إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

فقدان الحجر اللغوي وإصابة الشعب التونسي بفيروس اللغة الفرنسية

بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

الجهل الواسع بالإجابة الصحيحة

عندما نسأل التونسية والتونسي العاديين لماذا تفضل أغلبيةُ الشعب التونسي (القمة والقاعدة ومن بينهما) استعمال اللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية/الوطنية كما هو الحال في عينة الأمثلة التالية ؟ تكون إجابة تلك الأغلبية أن الاستعمار الفرنسي هو السبب :

1ـ عُرف في العهد البورقيبي أن محاضر اجتماعات الوزراء في حضور بورقيبة أو في غيابه لطالما كانت تكتب بالفرنسية.

2-خاطب الرئيس الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج الحاضرين والحاضرات من التونسيين والأجانب باللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية/الوطنية ، بينما توجه الرئيس النمساوي إلى هؤلاء باللغة الألمانية، لغته الوطنية.

3ـ تتعامل جل البنوك التونسية في الإجراءات المكتوبة حتى يومنا هذا مع حرفائها التونسيين باللغة الفرنسية.

4ـ هناك انتشار موقف جماعي تونسي غير متحمس وغيور ومدافع عن اللغة العربية الأمر الذي يجعل الباحث يشعر وكأن اللغة العربية هي لغة ثانية أو ثالثة لدى الجمهور التونسي العريض وفي طليعتهم كثير من النخب المثقفة التونسية.

5ـ لا تكاد التونسيات تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس.

6ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/شيكاتها إلا باللغة الفرنسية بحيث أصبح يُنظر لمن يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف ومتخلف.

7- نظمت النساء الديمقراطيات لقاء في 28 -01-2012 في بيت الحكمة لتتحدث فيه بعض النساء المثقفات في العلوم الإنسانية والاجتماعية عن وضع المرأة بصفة عامة وفي المنطقة العربية الإسلامية خاصة. اختار هؤلاء جميعا اللغة الفرنسية في القيام بمداخلاتهن رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي لمداخلتهن.

فقدان الحجر اللغوي هو السبب الأكبر

يتطلب مفهومنا للحجر اللغوي مقارنته بالحجر الصحي لبيان كيف يفسر إعاقة استعمال اللغة العربية في المجتمع التونسي أفضل من عامل الاستعمار الفرنسي. يقول المثل: " رُبّ صدفة خير من ألف ميعاد". فجأة، هدتني منافع الحجر الصحي ضدّ الإصابة بوباء الكورونا إلى حجر آخر له أيضا فوائد جمة رغم الاختلاف الكبير في طبيعتهما. نتيجة لذلك، ابتكرتُ مفهوما جديدا لا يكاد يخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. إنه مفهوم الحجر اللغوي: استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط خاصة في التدريس ابتداء من حاضنات صغار الأطفال وفي المراحل الثلاث للتعليم: الابتدائي والإعدادي والثانوي. فالحجر اللغوي يساعد، مثلا، على تفسير سلوكيات التونسيات والتونسيين غير السليمة مع اللغة العربية/الوطنية ( عندما لا يستعملونها وحدها في الحديث والكتابة في كل شيء) . يعود ذلك إلى فقدان نظام التعليم التونسي بالكامل الحجر اللغوي. يتشابه الحجر اللغوي مع الحجر الصحي في تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) تحمي الفرد كثيرا من الإصابة بفيروس الكورونا. وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة. وهكذا، فالحظ الكبير لسلامة صحة الفرد وسلامة لغته هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. بعد ذكر وجه التشابه بين الحجر الصحي و الحجر اللغوي، يتضح أن هذا الأخير يؤدي إلى تبني الناس بعفوية وحماس لعلاقة طبيعية أي سليمة مع لغاتهم.

