إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

صباح الجمعة.. عليكم بالهريسة فإنها تقوي الظهور

 

يكتبها: محمد معمري

تحفل صفحات التاريخ بالحديث عن الحروب في معانيها المختلفة، فالحروب ليست تلك فقط التي تخاض بالأسلحة التي عرفناها على مدار التاريخ من الحجارة إلى العصي فالسيوف، فالمناجنيق والبنادق وصولا إلى الأسلحة النووية التي استعملت مرة واحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية في ناكازاكي وهيروشيما المدينتين اليابانيتين، الحروب أيضا تخاض ضد التخلف والأمية وتخاض للنهوض بالأمم والشعوب وزرع روح المبادرة فيها حتى تستفيق من غفوتها. الحروب على اختلافها الجامع المشترك بينها هو استعمال الكلام لتبريرها حينا ورفع الهمم أحيانا أخرى لخوضها بكل شجاعة، فالكلام هو نصف المعركة أية كانت طبيعة هذه المعركة، سواء في ساحة الوغاء أم في ساحات الرقي والتطور للخروج من التخلف، والكلام هنا لا فقط بمعنى الملفوظ بل بمعنى الرسائل التي يريد الباث إرسالها مهما كان المحمل الذي يستعمله فقد تكون صوتا وصورة أو احدهما أو حتى سلوكا دالا يستدعي الاقتداء به، وهو ما نسميه اليوم الاتصال بمختلف تفريعاته المؤسساتي أو السياسي أو التجاري.. ولكل شكل من أشكال الاتصال آلياته وأهدافه والجمهور المستهدف منه، فالاتصال العادي هو عملية تبادل للرسائل الملفوظة أو المكتوبة بين طرفين أو أكثر فتكون الرسالة مقابل الرسالة، أما في الاتصال التجاري فإن الرسالة الاتصالية تطلب من متلقيها لا رسالة مثلها بل فعل الشراء لهذه البضاعة، والاتصال المؤسساتي الغاية منه الإعلام بنشاط المؤسسة ورسم صورة لها ايجابية في المخيال الجمعي للجمهور المستهدف.

وهذه الأنواع من الاتصال كانت سائدة منذ عصور تحت مسميات مختلفة ونذكر هنا مثلا في موروثنا الحضاري تلك الحكاية لذلك التاجر البغدادي الذي كان يبيع الهريسة، والهريسة عند العرب هي القمح يُهرس بالمهراس ثمّ يُطبخ مع اللحم، لكن سوقها كان كاسدة، فعنّ له أن يقوم بفعل اتصالي لترويج بضعته فقال: رُوي عن فلان عن فلان عن فلان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالهريسة فإنها تقوّي الظهور، فراجت بضاعته من خلال حديث موضوع لا أساس له من الصحة جمع فيه بين أمرين هامين في المخيال الجمعي وهما ارتباط صورة النبي بالصدق فكل ما يقول لا جدال فيه خاصة باعتماد سلسلة من الرواة ما يعرف بالعنعنة، ومع هذا أضاف أمرا محببا للنفوس وهو تقوية الظهور بمعنى القوة الجسدية للعمل وأيضا الرفع في القدرة الجنسية لدى من يأكل الهريسة، وهما أمران قادران لا فقط على تصريف بضاعته بل جعلها مطلوبة مرغوبة وبالسعر الذي يريد.

لم أذكر الاتصال السياسي وقد تعمدت ذكر هذه الحكاية المتواترة بأشكال مختلفة في بعض الكتب التراثية، لأنني أعتقد أن حكاية الهريسة تجسيم عملي لمفهوم الاتصال التجاري الذي يمكن توظيفه في الاتصال السياسي من خلال إدراك طبيعة الجمهور المستهدف ومخاطبة حواسه حتى يتمكن السياسي من التأثير عليه، فالاتصال السياسي هو الجامع بين كل الأشكال الاتصالية باعتباره رسائل قولية أو سلوكية أو مشهدية يكون مقابلها الفعل، فالساسة عادة في فعلهم الاتصالي لا يريدون رسالة برسالة بل رسالة بفعل، الفعل في أشكاله المختلفة من مناصرة أو انتماء أو مشاركة عملية في التحركات السياسية مهما كان الطرف المرسل حاكما أو معارضا. وهو ما نعيشه اليوم في تونس من حرب اتصالية بين السلطة والمعارضين لها، فكل يوظف كل إمكانياته الاتصالية لكسب الأنصار ودحض حجج الخصوم المفترضين، وقد باتت اليوم منصات التواصل وخاصة فيسبوك في بلادنا ساحة المعركة الحقيقية في المناكفات والاختلافات السياسية من خلال تدفق هائل للمعلومات الصحيحة والمضللة أو الكاذبة وهو ما يستدعي تربية على وسائل الإعلام حتى يكون للمتلقي القدرة على الفرز بين الرسائل الموجهة له ولا يكون ضحية من ضحايا تلك الهريسة التي تقوي الظهور، وكم نحن في حاجة إلى تقوية الظهور لا لشيء بل لحمل الأثقال التي ننوء بها. كان الله في عون الجميع.

صباح الجمعة..   عليكم بالهريسة فإنها تقوي الظهور

 

يكتبها: محمد معمري

تحفل صفحات التاريخ بالحديث عن الحروب في معانيها المختلفة، فالحروب ليست تلك فقط التي تخاض بالأسلحة التي عرفناها على مدار التاريخ من الحجارة إلى العصي فالسيوف، فالمناجنيق والبنادق وصولا إلى الأسلحة النووية التي استعملت مرة واحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية في ناكازاكي وهيروشيما المدينتين اليابانيتين، الحروب أيضا تخاض ضد التخلف والأمية وتخاض للنهوض بالأمم والشعوب وزرع روح المبادرة فيها حتى تستفيق من غفوتها. الحروب على اختلافها الجامع المشترك بينها هو استعمال الكلام لتبريرها حينا ورفع الهمم أحيانا أخرى لخوضها بكل شجاعة، فالكلام هو نصف المعركة أية كانت طبيعة هذه المعركة، سواء في ساحة الوغاء أم في ساحات الرقي والتطور للخروج من التخلف، والكلام هنا لا فقط بمعنى الملفوظ بل بمعنى الرسائل التي يريد الباث إرسالها مهما كان المحمل الذي يستعمله فقد تكون صوتا وصورة أو احدهما أو حتى سلوكا دالا يستدعي الاقتداء به، وهو ما نسميه اليوم الاتصال بمختلف تفريعاته المؤسساتي أو السياسي أو التجاري.. ولكل شكل من أشكال الاتصال آلياته وأهدافه والجمهور المستهدف منه، فالاتصال العادي هو عملية تبادل للرسائل الملفوظة أو المكتوبة بين طرفين أو أكثر فتكون الرسالة مقابل الرسالة، أما في الاتصال التجاري فإن الرسالة الاتصالية تطلب من متلقيها لا رسالة مثلها بل فعل الشراء لهذه البضاعة، والاتصال المؤسساتي الغاية منه الإعلام بنشاط المؤسسة ورسم صورة لها ايجابية في المخيال الجمعي للجمهور المستهدف.

وهذه الأنواع من الاتصال كانت سائدة منذ عصور تحت مسميات مختلفة ونذكر هنا مثلا في موروثنا الحضاري تلك الحكاية لذلك التاجر البغدادي الذي كان يبيع الهريسة، والهريسة عند العرب هي القمح يُهرس بالمهراس ثمّ يُطبخ مع اللحم، لكن سوقها كان كاسدة، فعنّ له أن يقوم بفعل اتصالي لترويج بضعته فقال: رُوي عن فلان عن فلان عن فلان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالهريسة فإنها تقوّي الظهور، فراجت بضاعته من خلال حديث موضوع لا أساس له من الصحة جمع فيه بين أمرين هامين في المخيال الجمعي وهما ارتباط صورة النبي بالصدق فكل ما يقول لا جدال فيه خاصة باعتماد سلسلة من الرواة ما يعرف بالعنعنة، ومع هذا أضاف أمرا محببا للنفوس وهو تقوية الظهور بمعنى القوة الجسدية للعمل وأيضا الرفع في القدرة الجنسية لدى من يأكل الهريسة، وهما أمران قادران لا فقط على تصريف بضاعته بل جعلها مطلوبة مرغوبة وبالسعر الذي يريد.

لم أذكر الاتصال السياسي وقد تعمدت ذكر هذه الحكاية المتواترة بأشكال مختلفة في بعض الكتب التراثية، لأنني أعتقد أن حكاية الهريسة تجسيم عملي لمفهوم الاتصال التجاري الذي يمكن توظيفه في الاتصال السياسي من خلال إدراك طبيعة الجمهور المستهدف ومخاطبة حواسه حتى يتمكن السياسي من التأثير عليه، فالاتصال السياسي هو الجامع بين كل الأشكال الاتصالية باعتباره رسائل قولية أو سلوكية أو مشهدية يكون مقابلها الفعل، فالساسة عادة في فعلهم الاتصالي لا يريدون رسالة برسالة بل رسالة بفعل، الفعل في أشكاله المختلفة من مناصرة أو انتماء أو مشاركة عملية في التحركات السياسية مهما كان الطرف المرسل حاكما أو معارضا. وهو ما نعيشه اليوم في تونس من حرب اتصالية بين السلطة والمعارضين لها، فكل يوظف كل إمكانياته الاتصالية لكسب الأنصار ودحض حجج الخصوم المفترضين، وقد باتت اليوم منصات التواصل وخاصة فيسبوك في بلادنا ساحة المعركة الحقيقية في المناكفات والاختلافات السياسية من خلال تدفق هائل للمعلومات الصحيحة والمضللة أو الكاذبة وهو ما يستدعي تربية على وسائل الإعلام حتى يكون للمتلقي القدرة على الفرز بين الرسائل الموجهة له ولا يكون ضحية من ضحايا تلك الهريسة التي تقوي الظهور، وكم نحن في حاجة إلى تقوية الظهور لا لشيء بل لحمل الأثقال التي ننوء بها. كان الله في عون الجميع.