إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

صباح الجمعة .. الايدولوجيا والميديولوجيا: مفارقة الشيخوخة والشباب المنقذ (2)

يكتبها: محمد معمري

انبنت إيديولوجيا الفريق الحاكم منذ 7 نوفمبر 1987 وإلى حدود 13 جانفي 2011 على مقولات أسست بها لصورة النظام القائم. وقد ارتكزت هذه الصورة في البداية على إبراز التباين بين ما كان قبل 7/11/1987 وبين ما هو كائن بعد ذلك. فالرئيس زين العابدين بن علي يمثل الشباب حينها بينما الرئيس الحبيب بورقيبة يمثل الشيخوخة والترهل وهو ما تمّ التسويق له من خلال التركيز في نشرات الأنباء وفى غيرها من المشاهد تلفزيونية على صورة الرئيس الحبيب بورقيبة وهو يتكئ على عكازه ويجد صعوبة كبيرة في الكلام بشكل يجعل من الصعب تبين ما يتفوه به، بينما الرئيس الجديد شاب كلّه حيوية ونشاط، ودعما لهذا التباين في السن وتسويقا لصورة الرئيس الشاب فقد تمّ في مرحلة أولى صبغ شعر الرئيس الجديد باللون الأسود بعد أن ظهر في الأيام الأولى بعد توليه السلطة وقد غزا بعض الشيب رأسه ومن الطريف أن صور الرئيس بن علي والشيب يغزو شعره تمّ سحبها من كل المحامل الإعلامية، كما قام التلفزيون التونسي في مناسبات عديدة بعرض صور للرئيس الجديد وهو يرتدي بزة رياضية ويمارس الرياضة. وقد أراد الفريق الحاكم حينها إبهار التونسيين بصورة هذا الرئيس الشاب بعد سنوات من إدارة البلاد من رجل عجوز حتى يدركوا قيمة التغيير الحاصل.

أما في مستوى الأدبيات المصاحبة لعملية تولي زين العابدين بن علي السلطة فقد وقع التركيز على فعل الإنقاذ، فهو الرجل المنقذ ولحظة 7/11/87 هي لحظة تقدم فيها شاب تونسي متحديا كل الصعاب لإنقاذ البلاد، وتم تسويق ما حصل لا باعتباره فعل استيلاء على السلطة والإطاحة برئيس وجيل من السياسيين وصعود رئيس جديد بل هو إنقاذ للبلاد والعباد من مصير مجهول مع التركيز على الوضع المالي والاقتصادي لتونس سنة 1986 والأزمة الاقتصادية التي عصفت بها وكادت تدمر البلاد، وقد انبرى حينها المحللون الاقتصاديون الذين يدورون في فلك السلطة في إبراز المخاطر التي كانت تتهدد البلاد بعد ترهل الرئيس بورقيبة وغياب رؤية واضحة نتيجة صراع الأجنحة  داخل قصر قرطاج وسعي كل طرف لخلافة الزعيم. كما تم توظيف مقولة الإنقاذ من خلال التركيز على أن التغيير السياسي في أعلى هرم السلطة هو إنقاذ أيضا للزعيم الحبيب بورقيبة وحفاظا على تاريخه النضالي من أجل تحرير تونس وحفظا لصورته الناصعة في المخيال الجمعي السياسي وهو تبرير الغاية منه إرضاء أنصار بورقيبة وخاصة ولاية المنستير موطن بورقيبة ودرءا للصراعات الممكنة داخل الحزب الاشتراكي الدستوري بين أنصار بورقيبة والطامعين في خلافته وبين أنصار الرئيس الجديد بن علي، كما أن ذلك يمنح الرئيس الجديد مشروعية إنسانية باعتباره الشاب الذي جاء لينقذ الرئيس العجوز مما تردى فيه دون تنكيل أو إساءة له بل بالجلوس عند قدميه مشيدا بخصاله وهو الفيديو الذي تمّ تداوله في التلفزة التونسية حينها بشكل متواتر.

زعيم أعلن رئاسته للبلاد مدى الحياة لذلك تمّ تسويق خطاب مناقض لهذه الأطروحة ارتكز على التداول السلمي على السلطة عن طريق الانتخابات، والخروج من مرحلة الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية وهو ما جعل من الخطاب الذي ألقاه الرئيس الجديد يوم 7/11/87 بمثابة الوثيقة المرجعية على المستوى السياسي تؤسس لمرحلة جديدة من الانفتاح الديمقراطي والتعددية وحرية الرأي والتعبير، وهي مقولات وجدت صدى لدى شرائح كبيرة من المجتمع التونسي بعد سنوات من تفرد الزعيم الحبيب بورقيبة بالسلطة وهيمنة الحزب الاشتراكي الدستوري على كل مفاصل الدولة، فكان "فجر السابع من نوفمبر" وفقا للأدبيات السياسية حينها بمثابة انبلاج عصر جديد لم تشهد له تونس في تاريخها مثيل.