عينات تونسية لغياب وحضور الحجر اللغوي

نذكر مثالين للعلاقة السليمة أو المعوجة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:

1-إن خريجي التعليم التونسي في ما يسمى 'شعبة أ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية. لقد درس هؤلاء الخريجون كل المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. تشير الملاحظات الميدانية أنهم أكثر خريجي المدارس التونسية بعد الاستقلال تعاطفا وحماسا نحو استعمال اللغة العربية. فهم لغويا أكثر وطنية من بقية الخريجين التونسيين. فعلاقتهم النفسية الحميمة الناتجة عن الحجر اللغوي جعلت اللغة العربية عندهم صاحبة المكانة الأولى في الاستعمال والاعتزاز بها والدفاع عنها.

2-أما خريجو بقية التعليم التونسي – وهم اليوم أغلبية المتعلمين التونسيين والتونسيات - فهم فاقدون للحجر اللغوي، أي أنهم درسوا باللغة الفرنسية بعض المواد أو معظمها في تلك المراحل المذكورة. فقد هيمنت اللغة الفرنسية في المدرسة الصادقية الثنائية اللغة ( الفرنسية والعربية) قبل الاستقلال كوسيلة لتدريس التلاميذ التونسيين المواد المختلفة بما فيها تدريسهم أحيانا حتى النحو العربي باللغة الفرنسية خاصة من طرف بعض المُدرسين الفرنسيين.

3- همّشت مدارس البعثات الفرنسية بطريقة شبه كاملة تدريس اللغة العربية وثقافتها واستعمالهما. يمثل الخريجون عينة تونسية مرشحة أكثر من غيرها لتبني ثنائية لغوية يكاد يغيب فيها استعمال الكلمات العربية لأن هؤلاء الخريجين هم شبه أميين بالكامل في اللغة العربية. فبحوث العلوم الاجتماعية ترى أن مثل ذلك التعليم اللغوي الثقافي الفرنسي يُحدث غربة جسيمة بين المتعلمات والمتعلمين التونسيين ولغتهم وثقافتهم العربيتين فترتبك لديهم وتتشوه إزاء لغتهم وثقافتهم بحيث يصبحون مرشحين للنظر إليهما بقليل أو بكثير أو ما بينهما من التحقير. ترى تلك العلوم أنه من المنتظر أن يُحدث مثل هذا التعليم اللغوي الثقافي الأجنبي المهيمن تشويشا و تصدعا في الانتساب للهوية العربية الإسلامية بدرجات مختلفة للخريجين التونسيين من مدارس البعثات الفرنسية والمدرسة الصادقية. يجوز القول إن التعليم في كل من مدارس البعثات الفرنسية والمدرسة الصادقية هو تعليم مرشح بقوة لكي يمهد لقبول وحتى الترحيب بالاستعمار اللغوي الفرنسي لدى عديد التونسيات والتونسيين. ويعود ذلك أساسا إلى فقدان خريجي تلك المدارس إلى غياب الحجر اللغوي.

 4-أما النظام التربوي التونسي منذ الاستقلال، فقد كرّس ويكرّس تواصل فقدان الحجر اللغوي. وهكذا، فالأجيال التونسية المتعلمة منذ الاستقلال هي أجيال لم تطبق الحجر اللغوي ومن ثم يستمر اليوم مرض فيروس عدوى استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة حتى في أبسط الأشياء بين معظم فئات المجتمع التونسي.

