في عصرنا الجنوني، الذي يعيشه العالم كله، أصبح استشراف المستقبل صعباً ومعقداً، وعند البعض أصبح شبه مستحيل. فالذي يحدث حالياً من انتكاسات وفواجع في عالمنا لا ارتباط له بمرجعيات القيم والفضائل الأخلاقية الإنسانية، ولا حتى يرتكز على موازين إيديولوجية معروفة تحكمه.
من هنا سيصعب الحديث أو التنبؤ عن أبرز المحطات القادمة عربياً ودولياً انطلاقا من أحداث سنة 2022، إذ أن أحداث تلك السنة ما هي إلا حصيلة لتخبط فكري وإيديولوجي وسلوكي وقيمي في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة أزالت الكمامة عن وجهه القبيح وفجرته في كل أرجاء العالم انعطافة النيولبرالية الرأسمالية العولمية المتوحشة منذ حوالي نصف قرن من الزمن. والنتيجة كانت هيمنة قيم ومغامرات السوق على كل القيم، وإزدياد غنى الأغنياء وفقر الفقراء، والتراجع المرعب في حجم ومكانة وفاعلية الطبقة الوسطى، وانغماس العالم في ثقافة استهلاكية مادية ومعنوية مجنونة، وترسيخ للفردانية الأنانية شبه المطلقة، وإضعاف لدولة الرعاية الاجتماعية، وفي الآونة الأخيرة انتشار غير مسبوق لهلوسة محو ونسيان صفة الأنوثة والذكورية لتحل محلها صفة المثلية في السلوك والعلاقات الجنسية والعائلية. وفجأة بهتت ملامح العدالة والحرية المسؤولة والمساواة في الكرامة الإنسانية في ساحات السياسة ليحل محلها صخب الشعبوية والصراعات العرقية.
ولم يسلم الوطن العربي من كل ما سبق من تراجعات وتشوهات، بل أضاف إليها عيشه في جحيم الإرهاب الديني التكفيري باسم الإسلام، وهو بريء من كل إدعاءاته ومعتنقي سلوكياته الدموية اللاإنسانية، وتساقط العديد من دوله الوطنية القطرية كما نراها الآن أمامنا في سوريا واليمن وليبيا والسودان ولبنان على سبيل المثال، وضعف وسقم المؤسسات القومية والجهوية المشتركة من أمثال الجامعة العربية ومجالس الإتحاد المغاربي والتعاون الخليجي، وتراجع الالتزام القومي بالوقوف في وجه العدو الصهيوني الاستعماري الاستئصالي ودعم النضال الفلسطيني المقاوم لجبروت الجرائم الصهيونية في فلسطين المحتلة، ووئد كل الحركات الجماهيرية العربية في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتشويه كل محاولات الانتقال إلى أنظمة ديمقراطية سياسية واقتصادية عادلة والنتيجة أن أصبحت الأرض العربية كلها مستباحة ومنهوبة ومقموعة من قبل قوى الاستعمار الغربي، بقيادة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وقوى الصهيونية العالمية في فلسطين وخارجها.
نحن إذن، في العالم وفي الوطن العربي على الأخص، أمام حالة سريالية لا يمكن فك طلاسمها. وإلا كيف يفسر الإنسان قبول أوروبا الدخول مع أميركا وبأوامر أميركية في مغامرة بالغة المخاطر في أوكرانيا حتى ولو كانت النتيجة تراجع أوروبا الاقتصادي وعيش الملايين من شعوبها دون طاقة كافية تحميهم من برودة شتائهم القاسي. بل ويدخلون في مغامرة قد تقودهم إلى حرب عالمية ثالثة، مع أنهم كانوا يستطيعون تجنب كل ذلك لو أصروا على حياد أوكرانيا وعدم دخولها في حلف الناتو. وإلا كيف يفسر الإنسان، على الجانب العربي، إفشال اجتماع مؤتمر القمة العربي في الجزائر وتغيب الكثيرين عنه، وذلك بالرغم من أنه كان مرشحاً لأن يلم الشمل ويصلح المناكفات والصراعات العربية ويدعم المقاومة الفلسطينية. ويحاول إخراج أمة العرب من الجحيم الذي تعيشه؟.
وبالتالي، يخادع الإنسان نفسه لو حمل أمل مجيء محطات قادمة عربياً ودولياً أثناء السنة القادمة. لا توجد قيادات عاقلة شجاعة، ولا توجد مؤسسات مجتمعات مدنية نضالية وواعية وواعدة، ولا توجد أفكار أو أطروحات إيديولوجية معقولة ومقبولة على نطاق واسع في هذا العالم، ذلك أن ما دمر عبر عشرات السنين سيحتاج هو الآخر لعشرات السنين لإصلاحه وبناء ما هو أكثر إنسانية وعدلاً. السؤال: هل توجد حركات عالمية ومحلية نضالية تعي ما فعلته بها أقليات مالية وعسكرية وتجهز نفسها وشعوبها لإيجاد إرادات وقوى قادرة على تفعيل ذلك الإصلاح وذلك البناء المطلوب؟
طرح ذلك السؤال والإجابة عليه هو المحطة القادمة المطلوبة.
