إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الحريات في تونس: معالم كثيرة وحصيلة " هزيلة"

 

بقلم:هشام الحاجي

*يبدو واضحا أن العجز عن المراكمة وتحقيق النقلات النوعية هو من أكبر نقاط ضعف المجتمعات العربية وايضا المجتمع التونسي

يمكن القول أن الجدل حول الحريات العامة والفردية يمثل سمة من سمات المجتمع التونسي التي يكاد " يتفرد " بها في محيطه العربي خصوصا . ولا يعود هذا " التفرد" إلى" تميز انطولوجي " مقارنة ببقية المجتمعات العربية بل أن المجتمع التونسي هو أكثر المجتمعات العربية تجانسا إذ لا وجود، داخله، لأسس تقسيم تأخذ الديانة أو الطائفة بعين الاعتبار. هذا "التماسك" يوفر هامشا إضافيا للتطرق لمسألة الحريات لأنه يسحب من دعاة التفسير التامري ورقة مهمة من الأوراق التي يستعملونها وهي ورقة استعمال الحريات لتحويل الاختلاف الديني والطائفي إلى عامل توتر وأداة مغالبة و محاولة فرض "هيمنة " من طائفة بعينها على بقية الطوائف والأديان. وحين نضيف إلى ذلك العامل التاريخي والجغرافي يمكن أن نفهم أيضا بعض أسباب " تجذر" مسألة الحريات العامة والفردية في المجتمع التونسي. أنتجت تونس دستور قرطاج الذي أشاد به أرسطو لأنه يتبنى تقسيما للسلط يوفر مجال تحرك أكبر للفرد ويمنع تعسف الدولة ومحاولات الهيمنة ويوفر مجالا لظهور مفهوم المواطنة. وسبقت تونس، منذ أكثر من مائة وخمسة وسبعين عاما، عددا كبيرا من الدول، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، في إلغاء العبودية والرق. وشهدت تونس سنة 1977 ميلاد أول جمعية تعنى بحقوق الانسان في الوطن العربي وهي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وحين نضيف إلى ذلك ما تتمتع به المرأة في تونس من وضعية فيها من الحقوق ما لا يتوفر لغيرها في المجالين العربي والإسلامي وأيضا تطور التشريعات الخاصة بالطفل والطفولة يمكن أن ندرك، دون كبير عناء، أن الأرضية متوفرة لأن يكون هناك مجال لممارسة الحريات العامة والفردية. يتأكد ذلك حين نشير إلى عراقة التجربة الحزبية والجمعياتية في تونس وهي تجربة تراكم مسارا عمره يفوق القرن من الزمن.

هذا الجانب "المحفّز" يقابله جانب آخر وفيه "العوائق" التي تحد من مجال التمتع بالحريات الفردية والعامة وممارستها ويرتبط أساسا بالنزعة "الأبوية" للدولة وللمجتمع خاصة قبل 14 جانفي 2011. هذا النزوع الأبوي المرتبط بالدولة الراعية جعل دولة الاستقلال "تصبين" الفرد حسب العبارة الرشيقة لعالم الإجتماع التونسي عبد القادر الزغل و تعامله كقاصر يتعين " الأخذ بيده " و"ارشاده" و "اقحامه" بالتدرج في عالم الحريات والحقوق الشاسع والذي لا تحده ضفاف. وقد تناغمت، لفترة طويلة ، أبوية الدولة مع أبوية المجتمع وهو ما سمح بالحد من أولوية ملف الحريات العامة والفردية وحصر المسألة في مستوى النخب. ومما ساعد على ذلك تنامي تأثير الإسلام السياسي الذي لا يعتبر مسألة الحريات العامة والفردية من الأولويات بل يعتبر أغلب المنتسبين لهذا التيار أن الحريات العامة والفردية هي "معول" يستعمله الغرب لضرب الهوية الإسلامية ولإحداث شروخ في التماسك المجتمعي. ذلك أن هذا التيار لم يتخلص بعد من هيمنة فكر الجبر و القدرية على الحرية والاختيار ومن أولوية الجماعة على الفرد. ولا شك أن إعلاء قيمة الطاعة يزيد في تعميق الفجوة بين الإسلام السياسي وفلسفة الحريات العامة والفردية. وهنا تفرض النزاهة الإشارة إلى أن هذه الفجوة يعاني منها أيضا أتباع الماركسية الدوغمائية في المستوى النظري وأغلب "المشتغلين" بملف الحريات العامة والفردية والحقوق السياسية في المجتمع التونسي. لقد وقع إخضاع الأمر لحسابات سياسوية افقدته قدرته على التأثير. ويكفي أن نتوقف هنا، ولو بعجالة، عند شاهد مهم وهو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. لقد خضعت الرابطة في سنواتها الأولى إلى منطق المحاصصة السياسية والحزبية في توزيع المهام وهو ما أثر إلى حد كبير على ادائها. ومما زاد من التأثير السلبي واقع التضييق على نشاطها الذي فرضته عليها الدولة منذ تأسيسها إلى جانفي 2011 . ولكن المفارقة أن مناخ المزيد من الحريات الذي ساد بعد جانفي 2011 لم ينعكس إيجابيا على أداء الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي تقلص إشعاعها إلى أبعد الحدود والتي انتقلت من منطق المحاصصة السياسية والحزبية إلى منطق أكثر سوءا وهو منطق هيمنة حساسية سياسية و إيديولوجية على مقاليدها .