فقدان الرؤساء والوزراء وغيرهم للوطنية اللغوية

لم يكتب باللغة العربية/الوطنية بعد الثورة رؤساءُ ووزراء تونسيون وشخصيات أخرى مذكراتهم في كتب ضخمة الحجم، بل ألفوا جميعا كتبهم باللغة الفرنسية (لغة المستعمِر). فهم – دون استثناء - لم يدرسوا في نظام تعليم الحجر اللغوي في شعبة (أ) أو التعليم الزيتوني، بل درسوا في المدرسة الصادقية أو في مدارس البعثات الفرنسية. علما أن خريجي المدرسة الصادقية يتقنون اللغة العربية مما يطرح السؤال الهام: لماذا لم يكتبوا مذكراتهم باللغة الوطنية/ العربية ؟ بالطبع، ينكر هؤلاء اتهامهم بالخضوع للاستعمار اللغوي الفرنسي رغم تفضيلهم للكتابة باللغة الفرنسية عوضا عن اللغة العربية/الوطنية. يبقى أن سلوكهم اللغوي هذا غير الوطني يحتاج إلى فهم وتفسير (فهو ليس من نوع سلوك 'هَكَّاكَا وْبَرّا'). أولا، فمجرد إتقان هؤلاء للغة العربية لا يعني أن لهم معها علاقة حميمة تجعل اللغة العربية ذات مكانة أولى في باطن شعورهم أو لا شعورهم النفسي وفي الاستعمال. ثانيا، يقول المثل " التعلّم في الصغر كالنقش في الحَجَر" . فتعلّم خريجي المدرسة الصادقية كل المواد باللغة الفرنسية ينقش فيهم نفسيا جذور العلاقة الحميمة لها قبل اللغة العربية. وهكذا، فحضور الحجر اللغوي لصالح الفرنسية وغيابه بالنسبة للغة العربية/الوطنية ينبغي أن يفسر الفرق في نوعية علاقة هؤلاء الخريجين مع اللغتين. ومنه، يتضح أن الحجر اللغوي لصالح العربية عند خريجي شعبة (أ) والتعليم الزيتوني يمنحهم مناعة ضد التأثير اللغوي الثقافي الفرنسي رغم معايشتهم للاستعمار كبقية التونسيين، بينما يدفع فقدانُ الحجر اللغوي لدى الصادقيين وغيرهم إلى الترحيب باستعمال لغة المستعمر في حضوره وغيابه على حساب استعمال اللغة الوطنية.

* عالم الاجتماع

 

 فقدان الحجر اللغوي وإصابة الشعب التونسي بفيروس اللغة الفرنسية

بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

الجهل الواسع بالإجابة الصحيحة

عندما نسأل التونسية والتونسي العاديين لماذا تفضل أغلبيةُ الشعب التونسي (القمة والقاعدة ومن بينهما) استعمال اللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية/الوطنية كما هو الحال في عينة الأمثلة التالية ؟ تكون إجابة تلك الأغلبية أن الاستعمار الفرنسي هو السبب :

1ـ عُرف في العهد البورقيبي أن محاضر اجتماعات الوزراء في حضور بورقيبة أو في غيابه لطالما كانت تكتب بالفرنسية.

2-خاطب الرئيس الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج الحاضرين والحاضرات من التونسيين والأجانب باللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية/الوطنية ، بينما توجه الرئيس النمساوي إلى هؤلاء باللغة الألمانية، لغته الوطنية.

3ـ تتعامل جل البنوك التونسية في الإجراءات المكتوبة حتى يومنا هذا مع حرفائها التونسيين باللغة الفرنسية.

4ـ هناك انتشار موقف جماعي تونسي غير متحمس وغيور ومدافع عن اللغة العربية الأمر الذي يجعل الباحث يشعر وكأن اللغة العربية هي لغة ثانية أو ثالثة لدى الجمهور التونسي العريض وفي طليعتهم كثير من النخب المثقفة التونسية.

5ـ لا تكاد التونسيات تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس.

6ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/شيكاتها إلا باللغة الفرنسية بحيث أصبح يُنظر لمن يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف ومتخلف.

7- نظمت النساء الديمقراطيات لقاء في 28 -01-2012 في بيت الحكمة لتتحدث فيه بعض النساء المثقفات في العلوم الإنسانية والاجتماعية عن وضع المرأة بصفة عامة وفي المنطقة العربية الإسلامية خاصة. اختار هؤلاء جميعا اللغة الفرنسية في القيام بمداخلاتهن رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي لمداخلتهن.

فقدان الحجر اللغوي هو السبب الأكبر

يتطلب مفهومنا للحجر اللغوي مقارنته بالحجر الصحي لبيان كيف يفسر إعاقة استعمال اللغة العربية في المجتمع التونسي أفضل من عامل الاستعمار الفرنسي. يقول المثل: " رُبّ صدفة خير من ألف ميعاد". فجأة، هدتني منافع الحجر الصحي ضدّ الإصابة بوباء الكورونا إلى حجر آخر له أيضا فوائد جمة رغم الاختلاف الكبير في طبيعتهما. نتيجة لذلك، ابتكرتُ مفهوما جديدا لا يكاد يخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. إنه مفهوم الحجر اللغوي: استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط خاصة في التدريس ابتداء من حاضنات صغار الأطفال وفي المراحل الثلاث للتعليم: الابتدائي والإعدادي والثانوي. فالحجر اللغوي يساعد، مثلا، على تفسير سلوكيات التونسيات والتونسيين غير السليمة مع اللغة العربية/الوطنية ( عندما لا يستعملونها وحدها في الحديث والكتابة في كل شيء) . يعود ذلك إلى فقدان نظام التعليم التونسي بالكامل الحجر اللغوي. يتشابه الحجر اللغوي مع الحجر الصحي في تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) تحمي الفرد كثيرا من الإصابة بفيروس الكورونا. وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة. وهكذا، فالحظ الكبير لسلامة صحة الفرد وسلامة لغته هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. بعد ذكر وجه التشابه بين الحجر الصحي و الحجر اللغوي، يتضح أن هذا الأخير يؤدي إلى تبني الناس بعفوية وحماس لعلاقة طبيعية أي سليمة مع لغاتهم.

عينات تونسية لغياب وحضور الحجر اللغوي

نذكر مثالين للعلاقة السليمة أو المعوجة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:

1-إن خريجي التعليم التونسي في ما يسمى 'شعبة أ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية. لقد درس هؤلاء الخريجون كل المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. تشير الملاحظات الميدانية أنهم أكثر خريجي المدارس التونسية بعد الاستقلال تعاطفا وحماسا نحو استعمال اللغة العربية. فهم لغويا أكثر وطنية من بقية الخريجين التونسيين. فعلاقتهم النفسية الحميمة الناتجة عن الحجر اللغوي جعلت اللغة العربية عندهم صاحبة المكانة الأولى في الاستعمال والاعتزاز بها والدفاع عنها.

2-أما خريجو بقية التعليم التونسي – وهم اليوم أغلبية المتعلمين التونسيين والتونسيات - فهم فاقدون للحجر اللغوي، أي أنهم درسوا باللغة الفرنسية بعض المواد أو معظمها في تلك المراحل المذكورة. فقد هيمنت اللغة الفرنسية في المدرسة الصادقية الثنائية اللغة ( الفرنسية والعربية) قبل الاستقلال كوسيلة لتدريس التلاميذ التونسيين المواد المختلفة بما فيها تدريسهم أحيانا حتى النحو العربي باللغة الفرنسية خاصة من طرف بعض المُدرسين الفرنسيين.

