إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

هل تسير تونس نحو التصحر الاعلامي

بقلم د. الصحراوي قمعون(*)

    تواترت خلال السنوات والأشهر الأخيرة الأخبار التي تبعث اليأس والإحباط في النفوس من استمرار وديمومة المشهد الاعلامي التعددي في تونس، بعد ذبول صحف عريقة واختفاء أخرى قسريا، بسبب الصعوبات المالية وانسداد الأفاق وانسحاب الدولة الكامل خلال العشرية الماضية من القطاع بدعوى ضمان حرية الاعلام وعدم التدخل في شؤونه استجابة لمقتضيات الديمقراطية الناشئة وضرورات الانتقال الديمقراطي.

   وكانت أخر ضحية في مسلسل اختفاء العناوين الصحفية، توقف جريدة "الأنوار" الأسبوعية التي اضطرت إلى وضع حد لوجودها وهي الأسبوعية التي صنعت إلى جانب أسبوعيات أخرى ربيع التعددية الاعلامية والصحف الدورية ذات الرواج الشعبي الواسع خلال العشريات الماضية ، على غرار "الصدى" و"صباح الخير" التابعة لـ"دار الصباح"، إلى جانب جريدة "البيان" التابعة لاتحاد الصناعة والتجارة منذ عام 1980 وكذلك صحيفة "الإعلان" التي اختفت تدريجيا من السوق خلال العشرية الماضية .

نهاية ربيع الحرية الصحفية

وإلى جانب غياب هذه الصحف التي كانت ذات مقروئية عالية لدى شرائح واسعة من القراء، اندثرت أيضا خلال نفس العشرية عديد الصحف الأسبوعية السياسية والناطقة بلسان أحزاب منذ بدء ربيع حرية الإعلام وتعدديته في ثمانينات القرن الماضي، مثل جريدة "الفجر" لسان حركة الاتجاه الإسلامي ثم حركة النهضة لراشد الغنوشي وجريدة "الطريق الجديد" لسان الحزب الشيوعي التونسي لمحمد حرمل وصحيفة "المستقبل" لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين لأحمد المستيري وصحيفة "البديل" لحزب العمال الشيوعي لحمة الهمامي وصحيفة "مواطنون" لسان حزب التكل من أجل الحريات والتقدم لصاحبه مصطفى بن جعفر وصحيفة "الوحدة" لسان حزب الوحدة الشعبية لمحمد بوشيحة وصحيفة "الموقف" لصاحبها نجيب الشابي وغيرها من العناوين الاسبوعية الموؤودة .

   لقد قاومت هذه الصحف السياسية كل أشكال تدخل الدولة السلطوية في شؤونها وإرادة تطويعها لخدمة الأجندة السيادية القائمة خلال عشريتي حكم بن علي الذي كان يقدم مساعدات مالية وعينية مشروطة وسخية لتلك الصحافة، ولكنها لم تستطع أن تقاوم حالة الانسحاب الكامل للدولة الديمقراطية من الساحة الصحفية. واضطرت هذه الصحف، وهي المظهر الأبرز للمسار الديمقراطي التعددي في مختلف تجلياته السلطوية أو الديمقراطية الكاملة ، إلى الانسحاب والموت . ولم تستطع تلك العشرية أن تحافظ على إرث العشريات السابقة من الإصدارات الصحفية. بل إن الصحف التي أعطيت لها تراخيص إصدار ضمنية في تلك الطفرة الثورية التي بلغت فيها عام 2011 مائتي عنوان، لم يتجسم منها سوى خمسين عنوانا، اندثرت كلها خلال العشرية المذكورة، مساهمة من جهتها بمعول أخر من معاول التصحر المذكور.

