بقلم: منير الشرفي
"يعيش المثقف على مقهى ريش
محفلط مزفلط كثير الكلام
عديم الممارسة عدوّ الزحام
بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح
يفبرك حلول المشاكل قوام"
تلك هي إحدى روائع الشاعر المصري الراحل المناضل أحمد فؤاد نجم، يُلخّص فيها ما لاحظه من مواقف عدد كبير من "المثقفين" الذين يحلو لهم الوقوف على الربوة وحضور الاجتماعات والندوات للتنظير و"التنبير"، أو حتى كتابة الكتب. فتراهم ينتقدون، وما أسهل النقد، ويطرحون الأفكار، كثيرا ما تكون نظرية بحتة وغير قابلة للتطبيق على الميدان. لأنهم، في الحقيقة، يتكلمون عن أشياء لا يعرفون منها إلا ما قرأوه في الكتب أو في الجرائد، أو سمعوا عنها في حلقات النقاش في غرف مغلقة بين أربعة جدران، دون "ثنيان الركبة"، ودون التعامل الحقيقي مع الشارع ومع الواقع، في حين أنهم يجرؤون على التحدّث باسم المواطن وباسم الشعب.
ومن "المُثقّفين" من يقتصر نشاطه وتفكيره وممارساته طيلة سنوات على الانتقاد، انتقاد من هو أعلى منه سلطة، حتى إن كان هذا الأخير يفوقه حنكة وتجربة، محاولا اقناع نفسه وإقناع الآخرين بأحقيّته بالسلطة. هذه الفئة من الوصوليّين الانتهازيين كثيرا ما يكونون على عجلة من أمرهم لتحقيق طموحاتهم ومآربهم، فيسعون إلى البروز على حساب المصلحة العامة ومصلحة المجال الذي يسعى إلى السطو عليه، باستعمال سياسة الهدم والتفرقة طمعا في الإقناع بأنه الأجدر بالبروز.
وكثيرا ما يُدعى عالم علّامة في مجال ما إلى المشاركة في السلطة للإشراف على القطاع الذي هو مُختصّ فيه والذي تحدّث عنه في عديد المناسبات عبر الوسائط الإعلامية أو الاجتماعية، وكتب عنه شتّى الكتب والمقالات، لكنه يفشل في تسيير القطاع بعد أن يصطدم بالواقع. ذلك الواقع الذي يُجبره على مراجعة كل النظريات التي حفظهاودافع عنها. وفي هذه الوضعية يجد "العالم" نفسه بين أمرين: إمّا أن يُراجع نظرياته وإدخال ما يجب إدخاله عليها حتى تُصبح عمليّة وقابلة للتنفيذ، وإمّا أن يُمعن في التعنّت ويُواصل إغماض عينيه وسدّ أذنيه أمام الواقع، وهنا لم يبق لديه سوى الانسحاب أو الدكترة والخراب.
ومن النادر أن نجد من يصل إلى السلطة على أساس شعارات وبرنامج غير واقعي وأفكار نظرية بحتة، ثمّ يُغيّر مواقفه السابقة عندما يتفطّن إلى عدم تلاؤمها مع الواقع.
ولعلّ أبرز الأمثلة على تغيير المواقف، قبل السلطة وبعدها، ب180 درجة، تتمثّل في حالتين:
أريال شارون، ذلك المجرم الصهيوني، المنحدر من حزب "الليكود" اليميني المُتطرّف،والذي شغل منصب وزير الدفاع الإسرائيلي سنوات عديدة اتّسمت بالخصوص بمجزرة صبرا وشاتيلا، تولّى بعد ذلك منصب رئيس الوزراء. وعندها أصبحت الرؤية أوضح بالنسبة له، واكتشف أن إسرائيل لا مستقبل لها دون إيجاد حل مع الفلسطينيين. فغادر حزب الليكود، الذي وصل إلى السلطة بفضله، وأسس حزبا جديدا، حزب كاديما الوسطي، وشرع في الدعوة إلى التحاور مع الفلسطينيين. غير أنه أصيب بمرض أبعده عن الحكم، وأعاد الليكود إلى السلطة.
المثال الثاني يخصّ ميخائيل غورباتشوف، الذي شغل خطة رئيس الحزب الشيوعي السوفياتي قبل أن يُصبح رئيسا للاتحاد السوفياتي سنة 1991. عندها، ارتأى أن النظام الشيوعي الصرف الذي دافع عنه ببسالة داخل الحزب طيلة عشرات السنين يستوجب مراجعة جذرية من قبل من بيده السلطة، فدعا إلى انهاء الحرب الباردة وإلى البيريسترويكا (إعادة البناء).
هذان المثالان يدلّان بوضوح أن المرء الذي يكتفي بالتنظير في برجه العاجي يمكن ألّا يكون صالحا للسلطة، طالما أنه لم يُمارسها. وإذا مارسها، يجد نفسه أمام وضعيّتين اثنتين لا ثالثة لهما:
فإمّا أن يُراجع مواقفه وشعاراته النظرية بشكل يتماشى مع الواقع الذي أصبح ملموسا لديه. وإما أن يرفض الاعتراف بأخطائه النظرية ويُصرّ على تطبيق شعاراته حتى إن كانت غير واقعية، ويُؤسس بذلك سلطة تتوافق مع شخصه أكثر من ملاءمتها مع الصالح العام.
وفي الحالتين، التاريخ وحده هو الحكم.