3- همّشت مدارس البعثات الفرنسية بطريقة شبه كاملة تدريس اللغة العربية وثقافتها واستعمالهما. يمثل الخريجون عينة تونسية مرشحة أكثر من غيرها لتبني ثنائية لغوية يكاد يغيب فيها استعمال الكلمات العربية لأن هؤلاء الخريجين هم شبه أميين بالكامل في اللغة العربية. فبحوث العلوم الاجتماعية ترى أن مثل ذلك التعليم اللغوي الثقافي الفرنسي يُحدث غربة جسيمة بين المتعلمات والمتعلمين التونسيين ولغتهم وثقافتهم العربيتين فترتبك لديهم وتتشوه إزاء لغتهم وثقافتهم بحيث يصبحون مرشحين للنظر إليهما بقليل أو بكثير أو ما بينهما من التحقير. ترى تلك العلوم أنه من المنتظر أن يُحدث مثل هذا التعليم اللغوي الثقافي الأجنبي المهيمن تشويشا و تصدعا في الانتساب للهوية العربية الإسلامية بدرجات مختلفة للخريجين التونسيين من مدارس البعثات الفرنسية والمدرسة الصادقية. يجوز القول إن التعليم في كل من مدارس البعثات الفرنسية والمدرسة الصادقية هو تعليم مرشح بقوة لكي يمهد لقبول وحتى الترحيب بالاستعمار اللغوي الفرنسي لدى عديد التونسيات والتونسيين. ويعود ذلك أساسا إلى فقدان خريجي تلك المدارس إلى غياب الحجر اللغوي.

 4-أما النظام التربوي التونسي منذ الاستقلال، فقد كرّس ويكرّس تواصل فقدان الحجر اللغوي. وهكذا، فالأجيال التونسية المتعلمة منذ الاستقلال هي أجيال لم تطبق الحجر اللغوي ومن ثم يستمر اليوم مرض فيروس عدوى استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة حتى في أبسط الأشياء بين معظم فئات المجتمع التونسي.

فقدان الرؤساء والوزراء وغيرهم للوطنية اللغوية

لم يكتب باللغة العربية/الوطنية بعد الثورة رؤساءُ ووزراء تونسيون وشخصيات أخرى مذكراتهم في كتب ضخمة الحجم، بل ألفوا جميعا كتبهم باللغة الفرنسية (لغة المستعمِر). فهم – دون استثناء - لم يدرسوا في نظام تعليم الحجر اللغوي في شعبة (أ) أو التعليم الزيتوني، بل درسوا في المدرسة الصادقية أو في مدارس البعثات الفرنسية. علما أن خريجي المدرسة الصادقية يتقنون اللغة العربية مما يطرح السؤال الهام: لماذا لم يكتبوا مذكراتهم باللغة الوطنية/ العربية ؟ بالطبع، ينكر هؤلاء اتهامهم بالخضوع للاستعمار اللغوي الفرنسي رغم تفضيلهم للكتابة باللغة الفرنسية عوضا عن اللغة العربية/الوطنية. يبقى أن سلوكهم اللغوي هذا غير الوطني يحتاج إلى فهم وتفسير (فهو ليس من نوع سلوك 'هَكَّاكَا وْبَرّا'). أولا، فمجرد إتقان هؤلاء للغة العربية لا يعني أن لهم معها علاقة حميمة تجعل اللغة العربية ذات مكانة أولى في باطن شعورهم أو لا شعورهم النفسي وفي الاستعمال. ثانيا، يقول المثل " التعلّم في الصغر كالنقش في الحَجَر" . فتعلّم خريجي المدرسة الصادقية كل المواد باللغة الفرنسية ينقش فيهم نفسيا جذور العلاقة الحميمة لها قبل اللغة العربية. وهكذا، فحضور الحجر اللغوي لصالح الفرنسية وغيابه بالنسبة للغة العربية/الوطنية ينبغي أن يفسر الفرق في نوعية علاقة هؤلاء الخريجين مع اللغتين. ومنه، يتضح أن الحجر اللغوي لصالح العربية عند خريجي شعبة (أ) والتعليم الزيتوني يمنحهم مناعة ضد التأثير اللغوي الثقافي الفرنسي رغم معايشتهم للاستعمار كبقية التونسيين، بينما يدفع فقدانُ الحجر اللغوي لدى الصادقيين وغيرهم إلى الترحيب باستعمال لغة المستعمر في حضوره وغيابه على حساب استعمال اللغة الوطنية.

* عالم الاجتماع