلال في حد ذاته يُعتبر إنجازا بتمكن النخبة السياسية والتحرر الوطني من عقد اتفاقية مع الطرف الآخر وإخراج السلط العسكرية والمدنية الفرنسية. فهذا مكسب تحقق بعد 75 سنة من الاحتلال الذي كان ذو طبيعة اقتصادية وثقافية وسياسية.

وتمكنت هذه النخبة من تحقيق هذا بوسائل في الغالب سلمية ولم تكن عنيفة كما حدث في الجزائر أو غيرها من البلدان.

هذه المرحلة تتميز ببناء الدولة الوطنية من خلال بعث مؤسسات جديدة بديلة عن المؤسسات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، مثل مؤسسة التشريع والقضاء، ففي فترة الاستعمار كانت هناك تعددية في المؤسسات القضائية وفي التشريع بصفة عامة، فمثلا كانت هناك محاكم شرعية منها المالكية والحنفية وأيضا المحاكم التونسية التي تُطبق القانون الوضعي وأيضا المحاكم الفرنسية.

هناك مسألة أخرى هامة أيضا تتمثل في صدور مجلة الأحوال الشخصية التي كانت لها أبعاد اجتماعية وثقافية وحتى اقتصادية، والتي تم تطبيقها على جميع سكان الدولة التونسية بمن فيهم المكون اليهودي الذي يحمل الجنسية التونسية.

كانت هناك أيضا إنجازات اقتصادية مثل إصدار الدينار التونسي سنة 1958، والجلاء عن بنزرت الذي عبر عن الاستقلال التام والأهمية الأخرى هي الجلاء الزراعي، فتونس استرجعت ملكية الأراضي التي كان يمتلكها المستوطنون الفرنسيون والايطاليون.

وكذلك تم التنصيص على اجبارية التسجيل في دفاتر الحالة المدنية سنة 1959.

• مازال البعض يعتبر أن فترة الاستعمار كانت فيها إيجابيات واستفادت منها تونس، ما مدى وجاهة هذه التصورات؟

-عندما نذكر هذه المحطات نفهم خطورة ما قام به الاستعمار في تونس. ولم تكن هناك إيجابيات عن تلك الفترة على عكس ما يتم الحديث عنه كأن قامت سلط الاحتلال بتركيز المستشفيات وخطوط السكك الحديدية.

فعندما نعود إلى الإحصائيات التي توثق لتلك الفترة، نجد أولا نسبة هذه المستشفيات والمدارس والمصحات نسبة ضعيفة جدا، زد على ذلك استفادة التونسيين منها كانت محدودة جدا.

إلى جانب ذلك، عندما نتمعن في خريطة خطوط السكك الحديدية نجدها متمركزة في الشمال الغربي أين مناطق الحبوب والجنوب الغربي أين يوجد الفسفاط فكان الاستغلال من أجل المصالح الفرنسية. حتى أن نسبة التمدرس كانت ضعيفة جدا، وكان التعليم مشتتا هناك تعليم فرنسي وآخر زيتوني.

ولكل تلك الأسباب والظروف نشأت الحركة الوطنية ليس فقط لإخراج فرنسا وتحقيق الاستقلال وإنما أيضا بسبب التعسف والتمييز والاستغلال الذي كان يمارس في جميع المجالات وعلى جميع المستويات.

• كيف كان دور الحركة النقابية في تلك المرحلة؟

-هنا يجب الحديث عن الحركة الوطنية قبل الاستقلال، منذ تأسيس الحركة النقابية 1924 و1925، كان عندها بعدا وطنيا فطالبت بمسائل خاصة ذات بعد اجتماعي، ولكن مع تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الداخل والخارج خاصة بعد الحرب العالمية الثانية تغيرت العديد من المعطيات. فبرزت الحركة النقابية في شكل جديد في 20 جانفي 1946. هذه الحركة ربطت منذ البداية الاجتماعي بالوطني وهذا ما ميزها.

وأول عمل قامت به هي أن ساعدت على تنظيم ما يُعرف بمؤتمر الاستقلال في صيف 1946، والذي جمع كل الوطنيين، باستثناء الحزب الشيوعي، وطالبوا لأول مرة بالاستقلال.

