"يا جبل ما يهزك ريح..، هذا شعب الجبارين..، لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي ...سيرفع شبل من أشبالنا راية فلسطين في القدس..، يريدونني إما قتيلا وإما أسيرا وإما طريدا ولكن أقول لهم شهيدا، شهيدا، شهيدا... إننا حتما سننتصر.. ثورتكم هذه وجدت لتنتصر وستنتصر طال الزمن أو قصر"..، هذه بعض من كلمات رددها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وحفظها عنه الصغار قبل الكبار في المدن الفلسطينية والمخيمات والشتات..، لم يكن عرفات شخصا عاديا ليسقط في النسيان برحيله ولكنه كان زعيما وقائدا ومناضلا أخطأ أحيانا وأصاب أحيانا أخرى ولكنه افتك احترام شعبه واحترام خصومه وأعدائه له قبل رفاقه وأصدقائه... ربما اعتقد الاحتلال انه بزوال عرفات وغيابه عن المشهد فقد زالت الثوابت التي تمسك بها ولكن ومنذ غياب عرفات ما انفكت الساحة الفلسطينية الولادة تقدم صورا مختلفة عن جل الفدائيين الذين يواصلون رسم الملحمة في السجون والمعتقلات وفي ساحات المعارك اليومية من جنين إلى القدس والخليل إلى غزة... بالتأكيد أن الوفاء لعرفات مهم ولكن الوفاء للقضية أولى وأهم..
لأنه من طينة الزعماء الذين يصنفهم التاريخ بأنهم يرحلون جسدا ويبقون ذكرى وفكرة ومشروعا، فان ذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أمس بعد ثمانية عشرة عاما لم تكن لتمر في صمت ودون استعادة مآثر الرجل الذي لا تزال أسباب وفاته محاطة بكثير من الغموض في ظل قناعة راسخة لدى الفلسطينيين بأن أبو عمار تعرض للاغتيال بتسميم طعامه عندما كان محاصرا في المقاطعة برام الله من طرف البلدوزر ارييل شارون آنذاك... كان عرفات مزعجا في حياته بالنسبة لمختلف حكومات الاحتلال وبقي كذلك حتى بعد رحيله وهو الذي لا يختلف الفلسطينيون حوله عندما يتعرضون لسيرته الطويلة حتى وإن اختلفوا معه ولعل في هذا السبب وغيره ما يجعل من ذكرى رحيل عرفات منذ 2004 موعدا يذكر الفصائل الفلسطينية بأن توحيد الصفوف ليس بالسراب وأن البيت الفلسطيني رغم كل العواصف يتسع للجميع..
من المثير أن تعود ذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات هذا العام بعد أسبوع فقط على قمة "لم الشمل" بالجزائر قمة جعلت القضية الفلسطينية والمصالحة الفلسطينية في قلب إعلان الجزائر الذي يظل اختبارا مفتوحا للنوايا الفلسطينية ولكن أيضا للإرادة العربية العرجاء في زمن تتداخل فيه وتتدافع لعبة المصالح ويصبح فيه كيان الاحتلال اقرب إلى بعض الأنظمة والحكومات من الأنظمة العربية... ولا شك أن فيما عاش على وقعه المشهد الفلسطيني من الضفة إلى القدس والقطاع من وفاء للزعيم الراحل واعتراف بمكانته ودوره في دفع القضية ما يعكس حتما فراغا سياسيا وتطلعا إلى عنوان وقيادة تبلسم الجراح وتجمع ولا تفرق تعيد ترتيب الأولويات وشحذ العزائم لمواصلة المسيرة الطويلة لشعب يتطلع إلى الحرية ويصمد منذ أكثر من سبعة عقود تحت قيد الاحتلال، وشعب يعيش اليوم على وقع ذكرى زعيم ارتبط اسمه بمسار القضية الفلسطينية وشعبها وكان قادرا في حياته على منع انفراط العقد الفلسطيني وجمع كل الفصائل تحت مظلة حركة فتح وزعيمها ياسر عرفات فماذا بقي اليوم من ارث الختيار أو أبو عمار كما يحلو للكثيرين أن يلقبوه؟ ...
يقول طبيبه المقدسي ورفيقه احمد الطيبي في هذه الذكرى أن ابو عمار هو رمز وطني وهو الذي جسد وحدة الفلسطينيين حتى عندما اختلف البعض معه وقد اختلفوا معه ولم يختلفوا عليه فهو رمز النضال والعطاء والإيثار كان ولا يزال في الذاكرة الفلسطينية شامخا كزعيم للثورة ولمنظمة التحرير، ويضيف الطيبي في تصريحات لـ"الصباح" أن المشهد اليوم أكثر تعقيدا وصعوبة خاصة في ظل الانقسام وحالة الفصائل الفلسطينية وشدد قائلا الحقيقة انه في الليلة الظلماء نفتقد الزعيم ونفتقد وقفته ونضاله.. نعم لم يكن نبيا ولكن كان زعيما كان يصيب ويخطئ ولكن كانت القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني على رأس أولوياته لذلك يظل رمزا راسخا للفلسطينيين جميعا..
