إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

2023 لا حل لنا سوى المراهنة على الخيار المغاربي.. الاتحاد الأوروبي خاتلنا ودمر ثلث نسيجنا الصناعي


 بقلم رشيد خشانة(*)
 أمام الأزمة الاقتصادية التي ما انفكت تتعمق، لا حل لنا سوى المراهنة على الخيار المغاربي، لتجسيد شعار كُنا، ومازلنا نُردده كثيرا، لكن آن الأوان لتجسيده في الواقع، وهو التكامل المغاربي. من الواضح أن الدول الأجنبية القادرة وغالبية الصناديق المالية الدولية لن تُغامر بإقراضنا في المستقبل، بالنظر إلى ضعف العلامات التي تمنحنا إياها وكالات التصنيف العالمية، والتي يعتدُ بها صندوق النقد الدولي في منحه أو حجبه للقروض.
مع ذلك ليس من المبالغة القول إن لدى تونس فرصا كثيرة ومتنوعة، بحكم موقعها الجغرافي بين بلدين من كبار منتجي النفط والغاز، ما سمح لهما بإطلاق مشاريع عملاقة في مختلف المجالات.
 
توطين العلاج
 
ويمكن للشركات التونسية، وخاصة المقاولات، الاستفادة من الدعم السياسي الذي تقدمه لنا الجزائر من أجل الفوز بحزمة من تلك المشاريع، بشكل كامل أو جزئيا. وكان رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، أعلن من جانبه، خلال زيارته الأخيرة لتونس، أن ليبيا ترغب في "توطين العلاج في الداخل"، أي تطوير القطاع الصحي الليبي، وهي عملية يمكن أن تتبوأ فيها الشركات التونسية مكانا مُميزا. وفي انتظار تنفيذ هذا المشروع البديل، وهو أمرٌ سيستغرق وقتا طويلا، يمكن أن يستفيد حاليا القطاع الاستشفائي الخاص في تونس من استمرار توافد المرضى، سواء من ليبيا أم من الجزائر.
وفي هذا الإطار أكد الدبيبة مؤخرا أن حكومته ستسدد لتونس 250 مليون دولار قبل نهاية العام الجاري، وهي متعلقة بديون علاجية لمرضى ليبيين، إضافة إلى مستحقات الكهرباء. ودعا الدبيبة في الوقت نفسه أصحاب الشركات التونسية، خلال لقائه الأخير مع قادة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، إلى السفر إلى ليبيا لبناء المستشفيات.
 
فُرصٌ في الجزائر
 
وفي الجزائر أيضا، حيث استحوذت المجموعات الصينية على كثير من المشاريع في قطاعات مختلفة، هناك مشاريع تحتاج لعشرات الشركات لإنجازها، ومنها على سبيل المثال ميناء المياه العميقة بشرشال (غرب) الذي سينافس ميناء طنجة الدولي في المغرب. ويُلاحظ زائر ميناء شرشال، الذي يشتمل على ثلاث مدن صناعية في محيطه، لوحة كبيرة كُتب عليها، بين الرايتين الجزائرية والصينية، باللغة العربية والصينية والفرنسية، هذه العبارة: "رباط الصداقة يجمعنا دائما... معا نُحقق طريق الحرير".
 
تجربة مريرة
هذا الميناء الجديد موصولٌ بطريق سريعة تربطه بالطريق العابرة للصحراء، المُطلة على ستة بلدان أفريقية هي تونس والجزائر ومالي والنيجر وتشاد ونيجيريا. ولا ريب أن هذا الترابط سيُسهل إقامة منطقة تبادل حر تستفيد منها اقتصاديات البلدان المعنية، بعد التجربة المُرة التي عاشتها تونس مع دول الاتحاد الأوروبي، في إطار مسار برشلونة، والذي تسبب في هدم ثلث النسيج الصناعي الوطني في بضع سنوات. ومن المفيد التذكير هنا بنصائح المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية ريناتور وجيرو، الذي اعتبر أن تجربة الشراكة الأوروبية المتوسطية أغرقت البلدان المشاركة فيها، في برامج إصلاح هيكلي أعطت الأولوية لضرورات الاستقرار النقدي والمالي فقط. وشدد روجيرو على ضرورة الانتقال إلى نمط تنموي جديد يُركز على استيعاب التطور التقني ونشر المعارف وتجديد منظومات التكوين والتأهيل. وبرهنت التجربة الكورية على أن السيطرة على التجديد التكنولوجي مرتبطٌ وثيق الارتباط بوجود منظومة تربوية فعالة، وبخاصة بوجود منظومات تعليم عال متداخلة بشكل تفاعُلي مع دورة الإنتاج.
 