وفي الكفاح المسلح سنة 1952 عندما تم استبعاد وسجن القيادات السياسية الوطنية، لعب فرحات حشاد وأحمد التليلي وغيرهم دورا مهما في مواصلة الكفاح المسلح.

لذلك نقول أن هناك شرعية تاريخية لهذه المنظمة التي زادت تكريسها دولة الاستقلال ومساهمتها في بنائها. فالاتحاد هو من قدم البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لمؤتمر حزب الحر الدستوري التونسي في صفاقس سنة 1955. وهذا البرنامج تبناه الحزب والحكومة التونسية بعد الاستقلال.

كما شارك الاتحاد في الحكومات المتتالية بـ13 نقابيا منهم أحمد بن صالح، مصطفى الفيلالي، محمود المسعدي، محمود الخياري، أحمد نور الدين، لمين الشابي، عز الدين العباسي وغيرهم والذين كانوا قيادات نقابية تولوا مسؤوليات وزارية ومسؤوليات في الدولة التونسية خاصة في الخمسينيات إلى أواخر الستينيات.

كان أيضا للاتحاد العام التونسي للشغل 17 نائبا في المجلس القومي التأسيسي بعد أول دستور للجمهورية التونسية في سنة 1959، كما شارك في الانتخابات البلدية بعد الاستقلال. فظل الاتحاد بارتباطه خاصة بعد مؤتمر بنزرت 1964، بالرغم من الأزمات التي عرفها وكانت السلطة سببا فيها نسبيا مع الحزب.

وبعد أحداث 1978 تمكن من الخروج عن إرادة الحزب وتحقيق هذه الاستقلالية ولا ننسى هنا مبادرة أحمد التليلي في رسالته الشهيرة للحبيب بورقيبة سنة 1966 والتي نادى فيها بضرورة ممارسة الديمقراطية في تونس وأن يترك الاتحاد حرا مستقلا.

وبالتالي كان الاتحاد العام التونسي للشغل أحد المكونات الأساسية في البلاد التونسية التي ساهمت ليس فقط في مرحلة التحرر الوطني وإنما كذلك في بناء الدولة الوطنية.

• ماهي أخطاء دولة الاستقلال، وماهي المسائل التي بقيت منقوصة في تلك المرحلة؟

-هناك العديد من البحوث والدراسات التاريخية عن مرحلة ما قبل الاستقلال وبعدها، وهي دراسات أكاديمية في الغالب موضوعية نقدية، ولكن للأسف بقي أغلبها في رفوف مكتبات كليات الآداب التونسية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، بعد الثورة وبعد صعود الإسلام السياسي في تونس، بدأ هناك حنين قوي جدا خاصة بعد تعثر الانتقال الديمقراطي خاصة لفترة بورقيبة وحكم زين العابدين بن علي، وهذا يمكن أن يُفهم على أساس تلك الخيبات المتتالية التي عاشها التونسيون.

ولكن يجب وضع المسائل في إطارها وفي ظرفيتها سواء كانت السياسية، الإقليمية أو الداخلية، والظرفية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الوطني أو العالمي، وهذا منهجيا مهم جدا لفهم مختلف الحيثيات.

وأعتقد أن أهم ما لم تتمكن دولة الاستقلال من تحقيقه هي ديمقراطية التنمية وتركيزها على المناطق الساحلية بشكل مكثف دون الاهتمام بمناطق البلاد الداخلية وتحديدا الشمال والجنوب الغربي وأيضا الشرقي. وهذا ما أدى إلى بروز العديد من المشاكل الاقتصادية وخاصة الاجتماعية كالنزوح والفقر الشديد ومنها المسائل الصحية والتعليمية. فكل شيء تم تركيزه في المدن الساحلية وبالتحديد العاصمة وجوارها نابل، بنزرت، صفاقس وسوسة والمنستير.

وهذه أهم نقطة لم تتمكن من معالجتها الدولة الوطنية سواء في فترة الستينات أو السبعينات بل في هذه الفترة تعزز هذا الاختيار خاصة بعد ما عُرف بالانفتاح الاقتصادي الذي ولّد تناقضات اجتماعية كبيرة جدا.