بدوره يقول سفير فلسطين السابق في باريس سلمان الهرفي في تصريحات لـ "الصباح" أن الزعيم لم يغب عن المشهد لان أفكاره راسخة الوجود في ذهن وعقل محبيه وعموم شعب فلسطين في الأرض الفلسطينية المحتلة أو خارجها، ويضيف الهرفي "أنا عرفت الرئيس عرفات في الجزائر مبكرا وتعمقت علاقتي به بعد حرب 1967 وفي أواخر سنة 1968 انتدبني وزميلي محمود الهمشري للذهاب لفرنسا لافتتاح مكتب لحركه فتح هناك والذي أصبح لاحقا سنة 1972 مكتبا لمنظمه التحرير وبعد إبعادنا من فرنسا عدت إلى مكتب الأخ ابو عمار ياسر عرفات حيث بقيت اعمل معه في العلاقات الخارجية لحركة فتح ومديرا في الدائرة السياسية لمنظمة التحرير ومستشارا لعرفات للشؤون الإفريقية حيث تخصصت في هذا المجال لغاية استشهاده سنه 2004.
وحسب الهرفي فان ياسر عرفات كان له حلم يريد أن يحوله إلى واقع من فكرة اللجوء إلى واقع مواطن وصاحب حق في حريته وأرضه سيادته واستقلاله وقد جسد ذلك بالنضال القاسي والمرير حيث كان مطاردا من الأنظمة العربية في الشرق وسجن في سوريا ولبنان وحرم من التواجد في دول الطوق إلا انه صمد وقاتل ونجا من محاولات الاعتقال عدة مرات وذلك قبل سنة 1967 هو ورفاقه خاصة أبو جهاد وأبو إياد وأبو يوسف وعبد الفتاح حمود وغيرهم من كوادر الثورة وطلائعها، ويضيف أن الهزيمة هزيمة الأنظمة التي خدعت الشعوب بشعاراتها الرنانة الثورية أو تلك العقلانية التي كانت تبث اليأس في الشعب الفلسطيني وأن العين لا تواجه المخرز على حد تعبير المثل الفلسطيني، وأن هؤلاء جميعا وجدوا نفسهم يختبئون وراء شعار "كلنا فدائيون". واعتبر أن من أهم المحطات كانت محطة حركة فتح وتداعيات حرب التحرير التي قادها السادات وحافظ الأسد سنة 1973 وتخلوا معها عن فلسطين وبدأوا بالتأمر على فلسطين واستثنائها من المفاوضات في جنيف سنة 1974 وبعدها فك الاشتباك الذي قاده كسينجر مع مصر وإسرائيل وسوريا وإسرائيل ودفع بالجانبين للتخلي عن فلسطين وكانت مؤامرة في قلب عرفات ثم بعد ذلك بدا التآمر لتصفيته وتصفية القضية سياسيا من قبل السادات وعمليا من قبل الأسد وحلفاء كلاهما من المعسكر العربي والغربي وبدأت الحرب الأهلية في لبنان للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية إلى غاية 1982 عندما فشلوا. أرسلوا 130 ألف جندي لاجتياح لبنان وطرد منظمة التحرير وعندما فشلوا خلال ثلاثة أشهر من الصمود أتوا بالحلف الأطلسي وقوات أمريكية وفرنسية وايطالية وأخرجت منظمة التحرير وكان كل مخططاتهم أن يذهب عرفات إلى دمشق بعد بيروت حتى يتم القضاء عليه وعلى القيادة الفلسطينية وخاصة قياده فتح لان الخيار كان توزيع الخروج إلى أكثر من بلد على أن يكون خروج القيادة وأبو عمار إلى تونس مقر الجامعة العربية وخاصة أن أشقاءنا في شمال إفريقيا كانوا دوما الرافعة المنقذة لفلسطين وخاصة الجزائر وتونس.
- للتاريخ أكثر من قراءة..
لسنا في إطار محاكمة تاريخية ولا نحن بصدد إعادة كتابة الأحداث التي قد يتضح بعضها ويبقى بعضها محاطا بالسرية والكتمان فليس سرا أن القضية الفلسطينية تعرضت ومنذ البدايات لغدر ومؤامرات الأقربون قبل الأعداء.. ولا شك أن مسلسل الاغتيالات الطويل ومعه مسلسل سجن واسر قيادات فلسطينية أرقت الاحتلال..
في ذكرى رحيل الزعيم يستعيد الشارع الفلسطيني شعارات حماسية ارتبطت بعرفات في مناسبات كبرى ومنحت معها الشعب الفلسطيني دعما معنويا لمسيرته النضالية المستمرة وكأن الرجل لا يزال حاضرا بين الحشود وهو الملقب الختيار والقائد والزعيم وصاحب الكوفية الذي حمل خارطة فلسطين وأبدع في رسمها على رأسه وبين كتفيه وهو من صرخ "يا جبل ما يهزك ريح"، ونادي هذا شعب الجبارين.. وهو من قال إن "الثورة ليست بندقية فلو كانت بندقية لكانت قاطعة طريق ولكنها نبض شاعر وريشة فنان وقلم كاتب ومقبضة جراح وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائيها وزوجا"، وهو من حمل غصن الزيتون وأطلق نداءه المدوي أمام العالم الذي خذله لاحقا عندما قال "جئتكم يا سيادة الرئيس حاملاً غصن الزيتون بيدي وببندقية الثائر بيدي الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي... لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي... لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"، وكان ذلك من منبر الأمم المتحدة عام 1974 المنظمة (عصبة الأمم) التي منحت كيان الاحتلال الإسرائيلي بطاقة الولادة من رحم القانون الدولي ونسيت في غمرة الأحداث أن تعلن نشأة دولة فلسطين وعاصمتها القدس...