400 ألف سائح
ومن المهم الإشارة أيضا إلى الدور الكبير الذي يلعبه القطاع السياحي، في إطار التكامل المغاربي، بوصفه رافدا مهما لضخ العملة الصعبة في شرايين الاقتصاد، خصوصا بعدما تنزاح تقريبا جائحة "كوفيد19"، نهائيا، ففي أعقاب غلق الحدود الجزائرية مع تونس في مارس 2020 بسبب انتشار الجائحة، تراجع توافد الجزائريين على بلدنا، قبل فتحها مجددا في جوان 2021، بقرار من المجلس الأعلى للأمن القومي. ونزل عدد الوافدين من الجزائر في ماي 2022 إلى 36 ألف وافد، بينما وصل العدد قبل الجائحة إلى 400 ألف زائر. ويؤكد الخبراء أن أكثر من ثلاثة ملايين جزائري يمكن أن يزوروا تونس سنويا، في الأوضاع العادية، وهذا عنصرٌ دافعٌ لاقتصاد البلدين.
لكن في غياب التكامل الاقتصادي نُضطر جميعا إلى التخطيط في دائرة الاقتصاد الوطني لكل بلد، مُفرطين في الإمكانيات الواسعة للتنمية في النطاق الإقليمي. كما أن لتأجيل البناء المغاربي كلفة تُسببُ للجميع خسائر معتبرة تتجاوز نقطتي نمو سنويا. مع ذلك فإن بناء المصير المشترك لن يكون إلا بالاقتصاد المُتكامل، الذي يُنتجُ لأكثر من مئة مليون مستهلك، وليس لسوق محلية، مهما بلغ حجمها. وهنا تلعب منظمات رجال الأعمال دورا محوريا في مد الجسور بين البلدان المغاربية، وإقامة المشاريع  الاستثمارية، فدورُ القطاع الخاص في التكامل المغاربي اليوم، ليس كدوره في الماضي، عندما كان القطاع العام هو ركيزة الاقتصاد الوطني، في جميع البلدان المغاربية.
وعلى الرغم من أن هذه الرؤيا لمستقبل الاقليم تبدوغير واقعية، فإن التكامل الذي لا يُدرك كلُهُ لا يُترك جُلُه، طالما ظل هناك إيمان بالمشروع.
* كاتب وإعلامي وسياسي مستقل   
 
 2023   لا حل لنا سوى المراهنة على الخيار المغاربي.. الاتحاد الأوروبي خاتلنا ودمر ثلث نسيجنا الصناعي

 بقلم رشيد خشانة(*)
 أمام الأزمة الاقتصادية التي ما انفكت تتعمق، لا حل لنا سوى المراهنة على الخيار المغاربي، لتجسيد شعار كُنا، ومازلنا نُردده كثيرا، لكن آن الأوان لتجسيده في الواقع، وهو التكامل المغاربي. من الواضح أن الدول الأجنبية القادرة وغالبية الصناديق المالية الدولية لن تُغامر بإقراضنا في المستقبل، بالنظر إلى ضعف العلامات التي تمنحنا إياها وكالات التصنيف العالمية، والتي يعتدُ بها صندوق النقد الدولي في منحه أو حجبه للقروض.
مع ذلك ليس من المبالغة القول إن لدى تونس فرصا كثيرة ومتنوعة، بحكم موقعها الجغرافي بين بلدين من كبار منتجي النفط والغاز، ما سمح لهما بإطلاق مشاريع عملاقة في مختلف المجالات.
 
توطين العلاج
 
ويمكن للشركات التونسية، وخاصة المقاولات، الاستفادة من الدعم السياسي الذي تقدمه لنا الجزائر من أجل الفوز بحزمة من تلك المشاريع، بشكل كامل أو جزئيا. وكان رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، أعلن من جانبه، خلال زيارته الأخيرة لتونس، أن ليبيا ترغب في "توطين العلاج في الداخل"، أي تطوير القطاع الصحي الليبي، وهي عملية يمكن أن تتبوأ فيها الشركات التونسية مكانا مُميزا. وفي انتظار تنفيذ هذا المشروع البديل، وهو أمرٌ سيستغرق وقتا طويلا، يمكن أن يستفيد حاليا القطاع الاستشفائي الخاص في تونس من استمرار توافد المرضى، سواء من ليبيا أم من الجزائر.
وفي هذا الإطار أكد الدبيبة مؤخرا أن حكومته ستسدد لتونس 250 مليون دولار قبل نهاية العام الجاري، وهي متعلقة بديون علاجية لمرضى ليبيين، إضافة إلى مستحقات الكهرباء. ودعا الدبيبة في الوقت نفسه أصحاب الشركات التونسية، خلال لقائه الأخير مع قادة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، إلى السفر إلى ليبيا لبناء المستشفيات.
 
