*هيئة الانتخابات لا هي مختصّة قانونيا ولا هي مؤهّلة واقعيا لمراقبة احترام سقف الإنفاق الانتخابي
طاب الزّمان لهيئة الانتخابات الّتي عيّن رئيس الجمهورية رئيسها وأعضاءها بمقتضى أمر 9 ماي 2022، فأضحت تتغنّى بتمتّعها بولاية عامّة لمراقبة سير العملية الانتخابية، تسمح لها مثلا، حسب اعتقادها، بتجاهل اختصاص هيئة الاتّصال السّمعي والبصري. بل أكثر من ذلك وصل بها الأمر إلى أن تنتصب كقاض ماليّ لتراقب مدى احترام المترشّحين للسّقف المحدّد للإنفاق الانتخابي. لكن المحكمة الإدارية كانت بالمرصاد لإرجاع الأمور إلى نصابها في حكم بلغ فيه التّعليل درجة الإفحام، بيّنت فيه أنّ الهيئة خاضت في مسألة خارجة عن مشمولاتها، باعتبار أنّ المشرّع أوكلها لمحكمة المحاسبات.
كان ذلك في حكم مهدي الصّادر عن الدّائرة الاستئنافية الثّالثة بالمحكمة الإدارية بتاريخ 9 فيفري 2023 والمتعلّق بنتائج الانتخابات التّشريعية في دائرة ساقية الدّائر. وهو حكم ابتدائي وإن صدر عن دائرة استئنافية، فقد ارتأى المشرّع إقرار اختصاص الدّوائر الاستئنافية بالمحكمة الإدارية للنّظر ابتدائيا في نزاع نتائج الانتخابات التّشريعية.
مرّ المترشّح مهدي إلى الدّور الثّاني من الانتخابات التّشريعية في الدّائرة المعنية وتحصّل على أكبر عدد من الأصوات. لكن هيئة الانتخابات ألغت الأصوات الّتي تحصّل عليها بحجّة تجاوزه لسقف الإنفاق الانتخابي المضبوط، في خصوص الانتخابات التّشريعية لسنة 2022، بمقتضى أمر 16 نوفمبر 2022 والبالغ، بالنّسبة لدائرة ساقية الدّائر، حوالي 30 ألف دينار. ادّعت الهيئة أنّ المعني بالأمر تجاوز ذلك المبلغ بكثير، إذ أنفق حوالي 81 ألف دينار، بينما تمسّك المترشّح بأنّه لم يُنفق سوى حوالي 9 آلاف دينار.
رأت المحكمة عن صواب أنّ الأمر يتطلّب أوّلا الإجابة عن السّؤال التّالي : هل يحقّ لهيئة الانتخابات البتّ في مسألة تجاوز سقف الإنفاق وإلغاء فوز المدّعي على ذلك الأساس ؟ كانت إجابتها بالنّفي، الشّيء الّذي أغناها عن التّثبّت في المقادير الّتي قدّمها الطّرفان وأدّى إلى إلغاء قرار الهيئة والقضاء بفوز المدّعي بالمقعد المتنافس عليه. وللوصول إلى هذا الحلّ، خاضت الدّائرة الاستئنافية في كنه النّصّين الأهمّ المحتجّين بهما في إطار هذا النّزاع وهما، من جهة الفصل 143 من قانون الانتخابات والاستفتاء، ومن جهة أخرى الفصل 98 من نفس القانون.
ينصّ الفصل 143 من القانون الانتخابي بعد تنقيحه في 14 فيفري 2017 على ما يلي : " تتثبّتالهيئةمناحترامالفائزينلأحكامالفترةالانتخابيةوتمويلها.ويجبأن تقرّر إلغاءنتائجالفائزينبصفةكلّيةأوجزئيةإذاتبيّن لهاأنمخالفتهملهذهالأحكامأثّرتعلىنتائجالانتخاباتبصفةجوهريةوحاسمةوتكونقراراتهامعلّلة. " ولقد ادّعت الهيئة أنّها تمكّنت بواسطة أعوانها من احتساب ما أنفقه المدّعي على حملته في الدّور الثّاني وتبيّن لها أنّه تجاوز السّقف المسموح به بأكثر من 60%، معتبرة أنّ هذا التّجاوز أثّر على النّتائج بصفة جوهرية وحاسمة. وتبعا لذلك ألغت الأصوات الّتي تحصّل عليها المدّعي وصرّحت بفوز المترشّحة الّتي جاءت في المرتبة الثّانية.