*مفكر وكاتب ووزير بحريني سابق
د. علي فخرو
في عصرنا الجنوني، الذي يعيشه العالم كله، أصبح استشراف المستقبل صعباً ومعقداً، وعند البعض أصبح شبه مستحيل. فالذي يحدث حالياً من انتكاسات وفواجع في عالمنا لا ارتباط له بمرجعيات القيم والفضائل الأخلاقية الإنسانية، ولا حتى يرتكز على موازين إيديولوجية معروفة تحكمه.
من هنا سيصعب الحديث أو التنبؤ عن أبرز المحطات القادمة عربياً ودولياً انطلاقا من أحداث سنة 2022، إذ أن أحداث تلك السنة ما هي إلا حصيلة لتخبط فكري وإيديولوجي وسلوكي وقيمي في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة أزالت الكمامة عن وجهه القبيح وفجرته في كل أرجاء العالم انعطافة النيولبرالية الرأسمالية العولمية المتوحشة منذ حوالي نصف قرن من الزمن. والنتيجة كانت هيمنة قيم ومغامرات السوق على كل القيم، وإزدياد غنى الأغنياء وفقر الفقراء، والتراجع المرعب في حجم ومكانة وفاعلية الطبقة الوسطى، وانغماس العالم في ثقافة استهلاكية مادية ومعنوية مجنونة، وترسيخ للفردانية الأنانية شبه المطلقة، وإضعاف لدولة الرعاية الاجتماعية، وفي الآونة الأخيرة انتشار غير مسبوق لهلوسة محو ونسيان صفة الأنوثة والذكورية لتحل محلها صفة المثلية في السلوك والعلاقات الجنسية والعائلية. وفجأة بهتت ملامح العدالة والحرية المسؤولة والمساواة في الكرامة الإنسانية في ساحات السياسة ليحل محلها صخب الشعبوية والصراعات العرقية.
ولم يسلم الوطن العربي من كل ما سبق من تراجعات وتشوهات، بل أضاف إليها عيشه في جحيم الإرهاب الديني التكفيري باسم الإسلام، وهو بريء من كل إدعاءاته ومعتنقي سلوكياته الدموية اللاإنسانية، وتساقط العديد من دوله الوطنية القطرية كما نراها الآن أمامنا في سوريا واليمن وليبيا والسودان ولبنان على سبيل المثال، وضعف وسقم المؤسسات القومية والجهوية المشتركة من أمثال الجامعة العربية ومجالس الإتحاد المغاربي والتعاون الخليجي، وتراجع الالتزام القومي بالوقوف في وجه العدو الصهيوني الاستعماري الاستئصالي ودعم النضال الفلسطيني المقاوم لجبروت الجرائم الصهيونية في فلسطين المحتلة، ووئد كل الحركات الجماهيرية العربية في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتشويه كل محاولات الانتقال إلى أنظمة ديمقراطية سياسية واقتصادية عادلة والنتيجة أن أصبحت الأرض العربية كلها مستباحة ومنهوبة ومقموعة من قبل قوى الاستعمار الغربي، بقيادة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وقوى الصهيونية العالمية في فلسطين وخارجها.
نحن إذن، في العالم وفي الوطن العربي على الأخص، أمام حالة سريالية لا يمكن فك طلاسمها. وإلا كيف يفسر الإنسان قبول أوروبا الدخول مع أميركا وبأوامر أميركية في مغامرة بالغة المخاطر في أوكرانيا حتى ولو كانت النتيجة تراجع أوروبا الاقتصادي وعيش الملايين من شعوبها دون طاقة كافية تحميهم من برودة شتائهم القاسي. بل ويدخلون في مغامرة قد تقودهم إلى حرب عالمية ثالثة، مع أنهم كانوا يستطيعون تجنب كل ذلك لو أصروا على حياد أوكرانيا وعدم دخولها في حلف الناتو. وإلا كيف يفسر الإنسان، على الجانب العربي، إفشال اجتماع مؤتمر القمة العربي في الجزائر وتغيب الكثيرين عنه، وذلك بالرغم من أنه كان مرشحاً لأن يلم الشمل ويصلح المناكفات والصراعات العربية ويدعم المقاومة الفلسطينية. ويحاول إخراج أمة العرب من الجحيم الذي تعيشه؟.
وبالتالي، يخادع الإنسان نفسه لو حمل أمل مجيء محطات قادمة عربياً ودولياً أثناء السنة القادمة. لا توجد قيادات عاقلة شجاعة، ولا توجد مؤسسات مجتمعات مدنية نضالية وواعية وواعدة، ولا توجد أفكار أو أطروحات إيديولوجية معقولة ومقبولة على نطاق واسع في هذا العالم، ذلك أن ما دمر عبر عشرات السنين سيحتاج هو الآخر لعشرات السنين لإصلاحه وبناء ما هو أكثر إنسانية وعدلاً. السؤال: هل توجد حركات عالمية ومحلية نضالية تعي ما فعلته بها أقليات مالية وعسكرية وتجهز نفسها وشعوبها لإيجاد إرادات وقوى قادرة على تفعيل ذلك الإصلاح وذلك البناء المطلوب؟
طرح ذلك السؤال والإجابة عليه هو المحطة القادمة المطلوبة.