"كان صرحا فهوى".. هكذا للأسف حال وواقع التعليم العمومي اليوم الذي تهاوى بصفة ملحوظة خلال العشر سنوات الأخيرة. فالمدرسة العمومية التي عرفت منذ الاستقلال كمصعد اجتماعي من خلال تكوينها لخيرة من الأجيال المتعاقبة منتجة بذلك نخبا وكفاءات في مختلف المجالات تراجع بريقها اليوم وخفت نورها وبات هذا الصرح العمومي الذي كان في السابق منارة معرفية لا يُعلى عليه ينتج أرقاما قياسية في التسرب المدرسي..
هذا التراجع يعود الى أسباب عديدة ومتشعبة وإشكاليات قديمة جديدة تعاني منها المنظومة التربوية منذ عقود حاولنا من خلال هذه المساحة فتح ملف أسباب تهاوي التعليم العمومي في تونس خاصة خلال السنوات الأخيرة من خلال تسليط الضوء على أبرز الأسباب التي جعلت المدرسة العمومية تتهاوى بهذا الشكل بعد إن كان يشهد لها بتكوين أبرز النخب .
إعداد: منال حرزي
الإجماع كان تقريبا حاصلا بين جميع المتدخلين والفاعلين في المنظومة التربوية على أن الأزمة هي أزمة مكونين وأزمة مدرسين بالأساس، فمدرس الأمس لا يشبه مطلقا مدرس اليوم خاصة على مستوى الكفاءة والتمكن من مختلف المهارات والمعارف خاصة على مستوى اللغات الأجنبية (وهذا لا يعني أننا بهذا القول نضع جميع الإطارات التربوية في سلة واحدة على اعتبار أن هنالك مدرسين اليوم وعلى الرغم من كل الأزمات التي يمر بها القطاع العمومي أكفاء ويقومون بواجبهم على الوجه المطلوب) بما انه وعلى حد تشخيص بعض المتدخلين في هذا الملف انه ومنذ إغلاق المدرسة الوطنية لترشيح المعلمين سنة 2007 تراجع بشكل كبير تكوين المدرسين وأصبح على حد قول البعض من هب ودب بإمكانه أن يباشر مهنة التدريس.. الأمر الذي نلمس اليوم نتائجه في المناظرات الوطنية..
لكن معضلة تراجع المكونين وعلى أهميتها ليست وحدها التي أدت الى تراجع منظومة التعليم العمومي على مدار العشرية الأخيرة حيث يرى كثيرون أن التجاذبات الحاصلة بين سلطة الإشراف وبقية الأطراف الاجتماعية والمعارك المستمرة.
والتي ما تزال إلى اليوم متواصلة-بما أن آلاف التلاميذ يقبعون الى حد كتابة هذه الأسطر في المنزل جراء الأزمة الراهنة بين المعلمين النواب والوزارة - ساهمت بشكل كبير في زعزعة استقرار المدرسة العمومية وفي تراجع هيبتها ومكانتها كصرح معرفي يقوم على إنارة الناشئة ليصبح التلميذ في خضم هذه التجاذبات يستعمل كرهينة لتسوية الاتفاقيات العالقة.. وبالتالي وبعد أن كانت المدرسة العمومية جاذبة ومستقطبة للتلميذ أصبحت اليوم عنصرا منفرا .
تساؤلات مشروعة
يتساءل اليوم كثيرون من المستفيد من وراء تراجع المدرسة العمومية وهنا لا يختلف اثنان على أن القطاع الخاص هو اكبر مستفيد واكبر مستثمر في أزمات وعلل المنظومة العمومية (حوالي 40 بالمائة من المدارس الخاصة تتركز في إقليم تونس الكبرى) فالولي الذي سئم سياسات لي الذراع والخلافات التي تكاد لا تنتهي بين الوزارة والطرف الاجتماعي وجد في التعليم الخاص ملاذا له رغم أن تكاليفه المشطة لا تتماشى مع مقدرته الشرائية ومع ذلك "يستثمر" في تعليم أبنائه حتى على حساب قوته اليومي.
في المقابل يتجاوز البعض كل الإشكاليات السابقة ليؤكد أن الأزمة تنحصر في غياب إرادة سياسية للإصلاح التربوي بما أن البرامج التي تدرس اليوم أكل عليها الدهر وشرب كما تجاوزها الزمن وبالتالي من الضروري تبني نفس إصلاحي جديد يقوم على مراجعة جذرية وشاملة لكافة البرامج والمناهج التعليمية حتى يتسنى إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. وهنا يصح التساؤل بإلحاح لما تعطلت كل مشاريع الإصلاح التربوي خاصة مشروع 2015 الذي كان محل اتفاق بين وزارة التربية والمعهد العربي لحقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل.
تونس في المراتب الأخيرة
بلغة الأرقام تصنف تونس اليوم في المراتب الأخيرة في جودة التعليم عالميا وعربيا كما تعتري المدرسة العمومية مظاهر وسلوكيات تكرس لكل مظاهر الانحراف والعنف وحتى الجرائم وهو ما حصل مؤخرا في بعض المعاهد ومع ذلك ما يزال البعض يراهن على أهمية وجودة التعليم العمومي فرغم كل الهنات المذكورة سلفا ما يزال التعليم العمومي يكون نخبا تستقطبها الدول الأوروبية بالآلاف على غرار المهندسين والأطباء والأساتذة الجامعيين وبالتالي فان التعليم العمومي ما يزال يسجل حضوره وبقوة وينافس جديا التعليم الخاص.
لا نروم عبر هذا الملف توجيه أصابع الاتهام الى أطراف بعينها سواء كانت سلطة الإشراف أو نقابات أو مجتمع مدني بقدر ما نروم أن يعي صناع القرار والماسكون بزمام الأمور بخطورة تهاوي التعليم العمومي وتدحرجه من سيء الى أسوأ بعد أن كان يلعب دورا رياديا في ستينات وسبعينات القرن الماضي وبأن يبادروا بتفعيل قاطرة الإصلاح التربوي خاصة وان تلميذ اليوم هو رجل الغد ودون استثمار في المعرفة والتربية والتعليم وفي ذكاء العنصر البشري لا يمكن مطلقا الالتحاق بركب الدول المتقدمة. وبالتالي لا بد من إرادة سياسية حقيقية تتبنى التغيير والإصلاح والمراهنة الجدية على أهمية التعليم والمعرفة.
رضا الزهروني (رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ): الإطار التربوي غير مؤهل للتدريس
في تشخيصه للأسباب التي أدت الى تراجع وتهاوي المنظومة التربوية اعتبر رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني انه من بين المسائل المقلقة هو انعدام الوعي بخطورة الوضع الحالي للمدرسة التونسية بما أن أصحاب القرار لا تزعجهم الأرقام التي تفيد بان 100 ألف تلميذ ينقطعون سنويا عن الدراسة هذا بالتوازي مع نسبة النجاح المسجلة في الامتحانات الوطنية الى جانب تنامي الهوة في التعليم بين العائلات الميسورة التي بإمكانها تدريس أبنائها ومجابهة كل المصاريف وبين العائلات المعوزة التي لا تستطيع مجابهة التكاليف المدرسية الأمر الذي افرز شرخا وفوارق اجتماعية في التعليم العمومي في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير جامعا لكل أبناء الشعب ليعتبر الزهروني أن أصحاب القرار غير واعين بخطورة الوضع الحالي على وحدة الشعب نظرا لانعدام الوعي ولغياب إرادة سياسية حقيقية لإصلاح المنظومة التربوية. واعتبر محدثنا انه منذ عقود تعتمد الحلول الترقيعية دون وجود استراتيجيات مدروسة فعليا. وفي معرض حديثه عن النقائص والإشكاليات التي جعلت التعليم العمومي يتهاوى تعرض الزهروني الى معضلة البرامج التي اكل عليها الدهر وشرب على حد تعبيره مشيرا الى انها تفتقر الى مراجعات والى عمليات تحيين معتبرا في السياق ذاته ان الاطار التربوي غير مؤهل اليوم للتدريس وهو ما تسبب، من وجهة نظره، في انهيار المنظومة التربوية هذا بالتوازي مع اسباب اخرى من قبيل البنية التحتية التي خربت منذ سنوات. كما تطرق الزهروني الى معضلة اللغات معتبرا ان النقص الفادح في اللغات يعود أساسا الى أن المدرسة وفي هيكلتها الحالية تدرس خاصة باللغة العربية وهذا يعتبر إهدارا كبيرا للزمن المدرسي ولقدرات المتعلم على فهم المواد التي تدرس باللغة الفرنسة لا حقا وهو ما يفسر هجران عديد التلاميذ للشعب العلمية خاصة مادة الرياضيات وذلك لانعدام المستوى المطلوب الذي يؤشر لفهم نص الاختبار المكتوب باللغة الفرنسية. كما اعتبر رئيس الجمعية التونسية للاولياء والتلاميذ ان حالات عدم الاستقرار والاضرابات الحاصلة وسياسات لي الذراع من قبيل حجب الاعداد وارتهان التلاميذ ساهمت بشكل كبير في تراجع المدرسة العمومية.
من جانب اخر استنكر الزهروني اقصاء الاولياء من مشاريع الاصلاح المدرسي في الوقت الذي يفترض فيه ان يكون الولي شريكا فاعلا معتبرا ان المنظومة التربوية لا يمكنها أداء واجبها ووظيفتها التربوية بالشكل المطلوب دون تشريك الولي مشيرا الى أن المطلوب اليوم هو الوعي بخطورة الوضع الحالي للمدرسة العمومية وبدقة المرحلة داعيا الى ضرورة تبني إرادة سياسية للإصلاح مع بلورة استراتيجيات مقنعة تتمثل في مراجعة القوانين المنظمة للتعليم مع ضبط أهداف واضحة من قبيل الإمكانيات اللازمة للحد من نسبة الانقطاع المدرسي موضحا انه لا يمكن بأي حال من الأحوال الارتقاء بالمنظومة التربوية دون إيجاد حل لمعضلة اللغات ودون مجابهة الاكتظاظ الحاصل في الزمن المدرسي فضلا عن ضمان حد أدنى من الاستقرار حتى تصبح المدرسة التونسية جاذبة للتلميذ وتسترجع دورها كمصعد اجتماعي يضمن العدالة الاجتماعية بين الجميع.
توفيق الشابي (الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الأساسي): الوضع الهش للمدرسين ينعكس سلبا على العملية التعليمية
يعترف الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الأساسي توفيق الشابي بأن هنالك أسبابا عديدة جعلت التعليم العمومي يتدحرج الى الأسفل من سنة الى أخرى على غرار البنية التحتية للمؤسسات التربوية حيث يفترض أن تكون المدرسة عنصرا جاذبا ومستقطبا للتلميذ لكنها اليوم باتت منفرة للتلميذ أكثر منها جاذبة هذا بالتوازي مع غياب التجهيزات ووسائل العمل الأمر الذي من شانه أن يعرقل العملية التربوية .
ومن بين الأسباب الأخرى التي يراها محدثنا مساهمة بشكل كبير في تراجع المدرسة العمومية هو الوضع الهش للمدرسين حيث أورد أن ثلث القطاع تقريبا يعاني من كافة أشكال التشغيل الهش وهذا الوضع غير المطمئن على مستقبل المدرسين والظروف المادية الهشة التي يعانون منها فضلا عن حالة عدم الاستقرار التي يعيشونها ستنعكس سلبا على مردوه داخل القسم. وأضاف الشابي في هذا الخصوص أن ثلثي القطاع المتبقي يعاني وضعا ماديا متدهورا ويتدحرج في ادني سلم التأجير وبالتالي فان هذه الوضعية تعتبر عاملا من العوامل التي لا تساهم في النهوض والارتقاء بالمنظومة التربوية بما أن الظروف المعيشية للإطار التربوي تعتبر محزنة.
ومن بين الأسباب الأخرى المساهمة في تراجع التعليم العمومي تعرض الشابي أيضا الى النقص الحاصل في التكوين للإطارات التربوية والبيداغوجية مشيرا في هذا السياق الى أنه من الضروري أن تكون عملية التكوين متواصلة وان نوليها الأهمية القصوى. وفي نفس الإطار تعرض محدثنا الى معضلة كثافة البرامج والمحتويات التعليمية مشيرا الى أن التلميذ لا يستطيع استيعابها مستنكرا في الإطار نفسه عدم القيام بعملية تحيين للبرامج التعليمية الى جانب عدم مراجعة الكتب المدرسية والمناهج التربوية لاسيما ان محتواها يعتبر غير مواكب للأحداث موضحا في هذا الجانب انه من الضروري ان تتطور البرامج وتواكب على الأقل الواقع المعيشي للطفل. وأوضح الشابي في هذا الاتجاه أن كل عملية تطوير للبرامج وإصلاح للمنظومة التربوية تقتضي اعتمادات مالية مشيرا الى انه لا يمكن الخوض أو الحديث عن إصلاح دون ميزانية واعتمادات مالية مرصودة غير أن هذه الميزانية ما فتئت تتراجع وتتدهور من سنة الى أخرى. واعتبر انه من الضروري أن تخصص وزارة التربية اعتمادات مالية هامة حتى تستطيع النهوض بالمنظومة التربوية لا سيما ووان هنالك جملة من الإشكاليات التي من الضروري معالجتها على غرار غياب عمليات الصيانة الى جانب ظاهرة الاكتظاظ في الفصول بسبب النقص الحاصل في البنية التحتية وجميعها عوامل ستؤدي الى تدهور المنظومة التربوية.
ومن بين الأسباب الأخرى التي ساهمت في تراجع التعليم العمومي من وجهة نظر الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الأساسي تطرق الشابي الى معضلة نظام الفرق والذي ينتشر بصفة ملحوظة في المناطق الداخلية موضحا أن نظام الفرق له تأثير سلبي على نجاعة المنظومة التربوية هذا بالتوازي مع إشكالية عدم تعميم الأقسام التحضيرية في المدارس وخاصة في الأرياف داعيا في هذا السياق الى تفعيل السنة التحضيرية خاصة في الأرياف. ليخلص محدثنا الى القول بان تراجع القيمة المادية والاعتبارية للمدرس واستباحة المدرسة العمومية من طرف الجميع أدى الى تفشي ظاهرة العنف التي لها تأثير كبير على المنظومة العمومية.
فخري السميطي (كاتب عام مساعد للجامعة العامة للتعليم الثانوي): اليوم نلمس سياسات تفويت ورفع اليدين لكل ما هو عمومي
في حديثه عن أسباب تهاوي التعليم العمومي وتدحرجه الى الأسفل من سنة الى أخرى يعتبر الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الثانوي فخري السميطي أن الأسباب عديدة ومن بينها تدني مستوى المتعلمين في المقاييس العامة وفي المناظرات الوطنية علاوة على حالات التسرب المدرسي والتي تفوق 100 ألف تلميذ سنويا يغادرون مقاعد الدراسة. وفسر السميطي في هذا الخصوص أن الجامعة العامة وكطرف اجتماعي لم يخل مؤتمر ولم تخل لائحة إلا ولم يقع التنصيص فيها على ما بلغه التعليم العمومي جراء السياسات الفاشلة وهي سياسات تفويت ورفع اليدين عن كل ماهو قطاع عمومي. وأوضح في هذا الجانب أن هذه السياسات انطلقت تقريبا خلال الإصلاحات الهيكلية أي منذ 1986 ولتي بدأت في التفويت في هذا المرفق العمومي بشكل نهائي حيث لم يعد هذا المرفق أولوية من أولويات الدولة بل تحول الى عبء يثقل كاهل الميزانية ولم تعد الدولة تراهن على الذكاء والعنصر البشري في الدورة الاقتصادية. كما أورد السميطي أن الحكومات المتعاقبة راهنت على التفويت في القطاع العام على حساب الخاص بهدف التقليل في الكلفة. وهذا المنحى تجسد في غلق باب الانتداب بشكل صريح وواضح في السنوات الأخيرة وهو ما يترجمه النقص الحاصل في الموارد البشرية من أساتذة وعملة ومرشدين تطبيقيين وهو ما يعكس في جوهره الخضوع لاملاءات صندوق النقد الدولي. وأضاف السميطي أن هذه الوضعية أفرزت مؤسسات تربوية عاجزة عن توفير أدنى متطلبات ومقتضيات العملية التربوية: من ذلك عجزها عن طباعة أوراق وحتى على توفير الطباشير الأمر الذي اثر سلبا على سير العملية البيداغوجية داخل القسم. هذا بالتوازي مع جملة أخرى من الإشكاليات على غرار البنية التحتية المهترئة للمؤسسات والتي كانت سببا في سقوط أسقف أقسام على التلاميذ والمدرسين مشيرا في الإطار نفسه الى أن بعض المقاولين تراجعوا عن أعمال الصيانة وفروا بسبب عجز وزارة التربية عن خلاصهم وبالتالي لم يعد هنالك مناخ ثقة بين الوزارة وبقية المتدخلين. واعتبر السميطي في نفس الإطار أن المدرسة العمومية تعاني على مستوى التجهيزات وعلى مستوى الميزانية المرصودة لها. من جهة أخرى وفي معرض حديثه عن أسباب تهاوي التعليم العمومي تعرض السميطي الى معضلة غياب إصلاح تربوي حقيقي وجذري في مختلف المؤسسات ويشمل عديد المستويات كالبرامج التي قال عنها السميطي انه "أكل عليها الدهر وشرب" لا سيما البرامج التي تدرس البرمجيات على اعتبار أن هذه البرامج قديمة جدا مقارنة بالطفرة التكنولوجية الكبيرة التي يعيشها العالم اليوم فضلا عن مادة الجغرافيا التي تتطلب وفقا لمحدثنا مراجعات بما أنها تتضمن معطيات وإحصائيات قديمة جدا وهو ما ساهم في جعلها برامج منفرة للتلميذ. وفي نفس الإطار اعتبر السميطي ان الزمن المدرسي غير منسجم بالمرة مع الزمن الاجتماعي بما انه يثقل كاهل المتعلم ويحجب عنه جميع المساحات الثقافية والرياضية. ليعتبر محدثنا أن الإصلاح التربوي الحقيقي لابد أن تغيب عنه مسالة الصراعات السياسية لان ملف الإصلاح التربوي حساس جدا وهنالك خيارات تحسب سياسيا. الحديث عن تهاوي التعليم العمومي دفع بالسميطي الى التعريج عما تعيشه المؤسسات التربوية اليوم ليستنكر الممارسات التي يقوم بها وزير التربية الحالي من انفراد بالرأي وعدم تشريك للأطراف المتداخلة في العملية التربوية وهو ما من شانه أن يخدم المؤسسات التربوية الخاصة ليحرم بذلك العائلة التونسية من مرفق عمومي كان مصعدا اجتماعيا ومحل حفاوة واهتمام أصبح الآن بمثابة عبء على الدولة .
نور الدين الشمنقي (كاتب عام النقابة العامة لمتفقدي المدارس الابتدائية): الأزمة سياسية واجتماعية وتربوية بيداغوجية بالأساس
في تفاعله مع الطرح الذي يؤكد تهاوي التعليم العمومي خلال العشرية الأخيرة بصفة ملحوظة ومفزعة أورد كاتب عام النقابة العامة لمتفقدي المدارس الابتدائية بالاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الشمنقي أن الأزمة سياسية واجتماعية وتربوية بيداغوجية بالأساس. وفسر الشمنقي أن الأزمة سياسية بما أنها تحتاج الى إرادة سياسية والى نخبة سياسية تعتبر العلم أولوية وطنية موضحا أن النخبة السياسية عشية الاستقلال استثمرت آنذاك في التربية والتعليم فحققت نجاحات. لكن منذ الثورة الى الآن لا توجد إرادة سياسية حقيقية للاستثمار في الذكاء التونسي واعتبار التربية والتعليم أولوية وطنية تستدعي بالضرورة الترفيع في ميزانية التربية على حساب القطاعات الأخرى. فمن وجهة نظره الاستثمار في السياحة أو الفسفاط أو غيرها من القطاعات الحيوية الأخرى قد يسهم في إيجاد حلول على المدى القصير لكن الاستثمار في التعليم وإيلاءه الأهمية اللازمة من شانه على المدى البعيد أن يبني العقول ويبني مواطنا حقيقا من شانه أن يواجه مجتمع الغد. واستنكر الشمنقي في هذا الإطار ضعف الميزانية المخصصة للتربية على اعتبار أن 95 بالمائة منها مخصص للأجور موضحا أن وضع الفاعلين التربويين من مدرسين ومتفقدين يؤشر الى عدم تقاضيهم الأجر الذي يليق بمكانتهم الأمر الذي جعلهم يضطرون الى القيام بمهام أخرى من بينها الدروس الخصوصية الأمر الذي من شأنه أن يضعف مردوديتهم. من جانب آخر تعرض الشمنقي الى النقص في التكوين ليعتبر أن المشكل الذي نعيشه حاليا بين المعلمين النواب ووزارة التربية سببه أن عملية الانتداب ليست مهيكلة وفقا لرؤية واضحة الأمر الذي سيكون له لاحقا انعكاسات على إدارة التعلمات داخل القسم. ليعتبر محدثنا أن كل هذه العوامل أفرزت فقرا في التعليم أو ما يسمى بغياب معيار الجودة وهو ما أدى الى انهيار كامل وتدحرج مراتبنا في جودة التعليم على مستوى عالمي. وللنهوض بواقع التعليم العمومي اعتبر محدثنا انه ما من حل سوى الترفيع في ميزانية التربية واعتبارها أولوية وطنية هذا مع ضمان تكوين احترافي وحداثي وهذا من شانه أن يرفع بالضرورة في مستوى الجودة لا سيما ان الترفيع في الميزانية سيساهم في تحسين الجانب اللوجستي من ذلك بناء أقسام جديدة وبهيكلة جديدة تتضمن كل أدوات التكوين الشامل. ورغم الهنات والصعوبات والتحديات التي يواجهها التعليم العمومي يصر الشمنقي على ان التعليم العمومي ما يزال يقوم بدوره كما ما يزال يحتفظ بجملة من المعايير التي تجعله قادرا على منافسة منظومة التعليم الخاص .
الدكتور مصطفى شيخ الزوالي (مستشار عام خبير في الحياة المدرسية): الكارثة في التعليم العمومي انطلقت منذ 2006
لدى خوضه في الأسباب المؤدية الى تراجع التعليم العمومي على مدار السنوات التي خلت اعتبر الدكتور مصطفى الشيخ الزوالي المستشار العام والخبير في الحياة المدرسية أن الأزمة هيكلية بالأساس على اعتبار أن هنالك أشياء موجودة ندفع اليوم فاتورتها الأمر الذي ولّد اختلالا كبيرا ليصبح بذلك التعليم العمومي أداة تنتج وتكرس عكس ما كان يرفعه من شعارات على غرار المساواة. واعتبر الشيخ الزوالي ان التعليم العمومي انتقل من مرحلة الانتقاء الاقصائي الشامل أي مرحلة البقاء للأقوى الى مرحلة نظام "الفانا المفتوحة" أي أن الجميع بإمكانه النجاح والارتقاء هذا بالتوازي مع معضلة النقص في التكوين من ذلك الأعوان الوقتيون الذين يتم اللجوء إليهم الأمر الذي زاد الطين بلة. وتعرض الشيخ الزولي في هذا الخصوص الى دراسة كان قد قام بها البنك الدولي عن تونس سنة 2001 تحت عنوان معضلات التعلم في تونس التي وضعت الإصبع على الداء حيث كشفت هذه الدراسة انه لا قدرة جهويا ومحليا على إدارة الشأن التربوي وهو ما جعل التعليم العمومي يتهاوى بسبب المركزية المفرطة. وبالتالي فانه لا بد من وجهة نظر الدكتور الشيخ الزوالي القضاء على اللامركزية في التعليم. من جانب آخر وفي نفس الإطار أشار محدثنا الى أن عملية تكوين الإطارات التربوية بصدد التراجع معتبرا أن التكوين أصبح عملية شكلية الأمر الذي أدى الى تفاوت جهوي رهيب وبالتالي فان الإشكال هو خلل هيكلي. كما اعتبر أن الأفق السياسية غير واضحة وان الوزارة غير قادرة على الإصلاح جراء هيمنة الأطراف الاجتماعية على القطاع حيث باتت هذه الأطراف تتصرف بطريقة احتجاجية وبمطلبية أقوى من قبل. كما أضاف محدثنا أن الخلل الهيكلي الذي يعاني منه التعليم العمومي له أشكال متعددة فالمتخرجون من هذه المنظومة مؤهلاتهم لا تتلاءم مع سوق الشغل الأمر الذي جعل هذه المنظومة تتهاوى من سنة الى أخرى لان الخلل هيكلي بالأساس .
واعتبر المستشار العام الخبير في الحياة المدرسية ان الكارثة في تكوين المدرسين انطلقت منذ سنة 2006.
أي منذ أن تم التخلي عن المسار والمقاييس التي كانت معمول بها الى غاية 2006 في تكوين المكونين والمعلمين. كما استنكر محدثنا التراجع عن اعتماد مشروع الإصلاح التربوي الجاهز والذي انطلق في أفريل 2015 ثم تم لاحقا تقديم مشروع القانون الى مجلس النواب في جانفي 2017 ثم توقف لاحقا المسار: ليتساءل شيخ الزوالي في هذا الإطار: لماذا نعيد نقاشات أخرى بخصوص الإصلاح التربوي والحال أن هنالك مشروعا للإصلاح جاهزا شارك فيه كل من وزارة التربية والمعهد العربي لحقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل.
ومن بين الحلول التي يراها محدثنا ناجعة للنهوض مجددا بقاطرة التعليم العمومي هي تضافر جميع الجهود هذا بالتوازي مع الدور الموكول للدولة لإدارة الشأن التربوي والنهوض به هذا بالتوازي مع تبني تحول رقمي لمواكبة مستجدات العصر .
رياض بن بوبكر (مدير عام البرامج بوزارة التربية): لابد من التكوين قبل مباشرة المهنة
..بما أن جميع المتداخلين في هذا الملف اعتبروا أن من بين الأسباب التي أدت الى تراجع التعليم العمومي هي معضلة البرامج والمناهج البيداغوجية التي تفتقر الى التجديد والابتكار ارتأت "الصباح" فسح المجال عبر هذه المساحة لمدير عام البرامج بوزارة التربية رياض بن بوبكر ليعتبر هذا الأخير أن أول الإشكاليات وأول مظاهر الأزمة اليوم هي مسالة الموارد البشرية مشيرا الى أن الأنظمة المتطورة تربويا في العالم هي الأنظمة التي تمتلك جودة في تكوين الموارد البشرية وهذه الجودة تتطلب بالأساس تكوين أساسي متطرقا الى مدرسة ترشيح المعلمين التي تأسست سنة 1875 في تونس لان التكوين المستمر يبنى بالضرورة على التكوين الأساسي وإذا غاب هذا الأخير أي التكوين قبل مباشرة المهنة. كانت لدينا مؤسسات تكوين ما قبل المهنة الى حدود سنة 2007. منذ 2007 أصبح الانتداب عشوائيا أي دون إعداد مسبق للمهنة بغلق المعاهد العليا لتكوين المعلمين والآن بدا الرجوع الى الإجازة التطبيقية للتربية والتعليم ويمكن من خلالها الرجوع الى جودة تكوين المكونين لأنها تعتبر عنصرا أساسيا في المنظومة التربوية. واعتبر محدثنا أن المنظومة التربوية بالأساس هي مدرس وإذا لم نستثمر فيه منذ البداية قبل حتى مباشرة المهنة فننا ذاهبون نحو الفشل لأنه لابد من الانتقاء والتكوين الأساسي في اللغة والمواد العلمية وحتى في التفكير، حتى يكون المدرس مقتنعا بمهنته ومستجيبا لجملة من المواصفات. وحول الجدل الذي صاحب البرامج والمناهج التعليمية من ذلك قدمها وعدم مواكبتها لمستجدات العصر أورد مدير عام البرامج بوزارة التربية انه بالإمكان تفعيل أحسن البرامج ولكن إذا لم يتوفر المدرس الكفء الذي يمتلك جملة من المواصفات فانه لن نستطيع بناء التلميذ الذي نحتاج إليه. وأضاف محدثنا فيما يتعلق بالبرامج أن طبيعة المعرفة متطورة ومتغيرة باستمرار وبالتالي ينبغي ان تتطور البرامج بصفة مستمرة وبصفة مطردة لان الواقع الابستيمولوجي الذي نعيشه على مستوى العالم أهم ميزة فيه هو التغير المستمر والعميق للمعرفة في فترات زمنية قصيرة جدا والمدرسة من بين أدوارها مواكبة ذلك التغير. واعتبر محدثنا أن الحديث عن غياب الفضاءات أو تردي البنية التحتية تعتبر جميعها مسائل ثانوية أمام العنصرين الأساسيين: عنصر المدرس و المدرس أي التكوين الأساسي والمستمر ثم تحيين البرامج والمعارف. ومن جانب آخر أشار محدثنا انه ولدى خوض في مسالة تراجع التعليم العمومي فانه من الضروري اليوم تنسيب الأمور على اعتبار أن المنظومة العمومية اليوم توفر لنا أكفأ المهندسين وأكفأ الأطباء الذين يستقطبهم الخارج مشيرا الى أن المعارف التي تدرس بصدد توفير كفاءات تشع على المستوى الدولي والمحلي. وبالتوازي مع أزمة التكوين عرج بوبكر الى الأزمات المتكررة منذ 2010 مع الطرف الاجتماعي حيث لم تكن الوزارة دائما في توافق مع الشريك الاجتماعي والتي تتضمن أسبابا موضوعية وأخرى خلقها الظرف الذي تمر به البلاد: السياسي والاقتصادي والاجتماعي وخاصة الوضعية المالية للمالية العمومية التي جعلت المدرسين لديهم طموحات بان تكون وضعيتهم المالية أفضل وهذا يعتبر حقا مشروعا. لا يمكن القول ان هذه الأزمات أثرت سلبيا على جودة التعليم العمومي على اعتبار ان الخوض في هذه المسالة يقتضي دراسات وبحوث تؤكد هذا الطرح أي تأثير هذه التوترات الاجتماعية على سير التعليم العمومي.
من جهة أخرى وحول مدى نية الوزارة اعتماد مناهج جديدة أورد محدثنا انه تمت مراجعة جملة من المواد على غرار الإعلامية والتكنولوجيا والاقتصاد في انتظار الإصلاح الشامل وتغيير البرامج الشامل حيث تم ضبط وثيقة مرجعية للتعلمات وسيقود الى مراجعات في كافة المواد لم يشملها التغيير الى حد الآن. وحول التراجع الفظيع في اللغات اعتبر مدير عام البرامج بوزارة التربية ان المقاربات التي تعتمد الى حد الآن في تدريس اللغة في الابتدائي تحتاج الى مراجعة وقد انطلقت الوزارة في ذلك حيث يتم الاعتماد على القراءة الشاملة والمقاربة المزدوجة وتبين ان التلاميذ يجتازون المرحلة الابتدائية بضعف كبير في اللغة ولهذا انطلقت عملية مراجعة المقاربة المعتمدة حيث لا بد أن يكمل التلميذ المرحلة الابتدائية وهو يحسن القراءة والفهم أي قراءة المكتوب والتعامل مع النص المكتوب. أما بالنسبة لباقي اللغات الأجنبية فقد اعتمدت الوزارة على مبدأ التبكير بدراسة اللغة وهو ما يعتبر حلا من الحلول لتطوير تدريس اللغة مشيرا في السياق ذلته الى أن الوزارة لديها خطط تكوين مستمر للإطارات التربوية لتفادي النقائص وهذا ليس في مجال اللغات فقط وإنما في العلوم حيث ينبغي تدارك الاخلالات الموجودة موضحا انه بالتوازي مع التكوين الذي تضمنه الوزارة فان كل مدرس مطالب بان ينخرط في مسار تكوين ذاتي وهو ما يوفره التكوين عن بعد او مختلف المنصات الموجودة لتطوير مهاراته وقدراته الأساسية للتدريس. ليخلص محدثنا الى القول بان التعليم العمومي مايزال يعتبر مصعدا اجتماعيا كما ما يزال يفرض حضوره وبقوة في المنظومة التربوية وهو ما يترجمه الكفاءات التي يفرزها التعليم العمومي من مهندسين وأطباء والتي تتهافت الدول الأجنبية على استقطابها مشيرا الى أننا نحتاج اليوم الى مراجعة مسالة التعليم المهني في المؤسسات التربوية مثلما كان معمول به في السابق وبالتالي من الضروري من وجهة نظر بن بوبكر القيام بعملية هيكلة التعليم لاسيما الثانوي والذي يعتبر من أوكد الأولويات اليوم.
تونس-الصباح
"كان صرحا فهوى".. هكذا للأسف حال وواقع التعليم العمومي اليوم الذي تهاوى بصفة ملحوظة خلال العشر سنوات الأخيرة. فالمدرسة العمومية التي عرفت منذ الاستقلال كمصعد اجتماعي من خلال تكوينها لخيرة من الأجيال المتعاقبة منتجة بذلك نخبا وكفاءات في مختلف المجالات تراجع بريقها اليوم وخفت نورها وبات هذا الصرح العمومي الذي كان في السابق منارة معرفية لا يُعلى عليه ينتج أرقاما قياسية في التسرب المدرسي..
هذا التراجع يعود الى أسباب عديدة ومتشعبة وإشكاليات قديمة جديدة تعاني منها المنظومة التربوية منذ عقود حاولنا من خلال هذه المساحة فتح ملف أسباب تهاوي التعليم العمومي في تونس خاصة خلال السنوات الأخيرة من خلال تسليط الضوء على أبرز الأسباب التي جعلت المدرسة العمومية تتهاوى بهذا الشكل بعد إن كان يشهد لها بتكوين أبرز النخب .
إعداد: منال حرزي
الإجماع كان تقريبا حاصلا بين جميع المتدخلين والفاعلين في المنظومة التربوية على أن الأزمة هي أزمة مكونين وأزمة مدرسين بالأساس، فمدرس الأمس لا يشبه مطلقا مدرس اليوم خاصة على مستوى الكفاءة والتمكن من مختلف المهارات والمعارف خاصة على مستوى اللغات الأجنبية (وهذا لا يعني أننا بهذا القول نضع جميع الإطارات التربوية في سلة واحدة على اعتبار أن هنالك مدرسين اليوم وعلى الرغم من كل الأزمات التي يمر بها القطاع العمومي أكفاء ويقومون بواجبهم على الوجه المطلوب) بما انه وعلى حد تشخيص بعض المتدخلين في هذا الملف انه ومنذ إغلاق المدرسة الوطنية لترشيح المعلمين سنة 2007 تراجع بشكل كبير تكوين المدرسين وأصبح على حد قول البعض من هب ودب بإمكانه أن يباشر مهنة التدريس.. الأمر الذي نلمس اليوم نتائجه في المناظرات الوطنية..
لكن معضلة تراجع المكونين وعلى أهميتها ليست وحدها التي أدت الى تراجع منظومة التعليم العمومي على مدار العشرية الأخيرة حيث يرى كثيرون أن التجاذبات الحاصلة بين سلطة الإشراف وبقية الأطراف الاجتماعية والمعارك المستمرة.
والتي ما تزال إلى اليوم متواصلة-بما أن آلاف التلاميذ يقبعون الى حد كتابة هذه الأسطر في المنزل جراء الأزمة الراهنة بين المعلمين النواب والوزارة - ساهمت بشكل كبير في زعزعة استقرار المدرسة العمومية وفي تراجع هيبتها ومكانتها كصرح معرفي يقوم على إنارة الناشئة ليصبح التلميذ في خضم هذه التجاذبات يستعمل كرهينة لتسوية الاتفاقيات العالقة.. وبالتالي وبعد أن كانت المدرسة العمومية جاذبة ومستقطبة للتلميذ أصبحت اليوم عنصرا منفرا .
تساؤلات مشروعة
يتساءل اليوم كثيرون من المستفيد من وراء تراجع المدرسة العمومية وهنا لا يختلف اثنان على أن القطاع الخاص هو اكبر مستفيد واكبر مستثمر في أزمات وعلل المنظومة العمومية (حوالي 40 بالمائة من المدارس الخاصة تتركز في إقليم تونس الكبرى) فالولي الذي سئم سياسات لي الذراع والخلافات التي تكاد لا تنتهي بين الوزارة والطرف الاجتماعي وجد في التعليم الخاص ملاذا له رغم أن تكاليفه المشطة لا تتماشى مع مقدرته الشرائية ومع ذلك "يستثمر" في تعليم أبنائه حتى على حساب قوته اليومي.
في المقابل يتجاوز البعض كل الإشكاليات السابقة ليؤكد أن الأزمة تنحصر في غياب إرادة سياسية للإصلاح التربوي بما أن البرامج التي تدرس اليوم أكل عليها الدهر وشرب كما تجاوزها الزمن وبالتالي من الضروري تبني نفس إصلاحي جديد يقوم على مراجعة جذرية وشاملة لكافة البرامج والمناهج التعليمية حتى يتسنى إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. وهنا يصح التساؤل بإلحاح لما تعطلت كل مشاريع الإصلاح التربوي خاصة مشروع 2015 الذي كان محل اتفاق بين وزارة التربية والمعهد العربي لحقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل.
تونس في المراتب الأخيرة
بلغة الأرقام تصنف تونس اليوم في المراتب الأخيرة في جودة التعليم عالميا وعربيا كما تعتري المدرسة العمومية مظاهر وسلوكيات تكرس لكل مظاهر الانحراف والعنف وحتى الجرائم وهو ما حصل مؤخرا في بعض المعاهد ومع ذلك ما يزال البعض يراهن على أهمية وجودة التعليم العمومي فرغم كل الهنات المذكورة سلفا ما يزال التعليم العمومي يكون نخبا تستقطبها الدول الأوروبية بالآلاف على غرار المهندسين والأطباء والأساتذة الجامعيين وبالتالي فان التعليم العمومي ما يزال يسجل حضوره وبقوة وينافس جديا التعليم الخاص.
لا نروم عبر هذا الملف توجيه أصابع الاتهام الى أطراف بعينها سواء كانت سلطة الإشراف أو نقابات أو مجتمع مدني بقدر ما نروم أن يعي صناع القرار والماسكون بزمام الأمور بخطورة تهاوي التعليم العمومي وتدحرجه من سيء الى أسوأ بعد أن كان يلعب دورا رياديا في ستينات وسبعينات القرن الماضي وبأن يبادروا بتفعيل قاطرة الإصلاح التربوي خاصة وان تلميذ اليوم هو رجل الغد ودون استثمار في المعرفة والتربية والتعليم وفي ذكاء العنصر البشري لا يمكن مطلقا الالتحاق بركب الدول المتقدمة. وبالتالي لا بد من إرادة سياسية حقيقية تتبنى التغيير والإصلاح والمراهنة الجدية على أهمية التعليم والمعرفة.
رضا الزهروني (رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ): الإطار التربوي غير مؤهل للتدريس
في تشخيصه للأسباب التي أدت الى تراجع وتهاوي المنظومة التربوية اعتبر رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني انه من بين المسائل المقلقة هو انعدام الوعي بخطورة الوضع الحالي للمدرسة التونسية بما أن أصحاب القرار لا تزعجهم الأرقام التي تفيد بان 100 ألف تلميذ ينقطعون سنويا عن الدراسة هذا بالتوازي مع نسبة النجاح المسجلة في الامتحانات الوطنية الى جانب تنامي الهوة في التعليم بين العائلات الميسورة التي بإمكانها تدريس أبنائها ومجابهة كل المصاريف وبين العائلات المعوزة التي لا تستطيع مجابهة التكاليف المدرسية الأمر الذي افرز شرخا وفوارق اجتماعية في التعليم العمومي في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير جامعا لكل أبناء الشعب ليعتبر الزهروني أن أصحاب القرار غير واعين بخطورة الوضع الحالي على وحدة الشعب نظرا لانعدام الوعي ولغياب إرادة سياسية حقيقية لإصلاح المنظومة التربوية. واعتبر محدثنا انه منذ عقود تعتمد الحلول الترقيعية دون وجود استراتيجيات مدروسة فعليا. وفي معرض حديثه عن النقائص والإشكاليات التي جعلت التعليم العمومي يتهاوى تعرض الزهروني الى معضلة البرامج التي اكل عليها الدهر وشرب على حد تعبيره مشيرا الى انها تفتقر الى مراجعات والى عمليات تحيين معتبرا في السياق ذاته ان الاطار التربوي غير مؤهل اليوم للتدريس وهو ما تسبب، من وجهة نظره، في انهيار المنظومة التربوية هذا بالتوازي مع اسباب اخرى من قبيل البنية التحتية التي خربت منذ سنوات. كما تطرق الزهروني الى معضلة اللغات معتبرا ان النقص الفادح في اللغات يعود أساسا الى أن المدرسة وفي هيكلتها الحالية تدرس خاصة باللغة العربية وهذا يعتبر إهدارا كبيرا للزمن المدرسي ولقدرات المتعلم على فهم المواد التي تدرس باللغة الفرنسة لا حقا وهو ما يفسر هجران عديد التلاميذ للشعب العلمية خاصة مادة الرياضيات وذلك لانعدام المستوى المطلوب الذي يؤشر لفهم نص الاختبار المكتوب باللغة الفرنسية. كما اعتبر رئيس الجمعية التونسية للاولياء والتلاميذ ان حالات عدم الاستقرار والاضرابات الحاصلة وسياسات لي الذراع من قبيل حجب الاعداد وارتهان التلاميذ ساهمت بشكل كبير في تراجع المدرسة العمومية.
من جانب اخر استنكر الزهروني اقصاء الاولياء من مشاريع الاصلاح المدرسي في الوقت الذي يفترض فيه ان يكون الولي شريكا فاعلا معتبرا ان المنظومة التربوية لا يمكنها أداء واجبها ووظيفتها التربوية بالشكل المطلوب دون تشريك الولي مشيرا الى أن المطلوب اليوم هو الوعي بخطورة الوضع الحالي للمدرسة العمومية وبدقة المرحلة داعيا الى ضرورة تبني إرادة سياسية للإصلاح مع بلورة استراتيجيات مقنعة تتمثل في مراجعة القوانين المنظمة للتعليم مع ضبط أهداف واضحة من قبيل الإمكانيات اللازمة للحد من نسبة الانقطاع المدرسي موضحا انه لا يمكن بأي حال من الأحوال الارتقاء بالمنظومة التربوية دون إيجاد حل لمعضلة اللغات ودون مجابهة الاكتظاظ الحاصل في الزمن المدرسي فضلا عن ضمان حد أدنى من الاستقرار حتى تصبح المدرسة التونسية جاذبة للتلميذ وتسترجع دورها كمصعد اجتماعي يضمن العدالة الاجتماعية بين الجميع.
توفيق الشابي (الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الأساسي): الوضع الهش للمدرسين ينعكس سلبا على العملية التعليمية
يعترف الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الأساسي توفيق الشابي بأن هنالك أسبابا عديدة جعلت التعليم العمومي يتدحرج الى الأسفل من سنة الى أخرى على غرار البنية التحتية للمؤسسات التربوية حيث يفترض أن تكون المدرسة عنصرا جاذبا ومستقطبا للتلميذ لكنها اليوم باتت منفرة للتلميذ أكثر منها جاذبة هذا بالتوازي مع غياب التجهيزات ووسائل العمل الأمر الذي من شانه أن يعرقل العملية التربوية .
ومن بين الأسباب الأخرى التي يراها محدثنا مساهمة بشكل كبير في تراجع المدرسة العمومية هو الوضع الهش للمدرسين حيث أورد أن ثلث القطاع تقريبا يعاني من كافة أشكال التشغيل الهش وهذا الوضع غير المطمئن على مستقبل المدرسين والظروف المادية الهشة التي يعانون منها فضلا عن حالة عدم الاستقرار التي يعيشونها ستنعكس سلبا على مردوه داخل القسم. وأضاف الشابي في هذا الخصوص أن ثلثي القطاع المتبقي يعاني وضعا ماديا متدهورا ويتدحرج في ادني سلم التأجير وبالتالي فان هذه الوضعية تعتبر عاملا من العوامل التي لا تساهم في النهوض والارتقاء بالمنظومة التربوية بما أن الظروف المعيشية للإطار التربوي تعتبر محزنة.
ومن بين الأسباب الأخرى المساهمة في تراجع التعليم العمومي تعرض الشابي أيضا الى النقص الحاصل في التكوين للإطارات التربوية والبيداغوجية مشيرا في هذا السياق الى أنه من الضروري أن تكون عملية التكوين متواصلة وان نوليها الأهمية القصوى. وفي نفس الإطار تعرض محدثنا الى معضلة كثافة البرامج والمحتويات التعليمية مشيرا الى أن التلميذ لا يستطيع استيعابها مستنكرا في الإطار نفسه عدم القيام بعملية تحيين للبرامج التعليمية الى جانب عدم مراجعة الكتب المدرسية والمناهج التربوية لاسيما ان محتواها يعتبر غير مواكب للأحداث موضحا في هذا الجانب انه من الضروري ان تتطور البرامج وتواكب على الأقل الواقع المعيشي للطفل. وأوضح الشابي في هذا الاتجاه أن كل عملية تطوير للبرامج وإصلاح للمنظومة التربوية تقتضي اعتمادات مالية مشيرا الى انه لا يمكن الخوض أو الحديث عن إصلاح دون ميزانية واعتمادات مالية مرصودة غير أن هذه الميزانية ما فتئت تتراجع وتتدهور من سنة الى أخرى. واعتبر انه من الضروري أن تخصص وزارة التربية اعتمادات مالية هامة حتى تستطيع النهوض بالمنظومة التربوية لا سيما ووان هنالك جملة من الإشكاليات التي من الضروري معالجتها على غرار غياب عمليات الصيانة الى جانب ظاهرة الاكتظاظ في الفصول بسبب النقص الحاصل في البنية التحتية وجميعها عوامل ستؤدي الى تدهور المنظومة التربوية.
ومن بين الأسباب الأخرى التي ساهمت في تراجع التعليم العمومي من وجهة نظر الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الأساسي تطرق الشابي الى معضلة نظام الفرق والذي ينتشر بصفة ملحوظة في المناطق الداخلية موضحا أن نظام الفرق له تأثير سلبي على نجاعة المنظومة التربوية هذا بالتوازي مع إشكالية عدم تعميم الأقسام التحضيرية في المدارس وخاصة في الأرياف داعيا في هذا السياق الى تفعيل السنة التحضيرية خاصة في الأرياف. ليخلص محدثنا الى القول بان تراجع القيمة المادية والاعتبارية للمدرس واستباحة المدرسة العمومية من طرف الجميع أدى الى تفشي ظاهرة العنف التي لها تأثير كبير على المنظومة العمومية.
فخري السميطي (كاتب عام مساعد للجامعة العامة للتعليم الثانوي): اليوم نلمس سياسات تفويت ورفع اليدين لكل ما هو عمومي
في حديثه عن أسباب تهاوي التعليم العمومي وتدحرجه الى الأسفل من سنة الى أخرى يعتبر الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الثانوي فخري السميطي أن الأسباب عديدة ومن بينها تدني مستوى المتعلمين في المقاييس العامة وفي المناظرات الوطنية علاوة على حالات التسرب المدرسي والتي تفوق 100 ألف تلميذ سنويا يغادرون مقاعد الدراسة. وفسر السميطي في هذا الخصوص أن الجامعة العامة وكطرف اجتماعي لم يخل مؤتمر ولم تخل لائحة إلا ولم يقع التنصيص فيها على ما بلغه التعليم العمومي جراء السياسات الفاشلة وهي سياسات تفويت ورفع اليدين عن كل ماهو قطاع عمومي. وأوضح في هذا الجانب أن هذه السياسات انطلقت تقريبا خلال الإصلاحات الهيكلية أي منذ 1986 ولتي بدأت في التفويت في هذا المرفق العمومي بشكل نهائي حيث لم يعد هذا المرفق أولوية من أولويات الدولة بل تحول الى عبء يثقل كاهل الميزانية ولم تعد الدولة تراهن على الذكاء والعنصر البشري في الدورة الاقتصادية. كما أورد السميطي أن الحكومات المتعاقبة راهنت على التفويت في القطاع العام على حساب الخاص بهدف التقليل في الكلفة. وهذا المنحى تجسد في غلق باب الانتداب بشكل صريح وواضح في السنوات الأخيرة وهو ما يترجمه النقص الحاصل في الموارد البشرية من أساتذة وعملة ومرشدين تطبيقيين وهو ما يعكس في جوهره الخضوع لاملاءات صندوق النقد الدولي. وأضاف السميطي أن هذه الوضعية أفرزت مؤسسات تربوية عاجزة عن توفير أدنى متطلبات ومقتضيات العملية التربوية: من ذلك عجزها عن طباعة أوراق وحتى على توفير الطباشير الأمر الذي اثر سلبا على سير العملية البيداغوجية داخل القسم. هذا بالتوازي مع جملة أخرى من الإشكاليات على غرار البنية التحتية المهترئة للمؤسسات والتي كانت سببا في سقوط أسقف أقسام على التلاميذ والمدرسين مشيرا في الإطار نفسه الى أن بعض المقاولين تراجعوا عن أعمال الصيانة وفروا بسبب عجز وزارة التربية عن خلاصهم وبالتالي لم يعد هنالك مناخ ثقة بين الوزارة وبقية المتدخلين. واعتبر السميطي في نفس الإطار أن المدرسة العمومية تعاني على مستوى التجهيزات وعلى مستوى الميزانية المرصودة لها. من جهة أخرى وفي معرض حديثه عن أسباب تهاوي التعليم العمومي تعرض السميطي الى معضلة غياب إصلاح تربوي حقيقي وجذري في مختلف المؤسسات ويشمل عديد المستويات كالبرامج التي قال عنها السميطي انه "أكل عليها الدهر وشرب" لا سيما البرامج التي تدرس البرمجيات على اعتبار أن هذه البرامج قديمة جدا مقارنة بالطفرة التكنولوجية الكبيرة التي يعيشها العالم اليوم فضلا عن مادة الجغرافيا التي تتطلب وفقا لمحدثنا مراجعات بما أنها تتضمن معطيات وإحصائيات قديمة جدا وهو ما ساهم في جعلها برامج منفرة للتلميذ. وفي نفس الإطار اعتبر السميطي ان الزمن المدرسي غير منسجم بالمرة مع الزمن الاجتماعي بما انه يثقل كاهل المتعلم ويحجب عنه جميع المساحات الثقافية والرياضية. ليعتبر محدثنا أن الإصلاح التربوي الحقيقي لابد أن تغيب عنه مسالة الصراعات السياسية لان ملف الإصلاح التربوي حساس جدا وهنالك خيارات تحسب سياسيا. الحديث عن تهاوي التعليم العمومي دفع بالسميطي الى التعريج عما تعيشه المؤسسات التربوية اليوم ليستنكر الممارسات التي يقوم بها وزير التربية الحالي من انفراد بالرأي وعدم تشريك للأطراف المتداخلة في العملية التربوية وهو ما من شانه أن يخدم المؤسسات التربوية الخاصة ليحرم بذلك العائلة التونسية من مرفق عمومي كان مصعدا اجتماعيا ومحل حفاوة واهتمام أصبح الآن بمثابة عبء على الدولة .
نور الدين الشمنقي (كاتب عام النقابة العامة لمتفقدي المدارس الابتدائية): الأزمة سياسية واجتماعية وتربوية بيداغوجية بالأساس
في تفاعله مع الطرح الذي يؤكد تهاوي التعليم العمومي خلال العشرية الأخيرة بصفة ملحوظة ومفزعة أورد كاتب عام النقابة العامة لمتفقدي المدارس الابتدائية بالاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الشمنقي أن الأزمة سياسية واجتماعية وتربوية بيداغوجية بالأساس. وفسر الشمنقي أن الأزمة سياسية بما أنها تحتاج الى إرادة سياسية والى نخبة سياسية تعتبر العلم أولوية وطنية موضحا أن النخبة السياسية عشية الاستقلال استثمرت آنذاك في التربية والتعليم فحققت نجاحات. لكن منذ الثورة الى الآن لا توجد إرادة سياسية حقيقية للاستثمار في الذكاء التونسي واعتبار التربية والتعليم أولوية وطنية تستدعي بالضرورة الترفيع في ميزانية التربية على حساب القطاعات الأخرى. فمن وجهة نظره الاستثمار في السياحة أو الفسفاط أو غيرها من القطاعات الحيوية الأخرى قد يسهم في إيجاد حلول على المدى القصير لكن الاستثمار في التعليم وإيلاءه الأهمية اللازمة من شانه على المدى البعيد أن يبني العقول ويبني مواطنا حقيقا من شانه أن يواجه مجتمع الغد. واستنكر الشمنقي في هذا الإطار ضعف الميزانية المخصصة للتربية على اعتبار أن 95 بالمائة منها مخصص للأجور موضحا أن وضع الفاعلين التربويين من مدرسين ومتفقدين يؤشر الى عدم تقاضيهم الأجر الذي يليق بمكانتهم الأمر الذي جعلهم يضطرون الى القيام بمهام أخرى من بينها الدروس الخصوصية الأمر الذي من شأنه أن يضعف مردوديتهم. من جانب آخر تعرض الشمنقي الى النقص في التكوين ليعتبر أن المشكل الذي نعيشه حاليا بين المعلمين النواب ووزارة التربية سببه أن عملية الانتداب ليست مهيكلة وفقا لرؤية واضحة الأمر الذي سيكون له لاحقا انعكاسات على إدارة التعلمات داخل القسم. ليعتبر محدثنا أن كل هذه العوامل أفرزت فقرا في التعليم أو ما يسمى بغياب معيار الجودة وهو ما أدى الى انهيار كامل وتدحرج مراتبنا في جودة التعليم على مستوى عالمي. وللنهوض بواقع التعليم العمومي اعتبر محدثنا انه ما من حل سوى الترفيع في ميزانية التربية واعتبارها أولوية وطنية هذا مع ضمان تكوين احترافي وحداثي وهذا من شانه أن يرفع بالضرورة في مستوى الجودة لا سيما ان الترفيع في الميزانية سيساهم في تحسين الجانب اللوجستي من ذلك بناء أقسام جديدة وبهيكلة جديدة تتضمن كل أدوات التكوين الشامل. ورغم الهنات والصعوبات والتحديات التي يواجهها التعليم العمومي يصر الشمنقي على ان التعليم العمومي ما يزال يقوم بدوره كما ما يزال يحتفظ بجملة من المعايير التي تجعله قادرا على منافسة منظومة التعليم الخاص .
الدكتور مصطفى شيخ الزوالي (مستشار عام خبير في الحياة المدرسية): الكارثة في التعليم العمومي انطلقت منذ 2006
لدى خوضه في الأسباب المؤدية الى تراجع التعليم العمومي على مدار السنوات التي خلت اعتبر الدكتور مصطفى الشيخ الزوالي المستشار العام والخبير في الحياة المدرسية أن الأزمة هيكلية بالأساس على اعتبار أن هنالك أشياء موجودة ندفع اليوم فاتورتها الأمر الذي ولّد اختلالا كبيرا ليصبح بذلك التعليم العمومي أداة تنتج وتكرس عكس ما كان يرفعه من شعارات على غرار المساواة. واعتبر الشيخ الزوالي ان التعليم العمومي انتقل من مرحلة الانتقاء الاقصائي الشامل أي مرحلة البقاء للأقوى الى مرحلة نظام "الفانا المفتوحة" أي أن الجميع بإمكانه النجاح والارتقاء هذا بالتوازي مع معضلة النقص في التكوين من ذلك الأعوان الوقتيون الذين يتم اللجوء إليهم الأمر الذي زاد الطين بلة. وتعرض الشيخ الزولي في هذا الخصوص الى دراسة كان قد قام بها البنك الدولي عن تونس سنة 2001 تحت عنوان معضلات التعلم في تونس التي وضعت الإصبع على الداء حيث كشفت هذه الدراسة انه لا قدرة جهويا ومحليا على إدارة الشأن التربوي وهو ما جعل التعليم العمومي يتهاوى بسبب المركزية المفرطة. وبالتالي فانه لا بد من وجهة نظر الدكتور الشيخ الزوالي القضاء على اللامركزية في التعليم. من جانب آخر وفي نفس الإطار أشار محدثنا الى أن عملية تكوين الإطارات التربوية بصدد التراجع معتبرا أن التكوين أصبح عملية شكلية الأمر الذي أدى الى تفاوت جهوي رهيب وبالتالي فان الإشكال هو خلل هيكلي. كما اعتبر أن الأفق السياسية غير واضحة وان الوزارة غير قادرة على الإصلاح جراء هيمنة الأطراف الاجتماعية على القطاع حيث باتت هذه الأطراف تتصرف بطريقة احتجاجية وبمطلبية أقوى من قبل. كما أضاف محدثنا أن الخلل الهيكلي الذي يعاني منه التعليم العمومي له أشكال متعددة فالمتخرجون من هذه المنظومة مؤهلاتهم لا تتلاءم مع سوق الشغل الأمر الذي جعل هذه المنظومة تتهاوى من سنة الى أخرى لان الخلل هيكلي بالأساس .
واعتبر المستشار العام الخبير في الحياة المدرسية ان الكارثة في تكوين المدرسين انطلقت منذ سنة 2006.
أي منذ أن تم التخلي عن المسار والمقاييس التي كانت معمول بها الى غاية 2006 في تكوين المكونين والمعلمين. كما استنكر محدثنا التراجع عن اعتماد مشروع الإصلاح التربوي الجاهز والذي انطلق في أفريل 2015 ثم تم لاحقا تقديم مشروع القانون الى مجلس النواب في جانفي 2017 ثم توقف لاحقا المسار: ليتساءل شيخ الزوالي في هذا الإطار: لماذا نعيد نقاشات أخرى بخصوص الإصلاح التربوي والحال أن هنالك مشروعا للإصلاح جاهزا شارك فيه كل من وزارة التربية والمعهد العربي لحقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل.
ومن بين الحلول التي يراها محدثنا ناجعة للنهوض مجددا بقاطرة التعليم العمومي هي تضافر جميع الجهود هذا بالتوازي مع الدور الموكول للدولة لإدارة الشأن التربوي والنهوض به هذا بالتوازي مع تبني تحول رقمي لمواكبة مستجدات العصر .
رياض بن بوبكر (مدير عام البرامج بوزارة التربية): لابد من التكوين قبل مباشرة المهنة
..بما أن جميع المتداخلين في هذا الملف اعتبروا أن من بين الأسباب التي أدت الى تراجع التعليم العمومي هي معضلة البرامج والمناهج البيداغوجية التي تفتقر الى التجديد والابتكار ارتأت "الصباح" فسح المجال عبر هذه المساحة لمدير عام البرامج بوزارة التربية رياض بن بوبكر ليعتبر هذا الأخير أن أول الإشكاليات وأول مظاهر الأزمة اليوم هي مسالة الموارد البشرية مشيرا الى أن الأنظمة المتطورة تربويا في العالم هي الأنظمة التي تمتلك جودة في تكوين الموارد البشرية وهذه الجودة تتطلب بالأساس تكوين أساسي متطرقا الى مدرسة ترشيح المعلمين التي تأسست سنة 1875 في تونس لان التكوين المستمر يبنى بالضرورة على التكوين الأساسي وإذا غاب هذا الأخير أي التكوين قبل مباشرة المهنة. كانت لدينا مؤسسات تكوين ما قبل المهنة الى حدود سنة 2007. منذ 2007 أصبح الانتداب عشوائيا أي دون إعداد مسبق للمهنة بغلق المعاهد العليا لتكوين المعلمين والآن بدا الرجوع الى الإجازة التطبيقية للتربية والتعليم ويمكن من خلالها الرجوع الى جودة تكوين المكونين لأنها تعتبر عنصرا أساسيا في المنظومة التربوية. واعتبر محدثنا أن المنظومة التربوية بالأساس هي مدرس وإذا لم نستثمر فيه منذ البداية قبل حتى مباشرة المهنة فننا ذاهبون نحو الفشل لأنه لابد من الانتقاء والتكوين الأساسي في اللغة والمواد العلمية وحتى في التفكير، حتى يكون المدرس مقتنعا بمهنته ومستجيبا لجملة من المواصفات. وحول الجدل الذي صاحب البرامج والمناهج التعليمية من ذلك قدمها وعدم مواكبتها لمستجدات العصر أورد مدير عام البرامج بوزارة التربية انه بالإمكان تفعيل أحسن البرامج ولكن إذا لم يتوفر المدرس الكفء الذي يمتلك جملة من المواصفات فانه لن نستطيع بناء التلميذ الذي نحتاج إليه. وأضاف محدثنا فيما يتعلق بالبرامج أن طبيعة المعرفة متطورة ومتغيرة باستمرار وبالتالي ينبغي ان تتطور البرامج بصفة مستمرة وبصفة مطردة لان الواقع الابستيمولوجي الذي نعيشه على مستوى العالم أهم ميزة فيه هو التغير المستمر والعميق للمعرفة في فترات زمنية قصيرة جدا والمدرسة من بين أدوارها مواكبة ذلك التغير. واعتبر محدثنا أن الحديث عن غياب الفضاءات أو تردي البنية التحتية تعتبر جميعها مسائل ثانوية أمام العنصرين الأساسيين: عنصر المدرس و المدرس أي التكوين الأساسي والمستمر ثم تحيين البرامج والمعارف. ومن جانب آخر أشار محدثنا انه ولدى خوض في مسالة تراجع التعليم العمومي فانه من الضروري اليوم تنسيب الأمور على اعتبار أن المنظومة العمومية اليوم توفر لنا أكفأ المهندسين وأكفأ الأطباء الذين يستقطبهم الخارج مشيرا الى أن المعارف التي تدرس بصدد توفير كفاءات تشع على المستوى الدولي والمحلي. وبالتوازي مع أزمة التكوين عرج بوبكر الى الأزمات المتكررة منذ 2010 مع الطرف الاجتماعي حيث لم تكن الوزارة دائما في توافق مع الشريك الاجتماعي والتي تتضمن أسبابا موضوعية وأخرى خلقها الظرف الذي تمر به البلاد: السياسي والاقتصادي والاجتماعي وخاصة الوضعية المالية للمالية العمومية التي جعلت المدرسين لديهم طموحات بان تكون وضعيتهم المالية أفضل وهذا يعتبر حقا مشروعا. لا يمكن القول ان هذه الأزمات أثرت سلبيا على جودة التعليم العمومي على اعتبار ان الخوض في هذه المسالة يقتضي دراسات وبحوث تؤكد هذا الطرح أي تأثير هذه التوترات الاجتماعية على سير التعليم العمومي.
من جهة أخرى وحول مدى نية الوزارة اعتماد مناهج جديدة أورد محدثنا انه تمت مراجعة جملة من المواد على غرار الإعلامية والتكنولوجيا والاقتصاد في انتظار الإصلاح الشامل وتغيير البرامج الشامل حيث تم ضبط وثيقة مرجعية للتعلمات وسيقود الى مراجعات في كافة المواد لم يشملها التغيير الى حد الآن. وحول التراجع الفظيع في اللغات اعتبر مدير عام البرامج بوزارة التربية ان المقاربات التي تعتمد الى حد الآن في تدريس اللغة في الابتدائي تحتاج الى مراجعة وقد انطلقت الوزارة في ذلك حيث يتم الاعتماد على القراءة الشاملة والمقاربة المزدوجة وتبين ان التلاميذ يجتازون المرحلة الابتدائية بضعف كبير في اللغة ولهذا انطلقت عملية مراجعة المقاربة المعتمدة حيث لا بد أن يكمل التلميذ المرحلة الابتدائية وهو يحسن القراءة والفهم أي قراءة المكتوب والتعامل مع النص المكتوب. أما بالنسبة لباقي اللغات الأجنبية فقد اعتمدت الوزارة على مبدأ التبكير بدراسة اللغة وهو ما يعتبر حلا من الحلول لتطوير تدريس اللغة مشيرا في السياق ذلته الى أن الوزارة لديها خطط تكوين مستمر للإطارات التربوية لتفادي النقائص وهذا ليس في مجال اللغات فقط وإنما في العلوم حيث ينبغي تدارك الاخلالات الموجودة موضحا انه بالتوازي مع التكوين الذي تضمنه الوزارة فان كل مدرس مطالب بان ينخرط في مسار تكوين ذاتي وهو ما يوفره التكوين عن بعد او مختلف المنصات الموجودة لتطوير مهاراته وقدراته الأساسية للتدريس. ليخلص محدثنا الى القول بان التعليم العمومي مايزال يعتبر مصعدا اجتماعيا كما ما يزال يفرض حضوره وبقوة في المنظومة التربوية وهو ما يترجمه الكفاءات التي يفرزها التعليم العمومي من مهندسين وأطباء والتي تتهافت الدول الأجنبية على استقطابها مشيرا الى أننا نحتاج اليوم الى مراجعة مسالة التعليم المهني في المؤسسات التربوية مثلما كان معمول به في السابق وبالتالي من الضروري من وجهة نظر بن بوبكر القيام بعملية هيكلة التعليم لاسيما الثانوي والذي يعتبر من أوكد الأولويات اليوم.