النقطة الثانية تتمثل في المسألة الديمقراطية التي كانت منذ العشرينات راهنة في أدبيات الحركة الوطنية وازداد منسوبها بعد الحرب العالمية الثانية أي في الأربعينات والخمسينات. ولكن بعد الاستقلال تم القضاء على كل نفس ديمقراطي سواء الصحافة أو الأحزاب التي منعت مثل الحزب الشيوعي وأخرى تم دفعها للاحتضار مثل الحزب الدستوري القديم..

وكان التعلل في تلك الفترة، بأن الأولوية للتنمية، فالديمقراطية لم تفرض نفسها وهذا أمر غير دقيق لأن كانت مسألة راهنة في ذلك الوقت وكانت هناك دعوات لتكريسها في حركات التحرر التي انتصرت أو غيرها.

كما أن شخصية الحبيب بورقيبة، على أساس أنها شخصية مثقفة ومحامي ورجل قانون ومُتماهي مع الفكر الليبرالي وغير ذلك، نرى أنه عمل بكل الوسائل على أن لا يسمح بوجود تعددية سياسية وصحفية إلى غير ذلك. وهذه تناقضات بورقيبة، حتى الذي ناصر المرأة لم يسمح إلا في سنة 1982 فقط بوجود امرأة كوزيرة، وهي فتحية مزالي، على غير دول عربية أخرى.

الخطأ الآخر هو تأهليه الفرد الذي هو امتداد لعدم تكريس الديمقراطية في الواقع بالرغم من وجود مؤسسات ديمقراطية مثل البرلمان والدستور والمجلس الاجتماعي والاقتصادي، والذي أدى إلى صراعات داخل الحزب منذ 1971 وخروج مجموعة الاشتراكيين الديمقراطيين ثم جماعة بن صالح دون الحديث عن اليسارين والقوميين.

مسألة أخرى تتمثل في عدم قدرة دولة الاستقلال أو الوطنية عموما في تقليص التبعية الاقتصادية بل نلاحظ تم تعزيزها خاصة بعد السبعينات بعد صدور قوانين 1972 و1974 والسماح للأجانب للانتصاب في تونس والانفتاح الاقتصادي.

• هل أثرت قضية اغتيال صالح بن يوسف على مصداقية مسار الحصول على الاستقلال؟

-صالح بن يوسف هو ابن الحزب الحر الدستوري التونسي وأحد أبرز قياديه بعد الحبيب بورقيبة، ولا يختلفان كثيرا فلهما نفس الشخصية تقريبا، وأعتقد أن خلافهما كان طارئا أمنته ظروف إقليمية ودولية أولا الثورة المصرية ثم الجزائرية وخسارة الجيش الفرنسي في فيتنام ثم مؤتمر باندونغ سنة 1955، فكانت هناك روح قوية من أجل الانتصار على الاستعمار وصالح بن يوسف في ذلك الوقت اصطف مع روح التحرر ورفض قضية الاستقلال الداخلي التي كان ينادي بها أيضا قبل هذه التغيرات. ولذلك كانت معالجة المعارضة التي يُمثلها بطريقة عنيفة وغير ديمقراطية.

في الواقع التأثير لم يكن على مصداقية مسار الاستقلال الذي لعبت فيه ظروف أخرى بل أثر على مصداقية الدولة التونسية وتحديدا الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. لأن ذلك بين سلوك هذه الدولة وهذا الرئيس العنيف تجاه معارضيه وهو الذي يدعي أنه ديمقراطي وليبرالي ومتماهي مع الحضارة الغربية والفكر التنويري لنجده يمارس العكس بخلفية رجل الدولة ولكنه أساء لدولة الاستقلال.

• في فترة عمل هيئة الحقيقة والكرامة، أثيرت قضية التشكيك في وثيقة الاستقلال، ما مدى وجاهة هذا التشكيك؟

-أولا هيئة الحقيقة والكرامة بتركيبتها التي كانت عليها لا تملك الأهلية أن تصدر مثل هذا الرأي لأن من يصدره هم المؤرخون بعد الاطلاع على الوثيقة. فلم يكن ضمن هذه الهيئة مؤرخون حتى أنها لم تستدع على الأقل أهل الاختصاص.

