نرى أن المجتمع التونسي تبنى منذ خير الدين باشا (1875) سياسة لغوية يعتبرها التحليل الموضوعي خطأ واضحا ذا انعكاسات سلبية ليس على اللغة الوطنية/ العربية فقط وإنما أيضا على سلامة هوية الشعب التونسي، نظرا للعلاقة الوطيدة بين لغات وهويات الشعوب كما يتجلى من الملاحظات الميدانية لتلك العلاقة ودراسات العلوم الاجتماعية المعاصرة. رغم ذلك، فإن أغلبية الشعب التونسي ينظر إلى الأمر بعيون إيجابية. تتمثل أبجدية العلاقة السليمة مع اللغة الوطنية في المعالم التالية:
أ- تؤكد وتقول هذه الأبجدية إن العلاقة الطبيعية/السليمة بين الناس ولغاتهم تتجلى في ممارسة أربعة بنود لميثاق اللغات : 1- استعمالهم لها وحدها بينهم في الحديث في كل شؤون حياتهم الشخصية والجماعية و2- استعمالهم لها فقط بينهم في الكتابة. 3- المعرفة الوافية للغة والمتمثلة في معرفة معاني مفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية والإملائية وغيرها.4 - تنشأ عن هذه العلاقة السليمة التفاعلية مع اللغة في 1و2و3 ما نسميها 'العلاقة الحميمة' مع تلك اللغة والتي تظهر في المواصفات النفسية والسلوكية : حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أو لغات أخرى يمكن أن يتعلمها الأفراد في مجتمعاتهم وخارجها. إذن، فمعادلة العلاقة السليمة مع اللغة الوطنية = 1+2+3+4.
ب-نطرح هنا فكرة لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة نسميها الحجر اللغوي المشابه للحجر الصحي. تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية الطبيعية الضرورية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم على الأقل: الابتدائية والإعدادية والثانوية.. يتجلى هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى مناعة كبيرة ضد الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو ضد تفشي المزج اللغوي بين لغات الأم أو اللغات الوطنية واللغات الأجنبية أو استعمال هذه الأخيرة كثيرا أو فقط في الحديث والكتابة، من جهة أخرى
ت- فساد العلاقة السليمة مع العربية
سعيا لكسب الحداثة الغربية تبنى خير الدين باشا في تونس خطة لإصلاح التعليم في تونس بتعليم الفرنسية والتدريس بها لا مجرد تعلّمها فقط كلغة أجنبية. فافتتح المدرسة الصادقية في 1875 لتطبيق هذه السياسة اللغوية المفسدة للعلاقة مع اللغة الوطنية/العربية . يبدو أن الرجل كان جاهلا بمدى التأثيرات السلبية للتدريس باللغات الأجنبية على اللغات الوطنية وعلى هويات أصحابها وعلى أن ذلك التدريس طالما يؤدي إلى اغتراب لغوي لدى المواطنين، وهذا ما يفسر مثلا الخوفُ من تلك المخاطر في المجتمعات الأوروبية وغيرها التي تنفر من التدريس المواد باللغات الأجنبية حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل. أي أن نُظم التعليم في تلك المجتمعات تتبنى بصرامة الحجر اللغوي الكامل الذي يُدرّس باللغات الوطنية فقط. فالكثيرون من خريجي المدرسة الصادقية التونسية التي درّست المواد باللغة الفرنسية فقط شهادة على تلك المخاطر والمتمثلة في ضُعف أو فقدان ولاء معظم هؤلاء للغة العربية قبل اللغة الفرنسية وتذبذب أو ضُعف أو نكران انتمائهم إلى الهوية العربية. فكتابة محاضر اجتماعات الوزراء بالفرنسية في العهد البورقيبي وحديث الرئيس بورقيبة مع الأمريكيين والألمان- الذين لا يفهمون الفرنسية- بتلك اللغة ومعارضته لسياسة التعريب التي تبناها الوزير محمد مزالي شهادة على ضعف الوطنية اللغوية لدى الرئيس خريج المدرسة الصادقية التي يغيب فيها الحجر اللغوي لصالح العربية، اللغة الرسمية والوطنية بالمجتمع التونسي. وينطبق فقدان الوطنية اللغوية أيضا على رؤساء ووزراء تونسيين الذين كتبوا مذكراتهم ونشروها باللغة الفرنسية في السنوات القليلة الأخيرة، بدلا عن اللغة العربية/الوطنية..