فُرصٌ في الجزائر
 
وفي الجزائر أيضا، حيث استحوذت المجموعات الصينية على كثير من المشاريع في قطاعات مختلفة، هناك مشاريع تحتاج لعشرات الشركات لإنجازها، ومنها على سبيل المثال ميناء المياه العميقة بشرشال (غرب) الذي سينافس ميناء طنجة الدولي في المغرب. ويُلاحظ زائر ميناء شرشال، الذي يشتمل على ثلاث مدن صناعية في محيطه، لوحة كبيرة كُتب عليها، بين الرايتين الجزائرية والصينية، باللغة العربية والصينية والفرنسية، هذه العبارة: "رباط الصداقة يجمعنا دائما... معا نُحقق طريق الحرير".
 
تجربة مريرة
هذا الميناء الجديد موصولٌ بطريق سريعة تربطه بالطريق العابرة للصحراء، المُطلة على ستة بلدان أفريقية هي تونس والجزائر ومالي والنيجر وتشاد ونيجيريا. ولا ريب أن هذا الترابط سيُسهل إقامة منطقة تبادل حر تستفيد منها اقتصاديات البلدان المعنية، بعد التجربة المُرة التي عاشتها تونس مع دول الاتحاد الأوروبي، في إطار مسار برشلونة، والذي تسبب في هدم ثلث النسيج الصناعي الوطني في بضع سنوات. ومن المفيد التذكير هنا بنصائح المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية ريناتور وجيرو، الذي اعتبر أن تجربة الشراكة الأوروبية المتوسطية أغرقت البلدان المشاركة فيها، في برامج إصلاح هيكلي أعطت الأولوية لضرورات الاستقرار النقدي والمالي فقط. وشدد روجيرو على ضرورة الانتقال إلى نمط تنموي جديد يُركز على استيعاب التطور التقني ونشر المعارف وتجديد منظومات التكوين والتأهيل. وبرهنت التجربة الكورية على أن السيطرة على التجديد التكنولوجي مرتبطٌ وثيق الارتباط بوجود منظومة تربوية فعالة، وبخاصة بوجود منظومات تعليم عال متداخلة بشكل تفاعُلي مع دورة الإنتاج.
 
400 ألف سائح
ومن المهم الإشارة أيضا إلى الدور الكبير الذي يلعبه القطاع السياحي، في إطار التكامل المغاربي، بوصفه رافدا مهما لضخ العملة الصعبة في شرايين الاقتصاد، خصوصا بعدما تنزاح تقريبا جائحة "كوفيد19"، نهائيا، ففي أعقاب غلق الحدود الجزائرية مع تونس في مارس 2020 بسبب انتشار الجائحة، تراجع توافد الجزائريين على بلدنا، قبل فتحها مجددا في جوان 2021، بقرار من المجلس الأعلى للأمن القومي. ونزل عدد الوافدين من الجزائر في ماي 2022 إلى 36 ألف وافد، بينما وصل العدد قبل الجائحة إلى 400 ألف زائر. ويؤكد الخبراء أن أكثر من ثلاثة ملايين جزائري يمكن أن يزوروا تونس سنويا، في الأوضاع العادية، وهذا عنصرٌ دافعٌ لاقتصاد البلدين.
لكن في غياب التكامل الاقتصادي نُضطر جميعا إلى التخطيط في دائرة الاقتصاد الوطني لكل بلد، مُفرطين في الإمكانيات الواسعة للتنمية في النطاق الإقليمي. كما أن لتأجيل البناء المغاربي كلفة تُسببُ للجميع خسائر معتبرة تتجاوز نقطتي نمو سنويا. مع ذلك فإن بناء المصير المشترك لن يكون إلا بالاقتصاد المُتكامل، الذي يُنتجُ لأكثر من مئة مليون مستهلك، وليس لسوق محلية، مهما بلغ حجمها. وهنا تلعب منظمات رجال الأعمال دورا محوريا في مد الجسور بين البلدان المغاربية، وإقامة المشاريع  الاستثمارية، فدورُ القطاع الخاص في التكامل المغاربي اليوم، ليس كدوره في الماضي، عندما كان القطاع العام هو ركيزة الاقتصاد الوطني، في جميع البلدان المغاربية.
وعلى الرغم من أن هذه الرؤيا لمستقبل الاقليم تبدوغير واقعية، فإن التكامل الذي لا يُدرك كلُهُ لا يُترك جُلُه، طالما ظل هناك إيمان بالمشروع.
* كاتب وإعلامي وسياسي مستقل