إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الأسعار.. كيف ومتى تتحكم الدولة فيها؟

 

بقلم:د.ريم بالخذيري(*)

* فلسفة تحديد الأسعار خاصة في ما يهم المواد الاستهلاكية في تونس غريبة جدّا

لا حديث هذه الأيام في تونس سوى على مؤشّر الأسعار في السلع الاستهلاكية ويتزامن ذلك مع اقتراب حلول شهر رمضان الذي يتضاعف فيه الاستهلاك العائلي بقطع النظرعن القدرة الشرائية التي تشهد انحدارا كبيرا. ويعوّل التونسيون على الدولة للتحكّم في الأسعار دون أن يدركوا غالبا من يحدّد الأسعار ؟و كيف تحدّد ؟ وهل أجهزة الرقابة قادرة حقّا على التحكّم فيها؟

في الثقافة الاستهلاكية يعتبر نظريّا منتج السلعة هو المحدّد لسعرها وان كان ذلك جزئيا صحيحا فانّ المنتج ليس الوحيد الذي يتحكّم في السّعر انمّا هو حلقة ضمن حلقات تبدأ به وتنتهي بالمستهلك مرورا بالوسطاء أو المصنّعين .ووفق علم الاقتصاد يتحدّد سعر أي سلعة من خلال العرض والطلب عليها، أي من خلال كميتها المتوفرة والعلاقة مع مقدار الطلب عليها.

وفضلا عن العرض والطلب، هنالك عوامل أخرىتحدّد الأسعار مثل الاحتكار والمنافسة، حيث أن الاحتكار يرفعها والمنافسة تخفّضها.

في تونس توجد فلسفة تحديد الأسعار خاصة في المواد الاستهلاكية غريبة جدّا اذ أن الوسيط بين المنتج والمستهلك هو الذي يحدّد السعر ويتحكّم في السّوق وهامش الربح عنده أكبر بكثير من هامش ربح المتداخلين في عملية البيع (المنتج /الوسيط أو المصنّع/ تاجر الفصيل) وهذا ما أنتج أزمات متكررة في تزويد السوق بمواد مثل الحليب والبيض واللحوم والمنتجات الفلاحية الصناعية كالطماطم ومشتقاتها حيث يشتكي المنتجون دوما ممّا يعتبرونه ابتزاز الصناعيين والوسطاء الذي يشترون المنتوج بثمن زهيد ليبيعونه مع اضافة هامش ربح بفوق 300بالمائة في بعض الأحيان.فالحلقة الأولى(المنتج) على أهميتها هي الأضعف وهي من تتحمّل لوحدها الزيادات والخسائر والتي تعجز في كثير من الأحيان على فرضها على المصنّع أو الوسيط فهما بلهجتنا العامية "داخلين في الربح خارجين من الخسارة" وبالتالي يصبح المحدّد الأوّل والوحيد لأسعار الشراء وأسعار البيع .

أمّا الطرف الثاني الذي يحدّد الأسعار نظريا فهو الدولة متمثلة في وزارة التجارة المحمول عليها نظريّا الدفاع عن المستهلك وضمان تزويد السوق والتحكّم في الأسعار بما لا يضر بمصالح مختلف المتداخلين في عملية البيع.

والواقع أن هذه الوزارة فشلت على امتداد السنوات العشرالفارطة في السيطرة على الأسواق لأسباب ذاتية تتعلّق بقصور فهم لمختلف حلقات الانتاج والتصنيع والاستهلاك ما أنتج قرارات غير قابلة للتطبيق في بعض الأحيان أو قرارات مسقطة تتخذ دون استشارة أهل الاختصاص فيستحيل تطبيقها والعمل بها. وأخرى موضوعيّة تتعلّق بموجة الغلاء العالمية للمواد الغذائية والذي نتج عنه شحّ وفقدان عدد من المواد التي تورّدها الوزارة على غرار القهوة والسكر والأرز.

ويبقى سلاح المقاطعة الأنجع في التصدّي لغلاء الأسعار خاصة حينما تبلغ حدّا غير معقول وتفشل أجهزة دولة ما في التخفيض فيها كما يحدث مع اللحوم الحمراء التي فاقت الأربعين دينارا للكيلوغرام الواحد حيث دعت المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك التونسيين الى مقاطعتها معتبرة أنّ هامش الربح كبير جدّا ويضرّ بالقدرة الشرائية للمستهلكين .

التجارب السابقة أثبتت فشل سلاح المقاطعة في تونس عكس نجاحه في دول أخرى مثلما حدث في المغرب حينما أطلق المغاربة حملة"خليه يروب" في ردّ على ارتفاع أسعار الحليب ومشتقاته.وكذلك نجاح مقاطعة شراء السيارات في الجزائر عبر حملة"خلّيها تصديّ " وتبقى حملة المقاطعة الشهيرة التي يستشهد بها الاقتصاديون تلك التي مارسها الشعب الأرجنتيني للتصدي لغلاء البيض. حيث لم تنجح في اعادة الأسعار لما كانت عليه فحسب وانّما أدّت الى التخفيض في الأسعار.