ث- تواصل فساد العلاقة مع العربية
وقع تطبيق النموذج الصادقي من التعليم على المدارس الحكومية التونسية بعد الاستقلال. أي أن تلك المدارس تدرّس جميع أو معظم المواد باللغة الفرنسية. فسُمي خريجو هذه المدارس " المَدْرَسِيِّين". فهم مثل الصادقيين يختلفون عن خريجي التعليم الزيتوني الذين يدرسون كل المواد باللغة العربية. وهكذا، أدى إصلاح خير الدين في التعليم إلى انقسام لغوي وثقافي بين المتعلمين التونسيين جعل الصادقيين والمدرسيين يتمتعون – بسبب خضوعهم للاغتراب اللغوي- بمكانة أفضل من الزيتونيين في المجتمع التونسي قبل الاستقلال وبعده ، ومن ثم جاءت هيمنتهم على المدارس والمعاهد والجامعات الوطنية التونسية التي عرفت وتعرف الاغتراب اللغوي الذي يتجلى اليوم في خريجها.
ج- غياب التحرر من الاستعمار اللغوي
ونظرا لضُعف أو غياب مفهوم الوطنية اللغوية عند الصادقيين والمدرسيين الذين قادوا مسيرة البلاد بعد الاستقلال مباشرة، فإن هؤلاء نادوا بقوة بالتحرر من الاستعمار الفرنسي العسكري والسياسي والفلاحي، لكن لم يفعلوا ذلك بالنسبة للتحرر من الاستعمار اللغوي الفرنسي، أي نادوا بتحرير الجسد ورحبوا ببقاء الروح سجينة. ويعود هذا أساسا إلى فقدان الحجر اللغوي في إصلاح التعليم الذي دعا إليه خير الدين وتبناه الصادقيون والمدرسيُّون الذين سيطروا على حكم البلاد باحتضان موقف ضُعف الصداقة للغة الوطنية أو فقدان العلاقة السليمة معها. يشير هذا الواقع التونسي أن الاستعمار اللّغوي الفرنسي المتواصل أفسد/ يُفسد علاقة هؤلاء باللّغة العربية وثقافتها.فهم بذلك يختلفون عن النخب القيادية وشعوبها في مجتمعات أخرى معاصرة كسبتْ فعلا رهان الحداثة وذلك بجعل لغاتها الوطنية وهوياتها الثقافية في صلب عمليّة التحديث كما هو الحال في اليابان وكوريا الجنوبية والصين ومقاطعة كيباك بكندا وتركيا وإسرائيل. بينما ينادي كثير من النّخب التونسية وفئات كثيرة من الشعب متأثرة بثقل مخلفات الاستعمار بتهميش اللّغة العربيّة من عملية التحديث.