أمّا الفصل 98 من نفس القانون، فأصبح ينصّ بعد تنقيح 15 سبتمبر 2022 على ما يلي :
انطلاقا من هذين النّصّين ومن غيرهما من النّصوص، نتبيّن أنّ مسألة مراقبة تمويل الحملة الانتخابية تمثّل ميدان اختصاص مشترك بين هيئة الانتخابات ومحكمة المحاسبات. فكانت المحكمة الإدارية مدعوّة إذن إلى أن ترسم حدود تدخّل كلّ طرف في هذا الميدان المشترك. قامت بذلك في حيثية واضحة جاء فيها : " وحيث...أنّ تمتيع الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بسلطات رقابية على قواعد تمويل الحملة الانتخابية الّذي غايته إرساء رقابة إدارية قبلية على المال الانتخابي للتّثبّت من مدى سلامته لا يعفيها من الالتزام بالضّوابط المنصوص عليها بالقانون الانتخابي الّذي أسند اختصاصا رقابيا وعقابيا للقضاء المالي بخصوص مراقبة المصاريف والنّفقات الانتخابية ومدى تقيّدها بسقف الإنفاق المحدّد، ويمكن للهيئة مدّ محكمة المحاسبات بكلّ الوثائق المثبتة لوجود شبهة تجاوز سقف الإنفاق للتّثبّت وتوقيع العقوبة الملائمة عند الاقتضاء. "
وهو ما يعني أنّ هيئة الانتخابات لا هي مختصّة قانونيا ولا هي مؤهّلة واقعيا لمراقبة احترام سقف الإنفاق الانتخابي. فمن حيث الاختصاص، نحن هنا أمام ثنائية النّصّ العامّ والنّصّ الخاصّ. يمثّل الفصل 143 من القانون الانتخابي نصّا عامّا يتعلّق بمراقبة الهيئة للحملة الانتخابية بصفة عامّة، بما في ذلك جانب التّمويل. أمّا الفصل 98 من نفس القانون، فهو نصّ خاصّ يذكر بصريح العبارة مسألة تجاوز سقف التّمويل ويوظّف جزاء في هذا الشّأن، وهو ما يتناغم مع ما نصّ عليه الفصل 93 من القانون الانتخابي من أنّ محكمة المحاسبات تتثبّت من احترام سقف الإنفاق الانتخابي، كما ذكّرت بذلك المحكمة. وبما أنّ النّصّ الخاصّ مقدّم في التّطبيق على النّصّ العامّ عملا بما نصّ عليه الفصل 534 من مجلّة الالتزامات والعقود، اتّجهت المحكمة نحو إقرار عدم اختصاص الهيئة لمعاقبة المترشّح الّذي تدّعي أنّه تجاوز السّقف المحدّد. والواضح أنّ عدم وعي الهيئة بحدود اختصاصها بلغ درجة قصوى، بما أنّها ألغت فوز المترشّح بعد أن تبيّن لها أنّه تجاوز سقف الإنفاق بـ60%، والحال أنّ الفصل 98 من القانون الانتخابي يحدّد النّسبة الّتي تؤدّي إلى إلغاء الفوز ب 75%.
ثمّ إنّه لا يمكن أن نعتبر أنّ الهيئة مؤهّلة للخوض في مسألة تجاوز سقف الإنفاق من عدمه. فالمسألة شائكة وتتطلّب وقتا وخبرة واطّلاعا على الوثائق الّتي يقدّمها أعوان المراقبة وكذلك على تلك الّتي يقدّمها المعني بالأمر. وهو ما لا يمكن للهيئة أن تقوم به لا في خصوص جميع المترشّحين أثناء الحملة ولا حتّى في خصوص الفائزين في الفترة القصيرة الّتي تسبق الإعلان عن النّتائج الأوّلية. وإذا قامت بذلك لا يمكن أن يكون عملها إلّا اعتباطيا، وهو ما عبّرت عنه الدّائرة الاستئنافية بقولها أنّ أعوان الهيئة " قدّروا...أنشطة الطّاعن بصفة جزافية تقوم على الاجتهاد الشّخصي ولا تستند إلى أيّة حجّة تدعّمها ".
