بقلم:منير الشرفي
لم أطّلع بعد على الكتاب الذي صدر هذه الأيام للأستاذ أمين محفوظ والذي يسرد فيه على ما يبدو مسيرته في السنتين الأخيرتين وما عاشه خلال فترة صياغة دستور 2022. وهي بالتأكيد رواية شاهد عيان تستحق التمعّن فيها، في انتظار شهادات وروايات أخرى حول نفس الموضوع ونفس الفترة، قد تُؤيّدها أو تُكمّلها أو تُناقضها.
ومن ميزات هذه الشهادة أنها أتت بعد فترة قصيرة من الحدث، حدث صياغة ونشر دستور قيس سعيد. لأن التاريخ الذي يكتبه الحكام، خاصة في الدول المُتخلّفة، يكون في الغالب رواية منقوصة أو مُفركة على مقاس الحاكم، ولا تظهر الحقائق بخصوص الأحداث الرسمية إلّا بعد فترة طويلة، أي بعد نهاية ذلك الحكم، بسنوات عديدة أحيانا.
فنهاية حكم بورقيبة لم تظهر خفاياها بالكامل إلى اليوم. وعلى سبيل المثال، لا نعرف بالتدقيق إلى حدّ الآن من الذي كتب بيان 7 نوفمبر، علما بأن زين العابدين بن علي غير قادر على صياغة نصّ بذلك العمق، كما أنه لم يكن في تلك الفترة سياسيّا مُحنّكا، قبل أن يتعلّم أبجديات السياسة وهو في السلطة. وأذكر أنني تقابلت مع المرحوم الهادي البكوش، قبل ثلاث سنوات، وبادرته بالسؤال: "هل حقّا أنك مُحرر بيان 7 نوفمبر؟" فابتسم وغيّر وجهة الحديث.
وأما بخصوص نهاية حكم زين العابدين بن علي، فحدّث ولا حرج. فبعد أكثر من عشر سنوات مازالت تلك الأحداث يحوم حولها غموض غريب. فهل أن "بن علي هرب"، أم أنها "ثورة" أتت إثر انتحار شاب في سيدي بوزيد، أم أنها "مؤامرة داخلية"، أم "مؤامرة خارجية"...؟ لا نعرف الحقيقة إلى اليوم. والحقيقة الكاملة قد يعرفها عدد قليل من الأنفار مُصرّون إلى الآن على إخفائها للرأي العام التونسي، ربما لأن العارفين بخفايا الأمور لعبوا، هم أنفسهم، دورا في ما حدث يوم 14 جانفي 2011، ويرغبون في عدم سرد الوقائع كما هي خوفا من مُحاسبة مُحتملة.
وفي كل الحالات، فإن العادة جرت أن التاريخ الصحيح هو من مهام المؤرّخين الذين يقومون بالتدقيق العلمي والموضوعي للأحداث سنوات بعد وقوعها.
وإذ نُثمّن مجهود الأستاذ أمين محفوظ على الإدلاء بدلوه بخصوص حدث في أهميّة صياغة وصدور دستور للبلاد في وقت يُعتبر مُبكّرا لكشف الحقائق في المجال السياسي مُقارنة بالبطء المعهود في إظهار خفاياها، فإن انتظاراتنا قد تطول بشأن أحداث أخرى عشناها مُؤخّرا وقد تبقى غامضة لسنوات.
فالاغتيالات السياسية، بعد عشر سنوات من حدوثها، لم تُفكّ بعد رموزها ولم تظهر بعد خفاياها. وحيث أن مُدبّريها ومُنفّذيها هم على ما يبدو من الداعين إلى الإسلام السياسي، ونظرا إلى أن الإسلام السياسي ما زال قائما رغم كل ما يُقال بشأنه، فإن الكشف عن الملفات الدقيقة بخصوص هذا الموضوع قد لن يتمّ قبل العودة إلى الطبيعة المدنية للدولة.
نفس الشيء بالنسبة إلى ما يُسمّى "بالجهاز السري لحركة النهضة". وهو جهاز توجد بشأنه آلاف الوثائق بحوزة هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وفي حوزة رئاسة الجمهورية منذ زمن حكم الرئيس الراحل المرحوم الباجي قائد السبسي. وقد يعود عدم الإفصاح عن خفايا هذا الملف والكشف عنها بكل شفافية إلى أن حركة النهضة، أو لنقل الإسلام السياسي، لم يُغادر السلطة تماما كما يُروّج لذلك، إذ أن النهضة على ما يبدو باقية في الصفوف الثانويّة للدولة، أو في الدولة العميقة كما يُقال.
ولا أدلّ على ذلك من إصرار الدولة، بكامل أجهزتها السياسية والأمنية والقضائية، على المحافظة على مقرّ "اتحاد علماء المسلمين" الإرهابي في تونس. وهو إصرار يدلّ بوضوح على أننا نعيش في ظل دولة إسلامية، بدليل دستور 2022، روحا ونصّا، ولا سيما منه الفصل الخامس.
الأحداث التي نعيشها هذه الأيام، ستتّضح أهدافها وخفاياها عاجلا أم آجلا. فأمّا الآجل فسيُطلعنا عليه المؤرّخون والباحثون بعد حين، كما هو الشأن بالنسبة لكافة الروايات التاريخية التي لا تظهر للعيان إلّا بعد فترة من تغيير الأنظمة في الكثير من بلدان العالم، وخاصة البلدان التي تُسيّر بدون شفافية في التعامل مع المواطنين. وأما العاجل فهو الذي يأتي من جهات مُستقلّة عن الحاكم، مثل ما أتى به الأستاذ أمين محفوظ، أو من الخارج مثل فحوى الاتفاقية المُبرمة بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي، والذي سيُطلعنا عليه الصندوق عند نشره لهذه الاتفاقية بعد بضعة أسابيع.