والهيئة لم تتطرق فقط إلى وثيقة الاستقلال بل أرادت إعادة كتابة تاريخ تونس ككل، وهذا أيضا خطأ. فكان من المفروض دعوة مجموعة من المؤرخين الذين لديهم التجربة العلمية والمهنية والمصداقية لأن هناك مؤرخي السلطة حتى من بعض الأكاديميين، لتقوم لا بإعادة كتابة التاريخ وإنما رؤية ومقاربة جديدة لتاريخ تونس.

• هل تعني بكلامك أن كل ما كتب عن تاريخ تونس خاطئ؟

-لا، أقصد الكتابات عن تاريخ تونس فيها الغث وفيها السمين، فهناك وقائع تاريخية لا يمكن إنكارها لوجود وثائق، فالاختلاف يكمن في المقاربات أي في توظيف الوثيقة التاريخية لهدف معين. وهذا لا يقوم به المؤرخ العلمي النزيه وإنما المؤرخ المتأدلج أو يعمل لصالح سلطة ما.

وهنا عندما نتحدث عن رؤية جديدة لتاريخ تونس يعني ذلك مقاربة جديدة تعتمد على وثائق وتحليل علمي منطقي لا يُثير الشكوك لدى القارئ. ووثيقة الاستقلال التي تتحدث عنها قام الأرشيف الوطني بنشرها ونحن كمؤرخين نعرفها وقمنا بدراستها وحيثياتها وظروفها. وهي وثيقة موجودة.

بشكل عام وفي ما يهم مسألة الاستقلال لا لتونس فقط بل لكل الدول، لا يمكن أن يخرج الاستعمار دون أن يحقق مكاسب أخرى والمحافظة على مصالحه وهذا ما حدث في هذه الوثيقة وفي بلدان أخرى مثل الجزائر.

• هل هذا ما يُفسر أننا إلى اليوم نعيش بميكانيزم دولة الاستقلال ولم يكن هناك أي تطور؟

 -هناك نوع من الحنين إلى الماضي، وهذا ما يساعد على تكلس الفكر النقدي والحلم. بمعنى أن الفكر التونسي خاصة السياسي استمر في إعادة انتاج الأزمات بنفس الآليات. وهذا مرتبط بالجانب الاقتصادي وأيضا الثقافي أي التبعية.

المفروض أن يكون هذا الفكر نقديا ومبدعا وفعلا فكرا حالما، فكأن فترة بورقيبة هي الفترة الذهبية المطلقة يجب المحافظة عليها وكأننا لسنا في حاجة إلى التطوير.

وفي مرحلة بعد الثورة ومع وجود جماعات الإسلام السياسي هي التي دفعت الناس بالرجوع إلى الوراء وكأنه حدثت ردة. وعوضا أن نتقدم عدنا إلى الماضي وكأننا نريد إعادة انتاجه.

إذا أردنا أن نتقدم يجب أن نقوم بمراجعات نقدية عميقة للمرحلة البورقيبية بمراحلها الثلاث مرحلة أحمد بن صالح ومرحلة الهادي نويرة ومرحلة محمد مزالي وإن كانت فترة قصيرة ثم مرحلة زين العابدين بن علي حيث تم التركيز فقط على الاستبداد السياسي بالرغم من أن هناك استقرار اقتصادي خاصة في ما يهم التحالف الاستراتيجي الليبي التونسي، وبالتالي نحن مطالبون بمراجعة عميقة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي لتلك المراحل حتى نتمكن من تجاوز كل ذلك ولا نعيد إنتاجها تبعا للظرفية التي نعيشها داخليا وإقليميا ودوليا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عبد اللطيف الحناشي لـ"الصباح":  لا تقدم دون مراجعات نقدية عميقة لمرحلتي بورقيبة وبن علي

تونس – الصباح

أكد المؤرخ وأستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن عبد اللطيف الحناشي في حوار لـ"الصباح" أنّ المتمعن في مراحل حصول تونس على الاستقلال والمحطات التي مرت بها يُفهم خطورة ما قام به الاستعمار في تونس، فلم تكن هناك إيجابيات عن تلك الفترة على عكس ما يتم الحديث عنه.