وسبب عدم نجاح حملات المقاطعة في تونس يعود الى الأنانية الاستهلاكية التي تميز التونسي فهو يشتري ما يريده وبأي ثمن ويعتبر سلاح المقاطعة الفردية لا يمكن أن يؤدّي لأي نتيجة في ظل عدم التزام الاخرين به.

والواقع أنّ حملات المقاطعة هي ثقافة الاستهلاك والمطالبة بحقوق المستهلك، من خلال حس المسؤولية لدى كل مواطن الذي يقوم باستبدال أي سلعة يجد بأن سعرها قد ارتفع بدون مبرر، مع عدم الحاجة لوجود شخص أو جهة تدعو لضرورة المقاطعة، كما يحدث عند الأسواق من قيام البعض بنشر منشورات لمقاطعة منتج معين دون تفاعل أو اهتمام من قبل المستهلك الذي من المفترض أن يقاطع بشكل ذاتي لتكون النتيجة فعالة ومجدية.

والمحصّلة أن حملة المقاطعة لا تنجح بالدعوات الجماعية وانما ذاتيا وقد لاحظنا فعلا ابتعاد التونسي عن اللحوم الحمراء وهي بداية المقاطعة الحقيقية بعيدا عن الشعارات.

تدخّل الدولة في تحديد سقف الأسعار لا يشمل كلّ المنتوجات والسلع فذلك غير ممكن خاصة في الاقتصاديات المتحرّرة كليّا لكن دورها الرقابي ينحصر في مراقبة مؤشرات الأسعار في المواد الاستهلاكية الضرورية أو المواد المدعّمة. ولئن كان كانت عملية المراقبة سهلة وناجعة في المواد المسعّرة فانّ الأمر يبدو أكثر تعقيدا في بقيّة المنتجات حيث يتمّ عادة تحديد سقف الأسعار بالتشاور بين السلطة والجهات الرقابية والجهات المنتجة أو من يمثّلهم.

لكنّ عملية التسقيف لا يمكن أن تؤدّي النتائج المرجوّة منها وتقتضي تكثيفا للمراقبة الاقتصاديّة بالتوازي مع وعي المستهلك ومساهمته في عملية الرقابة . فهو المحدّد الأول للأسعار والمتحكّم الحقيقي في السوق وان كان يبدو الحلقة الأضعف والأكثر استهدافا بالاحتكار والمضاربة ولاستغلال.

*رئيسة المنتدى التونسي للاستشعار والتوقي من الجريمة الاقتصادية

 

 

 

 

 

الأسعار.. كيف ومتى تتحكم الدولة فيها؟

 

بقلم:د.ريم بالخذيري(*)

* فلسفة تحديد الأسعار خاصة في ما يهم المواد الاستهلاكية في تونس غريبة جدّا

لا حديث هذه الأيام في تونس سوى على مؤشّر الأسعار في السلع الاستهلاكية ويتزامن ذلك مع اقتراب حلول شهر رمضان الذي يتضاعف فيه الاستهلاك العائلي بقطع النظرعن القدرة الشرائية التي تشهد انحدارا كبيرا. ويعوّل التونسيون على الدولة للتحكّم في الأسعار دون أن يدركوا غالبا من يحدّد الأسعار ؟و كيف تحدّد ؟ وهل أجهزة الرقابة قادرة حقّا على التحكّم فيها؟

في الثقافة الاستهلاكية يعتبر نظريّا منتج السلعة هو المحدّد لسعرها وان كان ذلك جزئيا صحيحا فانّ المنتج ليس الوحيد الذي يتحكّم في السّعر انمّا هو حلقة ضمن حلقات تبدأ به وتنتهي بالمستهلك مرورا بالوسطاء أو المصنّعين .ووفق علم الاقتصاد يتحدّد سعر أي سلعة من خلال العرض والطلب عليها، أي من خلال كميتها المتوفرة والعلاقة مع مقدار الطلب عليها.

وفضلا عن العرض والطلب، هنالك عوامل أخرىتحدّد الأسعار مثل الاحتكار والمنافسة، حيث أن الاحتكار يرفعها والمنافسة تخفّضها.

في تونس توجد فلسفة تحديد الأسعار خاصة في المواد الاستهلاكية غريبة جدّا اذ أن الوسيط بين المنتج والمستهلك هو الذي يحدّد السعر ويتحكّم في السّوق وهامش الربح عنده أكبر بكثير من هامش ربح المتداخلين في عملية البيع (المنتج /الوسيط أو المصنّع/ تاجر الفصيل) وهذا ما أنتج أزمات متكررة في تزويد السوق بمواد مثل الحليب والبيض واللحوم والمنتجات الفلاحية الصناعية كالطماطم ومشتقاتها حيث يشتكي المنتجون دوما ممّا يعتبرونه ابتزاز الصناعيين والوسطاء الذي يشترون المنتوج بثمن زهيد ليبيعونه مع اضافة هامش ربح بفوق 300بالمائة في بعض الأحيان.فالحلقة الأولى(المنتج) على أهميتها هي الأضعف وهي من تتحمّل لوحدها الزيادات والخسائر والتي تعجز في كثير من الأحيان على فرضها على المصنّع أو الوسيط فهما بلهجتنا العامية "داخلين في الربح خارجين من الخسارة" وبالتالي يصبح المحدّد الأوّل والوحيد لأسعار الشراء وأسعار البيع .

