إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

صباح الجمعة.. الأحمق والشعبوي والمستقيل وإنتاج المعنى

يكتبها: محمد معمري

 

كنت أتناقش مع صديق لي حول ما كتبت الأسبوع الماضي في هذا الركن، وقد عبّر عن إعجابه مشكورا بما دوّنت لكنّه أبدى بعض الملاحظات تتعلق الأولى بأنني كتبت "صور" بالصاد عوضا عن السين وهو محق في ملاحظته وأعتذر عن الخطإ الذي لم أنتبه إليه، والثانية تتعلق بأصولي الريفية فقد استغرب من الأمر خاصة وهو يعرفني لا أفقه شيئا في المسائل الفلاحية وكل ما يتعلق بحياة الريف باعتباري للأسف لم احظ بشرف إثراء تجربتي بحياة الريف الهادئة والجميلة، واستفزاز له سألته هل ما تزال ملحدا مثلما كنت تعلن في كل المناسبات، فأجاب بالإيجاب، فشاكسته وقلت له هذا غير صحيح لعل السنين غيرت من قناعاتك، فأصرّ على أنه ملحد وللتدليل على ذلك قال لي بحماس والله العظيم أنا ملحد، وهذا في الحقيقة ما كنت أريده وأدفعه إلى القسم.

قلت له راسما ابتسامة كيف لملحد مثلك أن يتفوه بما قلت؟، أليس في ذلك تناقضا، فكان جوابه مقنعا إلى حدّ ما، حين بادر بالقول، إنه صحيح ملحد لكنه ملحد بثقافة إسلامية. فالتونسيون وفقا لتصنيفه في مجال التدين ثلاثة أصناف، الصنف الأول مسلم متدين يقوم بواجباته الدينية من صلاة وصيام وزكاة وغيرها من العبادات، والثاني مسلم يعتقد في الدين الإسلامي لكنّه لا يقوم بواجباته الدينية إلا في جزء منها أولا يقوم بها كلّها رغم إيمانه العميق، وهذه مسألة اختلف الفقهاء في تصنيفها وليس هنا مجال للحديث عنها، والثالث غير المؤمن أو ملحد لكن ثقافته إسلامية، فقد عاش وتربى في وسط إسلامي لذا تجد نظرته تحكمها في بعض جوانبها المرجعية الدينية ومع ذلك لا يؤمن بالأديان كلّها. لكن بحكم التنشئة تجد ردود أفعاله التلقائية فيها مسحة دينية من قبيل القسم بالذات الإلهية.

ابتسمت لإجابته، فتساءل عن سبب الابتسامة، فقلت له ألا ترى أن الجواب عن اعتراضك حول تنشئتي الريفية يتطابق مع جوابك حول الدين، ضحكنا عن هذا النقاش العقيم أو العميق وافترقنا.

لكن بقي في نفسي بعض الحديث عن الدين وواقعنا فأردت مشاركتكم إياه، وسأنطلق من مصادرتين:

الأولى فيزيائية تقول أن الطبيعة تأبى الفراغ.

الثانية من العلوم الإنسانية تقول أن الإنسان في حاجة إلى المعنى مثل حاجته للأكل والشرب وو...

المخزن الأساسي لإنتاج المعنى هو الدين بمعناه الاطلاقي فهو من يقدم للإنسان إجابات تقيه لظى الحيرة حينا وتمنحه برد اليقين في أغلب الأحيان، وهنا سأذكر ما قاله لي شاب متدين جدا عاطل عن العمل منذ سنوات، قال لي "أنا لم أفز بالدنيا فلعلني بما أفعل أفوز بالآخرة"، وهي جملة مكتنزة بالمعاني لعلّ أهمها تأجيل الفتى الشاب أحلامه لزمن قادم، لكن طريقة العبور إلى الزمن القادم (الآخرة) هو الخطير. ومن هنا تولى بعض رجال الدين (مسلمين - مسيحيين – يهود) تجسير مرحلة العبور من هنا والآن إلى هناك وفى زمن قادم من خلال إنتاج شحن هذا الجسر بمعان تختلف باختلاف السياقات، فالبعض جعلها بالترغيب والبعض جعلها بالترهيب وآخرون أرادوها مرورا سلميا وآخرون نادوا بالمرور العنيف من خلال إقامة الشريعة. في مقابل ذلك أتساءل في هذا المقام ماذا انتح الآخرون وأقصد بالآخرين في الحالة التونسية السياسيون والنخبة المثقفة، لقد أنتجوا حالة من اليأس والبؤس والاستقالة. فالسياسيون يتناحرون من أجل غنائم سياسية وفشلوا في تسويق رأسمالهم الرمزي وهو الحلم بالغد الأفضل. النخبة المثقفة منسحبة في أغلبها وتحاول لعب دور الضحية فهي مقموعة في زمن بن علي ولا يعتدّ بها في زمن الهرج السياسي لذلك اختار جلّ أعضائها الاستقالة ولأن الطبيعة تأبى الفراغ تركوا مكانهم لغيرهم ولأن الإنسان يحتاج إلى المعنى فقد حضر منتجو المعنى من حمقى وشعبويين يمينا ويسارا ومن جالسين على ربوة المعرفة دون فعل يذكر.

أعزائي أنتجوا المعنى وتولوا مسؤولياتكم حتى لا ينتج الآخرون الفوضى التي ستطالنا آجلا أو عاجلا .