بالإضافة إلى كلّ هذا، لو قبلنا بتدخّل الهيئة في هذه المسألة تحت رقابة المحكمة الإدارية، كيف سيكون مآل الأمور إذا صرّحت محكمة المحاسبات بعد أشهر أو ربّما سنوات بعدم تجاوز المترشّح لسقف الإنفاق، على عكس ما ادّعته الهيئة ؟. هل سيأخذ الفائز الحقيقي مكان من تمّ الإعلان عن فوزه، والحال أنّه، من جهة، لا ذكر لهذا الحلّ في القانون و، من جهة أخرى، يكون قد مرّ جزء هامّ من حياة المجلس ؟
قد يقول البعض ما ضرّ لو أقدم القاضي الإداري عند نظره في هذا النّزاع الّذي يندرج في إطار القضاء الكامل، على التّثبّت من التّقدير الّذي قامت به الهيئة في خصوص تجاوز السّقف وإفراغ النّزاع في شأنه. لو قامت المحكمة بذلك، ستُوجّه لها نفس المآخذ الّتي وجّهتها للهيئة، باعتبار أنّ المسألة من اختصاص القاضي المالي وأنّ القاضي الإداري غير موهّل للنّظر فيها في الأجل القصير الّذي ضبطه القانون.
وبذلك لم تتثبّت المحكمة من أمر ترى أنّ الهيئة غير محقّة للنّظر فيه. وقد تكون الهيئة على صواب من حيث الأصل أي من حيث التّجاوز الفعلي لسقف الإنفاق، إنّما يتمّ التّثبّت من هذا لاحقا من طرف محكمة المحاسبات في متّسع من الوقت وباحترام مقتضيات المحاكمة العادلة. ولا خوف هنا من الإفلات من العقاب، باعتبار أنّ مراقبة القاضي المالي لتمويل الحملة الانتخابية لها صبغة وجوبية في خصوص الفائزين، كما ينصّ على ذلك الفصل 92 من القانون الانتخابي.
نرى، في النّهاية، أنّه، تجاه الوضعيات الشّائكة، يحسن الاحتكام إلى المنطق للوصول إلى الحلّ السّليم. فالقانون منطق أو لا يكون.
*أستاذ تعليم عال في القانون العامّ
بقلم: إبراهيم البَرتاجي(*)
*هيئة الانتخابات لا هي مختصّة قانونيا ولا هي مؤهّلة واقعيا لمراقبة احترام سقف الإنفاق الانتخابي
طاب الزّمان لهيئة الانتخابات الّتي عيّن رئيس الجمهورية رئيسها وأعضاءها بمقتضى أمر 9 ماي 2022، فأضحت تتغنّى بتمتّعها بولاية عامّة لمراقبة سير العملية الانتخابية، تسمح لها مثلا، حسب اعتقادها، بتجاهل اختصاص هيئة الاتّصال السّمعي والبصري. بل أكثر من ذلك وصل بها الأمر إلى أن تنتصب كقاض ماليّ لتراقب مدى احترام المترشّحين للسّقف المحدّد للإنفاق الانتخابي. لكن المحكمة الإدارية كانت بالمرصاد لإرجاع الأمور إلى نصابها في حكم بلغ فيه التّعليل درجة الإفحام، بيّنت فيه أنّ الهيئة خاضت في مسألة خارجة عن مشمولاتها، باعتبار أنّ المشرّع أوكلها لمحكمة المحاسبات.
كان ذلك في حكم مهدي الصّادر عن الدّائرة الاستئنافية الثّالثة بالمحكمة الإدارية بتاريخ 9 فيفري 2023 والمتعلّق بنتائج الانتخابات التّشريعية في دائرة ساقية الدّائر. وهو حكم ابتدائي وإن صدر عن دائرة استئنافية، فقد ارتأى المشرّع إقرار اختصاص الدّوائر الاستئنافية بالمحكمة الإدارية للنّظر ابتدائيا في نزاع نتائج الانتخابات التّشريعية.
مرّ المترشّح مهدي إلى الدّور الثّاني من الانتخابات التّشريعية في الدّائرة المعنية وتحصّل على أكبر عدد من الأصوات. لكن هيئة الانتخابات ألغت الأصوات الّتي تحصّل عليها بحجّة تجاوزه لسقف الإنفاق الانتخابي المضبوط، في خصوص الانتخابات التّشريعية لسنة 2022، بمقتضى أمر 16 نوفمبر 2022 والبالغ، بالنّسبة لدائرة ساقية الدّائر، حوالي 30 ألف دينار. ادّعت الهيئة أنّ المعني بالأمر تجاوز ذلك المبلغ بكثير، إذ أنفق حوالي 81 ألف دينار، بينما تمسّك المترشّح بأنّه لم يُنفق سوى حوالي 9 آلاف دينار.
رأت المحكمة عن صواب أنّ الأمر يتطلّب أوّلا الإجابة عن السّؤال التّالي : هل يحقّ لهيئة الانتخابات البتّ في مسألة تجاوز سقف الإنفاق وإلغاء فوز المدّعي على ذلك الأساس ؟ كانت إجابتها بالنّفي، الشّيء الّذي أغناها عن التّثبّت في المقادير الّتي قدّمها الطّرفان وأدّى إلى إلغاء قرار الهيئة والقضاء بفوز المدّعي بالمقعد المتنافس عليه. وللوصول إلى هذا الحلّ، خاضت الدّائرة الاستئنافية في كنه النّصّين الأهمّ المحتجّين بهما في إطار هذا النّزاع وهما، من جهة الفصل 143 من قانون الانتخابات والاستفتاء، ومن جهة أخرى الفصل 98 من نفس القانون.
ينصّ الفصل 143 من القانون الانتخابي بعد تنقيحه في 14 فيفري 2017 على ما يلي : " تتثبّتالهيئةمناحترامالفائزينلأحكامالفترةالانتخابيةوتمويلها.ويجبأن تقرّر إلغاءنتائجالفائزينبصفةكلّيةأوجزئيةإذاتبيّن لهاأنمخالفتهملهذهالأحكامأثّرتعلىنتائجالانتخاباتبصفةجوهريةوحاسمةوتكونقراراتهامعلّلة. " ولقد ادّعت الهيئة أنّها تمكّنت بواسطة أعوانها من احتساب ما أنفقه المدّعي على حملته في الدّور الثّاني وتبيّن لها أنّه تجاوز السّقف المسموح به بأكثر من 60%، معتبرة أنّ هذا التّجاوز أثّر على النّتائج بصفة جوهرية وحاسمة. وتبعا لذلك ألغت الأصوات الّتي تحصّل عليها المدّعي وصرّحت بفوز المترشّحة الّتي جاءت في المرتبة الثّانية.
أمّا الفصل 98 من نفس القانون، فأصبح ينصّ بعد تنقيح 15 سبتمبر 2022 على ما يلي :
انطلاقا من هذين النّصّين ومن غيرهما من النّصوص، نتبيّن أنّ مسألة مراقبة تمويل الحملة الانتخابية تمثّل ميدان اختصاص مشترك بين هيئة الانتخابات ومحكمة المحاسبات. فكانت المحكمة الإدارية مدعوّة إذن إلى أن ترسم حدود تدخّل كلّ طرف في هذا الميدان المشترك. قامت بذلك في حيثية واضحة جاء فيها : " وحيث...أنّ تمتيع الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بسلطات رقابية على قواعد تمويل الحملة الانتخابية الّذي غايته إرساء رقابة إدارية قبلية على المال الانتخابي للتّثبّت من مدى سلامته لا يعفيها من الالتزام بالضّوابط المنصوص عليها بالقانون الانتخابي الّذي أسند اختصاصا رقابيا وعقابيا للقضاء المالي بخصوص مراقبة المصاريف والنّفقات الانتخابية ومدى تقيّدها بسقف الإنفاق المحدّد، ويمكن للهيئة مدّ محكمة المحاسبات بكلّ الوثائق المثبتة لوجود شبهة تجاوز سقف الإنفاق للتّثبّت وتوقيع العقوبة الملائمة عند الاقتضاء. "
وهو ما يعني أنّ هيئة الانتخابات لا هي مختصّة قانونيا ولا هي مؤهّلة واقعيا لمراقبة احترام سقف الإنفاق الانتخابي. فمن حيث الاختصاص، نحن هنا أمام ثنائية النّصّ العامّ والنّصّ الخاصّ. يمثّل الفصل 143 من القانون الانتخابي نصّا عامّا يتعلّق بمراقبة الهيئة للحملة الانتخابية بصفة عامّة، بما في ذلك جانب التّمويل. أمّا الفصل 98 من نفس القانون، فهو نصّ خاصّ يذكر بصريح العبارة مسألة تجاوز سقف التّمويل ويوظّف جزاء في هذا الشّأن، وهو ما يتناغم مع ما نصّ عليه الفصل 93 من القانون الانتخابي من أنّ محكمة المحاسبات تتثبّت من احترام سقف الإنفاق الانتخابي، كما ذكّرت بذلك المحكمة. وبما أنّ النّصّ الخاصّ مقدّم في التّطبيق على النّصّ العامّ عملا بما نصّ عليه الفصل 534 من مجلّة الالتزامات والعقود، اتّجهت المحكمة نحو إقرار عدم اختصاص الهيئة لمعاقبة المترشّح الّذي تدّعي أنّه تجاوز السّقف المحدّد. والواضح أنّ عدم وعي الهيئة بحدود اختصاصها بلغ درجة قصوى، بما أنّها ألغت فوز المترشّح بعد أن تبيّن لها أنّه تجاوز سقف الإنفاق بـ60%، والحال أنّ الفصل 98 من القانون الانتخابي يحدّد النّسبة الّتي تؤدّي إلى إلغاء الفوز ب 75%.