يبدو واضحا أن العجز عن المراكمة وتحقيق النقلات النوعية هو من أكبر نقاط ضعف المجتمعات العربية وايضا المجتمع التونسي . ويتجلى ذلك في عدة مجالات ومن بينها ما يتصل بالحريات الفردية والعامة. لم يقع لحد الآن الحسم في قضايا وإشكاليات وقع الخوض فيها منذ عقود وتكاد تصبح في مستوى المعيش من البديهيات. وحين نتأمل ما يجري في تونس حاليا نتأكد من صعوبة إحداث القطيعة المعرفية ومن أن مجتمعاتنا لا تسير وفق طريق خطي بل لا تخلو مسيرتها من تعرجات ومن تمش " حلزوني " فيها الكثير من البطء و المراوحة في نفس المكان. يتأكد ذلك حين نقارن بين مواقف الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وقيس سعيد من الحريات العامة والفردية. ما يجمع بين الثلاثة أن الحريات العامة والفردية ليست من أولويات تفكيرهم وعملهم .ولكن بورقيبة وبن علي كانا يتعاملان مع الأمر بمنطق " القطرة- قطرة" وما يقوم عليه من التدرج في توسيع مجال التمتع بالحريات الفردية والعامة أخذا بعين الاعتبار لعوامل أخرى ترتبط بتحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي.قيس سعيد يبدو، في أفضل الحالات، متجاهلا للحريات العامة والفردية وهو أكثر ميلا لاحتكار السلطات وتجميعها حول شخصه من الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

هذه المقارنة يمكن أن تفتح الباب أمام تساؤلات ترتبط بما يمكن توقعه حول مستقبل ممارسة الحريات العامة و الفردية في تونس وهي تساؤلات لا تخلو من أهمية خاصة حين ننزلها في سياق سياسي سمته الأساسية نزوع من يمسك السلطة لاحتكارها ورفضه لكل أشكال الاختلاف في الرأي والمقاربة مع ما يعنيه ذلك من ضغط على فضاءات ومجالات ممارسة الحريات العامة والفردية من خلال تحويلها إلى حقوق يمنع المساس بها. يصعب أن يكون التوقع موضوعيا بشكل كامل لأن الحديث عن الحريات يمنح دائما مجالا لتفاؤل الإرادة حتى يواجه تشاؤم العقل. تشاؤم العقل يفرض الإشارة إلى عوائق حقيقية تواجه تحول الإيمان بالحريات الفردية والعامة إلى ما يشبه الفلسفة التي تحرك قطاعات واسعة من الناشطين في المجتمع.هناك عملية إخضاع الأمر للاعتبارات و الحسابات السياسوية ولم يقع الحسم مع هذا الاخضاع بل هناك تعميق له .يبدو أن سلطوية الفكر السياسي العربي هي من أهم أسباب هذا الاخضاع لأنها تحول دون التوجه إلى تغيير المجتمع وتهتم أساسا بآليات حكمه و السيطرة عليه. هناك هيمنة الانفعالات والمشاعرعلى المشهد السياسي التونسي في ظل حالة الغليان وعدم الاستقرار التي يعيشها الحقل السياسي منذ سنوات . هيمنة الانفعالات والمشاعر تقلص من دور العقل، بل تكاد تلغيه، وهو ما يفتح الباب أمام الغرائز وردود الفعل النمطية والشعارات الجاهزة التي غالبا ما تستهدف الحريات العامة و الفردية. ويضاف إلى ذلك تراجع دور المدرسة في التأطير والتربية على القيم إلى جانب تدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وهذا ما يفتح المجال واسعا أمام منطق القطيع الذي يتلذذ باستهداف الحقوق والحريات الأساسية.