ح- ضُعف العلاقة مع اللغة وارتباك الهوية
يفيد التعمق الفكري في طبيعة الأشياء أن اللغة المكتوبة والمنطوقة هي التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات الأخرى. ومن ثم، يجوز صياغة الكوجيتو الديكارتي اللغوي كالتالي: " استعمل لغة، إذن، فأنا إنسان"،أي أن جوهر هوية الإنسان يتمثل في أنه كائن لغوي بالطبع . ومنه ، فالعلاقة غير السليمة مع اللغة الأم أو الوطنية لا بد أن تؤدي إلى ارتباك وارتعاش في عمق طيات هويات الأفراد. إذن، فمن الكذب الفاضح على العلم الادعاء أن لا ضرر يمس هويات الناس إذا كانت علاقاتهم غير سليمة مع لغاتهم. أفلا يلاَحظ المرءُ بسهولة معالمَ الضرر والتفكك في تماسك الهوية العربية لدى عدد هائل من التونسيات والتونسيين ؟
*عالم الاجتماع
بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي (*)
مقولة هذا المقال
نرى أن المجتمع التونسي تبنى منذ خير الدين باشا (1875) سياسة لغوية يعتبرها التحليل الموضوعي خطأ واضحا ذا انعكاسات سلبية ليس على اللغة الوطنية/ العربية فقط وإنما أيضا على سلامة هوية الشعب التونسي، نظرا للعلاقة الوطيدة بين لغات وهويات الشعوب كما يتجلى من الملاحظات الميدانية لتلك العلاقة ودراسات العلوم الاجتماعية المعاصرة. رغم ذلك، فإن أغلبية الشعب التونسي ينظر إلى الأمر بعيون إيجابية. تتمثل أبجدية العلاقة السليمة مع اللغة الوطنية في المعالم التالية:
أ- تؤكد وتقول هذه الأبجدية إن العلاقة الطبيعية/السليمة بين الناس ولغاتهم تتجلى في ممارسة أربعة بنود لميثاق اللغات : 1- استعمالهم لها وحدها بينهم في الحديث في كل شؤون حياتهم الشخصية والجماعية و2- استعمالهم لها فقط بينهم في الكتابة. 3- المعرفة الوافية للغة والمتمثلة في معرفة معاني مفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية والإملائية وغيرها.4 - تنشأ عن هذه العلاقة السليمة التفاعلية مع اللغة في 1و2و3 ما نسميها 'العلاقة الحميمة' مع تلك اللغة والتي تظهر في المواصفات النفسية والسلوكية : حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أو لغات أخرى يمكن أن يتعلمها الأفراد في مجتمعاتهم وخارجها. إذن، فمعادلة العلاقة السليمة مع اللغة الوطنية = 1+2+3+4.
ب-نطرح هنا فكرة لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة نسميها الحجر اللغوي المشابه للحجر الصحي. تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية الطبيعية الضرورية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم على الأقل: الابتدائية والإعدادية والثانوية.. يتجلى هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى مناعة كبيرة ضد الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو ضد تفشي المزج اللغوي بين لغات الأم أو اللغات الوطنية واللغات الأجنبية أو استعمال هذه الأخيرة كثيرا أو فقط في الحديث والكتابة، من جهة أخرى
ت- فساد العلاقة السليمة مع العربية
سعيا لكسب الحداثة الغربية تبنى خير الدين باشا في تونس خطة لإصلاح التعليم في تونس بتعليم الفرنسية والتدريس بها لا مجرد تعلّمها فقط كلغة أجنبية. فافتتح المدرسة الصادقية في 1875 لتطبيق هذه السياسة اللغوية المفسدة للعلاقة مع اللغة الوطنية/العربية . يبدو أن الرجل كان جاهلا بمدى التأثيرات السلبية للتدريس باللغات الأجنبية على اللغات الوطنية وعلى هويات أصحابها وعلى أن ذلك التدريس طالما يؤدي إلى اغتراب لغوي لدى المواطنين، وهذا ما يفسر مثلا الخوفُ من تلك المخاطر في المجتمعات الأوروبية وغيرها التي تنفر من التدريس المواد باللغات الأجنبية حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل. أي أن نُظم التعليم في تلك المجتمعات تتبنى بصرامة الحجر اللغوي الكامل الذي يُدرّس باللغات الوطنية فقط. فالكثيرون من خريجي المدرسة الصادقية التونسية التي درّست المواد باللغة الفرنسية فقط شهادة على تلك المخاطر والمتمثلة في ضُعف أو فقدان ولاء معظم هؤلاء للغة العربية قبل اللغة الفرنسية وتذبذب أو ضُعف أو نكران انتمائهم إلى الهوية العربية. فكتابة محاضر اجتماعات الوزراء بالفرنسية في العهد البورقيبي وحديث الرئيس بورقيبة مع الأمريكيين والألمان- الذين لا يفهمون الفرنسية- بتلك اللغة ومعارضته لسياسة التعريب التي تبناها الوزير محمد مزالي شهادة على ضعف الوطنية اللغوية لدى الرئيس خريج المدرسة الصادقية التي يغيب فيها الحجر اللغوي لصالح العربية، اللغة الرسمية والوطنية بالمجتمع التونسي. وينطبق فقدان الوطنية اللغوية أيضا على رؤساء ووزراء تونسيين الذين كتبوا مذكراتهم ونشروها باللغة الفرنسية في السنوات القليلة الأخيرة، بدلا عن اللغة العربية/الوطنية..
ث- تواصل فساد العلاقة مع العربية
وقع تطبيق النموذج الصادقي من التعليم على المدارس الحكومية التونسية بعد الاستقلال. أي أن تلك المدارس تدرّس جميع أو معظم المواد باللغة الفرنسية. فسُمي خريجو هذه المدارس " المَدْرَسِيِّين". فهم مثل الصادقيين يختلفون عن خريجي التعليم الزيتوني الذين يدرسون كل المواد باللغة العربية. وهكذا، أدى إصلاح خير الدين في التعليم إلى انقسام لغوي وثقافي بين المتعلمين التونسيين جعل الصادقيين والمدرسيين يتمتعون – بسبب خضوعهم للاغتراب اللغوي- بمكانة أفضل من الزيتونيين في المجتمع التونسي قبل الاستقلال وبعده ، ومن ثم جاءت هيمنتهم على المدارس والمعاهد والجامعات الوطنية التونسية التي عرفت وتعرف الاغتراب اللغوي الذي يتجلى اليوم في خريجها.
ج- غياب التحرر من الاستعمار اللغوي
ونظرا لضُعف أو غياب مفهوم الوطنية اللغوية عند الصادقيين والمدرسيين الذين قادوا مسيرة البلاد بعد الاستقلال مباشرة، فإن هؤلاء نادوا بقوة بالتحرر من الاستعمار الفرنسي العسكري والسياسي والفلاحي، لكن لم يفعلوا ذلك بالنسبة للتحرر من الاستعمار اللغوي الفرنسي، أي نادوا بتحرير الجسد ورحبوا ببقاء الروح سجينة. ويعود هذا أساسا إلى فقدان الحجر اللغوي في إصلاح التعليم الذي دعا إليه خير الدين وتبناه الصادقيون والمدرسيُّون الذين سيطروا على حكم البلاد باحتضان موقف ضُعف الصداقة للغة الوطنية أو فقدان العلاقة السليمة معها. يشير هذا الواقع التونسي أن الاستعمار اللّغوي الفرنسي المتواصل أفسد/ يُفسد علاقة هؤلاء باللّغة العربية وثقافتها.فهم بذلك يختلفون عن النخب القيادية وشعوبها في مجتمعات أخرى معاصرة كسبتْ فعلا رهان الحداثة وذلك بجعل لغاتها الوطنية وهوياتها الثقافية في صلب عمليّة التحديث كما هو الحال في اليابان وكوريا الجنوبية والصين ومقاطعة كيباك بكندا وتركيا وإسرائيل. بينما ينادي كثير من النّخب التونسية وفئات كثيرة من الشعب متأثرة بثقل مخلفات الاستعمار بتهميش اللّغة العربيّة من عملية التحديث.
ح- ضُعف العلاقة مع اللغة وارتباك الهوية
يفيد التعمق الفكري في طبيعة الأشياء أن اللغة المكتوبة والمنطوقة هي التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات الأخرى. ومن ثم، يجوز صياغة الكوجيتو الديكارتي اللغوي كالتالي: " استعمل لغة، إذن، فأنا إنسان"،أي أن جوهر هوية الإنسان يتمثل في أنه كائن لغوي بالطبع . ومنه ، فالعلاقة غير السليمة مع اللغة الأم أو الوطنية لا بد أن تؤدي إلى ارتباك وارتعاش في عمق طيات هويات الأفراد. إذن، فمن الكذب الفاضح على العلم الادعاء أن لا ضرر يمس هويات الناس إذا كانت علاقاتهم غير سليمة مع لغاتهم. أفلا يلاَحظ المرءُ بسهولة معالمَ الضرر والتفكك في تماسك الهوية العربية لدى عدد هائل من التونسيات والتونسيين ؟