أمّا الطرف الثاني الذي يحدّد الأسعار نظريا فهو الدولة متمثلة في وزارة التجارة المحمول عليها نظريّا الدفاع عن المستهلك وضمان تزويد السوق والتحكّم في الأسعار بما لا يضر بمصالح مختلف المتداخلين في عملية البيع.

والواقع أن هذه الوزارة فشلت على امتداد السنوات العشرالفارطة في السيطرة على الأسواق لأسباب ذاتية تتعلّق بقصور فهم لمختلف حلقات الانتاج والتصنيع والاستهلاك ما أنتج قرارات غير قابلة للتطبيق في بعض الأحيان أو قرارات مسقطة تتخذ دون استشارة أهل الاختصاص فيستحيل تطبيقها والعمل بها. وأخرى موضوعيّة تتعلّق بموجة الغلاء العالمية للمواد الغذائية والذي نتج عنه شحّ وفقدان عدد من المواد التي تورّدها الوزارة على غرار القهوة والسكر والأرز.

ويبقى سلاح المقاطعة الأنجع في التصدّي لغلاء الأسعار خاصة حينما تبلغ حدّا غير معقول وتفشل أجهزة دولة ما في التخفيض فيها كما يحدث مع اللحوم الحمراء التي فاقت الأربعين دينارا للكيلوغرام الواحد حيث دعت المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك التونسيين الى مقاطعتها معتبرة أنّ هامش الربح كبير جدّا ويضرّ بالقدرة الشرائية للمستهلكين .

التجارب السابقة أثبتت فشل سلاح المقاطعة في تونس عكس نجاحه في دول أخرى مثلما حدث في المغرب حينما أطلق المغاربة حملة"خليه يروب" في ردّ على ارتفاع أسعار الحليب ومشتقاته.وكذلك نجاح مقاطعة شراء السيارات في الجزائر عبر حملة"خلّيها تصديّ " وتبقى حملة المقاطعة الشهيرة التي يستشهد بها الاقتصاديون تلك التي مارسها الشعب الأرجنتيني للتصدي لغلاء البيض. حيث لم تنجح في اعادة الأسعار لما كانت عليه فحسب وانّما أدّت الى التخفيض في الأسعار.

وسبب عدم نجاح حملات المقاطعة في تونس يعود الى الأنانية الاستهلاكية التي تميز التونسي فهو يشتري ما يريده وبأي ثمن ويعتبر سلاح المقاطعة الفردية لا يمكن أن يؤدّي لأي نتيجة في ظل عدم التزام الاخرين به.

والواقع أنّ حملات المقاطعة هي ثقافة الاستهلاك والمطالبة بحقوق المستهلك، من خلال حس المسؤولية لدى كل مواطن الذي يقوم باستبدال أي سلعة يجد بأن سعرها قد ارتفع بدون مبرر، مع عدم الحاجة لوجود شخص أو جهة تدعو لضرورة المقاطعة، كما يحدث عند الأسواق من قيام البعض بنشر منشورات لمقاطعة منتج معين دون تفاعل أو اهتمام من قبل المستهلك الذي من المفترض أن يقاطع بشكل ذاتي لتكون النتيجة فعالة ومجدية.

والمحصّلة أن حملة المقاطعة لا تنجح بالدعوات الجماعية وانما ذاتيا وقد لاحظنا فعلا ابتعاد التونسي عن اللحوم الحمراء وهي بداية المقاطعة الحقيقية بعيدا عن الشعارات.

تدخّل الدولة في تحديد سقف الأسعار لا يشمل كلّ المنتوجات والسلع فذلك غير ممكن خاصة في الاقتصاديات المتحرّرة كليّا لكن دورها الرقابي ينحصر في مراقبة مؤشرات الأسعار في المواد الاستهلاكية الضرورية أو المواد المدعّمة. ولئن كان كانت عملية المراقبة سهلة وناجعة في المواد المسعّرة فانّ الأمر يبدو أكثر تعقيدا في بقيّة المنتجات حيث يتمّ عادة تحديد سقف الأسعار بالتشاور بين السلطة والجهات الرقابية والجهات المنتجة أو من يمثّلهم.

لكنّ عملية التسقيف لا يمكن أن تؤدّي النتائج المرجوّة منها وتقتضي تكثيفا للمراقبة الاقتصاديّة بالتوازي مع وعي المستهلك ومساهمته في عملية الرقابة . فهو المحدّد الأول للأسعار والمتحكّم الحقيقي في السوق وان كان يبدو الحلقة الأضعف والأكثر استهدافا بالاحتكار والمضاربة ولاستغلال.

*رئيسة المنتدى التونسي للاستشعار والتوقي من الجريمة الاقتصادية

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews