هنالك نصيحة يتمّ تداولها عادة داخل الإدارات تقول: تجنب الذين يأتمنونك على الأسرار الصغيرة، فهم يريدون منك اجتذاب الكبيرة.
إن السرية وسيلة من وسائل الحكم، وسرية الدولة هي شكلها النموذجي، وسبب الدولة نتيجة طبيعية لها. بقيت مذهولا، انقبضت نفسي، احترت ثمّ فكرت طويلا.. لكن بلا جدوى .
جالت بخاطري عدّة أسئلة عجزت عن إيجاد أجوبة لها. ذهب خيالي إلى أخطر الاحتمالات لكنّه في كلّ مرّة يحاول طردها. أسائل، هل نحن أصبحنا في ضيعة محروس !. آلاف الملفات والوثائق والأوراق ممهورة بطابع وكلمة "سري" وحتى " سري جدا" تنشر على صفحات ومواقع منصات التواصل الاجتماعي.. وثائق قديمة وحديثة العهد بالإصدار والتأشير. تهمّ أشخاصا أو قضايا أو مصالح مختصّة أو إدارات أو ملكيات أو بنوك .. مراسلات رسمية، محاضر استنطاق وبحث، تقارير استخباراتية، إفادات الخ.. في فرنسا تعتبر كلمة "سري" حماية قانونية لوثيقة أو معلومة ما، ذات عدة مستويات تجعل من الممكن تقييد كشفها أو نشرها أو الوصول إليها محصورة في فئة معينة ذات أهمية ومؤهلة بمرسوم قانوني وبأسماء واضحة معلومة. يتم تفويض عدد محدود جدّا من أجهزة الدولة لتداول مثل هذه الوثيقة، يوضع دفتر بأسماء كلّ من وقعت بيده أو تسلّم نسخة منها بمعنى وضع " منظومة تتبّع " Traçabilité . كما انّه لا يمسك بمثل هذه الوثيقة إلا ضباط أو أعوان محلّفين. ناهيك أن بعض هذه الوثائق والملفات لا تقدر حتى الحكومة بالسماح بكشفها، لا يكون ذلك قانونا إلا بقرار من البرلمان باعتبار مصلحة الدولة العليا فيها. اذكر على سبيل المثال الوثائق السرية الموصولة بملابسات ما يرتقي الى جرائم دولة سياسية كحادثة وظروف اغتيال الزعيم الراحل فرحات حشاد. كشف لي في هذا الجانب ابنه نور الدين حشاد المكلّف من قبل العائلة بمتابعة ملف هذه الجريمة السياسية انّه قابل كبار المسؤولين بما في ذلك رئيس الدولة الفرنسية من اجل تمكينه من الولوج والاطلاع على الأرشيف الوطني الفرنسي خاصة التقارير الأمنية والعسكرية لاغتيال الزعيم النقابي، لكن لم يقدر أن يحصل على أي معلومة، رفضت إدارة الأرشيف الفرنسي حتى الاستجابة لتدخّل الرئيس ملتزمة بما يفرضه القانون من كون بعض الأسرار لا تُكشف إلا بعد مرور فترات محدّدة زمنيا بقانون، من عشرين الى ستين سنة أو حتى أكثر على وقوع أحداثها حصل بعد 14 جانفي 2011 عندما تولّى فرحات الراجحي وزارة الداخلية ان قامت سهام بن سدرين وبحكم صداقتها للوزير بمحاولة الاطلاع والتمكن من ملفات أرشيف الأجهزة الأمنية تحديدا التقارير السرية للاستخبارات حول النشطاء والسياسيين التي كان يتولى إعدادها موظّفو المصالح المختصة، لكن رفض المسؤولين إدارة هذا الأرشيف وتمسكهم بموقفهم رغم الضغوطات والتدخلات من كبار مسؤولي الوزارة حال دون تحقيق رغبة سهام بن سدرين. إن ظهور الدولة الحديثة، المرادف للعقلانية التقنية التي تجسدها البيروقراطية، يؤدي إلى تحوّل السر الى جهاز تنفيذ مجهول الهوية. نرصد اليوم ظاهرة التنامي المفرط في إفشاء أسرار الدولة وتسريب وثائقها، وهي تباع وتشترى ويتمّ الابتزاز بها. بلا شك هنالك مسؤولية في ذلك يتحمّلهما من هو في مواقع متقدمة من سلطة القرار!. من غرائب هذا الزمن، أن الأموال كلما كثرت خزائنها كان أوثق لها، أما الأسرار فكلما كثرت خزائنها كان أضيع لها .
يرويها: أبوبكر الصغير
هنالك نصيحة يتمّ تداولها عادة داخل الإدارات تقول: تجنب الذين يأتمنونك على الأسرار الصغيرة، فهم يريدون منك اجتذاب الكبيرة.
إن السرية وسيلة من وسائل الحكم، وسرية الدولة هي شكلها النموذجي، وسبب الدولة نتيجة طبيعية لها. بقيت مذهولا، انقبضت نفسي، احترت ثمّ فكرت طويلا.. لكن بلا جدوى .
جالت بخاطري عدّة أسئلة عجزت عن إيجاد أجوبة لها. ذهب خيالي إلى أخطر الاحتمالات لكنّه في كلّ مرّة يحاول طردها. أسائل، هل نحن أصبحنا في ضيعة محروس !. آلاف الملفات والوثائق والأوراق ممهورة بطابع وكلمة "سري" وحتى " سري جدا" تنشر على صفحات ومواقع منصات التواصل الاجتماعي.. وثائق قديمة وحديثة العهد بالإصدار والتأشير. تهمّ أشخاصا أو قضايا أو مصالح مختصّة أو إدارات أو ملكيات أو بنوك .. مراسلات رسمية، محاضر استنطاق وبحث، تقارير استخباراتية، إفادات الخ.. في فرنسا تعتبر كلمة "سري" حماية قانونية لوثيقة أو معلومة ما، ذات عدة مستويات تجعل من الممكن تقييد كشفها أو نشرها أو الوصول إليها محصورة في فئة معينة ذات أهمية ومؤهلة بمرسوم قانوني وبأسماء واضحة معلومة. يتم تفويض عدد محدود جدّا من أجهزة الدولة لتداول مثل هذه الوثيقة، يوضع دفتر بأسماء كلّ من وقعت بيده أو تسلّم نسخة منها بمعنى وضع " منظومة تتبّع " Traçabilité . كما انّه لا يمسك بمثل هذه الوثيقة إلا ضباط أو أعوان محلّفين. ناهيك أن بعض هذه الوثائق والملفات لا تقدر حتى الحكومة بالسماح بكشفها، لا يكون ذلك قانونا إلا بقرار من البرلمان باعتبار مصلحة الدولة العليا فيها. اذكر على سبيل المثال الوثائق السرية الموصولة بملابسات ما يرتقي الى جرائم دولة سياسية كحادثة وظروف اغتيال الزعيم الراحل فرحات حشاد. كشف لي في هذا الجانب ابنه نور الدين حشاد المكلّف من قبل العائلة بمتابعة ملف هذه الجريمة السياسية انّه قابل كبار المسؤولين بما في ذلك رئيس الدولة الفرنسية من اجل تمكينه من الولوج والاطلاع على الأرشيف الوطني الفرنسي خاصة التقارير الأمنية والعسكرية لاغتيال الزعيم النقابي، لكن لم يقدر أن يحصل على أي معلومة، رفضت إدارة الأرشيف الفرنسي حتى الاستجابة لتدخّل الرئيس ملتزمة بما يفرضه القانون من كون بعض الأسرار لا تُكشف إلا بعد مرور فترات محدّدة زمنيا بقانون، من عشرين الى ستين سنة أو حتى أكثر على وقوع أحداثها حصل بعد 14 جانفي 2011 عندما تولّى فرحات الراجحي وزارة الداخلية ان قامت سهام بن سدرين وبحكم صداقتها للوزير بمحاولة الاطلاع والتمكن من ملفات أرشيف الأجهزة الأمنية تحديدا التقارير السرية للاستخبارات حول النشطاء والسياسيين التي كان يتولى إعدادها موظّفو المصالح المختصة، لكن رفض المسؤولين إدارة هذا الأرشيف وتمسكهم بموقفهم رغم الضغوطات والتدخلات من كبار مسؤولي الوزارة حال دون تحقيق رغبة سهام بن سدرين. إن ظهور الدولة الحديثة، المرادف للعقلانية التقنية التي تجسدها البيروقراطية، يؤدي إلى تحوّل السر الى جهاز تنفيذ مجهول الهوية. نرصد اليوم ظاهرة التنامي المفرط في إفشاء أسرار الدولة وتسريب وثائقها، وهي تباع وتشترى ويتمّ الابتزاز بها. بلا شك هنالك مسؤولية في ذلك يتحمّلهما من هو في مواقع متقدمة من سلطة القرار!. من غرائب هذا الزمن، أن الأموال كلما كثرت خزائنها كان أوثق لها، أما الأسرار فكلما كثرت خزائنها كان أضيع لها .