وتحدث الحناشي في حواره عن أهمية الدور الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل في الحركة الوطنية وفي بناء دولة الاستقلال، داعيا إلى ضرورة القيام بمراجعات نقدية وعلمية لفترة بورقيبة وبن علي للتقدم وعدم إنتاج الماضي بنفس الآليات والأساليب.

وأوضح أنّ اغتيال صالح بن يوسف لم يؤثر على مصداقية مسار الحصول على الاستقلال وإنما أثر على مصداقية الدولة التونسية وعلى الحبيب بورقيبة في حد ذاته الذي واجه معارضيه بطريقة عنيفة..، وفي ما يلي نص الحوار..

حاورته: إيمان عبد اللطيف

• ما هي أبرز مراحل الاستقلال التي بقيت راسخة في الأذهان؟

-أولا الاستقلال في حد ذاته يُعتبر إنجازا بتمكن النخبة السياسية والتحرر الوطني من عقد اتفاقية مع الطرف الآخر وإخراج السلط العسكرية والمدنية الفرنسية. فهذا مكسب تحقق بعد 75 سنة من الاحتلال الذي كان ذو طبيعة اقتصادية وثقافية وسياسية.

وتمكنت هذه النخبة من تحقيق هذا بوسائل في الغالب سلمية ولم تكن عنيفة كما حدث في الجزائر أو غيرها من البلدان.

هذه المرحلة تتميز ببناء الدولة الوطنية من خلال بعث مؤسسات جديدة بديلة عن المؤسسات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، مثل مؤسسة التشريع والقضاء، ففي فترة الاستعمار كانت هناك تعددية في المؤسسات القضائية وفي التشريع بصفة عامة، فمثلا كانت هناك محاكم شرعية منها المالكية والحنفية وأيضا المحاكم التونسية التي تُطبق القانون الوضعي وأيضا المحاكم الفرنسية.

هناك مسألة أخرى هامة أيضا تتمثل في صدور مجلة الأحوال الشخصية التي كانت لها أبعاد اجتماعية وثقافية وحتى اقتصادية، والتي تم تطبيقها على جميع سكان الدولة التونسية بمن فيهم المكون اليهودي الذي يحمل الجنسية التونسية.

كانت هناك أيضا إنجازات اقتصادية مثل إصدار الدينار التونسي سنة 1958، والجلاء عن بنزرت الذي عبر عن الاستقلال التام والأهمية الأخرى هي الجلاء الزراعي، فتونس استرجعت ملكية الأراضي التي كان يمتلكها المستوطنون الفرنسيون والايطاليون.

وكذلك تم التنصيص على اجبارية التسجيل في دفاتر الحالة المدنية سنة 1959.

• مازال البعض يعتبر أن فترة الاستعمار كانت فيها إيجابيات واستفادت منها تونس، ما مدى وجاهة هذه التصورات؟

-عندما نذكر هذه المحطات نفهم خطورة ما قام به الاستعمار في تونس. ولم تكن هناك إيجابيات عن تلك الفترة على عكس ما يتم الحديث عنه كأن قامت سلط الاحتلال بتركيز المستشفيات وخطوط السكك الحديدية.

فعندما نعود إلى الإحصائيات التي توثق لتلك الفترة، نجد أولا نسبة هذه المستشفيات والمدارس والمصحات نسبة ضعيفة جدا، زد على ذلك استفادة التونسيين منها كانت محدودة جدا.

إلى جانب ذلك، عندما نتمعن في خريطة خطوط السكك الحديدية نجدها متمركزة في الشمال الغربي أين مناطق الحبوب والجنوب الغربي أين يوجد الفسفاط فكان الاستغلال من أجل المصالح الفرنسية. حتى أن نسبة التمدرس كانت ضعيفة جدا، وكان التعليم مشتتا هناك تعليم فرنسي وآخر زيتوني.

ولكل تلك الأسباب والظروف نشأت الحركة الوطنية ليس فقط لإخراج فرنسا وتحقيق الاستقلال وإنما أيضا بسبب التعسف والتمييز والاستغلال الذي كان يمارس في جميع المجالات وعلى جميع المستويات.