  وعوض أن تكون العشرية الماضية الموسومة من الجميع في الداخل والخارج بأنها عشرية حرية الإعلام الكاملة في تونس، مناسبة تاريخية لتكريس مشهد إعلامي متطور كميا وكيفيا، تحولت بالمقابل إلى مقبرة للصحف، تتوالي فيها توابيت دفن العناوين المتتالية على مدى عشر سنوات كاملة، أمام غياب تام للحكومات المتتالية خلال العشرية، التي لم تحرك فيها إحداها ساكنا، أو تقدم الدعم المطلوب وتعيد الحياة إلى مشهد إعلامي أضحى يحتضر وأصبح سرياليا حد العبث . وهو مشهد يعتبر من أضعف المشاهد الإعلامية في المنطقة المحيطة بنا ، على غرار ما يوجد في الجزائر أو المغرب أو مصر، حيث لازال المشهد هناك يتميز بكم محترم وكيف مقبول لصحافة تجد الدعم من السلطات وتوفر للقارئ أو المبحر إعلاما جديا وجيدا وتعدديا، وهو أحد العناصر الأساسية لأي ديمقراطية، سواء كانت خصوصية أو كونية المنحى.

تقاليد دعم الدولة للصحافة في المجتمعات الديمقراطية

    لقد بينت عديد الدراسات الميدانية والأكاديمية وإصدارات كتب عدة مؤخرا، الحالة الرثة التي أصبح عليها المشهد الإعلامي التونسي وما يكابده العاملون فيه من أزمات اجتماعية وهشاشة هيكلية لقطاع منكوب أصبح فريسة لتجاذبات مصالح كل الأطراف المتدخلة في المشهد الصحفي بعد انسحاب الدولة الكلي منه ، في حين أن دور الدولة يبقى ضروريا وهاما وتعديليا ، في أي مجتمع ديمقراطي انتقالي، تكون فيه الصحافة أبرز الفاعلين وتتمتع فيه بالحرية والاستقلالية التامة عن كل قوى المال والسياسة والأحزاب وكل قوى الضغط والنفوذ الاقتصادي أو السياسي .

    وفي هذا الصدد تظهر مختلف تجارب الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية وشرقي آسيا وأمريكا اللاتينية أن الدولة ظلت ذات دور محوري في إنجاح ذلك الانتقال الديمقراطي في شقيه السياسي والاعلامي، عبر تشجيع ظهور صحافة جيدة وتعددية، ومنع سقوطها السهل في أيدي بارونات أزلام الأحزاب السياسية والوجاهات المتنفذة أو أصحاب المال الفاسد ومشبوه المصادر.

    وفي هذا الباب، يقدم الدارسون العديد من البيانات التي تظهر أن أوروبا وهي معقل الصحافة والديمقراطية منذ قرون لم تنسحب دولها من ساحة معركة حرية وتعددية الاعلام، حيث لازالت حكوماتها في باريس ولندن وبرلين، تقدم الدعم والمساعدات المالية والجبائية للصحافة، بغاية مساعدتها على الحفاظ على مستوى مهني مرتفع، وحمايتها من سيطرة الصحافة الرديئة أو صحافة القمامة الساعية دوما الى البحث عن الإثارة والفضائح الفرجوية لزيادة المبيعات وتحقيق المداخيل المرتفعة ورفح كمية السحب أو نسبة الاستماع .

         وترتبط المساعدات المباشرة وغير المباشرة للدولة الديمقراطية إلى الصحف، بالشروط والمعايير المعتمدة في العالم، ومن بينها التزام المؤسسات بتطوير أوضاع الصحفيين العاملين، عبر تكريس آليات التعديل الذاتي ومجالس التحرير المستقلة المنتخبة من جمهور الصحافيين، وأيضا عبر الالتزام بتطبيق القوانين على مستوى الأجور وتشغيل حد أدنى من الصحفيين الحاملين لشهادات عليا في الصحافة أو غيرها، رفعا لمستوى النقاش العام.