  

صباح الجمعة.. الأحمق والشعبوي والمستقيل وإنتاج المعنى

يكتبها: محمد معمري

 

كنت أتناقش مع صديق لي حول ما كتبت الأسبوع الماضي في هذا الركن، وقد عبّر عن إعجابه مشكورا بما دوّنت لكنّه أبدى بعض الملاحظات تتعلق الأولى بأنني كتبت "صور" بالصاد عوضا عن السين وهو محق في ملاحظته وأعتذر عن الخطإ الذي لم أنتبه إليه، والثانية تتعلق بأصولي الريفية فقد استغرب من الأمر خاصة وهو يعرفني لا أفقه شيئا في المسائل الفلاحية وكل ما يتعلق بحياة الريف باعتباري للأسف لم احظ بشرف إثراء تجربتي بحياة الريف الهادئة والجميلة، واستفزاز له سألته هل ما تزال ملحدا مثلما كنت تعلن في كل المناسبات، فأجاب بالإيجاب، فشاكسته وقلت له هذا غير صحيح لعل السنين غيرت من قناعاتك، فأصرّ على أنه ملحد وللتدليل على ذلك قال لي بحماس والله العظيم أنا ملحد، وهذا في الحقيقة ما كنت أريده وأدفعه إلى القسم.

قلت له راسما ابتسامة كيف لملحد مثلك أن يتفوه بما قلت؟، أليس في ذلك تناقضا، فكان جوابه مقنعا إلى حدّ ما، حين بادر بالقول، إنه صحيح ملحد لكنه ملحد بثقافة إسلامية. فالتونسيون وفقا لتصنيفه في مجال التدين ثلاثة أصناف، الصنف الأول مسلم متدين يقوم بواجباته الدينية من صلاة وصيام وزكاة وغيرها من العبادات، والثاني مسلم يعتقد في الدين الإسلامي لكنّه لا يقوم بواجباته الدينية إلا في جزء منها أولا يقوم بها كلّها رغم إيمانه العميق، وهذه مسألة اختلف الفقهاء في تصنيفها وليس هنا مجال للحديث عنها، والثالث غير المؤمن أو ملحد لكن ثقافته إسلامية، فقد عاش وتربى في وسط إسلامي لذا تجد نظرته تحكمها في بعض جوانبها المرجعية الدينية ومع ذلك لا يؤمن بالأديان كلّها. لكن بحكم التنشئة تجد ردود أفعاله التلقائية فيها مسحة دينية من قبيل القسم بالذات الإلهية.

ابتسمت لإجابته، فتساءل عن سبب الابتسامة، فقلت له ألا ترى أن الجواب عن اعتراضك حول تنشئتي الريفية يتطابق مع جوابك حول الدين، ضحكنا عن هذا النقاش العقيم أو العميق وافترقنا.

لكن بقي في نفسي بعض الحديث عن الدين وواقعنا فأردت مشاركتكم إياه، وسأنطلق من مصادرتين:

الأولى فيزيائية تقول أن الطبيعة تأبى الفراغ.

الثانية من العلوم الإنسانية تقول أن الإنسان في حاجة إلى المعنى مثل حاجته للأكل والشرب وو...

المخزن الأساسي لإنتاج المعنى هو الدين بمعناه الاطلاقي فهو من يقدم للإنسان إجابات تقيه لظى الحيرة حينا وتمنحه برد اليقين في أغلب الأحيان، وهنا سأذكر ما قاله لي شاب متدين جدا عاطل عن العمل منذ سنوات، قال لي "أنا لم أفز بالدنيا فلعلني بما أفعل أفوز بالآخرة"، وهي جملة مكتنزة بالمعاني لعلّ أهمها تأجيل الفتى الشاب أحلامه لزمن قادم، لكن طريقة العبور إلى الزمن القادم (الآخرة) هو الخطير. ومن هنا تولى بعض رجال الدين (مسلمين - مسيحيين – يهود) تجسير مرحلة العبور من هنا والآن إلى هناك وفى زمن قادم من خلال إنتاج شحن هذا الجسر بمعان تختلف باختلاف السياقات، فالبعض جعلها بالترغيب والبعض جعلها بالترهيب وآخرون أرادوها مرورا سلميا وآخرون نادوا بالمرور العنيف من خلال إقامة الشريعة. في مقابل ذلك أتساءل في هذا المقام ماذا انتح الآخرون وأقصد بالآخرين في الحالة التونسية السياسيون والنخبة المثقفة، لقد أنتجوا حالة من اليأس والبؤس والاستقالة. فالسياسيون يتناحرون من أجل غنائم سياسية وفشلوا في تسويق رأسمالهم الرمزي وهو الحلم بالغد الأفضل. النخبة المثقفة منسحبة في أغلبها وتحاول لعب دور الضحية فهي مقموعة في زمن بن علي ولا يعتدّ بها في زمن الهرج السياسي لذلك اختار جلّ أعضائها الاستقالة ولأن الطبيعة تأبى الفراغ تركوا مكانهم لغيرهم ولأن الإنسان يحتاج إلى المعنى فقد حضر منتجو المعنى من حمقى وشعبويين يمينا ويسارا ومن جالسين على ربوة المعرفة دون فعل يذكر.

أعزائي أنتجوا المعنى وتولوا مسؤولياتكم حتى لا ينتج الآخرون الفوضى التي ستطالنا آجلا أو عاجلا .