• كيف كان دور الحركة النقابية في تلك المرحلة؟

-هنا يجب الحديث عن الحركة الوطنية قبل الاستقلال، منذ تأسيس الحركة النقابية 1924 و1925، كان عندها بعدا وطنيا فطالبت بمسائل خاصة ذات بعد اجتماعي، ولكن مع تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الداخل والخارج خاصة بعد الحرب العالمية الثانية تغيرت العديد من المعطيات. فبرزت الحركة النقابية في شكل جديد في 20 جانفي 1946. هذه الحركة ربطت منذ البداية الاجتماعي بالوطني وهذا ما ميزها.

وأول عمل قامت به هي أن ساعدت على تنظيم ما يُعرف بمؤتمر الاستقلال في صيف 1946، والذي جمع كل الوطنيين، باستثناء الحزب الشيوعي، وطالبوا لأول مرة بالاستقلال.

وفي الكفاح المسلح سنة 1952 عندما تم استبعاد وسجن القيادات السياسية الوطنية، لعب فرحات حشاد وأحمد التليلي وغيرهم دورا مهما في مواصلة الكفاح المسلح.

لذلك نقول أن هناك شرعية تاريخية لهذه المنظمة التي زادت تكريسها دولة الاستقلال ومساهمتها في بنائها. فالاتحاد هو من قدم البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لمؤتمر حزب الحر الدستوري التونسي في صفاقس سنة 1955. وهذا البرنامج تبناه الحزب والحكومة التونسية بعد الاستقلال.

كما شارك الاتحاد في الحكومات المتتالية بـ13 نقابيا منهم أحمد بن صالح، مصطفى الفيلالي، محمود المسعدي، محمود الخياري، أحمد نور الدين، لمين الشابي، عز الدين العباسي وغيرهم والذين كانوا قيادات نقابية تولوا مسؤوليات وزارية ومسؤوليات في الدولة التونسية خاصة في الخمسينيات إلى أواخر الستينيات.

كان أيضا للاتحاد العام التونسي للشغل 17 نائبا في المجلس القومي التأسيسي بعد أول دستور للجمهورية التونسية في سنة 1959، كما شارك في الانتخابات البلدية بعد الاستقلال. فظل الاتحاد بارتباطه خاصة بعد مؤتمر بنزرت 1964، بالرغم من الأزمات التي عرفها وكانت السلطة سببا فيها نسبيا مع الحزب.

وبعد أحداث 1978 تمكن من الخروج عن إرادة الحزب وتحقيق هذه الاستقلالية ولا ننسى هنا مبادرة أحمد التليلي في رسالته الشهيرة للحبيب بورقيبة سنة 1966 والتي نادى فيها بضرورة ممارسة الديمقراطية في تونس وأن يترك الاتحاد حرا مستقلا.

وبالتالي كان الاتحاد العام التونسي للشغل أحد المكونات الأساسية في البلاد التونسية التي ساهمت ليس فقط في مرحلة التحرر الوطني وإنما كذلك في بناء الدولة الوطنية.

• ماهي أخطاء دولة الاستقلال، وماهي المسائل التي بقيت منقوصة في تلك المرحلة؟

-هناك العديد من البحوث والدراسات التاريخية عن مرحلة ما قبل الاستقلال وبعدها، وهي دراسات أكاديمية في الغالب موضوعية نقدية، ولكن للأسف بقي أغلبها في رفوف مكتبات كليات الآداب التونسية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، بعد الثورة وبعد صعود الإسلام السياسي في تونس، بدأ هناك حنين قوي جدا خاصة بعد تعثر الانتقال الديمقراطي خاصة لفترة بورقيبة وحكم زين العابدين بن علي، وهذا يمكن أن يُفهم على أساس تلك الخيبات المتتالية التي عاشها التونسيون.

ولكن يجب وضع المسائل في إطارها وفي ظرفيتها سواء كانت السياسية، الإقليمية أو الداخلية، والظرفية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الوطني أو العالمي، وهذا منهجيا مهم جدا لفهم مختلف الحيثيات.

وأعتقد أن أهم ما لم تتمكن دولة الاستقلال من تحقيقه هي ديمقراطية التنمية وتركيزها على المناطق الساحلية بشكل مكثف دون الاهتمام بمناطق البلاد الداخلية وتحديدا الشمال والجنوب الغربي وأيضا الشرقي. وهذا ما أدى إلى بروز العديد من المشاكل الاقتصادية وخاصة الاجتماعية كالنزوح والفقر الشديد ومنها المسائل الصحية والتعليمية. فكل شيء تم تركيزه في المدن الساحلية وبالتحديد العاصمة وجوارها نابل، بنزرت، صفاقس وسوسة والمنستير.

وهذه أهم نقطة لم تتمكن من معالجتها الدولة الوطنية سواء في فترة الستينات أو السبعينات بل في هذه الفترة تعزز هذا الاختيار خاصة بعد ما عُرف بالانفتاح الاقتصادي الذي ولّد تناقضات اجتماعية كبيرة جدا.

النقطة الثانية تتمثل في المسألة الديمقراطية التي كانت منذ العشرينات راهنة في أدبيات الحركة الوطنية وازداد منسوبها بعد الحرب العالمية الثانية أي في الأربعينات والخمسينات. ولكن بعد الاستقلال تم القضاء على كل نفس ديمقراطي سواء الصحافة أو الأحزاب التي منعت مثل الحزب الشيوعي وأخرى تم دفعها للاحتضار مثل الحزب الدستوري القديم..

وكان التعلل في تلك الفترة، بأن الأولوية للتنمية، فالديمقراطية لم تفرض نفسها وهذا أمر غير دقيق لأن كانت مسألة راهنة في ذلك الوقت وكانت هناك دعوات لتكريسها في حركات التحرر التي انتصرت أو غيرها.

كما أن شخصية الحبيب بورقيبة، على أساس أنها شخصية مثقفة ومحامي ورجل قانون ومُتماهي مع الفكر الليبرالي وغير ذلك، نرى أنه عمل بكل الوسائل على أن لا يسمح بوجود تعددية سياسية وصحفية إلى غير ذلك. وهذه تناقضات بورقيبة، حتى الذي ناصر المرأة لم يسمح إلا في سنة 1982 فقط بوجود امرأة كوزيرة، وهي فتحية مزالي، على غير دول عربية أخرى.

الخطأ الآخر هو تأهليه الفرد الذي هو امتداد لعدم تكريس الديمقراطية في الواقع بالرغم من وجود مؤسسات ديمقراطية مثل البرلمان والدستور والمجلس الاجتماعي والاقتصادي، والذي أدى إلى صراعات داخل الحزب منذ 1971 وخروج مجموعة الاشتراكيين الديمقراطيين ثم جماعة بن صالح دون الحديث عن اليسارين والقوميين.

مسألة أخرى تتمثل في عدم قدرة دولة الاستقلال أو الوطنية عموما في تقليص التبعية الاقتصادية بل نلاحظ تم تعزيزها خاصة بعد السبعينات بعد صدور قوانين 1972 و1974 والسماح للأجانب للانتصاب في تونس والانفتاح الاقتصادي.

• هل أثرت قضية اغتيال صالح بن يوسف على مصداقية مسار الحصول على الاستقلال؟

-صالح بن يوسف هو ابن الحزب الحر الدستوري التونسي وأحد أبرز قياديه بعد الحبيب بورقيبة، ولا يختلفان كثيرا فلهما نفس الشخصية تقريبا، وأعتقد أن خلافهما كان طارئا أمنته ظروف إقليمية ودولية أولا الثورة المصرية ثم الجزائرية وخسارة الجيش الفرنسي في فيتنام ثم مؤتمر باندونغ سنة 1955، فكانت هناك روح قوية من أجل الانتصار على الاستعمار وصالح بن يوسف في ذلك الوقت اصطف مع روح التحرر ورفض قضية الاستقلال الداخلي التي كان ينادي بها أيضا قبل هذه التغيرات. ولذلك كانت معالجة المعارضة التي يُمثلها بطريقة عنيفة وغير ديمقراطية.

في الواقع التأثير لم يكن على مصداقية مسار الاستقلال الذي لعبت فيه ظروف أخرى بل أثر على مصداقية الدولة التونسية وتحديدا الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. لأن ذلك بين سلوك هذه الدولة وهذا الرئيس العنيف تجاه معارضيه وهو الذي يدعي أنه ديمقراطي وليبرالي ومتماهي مع الحضارة الغربية والفكر التنويري لنجده يمارس العكس بخلفية رجل الدولة ولكنه أساء لدولة الاستقلال.