    وتتوفر البلدان الديمقراطية العريقة على ترسانة من آليات الدعم العمومي التي وضعتها لإسناد الصحافة ومنها ألية الإشهار العمومي وتوزيعه حسب معايير موضوعية تأخذ بعين الاعتبار التزام أصحاب الصحف بالشروط المهنية وتحسين أوضاع الصحفيين المادية والاجتماعية وتشغيل حد أدني من خريجي الجامعات.

  ويمكن الاستئناس في هذا المجال بتجربة فرنسا القريبة منا باعتبار عنصر اللغة والثقافة وتشابه الأنظمة الاعلامية والقانونية في البلدين . وتشرف وزارة الثقافة والاتصال الفرنسية على عملية المراقبة والرصد والتوزيع للمساعدات الموجهة للصحافة بكل عدل وحرفية وشفافية . وتقوم بداية كل سنة بنشر قائمة الصحف والمجلات التي تحصلت على دعم الدولة المتمثلة في مساعدات مباشرة مثل تخفيضات في تكاليف النقل البريدي، أو سعر الارتباط بشبكة البث الإلكتروني بأسعار تفاضلية والتخفيض في نسبة القيمة المضافة، مما يسمح بتخفيض كلفة إنتاج الصحيفة الورقية أو الإلكترونية سواء في صفحاتها التحريرية أو الاشهارية، أو اشتراكات مؤسسات عمومية .

وحسب الإحصائيات الصادرة عام 2021 عن وزارة الثقافة الفرنسية والمنشورة على موقعها الرسمي على الانترنات، فقد وزعت الدولة خلال عام 2021 مبلغ 91 مليون أورو على أكثر من ستين من الصحف والمجلات نصفها إلى أكبر المؤسسات الاعلامية المؤثرة في الرأي العام، والتي تملكها مجموعات إعلامية واقتصادية والنصف الأخر على الصحف الجهوية والصحف الخاصة. وحصلت مجموعة "أوجوردوي" ولوباريزيان" و"ليزيكو" على 15 مليون أورو مساعدات، تلتها مجموعة جريدة " لوموند" بمبلغ ثمانية ملايين أورو، وتلتها في المرتبة الثالثة "لوفيغارو" بمبلغ سبعة ملايين أورو، ثم مجموعة "ليبيراسيون" و"لكبراس" بمبلغ سبعة ملايين أوروا تلتها مجلة "باري ماتش" بمليوني أورو مساعدة من الدولة .

     هكذا يكون الدعم الأساسي السخي في بلدان سبقتنا بقرون في مجال حرية الصحافة وتعدديتها ولم تلق سلاح الدعم، لأنه بدونه تتحول الساحة الإعلامية في بلد سائر في طريق النمو والديمقراطية مثل تونس، إلى صحراء قاحلة للإبداع والإنتاج الفكري وتعود فيه إلى حالة من الأحادية الصحفية وتنتشر فيها صحافة المقاولات وتسيطر فيه إنتاجات التفاهة، التي تصبح في ذلك المجتمع الانتقالي المفتوح والهش، هي المسيطرة والمهيمنة على قنوات الإنتاج والتعبير. بل إن عدوى التفاهة تصيب باقي المجتمع الإعلامي بالضمور والتكلس وهو ما يشاهده المرء في المشهد الإعلامي الورقي حين المرور أمام أكشاك بيع الصحف التي أصيبت بالضمور والفراغ حد الموت. وهو أمر يهدد ما تبقى من العناوين الصامدة بالموت المحقق، إذا لم تتدخل الدولة وتسعفها بمساعدات متعددة الأشكال على غرار ما تم التعرض إليه في بلدان أخرى قريبة، باعتباره وسيلة الانقاذ المتوفرة، يضاف إليها إصلاح الاوضاع الداخلية للصحف العمومية او الخاصة وضبط آليات حسن التصرف والترويج العصري وإنجاح برامج انتقالها الرقمي في بيئة تنافسية جديدة وعادات مستحدثة للقراءة في زمن الميديا الجديدة وما بعد الميديا.

*صحفي كاتب باحث في علوم الإعلام والصحافة.

 

هل تسير تونس نحو التصحر الاعلامي

بقلم د. الصحراوي قمعون(*)

    تواترت خلال السنوات والأشهر الأخيرة الأخبار التي تبعث اليأس والإحباط في النفوس من استمرار وديمومة المشهد الاعلامي التعددي في تونس، بعد ذبول صحف عريقة واختفاء أخرى قسريا، بسبب الصعوبات المالية وانسداد الأفاق وانسحاب الدولة الكامل خلال العشرية الماضية من القطاع بدعوى ضمان حرية الاعلام وعدم التدخل في شؤونه استجابة لمقتضيات الديمقراطية الناشئة وضرورات الانتقال الديمقراطي.

   وكانت أخر ضحية في مسلسل اختفاء العناوين الصحفية، توقف جريدة "الأنوار" الأسبوعية التي اضطرت إلى وضع حد لوجودها وهي الأسبوعية التي صنعت إلى جانب أسبوعيات أخرى ربيع التعددية الاعلامية والصحف الدورية ذات الرواج الشعبي الواسع خلال العشريات الماضية ، على غرار "الصدى" و"صباح الخير" التابعة لـ"دار الصباح"، إلى جانب جريدة "البيان" التابعة لاتحاد الصناعة والتجارة منذ عام 1980 وكذلك صحيفة "الإعلان" التي اختفت تدريجيا من السوق خلال العشرية الماضية .

نهاية ربيع الحرية الصحفية

وإلى جانب غياب هذه الصحف التي كانت ذات مقروئية عالية لدى شرائح واسعة من القراء، اندثرت أيضا خلال نفس العشرية عديد الصحف الأسبوعية السياسية والناطقة بلسان أحزاب منذ بدء ربيع حرية الإعلام وتعدديته في ثمانينات القرن الماضي، مثل جريدة "الفجر" لسان حركة الاتجاه الإسلامي ثم حركة النهضة لراشد الغنوشي وجريدة "الطريق الجديد" لسان الحزب الشيوعي التونسي لمحمد حرمل وصحيفة "المستقبل" لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين لأحمد المستيري وصحيفة "البديل" لحزب العمال الشيوعي لحمة الهمامي وصحيفة "مواطنون" لسان حزب التكل من أجل الحريات والتقدم لصاحبه مصطفى بن جعفر وصحيفة "الوحدة" لسان حزب الوحدة الشعبية لمحمد بوشيحة وصحيفة "الموقف" لصاحبها نجيب الشابي وغيرها من العناوين الاسبوعية الموؤودة .

   لقد قاومت هذه الصحف السياسية كل أشكال تدخل الدولة السلطوية في شؤونها وإرادة تطويعها لخدمة الأجندة السيادية القائمة خلال عشريتي حكم بن علي الذي كان يقدم مساعدات مالية وعينية مشروطة وسخية لتلك الصحافة، ولكنها لم تستطع أن تقاوم حالة الانسحاب الكامل للدولة الديمقراطية من الساحة الصحفية. واضطرت هذه الصحف، وهي المظهر الأبرز للمسار الديمقراطي التعددي في مختلف تجلياته السلطوية أو الديمقراطية الكاملة ، إلى الانسحاب والموت . ولم تستطع تلك العشرية أن تحافظ على إرث العشريات السابقة من الإصدارات الصحفية. بل إن الصحف التي أعطيت لها تراخيص إصدار ضمنية في تلك الطفرة الثورية التي بلغت فيها عام 2011 مائتي عنوان، لم يتجسم منها سوى خمسين عنوانا، اندثرت كلها خلال العشرية المذكورة، مساهمة من جهتها بمعول أخر من معاول التصحر المذكور.

  وعوض أن تكون العشرية الماضية الموسومة من الجميع في الداخل والخارج بأنها عشرية حرية الإعلام الكاملة في تونس، مناسبة تاريخية لتكريس مشهد إعلامي متطور كميا وكيفيا، تحولت بالمقابل إلى مقبرة للصحف، تتوالي فيها توابيت دفن العناوين المتتالية على مدى عشر سنوات كاملة، أمام غياب تام للحكومات المتتالية خلال العشرية، التي لم تحرك فيها إحداها ساكنا، أو تقدم الدعم المطلوب وتعيد الحياة إلى مشهد إعلامي أضحى يحتضر وأصبح سرياليا حد العبث . وهو مشهد يعتبر من أضعف المشاهد الإعلامية في المنطقة المحيطة بنا ، على غرار ما يوجد في الجزائر أو المغرب أو مصر، حيث لازال المشهد هناك يتميز بكم محترم وكيف مقبول لصحافة تجد الدعم من السلطات وتوفر للقارئ أو المبحر إعلاما جديا وجيدا وتعدديا، وهو أحد العناصر الأساسية لأي ديمقراطية، سواء كانت خصوصية أو كونية المنحى.

تقاليد دعم الدولة للصحافة في المجتمعات الديمقراطية

    لقد بينت عديد الدراسات الميدانية والأكاديمية وإصدارات كتب عدة مؤخرا، الحالة الرثة التي أصبح عليها المشهد الإعلامي التونسي وما يكابده العاملون فيه من أزمات اجتماعية وهشاشة هيكلية لقطاع منكوب أصبح فريسة لتجاذبات مصالح كل الأطراف المتدخلة في المشهد الصحفي بعد انسحاب الدولة الكلي منه ، في حين أن دور الدولة يبقى ضروريا وهاما وتعديليا ، في أي مجتمع ديمقراطي انتقالي، تكون فيه الصحافة أبرز الفاعلين وتتمتع فيه بالحرية والاستقلالية التامة عن كل قوى المال والسياسة والأحزاب وكل قوى الضغط والنفوذ الاقتصادي أو السياسي .

    وفي هذا الصدد تظهر مختلف تجارب الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية وشرقي آسيا وأمريكا اللاتينية أن الدولة ظلت ذات دور محوري في إنجاح ذلك الانتقال الديمقراطي في شقيه السياسي والاعلامي، عبر تشجيع ظهور صحافة جيدة وتعددية، ومنع سقوطها السهل في أيدي بارونات أزلام الأحزاب السياسية والوجاهات المتنفذة أو أصحاب المال الفاسد ومشبوه المصادر.

    وفي هذا الباب، يقدم الدارسون العديد من البيانات التي تظهر أن أوروبا وهي معقل الصحافة والديمقراطية منذ قرون لم تنسحب دولها من ساحة معركة حرية وتعددية الاعلام، حيث لازالت حكوماتها في باريس ولندن وبرلين، تقدم الدعم والمساعدات المالية والجبائية للصحافة، بغاية مساعدتها على الحفاظ على مستوى مهني مرتفع، وحمايتها من سيطرة الصحافة الرديئة أو صحافة القمامة الساعية دوما الى البحث عن الإثارة والفضائح الفرجوية لزيادة المبيعات وتحقيق المداخيل المرتفعة ورفح كمية السحب أو نسبة الاستماع .

         وترتبط المساعدات المباشرة وغير المباشرة للدولة الديمقراطية إلى الصحف، بالشروط والمعايير المعتمدة في العالم، ومن بينها التزام المؤسسات بتطوير أوضاع الصحفيين العاملين، عبر تكريس آليات التعديل الذاتي ومجالس التحرير المستقلة المنتخبة من جمهور الصحافيين، وأيضا عبر الالتزام بتطبيق القوانين على مستوى الأجور وتشغيل حد أدنى من الصحفيين الحاملين لشهادات عليا في الصحافة أو غيرها، رفعا لمستوى النقاش العام.

    وتتوفر البلدان الديمقراطية العريقة على ترسانة من آليات الدعم العمومي التي وضعتها لإسناد الصحافة ومنها ألية الإشهار العمومي وتوزيعه حسب معايير موضوعية تأخذ بعين الاعتبار التزام أصحاب الصحف بالشروط المهنية وتحسين أوضاع الصحفيين المادية والاجتماعية وتشغيل حد أدني من خريجي الجامعات.

  ويمكن الاستئناس في هذا المجال بتجربة فرنسا القريبة منا باعتبار عنصر اللغة والثقافة وتشابه الأنظمة الاعلامية والقانونية في البلدين . وتشرف وزارة الثقافة والاتصال الفرنسية على عملية المراقبة والرصد والتوزيع للمساعدات الموجهة للصحافة بكل عدل وحرفية وشفافية . وتقوم بداية كل سنة بنشر قائمة الصحف والمجلات التي تحصلت على دعم الدولة المتمثلة في مساعدات مباشرة مثل تخفيضات في تكاليف النقل البريدي، أو سعر الارتباط بشبكة البث الإلكتروني بأسعار تفاضلية والتخفيض في نسبة القيمة المضافة، مما يسمح بتخفيض كلفة إنتاج الصحيفة الورقية أو الإلكترونية سواء في صفحاتها التحريرية أو الاشهارية، أو اشتراكات مؤسسات عمومية .

وحسب الإحصائيات الصادرة عام 2021 عن وزارة الثقافة الفرنسية والمنشورة على موقعها الرسمي على الانترنات، فقد وزعت الدولة خلال عام 2021 مبلغ 91 مليون أورو على أكثر من ستين من الصحف والمجلات نصفها إلى أكبر المؤسسات الاعلامية المؤثرة في الرأي العام، والتي تملكها مجموعات إعلامية واقتصادية والنصف الأخر على الصحف الجهوية والصحف الخاصة. وحصلت مجموعة "أوجوردوي" ولوباريزيان" و"ليزيكو" على 15 مليون أورو مساعدات، تلتها مجموعة جريدة " لوموند" بمبلغ ثمانية ملايين أورو، وتلتها في المرتبة الثالثة "لوفيغارو" بمبلغ سبعة ملايين أورو، ثم مجموعة "ليبيراسيون" و"لكبراس" بمبلغ سبعة ملايين أوروا تلتها مجلة "باري ماتش" بمليوني أورو مساعدة من الدولة .

     هكذا يكون الدعم الأساسي السخي في بلدان سبقتنا بقرون في مجال حرية الصحافة وتعدديتها ولم تلق سلاح الدعم، لأنه بدونه تتحول الساحة الإعلامية في بلد سائر في طريق النمو والديمقراطية مثل تونس، إلى صحراء قاحلة للإبداع والإنتاج الفكري وتعود فيه إلى حالة من الأحادية الصحفية وتنتشر فيها صحافة المقاولات وتسيطر فيه إنتاجات التفاهة، التي تصبح في ذلك المجتمع الانتقالي المفتوح والهش، هي المسيطرة والمهيمنة على قنوات الإنتاج والتعبير. بل إن عدوى التفاهة تصيب باقي المجتمع الإعلامي بالضمور والتكلس وهو ما يشاهده المرء في المشهد الإعلامي الورقي حين المرور أمام أكشاك بيع الصحف التي أصيبت بالضمور والفراغ حد الموت. وهو أمر يهدد ما تبقى من العناوين الصامدة بالموت المحقق، إذا لم تتدخل الدولة وتسعفها بمساعدات متعددة الأشكال على غرار ما تم التعرض إليه في بلدان أخرى قريبة، باعتباره وسيلة الانقاذ المتوفرة، يضاف إليها إصلاح الاوضاع الداخلية للصحف العمومية او الخاصة وضبط آليات حسن التصرف والترويج العصري وإنجاح برامج انتقالها الرقمي في بيئة تنافسية جديدة وعادات مستحدثة للقراءة في زمن الميديا الجديدة وما بعد الميديا.

*صحفي كاتب باحث في علوم الإعلام والصحافة.