"إننا حتما سننتصر"، هكذا كان يردد و هو يخاطب الفلسطينيين بقوله "إن ثورتكم هذه وجدت لتنتصر وستنتصر طال الزمن أو قصر.".. والسؤال اليوم سيظل من يحمل المشعل ويعيد للقضية توهجها ومكانتها وللشعب كرامته.
كان عرفات يقول إن الشعب الفلسطيني الذي يواجه هذا العدوان الإسرائيلي اليومي ضد مقدساته الإسلامية والمسيحية وضد مدنه وقراه ومخيماته وبنيته التحتية واقتصاده ومدارسه ومستشفياته، صامد ومرابط حتى تحقيق الأهداف الوطنية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. والشيء الوحيد الثابت اليوم أن هذا الشعب لا يزال رغم اشتداد الخناق من حوله يواصل المسيرة ويحمي المقدسات ويدافع عن حق الأجيال التي بقيت على أرضها...
بعد حصار بيروت سأل الصحفيون الشهيد ياسر عرفات وين رايح يا أبو عمار؟ أجابهم:"على فلسطين... على فلسطين... على فلسطين"، اعتقد الكثيرون بما في ذلك المقربون منه أن عرفات أضاع البوصلة بسبب ما حدث ولكنه كان يدرك أن الطريق إلى فلسطين سيكون من تونس كيف ذلك ربما لا احد يدري ولكن هذا ما حدث في 1994...
محاولات اغتيال أبو عمار
تعددت محاولات تصفية ابو عمار الذي كان ينجو في كل مرة بأعجوبة، وكانت آخر تلك المحاولات عندا تعرض للتسميم من قبل إسرائيل، وقد أكدت جل التقارير الطبية وجود نسبة عالية من الليتونيوم في جسده ولكن بقيت التقارير الطبية التي وضعها المستشفى الفرنسي حيث توفي في يد عائلته وبقيت الحقيقة عالقة رغم قناعة السواد الأعظم من الفلسطينيين أن يد إسرائيل وراء تصفية أبو عمار الذي نجا من أكثر من عملية سابقة فقد كان له جهازه الأمني الممثل بقوات الـ17، وكان يعتني بأمنه الشخصي بنفسه، كان شديد الحذر والانتباه في التنقل والسفر، ويقول الكاتب والمناضل الفلسطيني يحي يخلف أن عرفات كان يعمل ليلا حتى بزوغ الفجر، حتى لا يتعرض لهجوم مباغت وهو نائم، فقد كانت العمليات التي تقوم بها "إسرائيل" تتم بعد منتصف الليل، ولعلّ عملية الفردان ببيروت التي اغتيل بها القادة الثلاثة: كمال العدوان، كمال ناصر، أبو يوسف التجار مثالا.
لم يتمكن منه الاحتلال في بيروت أثناء اجتياح عام 1982 ولاحقه إلى تونس وقصف مقره في حمام الشط وفشل لان أبو عمار لم يكن هناك خلال ذلك العدوان الذي عرف بعملية الساق الخشبية..، عرف عن عرفات أنه متمرس عسكريا وسياسيا وانه كان بارعا في إدارة الأزمات وتجاوز المنعطفات وكان قادرا على إدارة المعارك النفسية وإرهاق أعدائه وخصومه..
أثناء مفاوضات الخروج من بيروت طالبت إسرائيل عبر المبعوث الأميركي فيليب حبيب تجريد المقاتلين الفلسطينيين من أسلحتهم ورفعهم للعلم الأبيض، لكن عرفات ومعه رجاله وقادته رفضوا، وخرج عرفات وقادته وضباطه وجنوده بأسلحتهم رافعين علم فلسطين، وكانت المعنويات عالية بعد صمود عز نظيره، وعندما سأل أحد الصحافيين عرفات: أين محطتك القادمة، ابتسم وأجاب: نحو القدس.
وبعد ثمانية عشرة عاما على استشهاد الرئيس الرمز ياسر عرفات حيث بقي استشهاده لغزا محيرا بالرغم من أن هناك إجماعا من قبل المختصين والعامة بان الرئيس الشهيد ياسر عرفات قد مات مسموما، وان نتائج التحليلات التي تم التوصل إليها في مستشفى بيرسي الفرنسي بقيت طي الكتمان لان تلك التحليلات والنتائج بحسب القانون الفرنسي هي من اختصاص عائلة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، والتحقيق الذي قامت به السلطة الوطنية الفلسطينية والتي شكلت بقرار رئاسي توصلت في حينه إلى أن الرئيس الشهيد ياسر عرفات مات مسموما، كما خلص خبراء سويسريون من معهد لوزان للفيزياء الإشعاعية إلى أنه من المرجح أن يكون الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد توفي نتيجة تسممه بالبولونيوم، بحسب تقرير نشرته قناة الجزيرة القطرية...
سيرة للأجيال
كتب عنه يفجيني بريماكوف وزير خارجية الاتحاد السوفياتي مقالا مطولا كشف فيه انه عرف الزعيم عرفات منذ عام 1968 ويقول في مقال نشر بالشرق الأوسط "التقيته عشرات المرات، ويمكن القول بأنه ربطتني به أواصر الصداقة. وتحت سمعي وبصري تحول هذا الرجل، الذي ولد في أتون نضال الفلسطينيين المسلح، فدافع من أجل حقوقهم، تدريجيا، إلى سياسي متبصر ورشيد وواقعي، فأصبح العالم بأسره يأخذه بعين الاعتبار بصورة أو أخرى.. "، ويضيف بريماكوف بعد رحيل عرفات "لقد توحدت في منظمة التحرير الفلسطينية حركات فلسطينية ذات آراء سياسية وإيديولوجية متباينة.. فكان جورج حبش يتولى قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة يتولى قيادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكلاهما كانا يرفعان الشعارات الماركسية. اما ياسر عرفات فقد بقي، بخلاف من اعتبر نفسه ماركسيا، في إطار الفكرة القومية، مع التركيز على النزعة البراغماتية التي أصبحت القوة المحركة لتطوره الارتقائي. وقد جاز القول في تقييم عرفات بكونه متطرفا: هل سمع منه أحد الدعوة إلى «الجهاد» أو رأى في أفعاله عموما المحاولة لصبغ نضال الفلسطينيين في سبيل حقوقهم بصبغة دينية؟ لم يحدث أبدا. ويمكن القول بأن (فتح) بقيت بوجه عام كحركة سياسية وعسكرية ليست ذات طابع ديني لحد كبير بنتيجة تأثير ياسر عرفات، مؤسسها وقائدها بلا تغيير على مدى عقود السنين. ويمكن قول الشيء ذاته عن منظمة التحرير الفلسطينية... وعندما زار بريماكوف عرفات في غزة عام 1996، قال "كانت توجد هناك السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة عرفات. ولن أنسى لقاءاتي معه في تلك الفترة. علما بأنه بدا لي رجلا ولج المرحلة الجديدة التي دشنتها اتفاقية السلام مع إسرائيل. ولم تساورني أية شكوك في أن ياسر عرفات لم يكن ينظر إلى الوثيقة التي وقعها مع إسحاق رابين باعتبارها خطوة تكتيكية، بل كان يتحدث باعتزاز عن انه ولت مع الماضي فترة المنفى في تونس، وتتفتح الآفاق الواقعية لقيام الدولة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه لم يقع في ضلال بشأن صعوبات الطريق الذي يتكشف أمامه. وتحدث عرفات بانفعال عن الصعوبات الجسيمة التي يلقاها في تنفيذ حتى الاتفاقات بعد التوصل إليها مع إسرائيل، بصدد مطار غزة والطريق الذي يربط قطاع غزة بالضفة الغربية...".
تلك محطات في سيرة عرفات التي لم تكتب بعد لتتطلع عليها الأجيال فقد ولد "أبو عمار" في القدس في الـرابع من أوت عام 1929، واسمه بالكامل "محمد ياسر" عبد الرؤوف داود سليمان عرفات القدوة الحسيني، وتلقى تعليمه في القاهرة، وشارك بصفته ضابط احتياط في الجيش المصري في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر في 1956. درس في كلية الهندسة بالقاهرة، وعمل بالكويت وشارك منذ صباه في بعث الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال نشاطه في صفوف اتحاد طلبة فلسطين، الذي تسلم زمام رئاسته لاحقاً...
كما شارك مع مجموعة من الوطنيين الفلسطينيين في تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في الخمسينات، وأصبح ناطقا رسميا باسمها عام 1968، وانتخب رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في فيفري 1969، بعد أن شغل المنصب قبل ذلك أحمد الشقيري، ويحيى حمودة.حل الزعيم ياسر عرفات وقيادة وكادر منظمة التحرير ضيوفا على تونس، ومن هناك بدأ استكمال خطواته الحثيثة نحو فلسطين.
عقب إعلان الاستقلال في الجزائر في الخامس عشر من نوفمبر عام 1988، أطلق الراحل في الثالث عشر والرابع عشر من جانفي للعام ذاته في الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، حيث انتقلت الجمعية العامة وقتها إلى جنيف بسبب رفض الولايات المتحدة منحه تأشيرة سفر إلى نيويورك، وأسست هذه المبادرة لقرار الإدارة الأميركية برئاسة رونالد ريغان في الـ16 من الشهر ذاته، والقاضي بالشروع في إجراء حوار مع منظمه التحرير الفلسطينية في تونس اعتبارا من 30 مارس 1989.
ووقّع ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين عام 1993، اتفاق إعلان المبادئ "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل في البيت الأبيض، في الثالث عشر من سبتمبر ، حيث عاد ياسر عرفات بموجبه على رأس كادر منظمة التحرير إلى فلسطين...
بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في 2000 نتيجة التعنت الإسرائيلي والانحياز الأمريكي وإصرار عرفات على عدم التفريط بالحقوق الفلسطينية والمساس بثوابتها، اندلعت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من سبتمبر 2000، وحاصرت قوات ودبابات الاحتلال الرئيس عرفات في مقره، بذريعة اتهامه بقيادة الانتفاضة، واجتاحت عدة مدن في عملية أطلقت عليها اسم "السور الواقي"، وأبقت الحصار مطبقا عليه في حيز ضيق يفتقر للشروط الدنيا للحياة الآدمية...
11 نوفمبر 2004 11 نوفمبر 2022 ثمانية عشر عاما على رحيل عرفات فماذا حدث بعد رحيله؟ كان السيناريو الأسوأ أن يسود الصراع على تركته، و يمتد الصراع إلى السلطة. وهذا ما حدث وهو ما حذر منه الكثيرون بما في ذلك بريماكوف.. وقد أن الأوان لإعادة التفكير حتى تتوفر الحكمة الكافية من اجل عدم إفساد القضية التي وهب لها عرفات حياته...
اسيا العتروس
تونس- الصباح
"يا جبل ما يهزك ريح..، هذا شعب الجبارين..، لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي ...سيرفع شبل من أشبالنا راية فلسطين في القدس..، يريدونني إما قتيلا وإما أسيرا وإما طريدا ولكن أقول لهم شهيدا، شهيدا، شهيدا... إننا حتما سننتصر.. ثورتكم هذه وجدت لتنتصر وستنتصر طال الزمن أو قصر"..، هذه بعض من كلمات رددها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وحفظها عنه الصغار قبل الكبار في المدن الفلسطينية والمخيمات والشتات..، لم يكن عرفات شخصا عاديا ليسقط في النسيان برحيله ولكنه كان زعيما وقائدا ومناضلا أخطأ أحيانا وأصاب أحيانا أخرى ولكنه افتك احترام شعبه واحترام خصومه وأعدائه له قبل رفاقه وأصدقائه... ربما اعتقد الاحتلال انه بزوال عرفات وغيابه عن المشهد فقد زالت الثوابت التي تمسك بها ولكن ومنذ غياب عرفات ما انفكت الساحة الفلسطينية الولادة تقدم صورا مختلفة عن جل الفدائيين الذين يواصلون رسم الملحمة في السجون والمعتقلات وفي ساحات المعارك اليومية من جنين إلى القدس والخليل إلى غزة... بالتأكيد أن الوفاء لعرفات مهم ولكن الوفاء للقضية أولى وأهم..
لأنه من طينة الزعماء الذين يصنفهم التاريخ بأنهم يرحلون جسدا ويبقون ذكرى وفكرة ومشروعا، فان ذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أمس بعد ثمانية عشرة عاما لم تكن لتمر في صمت ودون استعادة مآثر الرجل الذي لا تزال أسباب وفاته محاطة بكثير من الغموض في ظل قناعة راسخة لدى الفلسطينيين بأن أبو عمار تعرض للاغتيال بتسميم طعامه عندما كان محاصرا في المقاطعة برام الله من طرف البلدوزر ارييل شارون آنذاك... كان عرفات مزعجا في حياته بالنسبة لمختلف حكومات الاحتلال وبقي كذلك حتى بعد رحيله وهو الذي لا يختلف الفلسطينيون حوله عندما يتعرضون لسيرته الطويلة حتى وإن اختلفوا معه ولعل في هذا السبب وغيره ما يجعل من ذكرى رحيل عرفات منذ 2004 موعدا يذكر الفصائل الفلسطينية بأن توحيد الصفوف ليس بالسراب وأن البيت الفلسطيني رغم كل العواصف يتسع للجميع..
من المثير أن تعود ذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات هذا العام بعد أسبوع فقط على قمة "لم الشمل" بالجزائر قمة جعلت القضية الفلسطينية والمصالحة الفلسطينية في قلب إعلان الجزائر الذي يظل اختبارا مفتوحا للنوايا الفلسطينية ولكن أيضا للإرادة العربية العرجاء في زمن تتداخل فيه وتتدافع لعبة المصالح ويصبح فيه كيان الاحتلال اقرب إلى بعض الأنظمة والحكومات من الأنظمة العربية... ولا شك أن فيما عاش على وقعه المشهد الفلسطيني من الضفة إلى القدس والقطاع من وفاء للزعيم الراحل واعتراف بمكانته ودوره في دفع القضية ما يعكس حتما فراغا سياسيا وتطلعا إلى عنوان وقيادة تبلسم الجراح وتجمع ولا تفرق تعيد ترتيب الأولويات وشحذ العزائم لمواصلة المسيرة الطويلة لشعب يتطلع إلى الحرية ويصمد منذ أكثر من سبعة عقود تحت قيد الاحتلال، وشعب يعيش اليوم على وقع ذكرى زعيم ارتبط اسمه بمسار القضية الفلسطينية وشعبها وكان قادرا في حياته على منع انفراط العقد الفلسطيني وجمع كل الفصائل تحت مظلة حركة فتح وزعيمها ياسر عرفات فماذا بقي اليوم من ارث الختيار أو أبو عمار كما يحلو للكثيرين أن يلقبوه؟ ...
يقول طبيبه المقدسي ورفيقه احمد الطيبي في هذه الذكرى أن ابو عمار هو رمز وطني وهو الذي جسد وحدة الفلسطينيين حتى عندما اختلف البعض معه وقد اختلفوا معه ولم يختلفوا عليه فهو رمز النضال والعطاء والإيثار كان ولا يزال في الذاكرة الفلسطينية شامخا كزعيم للثورة ولمنظمة التحرير، ويضيف الطيبي في تصريحات لـ"الصباح" أن المشهد اليوم أكثر تعقيدا وصعوبة خاصة في ظل الانقسام وحالة الفصائل الفلسطينية وشدد قائلا الحقيقة انه في الليلة الظلماء نفتقد الزعيم ونفتقد وقفته ونضاله.. نعم لم يكن نبيا ولكن كان زعيما كان يصيب ويخطئ ولكن كانت القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني على رأس أولوياته لذلك يظل رمزا راسخا للفلسطينيين جميعا..
بدوره يقول سفير فلسطين السابق في باريس سلمان الهرفي في تصريحات لـ "الصباح" أن الزعيم لم يغب عن المشهد لان أفكاره راسخة الوجود في ذهن وعقل محبيه وعموم شعب فلسطين في الأرض الفلسطينية المحتلة أو خارجها، ويضيف الهرفي "أنا عرفت الرئيس عرفات في الجزائر مبكرا وتعمقت علاقتي به بعد حرب 1967 وفي أواخر سنة 1968 انتدبني وزميلي محمود الهمشري للذهاب لفرنسا لافتتاح مكتب لحركه فتح هناك والذي أصبح لاحقا سنة 1972 مكتبا لمنظمه التحرير وبعد إبعادنا من فرنسا عدت إلى مكتب الأخ ابو عمار ياسر عرفات حيث بقيت اعمل معه في العلاقات الخارجية لحركة فتح ومديرا في الدائرة السياسية لمنظمة التحرير ومستشارا لعرفات للشؤون الإفريقية حيث تخصصت في هذا المجال لغاية استشهاده سنه 2004.
وحسب الهرفي فان ياسر عرفات كان له حلم يريد أن يحوله إلى واقع من فكرة اللجوء إلى واقع مواطن وصاحب حق في حريته وأرضه سيادته واستقلاله وقد جسد ذلك بالنضال القاسي والمرير حيث كان مطاردا من الأنظمة العربية في الشرق وسجن في سوريا ولبنان وحرم من التواجد في دول الطوق إلا انه صمد وقاتل ونجا من محاولات الاعتقال عدة مرات وذلك قبل سنة 1967 هو ورفاقه خاصة أبو جهاد وأبو إياد وأبو يوسف وعبد الفتاح حمود وغيرهم من كوادر الثورة وطلائعها، ويضيف أن الهزيمة هزيمة الأنظمة التي خدعت الشعوب بشعاراتها الرنانة الثورية أو تلك العقلانية التي كانت تبث اليأس في الشعب الفلسطيني وأن العين لا تواجه المخرز على حد تعبير المثل الفلسطيني، وأن هؤلاء جميعا وجدوا نفسهم يختبئون وراء شعار "كلنا فدائيون". واعتبر أن من أهم المحطات كانت محطة حركة فتح وتداعيات حرب التحرير التي قادها السادات وحافظ الأسد سنة 1973 وتخلوا معها عن فلسطين وبدأوا بالتأمر على فلسطين واستثنائها من المفاوضات في جنيف سنة 1974 وبعدها فك الاشتباك الذي قاده كسينجر مع مصر وإسرائيل وسوريا وإسرائيل ودفع بالجانبين للتخلي عن فلسطين وكانت مؤامرة في قلب عرفات ثم بعد ذلك بدا التآمر لتصفيته وتصفية القضية سياسيا من قبل السادات وعمليا من قبل الأسد وحلفاء كلاهما من المعسكر العربي والغربي وبدأت الحرب الأهلية في لبنان للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية إلى غاية 1982 عندما فشلوا. أرسلوا 130 ألف جندي لاجتياح لبنان وطرد منظمة التحرير وعندما فشلوا خلال ثلاثة أشهر من الصمود أتوا بالحلف الأطلسي وقوات أمريكية وفرنسية وايطالية وأخرجت منظمة التحرير وكان كل مخططاتهم أن يذهب عرفات إلى دمشق بعد بيروت حتى يتم القضاء عليه وعلى القيادة الفلسطينية وخاصة قياده فتح لان الخيار كان توزيع الخروج إلى أكثر من بلد على أن يكون خروج القيادة وأبو عمار إلى تونس مقر الجامعة العربية وخاصة أن أشقاءنا في شمال إفريقيا كانوا دوما الرافعة المنقذة لفلسطين وخاصة الجزائر وتونس.
- للتاريخ أكثر من قراءة..
لسنا في إطار محاكمة تاريخية ولا نحن بصدد إعادة كتابة الأحداث التي قد يتضح بعضها ويبقى بعضها محاطا بالسرية والكتمان فليس سرا أن القضية الفلسطينية تعرضت ومنذ البدايات لغدر ومؤامرات الأقربون قبل الأعداء.. ولا شك أن مسلسل الاغتيالات الطويل ومعه مسلسل سجن واسر قيادات فلسطينية أرقت الاحتلال..
في ذكرى رحيل الزعيم يستعيد الشارع الفلسطيني شعارات حماسية ارتبطت بعرفات في مناسبات كبرى ومنحت معها الشعب الفلسطيني دعما معنويا لمسيرته النضالية المستمرة وكأن الرجل لا يزال حاضرا بين الحشود وهو الملقب الختيار والقائد والزعيم وصاحب الكوفية الذي حمل خارطة فلسطين وأبدع في رسمها على رأسه وبين كتفيه وهو من صرخ "يا جبل ما يهزك ريح"، ونادي هذا شعب الجبارين.. وهو من قال إن "الثورة ليست بندقية فلو كانت بندقية لكانت قاطعة طريق ولكنها نبض شاعر وريشة فنان وقلم كاتب ومقبضة جراح وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائيها وزوجا"، وهو من حمل غصن الزيتون وأطلق نداءه المدوي أمام العالم الذي خذله لاحقا عندما قال "جئتكم يا سيادة الرئيس حاملاً غصن الزيتون بيدي وببندقية الثائر بيدي الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي... لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي... لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"، وكان ذلك من منبر الأمم المتحدة عام 1974 المنظمة (عصبة الأمم) التي منحت كيان الاحتلال الإسرائيلي بطاقة الولادة من رحم القانون الدولي ونسيت في غمرة الأحداث أن تعلن نشأة دولة فلسطين وعاصمتها القدس...
"إننا حتما سننتصر"، هكذا كان يردد و هو يخاطب الفلسطينيين بقوله "إن ثورتكم هذه وجدت لتنتصر وستنتصر طال الزمن أو قصر.".. والسؤال اليوم سيظل من يحمل المشعل ويعيد للقضية توهجها ومكانتها وللشعب كرامته.
كان عرفات يقول إن الشعب الفلسطيني الذي يواجه هذا العدوان الإسرائيلي اليومي ضد مقدساته الإسلامية والمسيحية وضد مدنه وقراه ومخيماته وبنيته التحتية واقتصاده ومدارسه ومستشفياته، صامد ومرابط حتى تحقيق الأهداف الوطنية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. والشيء الوحيد الثابت اليوم أن هذا الشعب لا يزال رغم اشتداد الخناق من حوله يواصل المسيرة ويحمي المقدسات ويدافع عن حق الأجيال التي بقيت على أرضها...
بعد حصار بيروت سأل الصحفيون الشهيد ياسر عرفات وين رايح يا أبو عمار؟ أجابهم:"على فلسطين... على فلسطين... على فلسطين"، اعتقد الكثيرون بما في ذلك المقربون منه أن عرفات أضاع البوصلة بسبب ما حدث ولكنه كان يدرك أن الطريق إلى فلسطين سيكون من تونس كيف ذلك ربما لا احد يدري ولكن هذا ما حدث في 1994...
محاولات اغتيال أبو عمار
تعددت محاولات تصفية ابو عمار الذي كان ينجو في كل مرة بأعجوبة، وكانت آخر تلك المحاولات عندا تعرض للتسميم من قبل إسرائيل، وقد أكدت جل التقارير الطبية وجود نسبة عالية من الليتونيوم في جسده ولكن بقيت التقارير الطبية التي وضعها المستشفى الفرنسي حيث توفي في يد عائلته وبقيت الحقيقة عالقة رغم قناعة السواد الأعظم من الفلسطينيين أن يد إسرائيل وراء تصفية أبو عمار الذي نجا من أكثر من عملية سابقة فقد كان له جهازه الأمني الممثل بقوات الـ17، وكان يعتني بأمنه الشخصي بنفسه، كان شديد الحذر والانتباه في التنقل والسفر، ويقول الكاتب والمناضل الفلسطيني يحي يخلف أن عرفات كان يعمل ليلا حتى بزوغ الفجر، حتى لا يتعرض لهجوم مباغت وهو نائم، فقد كانت العمليات التي تقوم بها "إسرائيل" تتم بعد منتصف الليل، ولعلّ عملية الفردان ببيروت التي اغتيل بها القادة الثلاثة: كمال العدوان، كمال ناصر، أبو يوسف التجار مثالا.
لم يتمكن منه الاحتلال في بيروت أثناء اجتياح عام 1982 ولاحقه إلى تونس وقصف مقره في حمام الشط وفشل لان أبو عمار لم يكن هناك خلال ذلك العدوان الذي عرف بعملية الساق الخشبية..، عرف عن عرفات أنه متمرس عسكريا وسياسيا وانه كان بارعا في إدارة الأزمات وتجاوز المنعطفات وكان قادرا على إدارة المعارك النفسية وإرهاق أعدائه وخصومه..
أثناء مفاوضات الخروج من بيروت طالبت إسرائيل عبر المبعوث الأميركي فيليب حبيب تجريد المقاتلين الفلسطينيين من أسلحتهم ورفعهم للعلم الأبيض، لكن عرفات ومعه رجاله وقادته رفضوا، وخرج عرفات وقادته وضباطه وجنوده بأسلحتهم رافعين علم فلسطين، وكانت المعنويات عالية بعد صمود عز نظيره، وعندما سأل أحد الصحافيين عرفات: أين محطتك القادمة، ابتسم وأجاب: نحو القدس.
وبعد ثمانية عشرة عاما على استشهاد الرئيس الرمز ياسر عرفات حيث بقي استشهاده لغزا محيرا بالرغم من أن هناك إجماعا من قبل المختصين والعامة بان الرئيس الشهيد ياسر عرفات قد مات مسموما، وان نتائج التحليلات التي تم التوصل إليها في مستشفى بيرسي الفرنسي بقيت طي الكتمان لان تلك التحليلات والنتائج بحسب القانون الفرنسي هي من اختصاص عائلة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، والتحقيق الذي قامت به السلطة الوطنية الفلسطينية والتي شكلت بقرار رئاسي توصلت في حينه إلى أن الرئيس الشهيد ياسر عرفات مات مسموما، كما خلص خبراء سويسريون من معهد لوزان للفيزياء الإشعاعية إلى أنه من المرجح أن يكون الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد توفي نتيجة تسممه بالبولونيوم، بحسب تقرير نشرته قناة الجزيرة القطرية...
سيرة للأجيال
كتب عنه يفجيني بريماكوف وزير خارجية الاتحاد السوفياتي مقالا مطولا كشف فيه انه عرف الزعيم عرفات منذ عام 1968 ويقول في مقال نشر بالشرق الأوسط "التقيته عشرات المرات، ويمكن القول بأنه ربطتني به أواصر الصداقة. وتحت سمعي وبصري تحول هذا الرجل، الذي ولد في أتون نضال الفلسطينيين المسلح، فدافع من أجل حقوقهم، تدريجيا، إلى سياسي متبصر ورشيد وواقعي، فأصبح العالم بأسره يأخذه بعين الاعتبار بصورة أو أخرى.. "، ويضيف بريماكوف بعد رحيل عرفات "لقد توحدت في منظمة التحرير الفلسطينية حركات فلسطينية ذات آراء سياسية وإيديولوجية متباينة.. فكان جورج حبش يتولى قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة يتولى قيادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكلاهما كانا يرفعان الشعارات الماركسية. اما ياسر عرفات فقد بقي، بخلاف من اعتبر نفسه ماركسيا، في إطار الفكرة القومية، مع التركيز على النزعة البراغماتية التي أصبحت القوة المحركة لتطوره الارتقائي. وقد جاز القول في تقييم عرفات بكونه متطرفا: هل سمع منه أحد الدعوة إلى «الجهاد» أو رأى في أفعاله عموما المحاولة لصبغ نضال الفلسطينيين في سبيل حقوقهم بصبغة دينية؟ لم يحدث أبدا. ويمكن القول بأن (فتح) بقيت بوجه عام كحركة سياسية وعسكرية ليست ذات طابع ديني لحد كبير بنتيجة تأثير ياسر عرفات، مؤسسها وقائدها بلا تغيير على مدى عقود السنين. ويمكن قول الشيء ذاته عن منظمة التحرير الفلسطينية... وعندما زار بريماكوف عرفات في غزة عام 1996، قال "كانت توجد هناك السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة عرفات. ولن أنسى لقاءاتي معه في تلك الفترة. علما بأنه بدا لي رجلا ولج المرحلة الجديدة التي دشنتها اتفاقية السلام مع إسرائيل. ولم تساورني أية شكوك في أن ياسر عرفات لم يكن ينظر إلى الوثيقة التي وقعها مع إسحاق رابين باعتبارها خطوة تكتيكية، بل كان يتحدث باعتزاز عن انه ولت مع الماضي فترة المنفى في تونس، وتتفتح الآفاق الواقعية لقيام الدولة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه لم يقع في ضلال بشأن صعوبات الطريق الذي يتكشف أمامه. وتحدث عرفات بانفعال عن الصعوبات الجسيمة التي يلقاها في تنفيذ حتى الاتفاقات بعد التوصل إليها مع إسرائيل، بصدد مطار غزة والطريق الذي يربط قطاع غزة بالضفة الغربية...".
تلك محطات في سيرة عرفات التي لم تكتب بعد لتتطلع عليها الأجيال فقد ولد "أبو عمار" في القدس في الـرابع من أوت عام 1929، واسمه بالكامل "محمد ياسر" عبد الرؤوف داود سليمان عرفات القدوة الحسيني، وتلقى تعليمه في القاهرة، وشارك بصفته ضابط احتياط في الجيش المصري في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر في 1956. درس في كلية الهندسة بالقاهرة، وعمل بالكويت وشارك منذ صباه في بعث الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال نشاطه في صفوف اتحاد طلبة فلسطين، الذي تسلم زمام رئاسته لاحقاً...
كما شارك مع مجموعة من الوطنيين الفلسطينيين في تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في الخمسينات، وأصبح ناطقا رسميا باسمها عام 1968، وانتخب رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في فيفري 1969، بعد أن شغل المنصب قبل ذلك أحمد الشقيري، ويحيى حمودة.حل الزعيم ياسر عرفات وقيادة وكادر منظمة التحرير ضيوفا على تونس، ومن هناك بدأ استكمال خطواته الحثيثة نحو فلسطين.
عقب إعلان الاستقلال في الجزائر في الخامس عشر من نوفمبر عام 1988، أطلق الراحل في الثالث عشر والرابع عشر من جانفي للعام ذاته في الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، حيث انتقلت الجمعية العامة وقتها إلى جنيف بسبب رفض الولايات المتحدة منحه تأشيرة سفر إلى نيويورك، وأسست هذه المبادرة لقرار الإدارة الأميركية برئاسة رونالد ريغان في الـ16 من الشهر ذاته، والقاضي بالشروع في إجراء حوار مع منظمه التحرير الفلسطينية في تونس اعتبارا من 30 مارس 1989.
ووقّع ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين عام 1993، اتفاق إعلان المبادئ "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل في البيت الأبيض، في الثالث عشر من سبتمبر ، حيث عاد ياسر عرفات بموجبه على رأس كادر منظمة التحرير إلى فلسطين...
بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في 2000 نتيجة التعنت الإسرائيلي والانحياز الأمريكي وإصرار عرفات على عدم التفريط بالحقوق الفلسطينية والمساس بثوابتها، اندلعت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من سبتمبر 2000، وحاصرت قوات ودبابات الاحتلال الرئيس عرفات في مقره، بذريعة اتهامه بقيادة الانتفاضة، واجتاحت عدة مدن في عملية أطلقت عليها اسم "السور الواقي"، وأبقت الحصار مطبقا عليه في حيز ضيق يفتقر للشروط الدنيا للحياة الآدمية...
11 نوفمبر 2004 11 نوفمبر 2022 ثمانية عشر عاما على رحيل عرفات فماذا حدث بعد رحيله؟ كان السيناريو الأسوأ أن يسود الصراع على تركته، و يمتد الصراع إلى السلطة. وهذا ما حدث وهو ما حذر منه الكثيرون بما في ذلك بريماكوف.. وقد أن الأوان لإعادة التفكير حتى تتوفر الحكمة الكافية من اجل عدم إفساد القضية التي وهب لها عرفات حياته...