 

 

 

 

 

 

 الحريات في تونس: معالم كثيرة وحصيلة " هزيلة"

 

بقلم:هشام الحاجي

*يبدو واضحا أن العجز عن المراكمة وتحقيق النقلات النوعية هو من أكبر نقاط ضعف المجتمعات العربية وايضا المجتمع التونسي

يمكن القول أن الجدل حول الحريات العامة والفردية يمثل سمة من سمات المجتمع التونسي التي يكاد " يتفرد " بها في محيطه العربي خصوصا . ولا يعود هذا " التفرد" إلى" تميز انطولوجي " مقارنة ببقية المجتمعات العربية بل أن المجتمع التونسي هو أكثر المجتمعات العربية تجانسا إذ لا وجود، داخله، لأسس تقسيم تأخذ الديانة أو الطائفة بعين الاعتبار. هذا "التماسك" يوفر هامشا إضافيا للتطرق لمسألة الحريات لأنه يسحب من دعاة التفسير التامري ورقة مهمة من الأوراق التي يستعملونها وهي ورقة استعمال الحريات لتحويل الاختلاف الديني والطائفي إلى عامل توتر وأداة مغالبة و محاولة فرض "هيمنة " من طائفة بعينها على بقية الطوائف والأديان. وحين نضيف إلى ذلك العامل التاريخي والجغرافي يمكن أن نفهم أيضا بعض أسباب " تجذر" مسألة الحريات العامة والفردية في المجتمع التونسي. أنتجت تونس دستور قرطاج الذي أشاد به أرسطو لأنه يتبنى تقسيما للسلط يوفر مجال تحرك أكبر للفرد ويمنع تعسف الدولة ومحاولات الهيمنة ويوفر مجالا لظهور مفهوم المواطنة. وسبقت تونس، منذ أكثر من مائة وخمسة وسبعين عاما، عددا كبيرا من الدول، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، في إلغاء العبودية والرق. وشهدت تونس سنة 1977 ميلاد أول جمعية تعنى بحقوق الانسان في الوطن العربي وهي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وحين نضيف إلى ذلك ما تتمتع به المرأة في تونس من وضعية فيها من الحقوق ما لا يتوفر لغيرها في المجالين العربي والإسلامي وأيضا تطور التشريعات الخاصة بالطفل والطفولة يمكن أن ندرك، دون كبير عناء، أن الأرضية متوفرة لأن يكون هناك مجال لممارسة الحريات العامة والفردية. يتأكد ذلك حين نشير إلى عراقة التجربة الحزبية والجمعياتية في تونس وهي تجربة تراكم مسارا عمره يفوق القرن من الزمن.

هذا الجانب "المحفّز" يقابله جانب آخر وفيه "العوائق" التي تحد من مجال التمتع بالحريات الفردية والعامة وممارستها ويرتبط أساسا بالنزعة "الأبوية" للدولة وللمجتمع خاصة قبل 14 جانفي 2011. هذا النزوع الأبوي المرتبط بالدولة الراعية جعل دولة الاستقلال "تصبين" الفرد حسب العبارة الرشيقة لعالم الإجتماع التونسي عبد القادر الزغل و تعامله كقاصر يتعين " الأخذ بيده " و"ارشاده" و "اقحامه" بالتدرج في عالم الحريات والحقوق الشاسع والذي لا تحده ضفاف. وقد تناغمت، لفترة طويلة ، أبوية الدولة مع أبوية المجتمع وهو ما سمح بالحد من أولوية ملف الحريات العامة والفردية وحصر المسألة في مستوى النخب. ومما ساعد على ذلك تنامي تأثير الإسلام السياسي الذي لا يعتبر مسألة الحريات العامة والفردية من الأولويات بل يعتبر أغلب المنتسبين لهذا التيار أن الحريات العامة والفردية هي "معول" يستعمله الغرب لضرب الهوية الإسلامية ولإحداث شروخ في التماسك المجتمعي. ذلك أن هذا التيار لم يتخلص بعد من هيمنة فكر الجبر و القدرية على الحرية والاختيار ومن أولوية الجماعة على الفرد. ولا شك أن إعلاء قيمة الطاعة يزيد في تعميق الفجوة بين الإسلام السياسي وفلسفة الحريات العامة والفردية. وهنا تفرض النزاهة الإشارة إلى أن هذه الفجوة يعاني منها أيضا أتباع الماركسية الدوغمائية في المستوى النظري وأغلب "المشتغلين" بملف الحريات العامة والفردية والحقوق السياسية في المجتمع التونسي. لقد وقع إخضاع الأمر لحسابات سياسوية افقدته قدرته على التأثير. ويكفي أن نتوقف هنا، ولو بعجالة، عند شاهد مهم وهو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. لقد خضعت الرابطة في سنواتها الأولى إلى منطق المحاصصة السياسية والحزبية في توزيع المهام وهو ما أثر إلى حد كبير على ادائها. ومما زاد من التأثير السلبي واقع التضييق على نشاطها الذي فرضته عليها الدولة منذ تأسيسها إلى جانفي 2011 . ولكن المفارقة أن مناخ المزيد من الحريات الذي ساد بعد جانفي 2011 لم ينعكس إيجابيا على أداء الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي تقلص إشعاعها إلى أبعد الحدود والتي انتقلت من منطق المحاصصة السياسية والحزبية إلى منطق أكثر سوءا وهو منطق هيمنة حساسية سياسية و إيديولوجية على مقاليدها .

يبدو واضحا أن العجز عن المراكمة وتحقيق النقلات النوعية هو من أكبر نقاط ضعف المجتمعات العربية وايضا المجتمع التونسي . ويتجلى ذلك في عدة مجالات ومن بينها ما يتصل بالحريات الفردية والعامة. لم يقع لحد الآن الحسم في قضايا وإشكاليات وقع الخوض فيها منذ عقود وتكاد تصبح في مستوى المعيش من البديهيات. وحين نتأمل ما يجري في تونس حاليا نتأكد من صعوبة إحداث القطيعة المعرفية ومن أن مجتمعاتنا لا تسير وفق طريق خطي بل لا تخلو مسيرتها من تعرجات ومن تمش " حلزوني " فيها الكثير من البطء و المراوحة في نفس المكان. يتأكد ذلك حين نقارن بين مواقف الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وقيس سعيد من الحريات العامة والفردية. ما يجمع بين الثلاثة أن الحريات العامة والفردية ليست من أولويات تفكيرهم وعملهم .ولكن بورقيبة وبن علي كانا يتعاملان مع الأمر بمنطق " القطرة- قطرة" وما يقوم عليه من التدرج في توسيع مجال التمتع بالحريات الفردية والعامة أخذا بعين الاعتبار لعوامل أخرى ترتبط بتحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي.قيس سعيد يبدو، في أفضل الحالات، متجاهلا للحريات العامة والفردية وهو أكثر ميلا لاحتكار السلطات وتجميعها حول شخصه من الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

هذه المقارنة يمكن أن تفتح الباب أمام تساؤلات ترتبط بما يمكن توقعه حول مستقبل ممارسة الحريات العامة و الفردية في تونس وهي تساؤلات لا تخلو من أهمية خاصة حين ننزلها في سياق سياسي سمته الأساسية نزوع من يمسك السلطة لاحتكارها ورفضه لكل أشكال الاختلاف في الرأي والمقاربة مع ما يعنيه ذلك من ضغط على فضاءات ومجالات ممارسة الحريات العامة والفردية من خلال تحويلها إلى حقوق يمنع المساس بها. يصعب أن يكون التوقع موضوعيا بشكل كامل لأن الحديث عن الحريات يمنح دائما مجالا لتفاؤل الإرادة حتى يواجه تشاؤم العقل. تشاؤم العقل يفرض الإشارة إلى عوائق حقيقية تواجه تحول الإيمان بالحريات الفردية والعامة إلى ما يشبه الفلسفة التي تحرك قطاعات واسعة من الناشطين في المجتمع.هناك عملية إخضاع الأمر للاعتبارات و الحسابات السياسوية ولم يقع الحسم مع هذا الاخضاع بل هناك تعميق له .يبدو أن سلطوية الفكر السياسي العربي هي من أهم أسباب هذا الاخضاع لأنها تحول دون التوجه إلى تغيير المجتمع وتهتم أساسا بآليات حكمه و السيطرة عليه. هناك هيمنة الانفعالات والمشاعرعلى المشهد السياسي التونسي في ظل حالة الغليان وعدم الاستقرار التي يعيشها الحقل السياسي منذ سنوات . هيمنة الانفعالات والمشاعر تقلص من دور العقل، بل تكاد تلغيه، وهو ما يفتح الباب أمام الغرائز وردود الفعل النمطية والشعارات الجاهزة التي غالبا ما تستهدف الحريات العامة و الفردية. ويضاف إلى ذلك تراجع دور المدرسة في التأطير والتربية على القيم إلى جانب تدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وهذا ما يفتح المجال واسعا أمام منطق القطيع الذي يتلذذ باستهداف الحقوق والحريات الأساسية.