• في فترة عمل هيئة الحقيقة والكرامة، أثيرت قضية التشكيك في وثيقة الاستقلال، ما مدى وجاهة هذا التشكيك؟

-أولا هيئة الحقيقة والكرامة بتركيبتها التي كانت عليها لا تملك الأهلية أن تصدر مثل هذا الرأي لأن من يصدره هم المؤرخون بعد الاطلاع على الوثيقة. فلم يكن ضمن هذه الهيئة مؤرخون حتى أنها لم تستدع على الأقل أهل الاختصاص.

والهيئة لم تتطرق فقط إلى وثيقة الاستقلال بل أرادت إعادة كتابة تاريخ تونس ككل، وهذا أيضا خطأ. فكان من المفروض دعوة مجموعة من المؤرخين الذين لديهم التجربة العلمية والمهنية والمصداقية لأن هناك مؤرخي السلطة حتى من بعض الأكاديميين، لتقوم لا بإعادة كتابة التاريخ وإنما رؤية ومقاربة جديدة لتاريخ تونس.

• هل تعني بكلامك أن كل ما كتب عن تاريخ تونس خاطئ؟

-لا، أقصد الكتابات عن تاريخ تونس فيها الغث وفيها السمين، فهناك وقائع تاريخية لا يمكن إنكارها لوجود وثائق، فالاختلاف يكمن في المقاربات أي في توظيف الوثيقة التاريخية لهدف معين. وهذا لا يقوم به المؤرخ العلمي النزيه وإنما المؤرخ المتأدلج أو يعمل لصالح سلطة ما.

وهنا عندما نتحدث عن رؤية جديدة لتاريخ تونس يعني ذلك مقاربة جديدة تعتمد على وثائق وتحليل علمي منطقي لا يُثير الشكوك لدى القارئ. ووثيقة الاستقلال التي تتحدث عنها قام الأرشيف الوطني بنشرها ونحن كمؤرخين نعرفها وقمنا بدراستها وحيثياتها وظروفها. وهي وثيقة موجودة.

بشكل عام وفي ما يهم مسألة الاستقلال لا لتونس فقط بل لكل الدول، لا يمكن أن يخرج الاستعمار دون أن يحقق مكاسب أخرى والمحافظة على مصالحه وهذا ما حدث في هذه الوثيقة وفي بلدان أخرى مثل الجزائر.

• هل هذا ما يُفسر أننا إلى اليوم نعيش بميكانيزم دولة الاستقلال ولم يكن هناك أي تطور؟

 -هناك نوع من الحنين إلى الماضي، وهذا ما يساعد على تكلس الفكر النقدي والحلم. بمعنى أن الفكر التونسي خاصة السياسي استمر في إعادة انتاج الأزمات بنفس الآليات. وهذا مرتبط بالجانب الاقتصادي وأيضا الثقافي أي التبعية.

المفروض أن يكون هذا الفكر نقديا ومبدعا وفعلا فكرا حالما، فكأن فترة بورقيبة هي الفترة الذهبية المطلقة يجب المحافظة عليها وكأننا لسنا في حاجة إلى التطوير.

وفي مرحلة بعد الثورة ومع وجود جماعات الإسلام السياسي هي التي دفعت الناس بالرجوع إلى الوراء وكأنه حدثت ردة. وعوضا أن نتقدم عدنا إلى الماضي وكأننا نريد إعادة انتاجه.

إذا أردنا أن نتقدم يجب أن نقوم بمراجعات نقدية عميقة للمرحلة البورقيبية بمراحلها الثلاث مرحلة أحمد بن صالح ومرحلة الهادي نويرة ومرحلة محمد مزالي وإن كانت فترة قصيرة ثم مرحلة زين العابدين بن علي حيث تم التركيز فقط على الاستبداد السياسي بالرغم من أن هناك استقرار اقتصادي خاصة في ما يهم التحالف الاستراتيجي الليبي التونسي، وبالتالي نحن مطالبون بمراجعة عميقة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي لتلك المراحل حتى نتمكن من تجاوز كل ذلك ولا نعيد إنتاجها تبعا للظرفية التي نعيشها داخليا وإقليميا ودوليا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews