منذ مساء الأربعاء 30 نوفمبر 2022 انسحب فريقنا القومي لكرة القدم من المشاركة في كأس العالم. وقد خرج فريقنا بنتيجة أدلى حولها كلّ التونسيّات والتونسيّين تقريبا بدلوهم وأعطوا فيها آراءهم بإطناب. فبعد انتفاضة 17 ديسمبر 2010 أصبح العام والخاص في بلادنا حقوقيّا يتكلم في المجال الحقوقيّ وسياسيّا يبدي رأيه في عالم السّياسة واقتصاديّا يحلّل التّوازنات الاقتصادية والأزمات التي تطرأ عليها من حين إلى آخر في الدّاخل والخارج. وباختصار شديد، فإنّ كلّ النّاس أصبحوا أعلاما وعرّيفين لا يشقّ لهم غبار باسم حرّية الرّأي والتّعبير. ونسينا أنّ الحرّية المجرّدة من المسؤولية واقع مريض.
ما أشدّ على بلادنا من حال كهذه حيث تُخلط المسائل ويُغيّب العقل وتُترك آليّات التّحليل المنطقية ويُستبعد أصحاب الفكر والمعرفة ممّن اكتسبهما بعد عناء شديد امتدّ سنين وعقودا. ومن ناحيتنا، ليس المهمّ لدينا فقط أن نتوقّف على ما عاشته أغلب جماهير شعبنا من تحضيرات لمهرجان كأس العالم العارم وما لازمه من حماس وتشجيع منقطعي النظير للمنتخب الوطني التونسي. فلا حديث في البيوت والمقاهي والأسواق والإذاعات والقنوات التلفزية والمعاهد والمدارس والكلّيات والإدارات والمصانع والمعامل إلاّ عن مباراة كرة القدم التي سيجريها منتخبنا في كلّ مرة. ونعتبر أنّ هذه الهبّة الشّعبية لمساندة فريقنا الوطني ظاهرة صحّية. وقد أكّد كثير من علماء الاجتماع والّنفس أنّ ما يعيشه التونسيّات والتونسيّون في هذه الأيام من خلال متابعة أخبار فريقنا الوطني قد وحّدهم وجمعهم على كلمة سواء هي حب الانتصار وإعلاء راية الوطن وهو ما لم يحقّقه أيّ حزب أو حركة سياسيّة أو حقوقيّة أو نقابيّة في البلاد.
ولكن الذي استرعى انتباهنا وأقضّ مضاجعنا ولم نستطع تجاوزه والمرور عليه كأنّه لم يحصل ما تسرّب للشّعب التّونسيّ عبر الإذاعات والقنوات التلفزية. لقد تسرّب من الأمور ما نعتبره سموما إن دخلت إلى عقول ناشئتنا خاصّة ويصبح من العسير جدّا إخراجها. وليس هذا فقط بل إنّ هذه السّموم ستتعاظم وتتكاثر مساويها في كلّ يوم وحين. لقد عمد كثير من الصّحافيّات والصّحافيّين والمعلّقات والمعلّقين الرّياضيين وغيرهم إلى إيهام المتابعات والمتابعين لمباراة تونس وفرنسا أنّ النّصر سيكون حليفنا بفضل الأولياء الصّالحين وزيارة أضرحتهم وهم السّيدة المنّوبيّة، سيدي الباجي، سيدي بوسعيد، سيدي التّيجاني، سيدي الجيلاني، سيدي عبد السّلام لسمر وغيرهم. وقد وقع إمرار أغان لا تخلو من التّقديس لهؤلاء الرّجال والنّساء والادعاء، ربّما على سبيل الدّعابة، أنّهم قادرون على إعانة اللاّعبين الذين سيفوزون في المباراة ببركاتهم. وقيل أيضا إنّ البخور الذي رُمي به في الكوانين سيبعث في اللاّعبين روح الانتصار وسيقوّي عزيمتهم ويعطيهم دفعا لا محدودا يتحوّلون بفضله إلى أبطال أشاوس. وبقدرة الأولياء الصّالحين ستتطلسم عيون لاعبي الفريق المنافس وسيتحوّلون إلى أشباح لا يفعلون شيئا ولا يقدرون حتّى على مسك الكرة.
لقد فات هؤلاء أنّ الانتصار في أيّ مجال يتطلب العمل والاجتهاد والاستعداد له على جميع الأصعدة. فهل فكّرنا على مدار السّنة تلو الأخرى في الطّرق المثلى لصقل مواهب اللاّعبين والاعتناء بهم مادّيا ومعنويا في كلّ مراحل الأقسام التدريبيّة بدءا بالأصاغر والأداني مرورا بالأواسط وصولا إلى الأكابر، هذا فضلا عن تهيئة البنى التحية لأغلب ملاعب بلادنا؟ هل بهذه العقليّات المتخلّفة والرّجعية التي تعود بنا إلى عصر الخرافات والتّرهات والسّخافات سنبني جيلنا عمود بلادنا الفقري؟ هل بالأوهام والكلام الفارغ ومستوى الوعي الهابط سننجز المستحيل في مجالات التّعليم والصّحة والنّقل والفلاحة وغيرها؟ ألا يخشى هؤلاء من مغبّة ما سيبقى في صدور أبنائنا من شعوذة لا تسمن ولا تغني من جوع؟ هل يعي هؤلاء أنّ كأس العالم ستنتهي أيّامه ولن يعود إلاّ بعد أربع سنوات أما ما علّموه لأبنائنا وشوّشوا به أفكارهم من مستوى متدنّ فإنّه لا ينتهي ويبعث على البكاء والنّحيب أكثر فأكثر.
واتعساهǃ واحرّ قلباه على ما تُحشى به أدمغة فلذات أكبادنا من عداء للفكر النّير المتطلّع إلى الأفضل الذي يتّخذ العقل إماما لا سواه ويأخذ بالأسباب في كلّ الأمورǃ
مصدّق الشّريف
منذ مساء الأربعاء 30 نوفمبر 2022 انسحب فريقنا القومي لكرة القدم من المشاركة في كأس العالم. وقد خرج فريقنا بنتيجة أدلى حولها كلّ التونسيّات والتونسيّين تقريبا بدلوهم وأعطوا فيها آراءهم بإطناب. فبعد انتفاضة 17 ديسمبر 2010 أصبح العام والخاص في بلادنا حقوقيّا يتكلم في المجال الحقوقيّ وسياسيّا يبدي رأيه في عالم السّياسة واقتصاديّا يحلّل التّوازنات الاقتصادية والأزمات التي تطرأ عليها من حين إلى آخر في الدّاخل والخارج. وباختصار شديد، فإنّ كلّ النّاس أصبحوا أعلاما وعرّيفين لا يشقّ لهم غبار باسم حرّية الرّأي والتّعبير. ونسينا أنّ الحرّية المجرّدة من المسؤولية واقع مريض.
ما أشدّ على بلادنا من حال كهذه حيث تُخلط المسائل ويُغيّب العقل وتُترك آليّات التّحليل المنطقية ويُستبعد أصحاب الفكر والمعرفة ممّن اكتسبهما بعد عناء شديد امتدّ سنين وعقودا. ومن ناحيتنا، ليس المهمّ لدينا فقط أن نتوقّف على ما عاشته أغلب جماهير شعبنا من تحضيرات لمهرجان كأس العالم العارم وما لازمه من حماس وتشجيع منقطعي النظير للمنتخب الوطني التونسي. فلا حديث في البيوت والمقاهي والأسواق والإذاعات والقنوات التلفزية والمعاهد والمدارس والكلّيات والإدارات والمصانع والمعامل إلاّ عن مباراة كرة القدم التي سيجريها منتخبنا في كلّ مرة. ونعتبر أنّ هذه الهبّة الشّعبية لمساندة فريقنا الوطني ظاهرة صحّية. وقد أكّد كثير من علماء الاجتماع والّنفس أنّ ما يعيشه التونسيّات والتونسيّون في هذه الأيام من خلال متابعة أخبار فريقنا الوطني قد وحّدهم وجمعهم على كلمة سواء هي حب الانتصار وإعلاء راية الوطن وهو ما لم يحقّقه أيّ حزب أو حركة سياسيّة أو حقوقيّة أو نقابيّة في البلاد.
ولكن الذي استرعى انتباهنا وأقضّ مضاجعنا ولم نستطع تجاوزه والمرور عليه كأنّه لم يحصل ما تسرّب للشّعب التّونسيّ عبر الإذاعات والقنوات التلفزية. لقد تسرّب من الأمور ما نعتبره سموما إن دخلت إلى عقول ناشئتنا خاصّة ويصبح من العسير جدّا إخراجها. وليس هذا فقط بل إنّ هذه السّموم ستتعاظم وتتكاثر مساويها في كلّ يوم وحين. لقد عمد كثير من الصّحافيّات والصّحافيّين والمعلّقات والمعلّقين الرّياضيين وغيرهم إلى إيهام المتابعات والمتابعين لمباراة تونس وفرنسا أنّ النّصر سيكون حليفنا بفضل الأولياء الصّالحين وزيارة أضرحتهم وهم السّيدة المنّوبيّة، سيدي الباجي، سيدي بوسعيد، سيدي التّيجاني، سيدي الجيلاني، سيدي عبد السّلام لسمر وغيرهم. وقد وقع إمرار أغان لا تخلو من التّقديس لهؤلاء الرّجال والنّساء والادعاء، ربّما على سبيل الدّعابة، أنّهم قادرون على إعانة اللاّعبين الذين سيفوزون في المباراة ببركاتهم. وقيل أيضا إنّ البخور الذي رُمي به في الكوانين سيبعث في اللاّعبين روح الانتصار وسيقوّي عزيمتهم ويعطيهم دفعا لا محدودا يتحوّلون بفضله إلى أبطال أشاوس. وبقدرة الأولياء الصّالحين ستتطلسم عيون لاعبي الفريق المنافس وسيتحوّلون إلى أشباح لا يفعلون شيئا ولا يقدرون حتّى على مسك الكرة.
لقد فات هؤلاء أنّ الانتصار في أيّ مجال يتطلب العمل والاجتهاد والاستعداد له على جميع الأصعدة. فهل فكّرنا على مدار السّنة تلو الأخرى في الطّرق المثلى لصقل مواهب اللاّعبين والاعتناء بهم مادّيا ومعنويا في كلّ مراحل الأقسام التدريبيّة بدءا بالأصاغر والأداني مرورا بالأواسط وصولا إلى الأكابر، هذا فضلا عن تهيئة البنى التحية لأغلب ملاعب بلادنا؟ هل بهذه العقليّات المتخلّفة والرّجعية التي تعود بنا إلى عصر الخرافات والتّرهات والسّخافات سنبني جيلنا عمود بلادنا الفقري؟ هل بالأوهام والكلام الفارغ ومستوى الوعي الهابط سننجز المستحيل في مجالات التّعليم والصّحة والنّقل والفلاحة وغيرها؟ ألا يخشى هؤلاء من مغبّة ما سيبقى في صدور أبنائنا من شعوذة لا تسمن ولا تغني من جوع؟ هل يعي هؤلاء أنّ كأس العالم ستنتهي أيّامه ولن يعود إلاّ بعد أربع سنوات أما ما علّموه لأبنائنا وشوّشوا به أفكارهم من مستوى متدنّ فإنّه لا ينتهي ويبعث على البكاء والنّحيب أكثر فأكثر.
واتعساهǃ واحرّ قلباه على ما تُحشى به أدمغة فلذات أكبادنا من عداء للفكر النّير المتطلّع إلى الأفضل الذي يتّخذ العقل إماما لا سواه ويأخذ بالأسباب في كلّ الأمورǃ