ثمّ إنّه لا يمكن أن نعتبر أنّ الهيئة مؤهّلة للخوض في مسألة تجاوز سقف الإنفاق من عدمه. فالمسألة شائكة وتتطلّب وقتا وخبرة واطّلاعا على الوثائق الّتي يقدّمها أعوان المراقبة وكذلك على تلك الّتي يقدّمها المعني بالأمر. وهو ما لا يمكن للهيئة أن تقوم به لا في خصوص جميع المترشّحين أثناء الحملة ولا حتّى في خصوص الفائزين في الفترة القصيرة الّتي تسبق الإعلان عن النّتائج الأوّلية. وإذا قامت بذلك لا يمكن أن يكون عملها إلّا اعتباطيا، وهو ما عبّرت عنه الدّائرة الاستئنافية بقولها أنّ أعوان الهيئة " قدّروا...أنشطة الطّاعن بصفة جزافية تقوم على الاجتهاد الشّخصي ولا تستند إلى أيّة حجّة تدعّمها ".
بالإضافة إلى كلّ هذا، لو قبلنا بتدخّل الهيئة في هذه المسألة تحت رقابة المحكمة الإدارية، كيف سيكون مآل الأمور إذا صرّحت محكمة المحاسبات بعد أشهر أو ربّما سنوات بعدم تجاوز المترشّح لسقف الإنفاق، على عكس ما ادّعته الهيئة ؟. هل سيأخذ الفائز الحقيقي مكان من تمّ الإعلان عن فوزه، والحال أنّه، من جهة، لا ذكر لهذا الحلّ في القانون و، من جهة أخرى، يكون قد مرّ جزء هامّ من حياة المجلس ؟
قد يقول البعض ما ضرّ لو أقدم القاضي الإداري عند نظره في هذا النّزاع الّذي يندرج في إطار القضاء الكامل، على التّثبّت من التّقدير الّذي قامت به الهيئة في خصوص تجاوز السّقف وإفراغ النّزاع في شأنه. لو قامت المحكمة بذلك، ستُوجّه لها نفس المآخذ الّتي وجّهتها للهيئة، باعتبار أنّ المسألة من اختصاص القاضي المالي وأنّ القاضي الإداري غير موهّل للنّظر فيها في الأجل القصير الّذي ضبطه القانون.
وبذلك لم تتثبّت المحكمة من أمر ترى أنّ الهيئة غير محقّة للنّظر فيه. وقد تكون الهيئة على صواب من حيث الأصل أي من حيث التّجاوز الفعلي لسقف الإنفاق، إنّما يتمّ التّثبّت من هذا لاحقا من طرف محكمة المحاسبات في متّسع من الوقت وباحترام مقتضيات المحاكمة العادلة. ولا خوف هنا من الإفلات من العقاب، باعتبار أنّ مراقبة القاضي المالي لتمويل الحملة الانتخابية لها صبغة وجوبية في خصوص الفائزين، كما ينصّ على ذلك الفصل 92 من القانون الانتخابي.
نرى، في النّهاية، أنّه، تجاه الوضعيات الشّائكة، يحسن الاحتكام إلى المنطق للوصول إلى الحلّ السّليم. فالقانون منطق أو لا يكون.