صورة الرئيس المنقذ بدأ التأسيس لها وتدعيمها بعد ذلك بالنجاحات الاقتصادية التي تم تحقيقها بعد الوعود السياسية، وهي نجاحات يرى المختصون في التاريخ الاقتصادي أنها أمر طبيعي بعد مرحلة ركود طويلة نسبيا، ليتم التسويق حينها للطفرة الاقتصادية وتصوير المنجز الاقتصادي بمثابة المعجزة التي تحققت بفضل الاختيارات الصائبة للرئيس الجديد والفريق العامل معه.

نجاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عمل النظام على تسويقها من خلال مقولات مركزية في الخطاب السياسي وهي تلازم البعدين السياسي والاجتماعي في السياسة التونسية والمعجزة التونسية والاستثناء التونسي وهو ما سنتحدث عنه في الأسبوع المقبل.

صباح الجمعة .. الايدولوجيا والميديولوجيا: مفارقة الشيخوخة والشباب المنقذ (2)

يكتبها: محمد معمري

انبنت إيديولوجيا الفريق الحاكم منذ 7 نوفمبر 1987 وإلى حدود 13 جانفي 2011 على مقولات أسست بها لصورة النظام القائم. وقد ارتكزت هذه الصورة في البداية على إبراز التباين بين ما كان قبل 7/11/1987 وبين ما هو كائن بعد ذلك. فالرئيس زين العابدين بن علي يمثل الشباب حينها بينما الرئيس الحبيب بورقيبة يمثل الشيخوخة والترهل وهو ما تمّ التسويق له من خلال التركيز في نشرات الأنباء وفى غيرها من المشاهد تلفزيونية على صورة الرئيس الحبيب بورقيبة وهو يتكئ على عكازه ويجد صعوبة كبيرة في الكلام بشكل يجعل من الصعب تبين ما يتفوه به، بينما الرئيس الجديد شاب كلّه حيوية ونشاط، ودعما لهذا التباين في السن وتسويقا لصورة الرئيس الشاب فقد تمّ في مرحلة أولى صبغ شعر الرئيس الجديد باللون الأسود بعد أن ظهر في الأيام الأولى بعد توليه السلطة وقد غزا بعض الشيب رأسه ومن الطريف أن صور الرئيس بن علي والشيب يغزو شعره تمّ سحبها من كل المحامل الإعلامية، كما قام التلفزيون التونسي في مناسبات عديدة بعرض صور للرئيس الجديد وهو يرتدي بزة رياضية ويمارس الرياضة. وقد أراد الفريق الحاكم حينها إبهار التونسيين بصورة هذا الرئيس الشاب بعد سنوات من إدارة البلاد من رجل عجوز حتى يدركوا قيمة التغيير الحاصل.

أما في مستوى الأدبيات المصاحبة لعملية تولي زين العابدين بن علي السلطة فقد وقع التركيز على فعل الإنقاذ، فهو الرجل المنقذ ولحظة 7/11/87 هي لحظة تقدم فيها شاب تونسي متحديا كل الصعاب لإنقاذ البلاد، وتم تسويق ما حصل لا باعتباره فعل استيلاء على السلطة والإطاحة برئيس وجيل من السياسيين وصعود رئيس جديد بل هو إنقاذ للبلاد والعباد من مصير مجهول مع التركيز على الوضع المالي والاقتصادي لتونس سنة 1986 والأزمة الاقتصادية التي عصفت بها وكادت تدمر البلاد، وقد انبرى حينها المحللون الاقتصاديون الذين يدورون في فلك السلطة في إبراز المخاطر التي كانت تتهدد البلاد بعد ترهل الرئيس بورقيبة وغياب رؤية واضحة نتيجة صراع الأجنحة  داخل قصر قرطاج وسعي كل طرف لخلافة الزعيم. كما تم توظيف مقولة الإنقاذ من خلال التركيز على أن التغيير السياسي في أعلى هرم السلطة هو إنقاذ أيضا للزعيم الحبيب بورقيبة وحفاظا على تاريخه النضالي من أجل تحرير تونس وحفظا لصورته الناصعة في المخيال الجمعي السياسي وهو تبرير الغاية منه إرضاء أنصار بورقيبة وخاصة ولاية المنستير موطن بورقيبة ودرءا للصراعات الممكنة داخل الحزب الاشتراكي الدستوري بين أنصار بورقيبة والطامعين في خلافته وبين أنصار الرئيس الجديد بن علي، كما أن ذلك يمنح الرئيس الجديد مشروعية إنسانية باعتباره الشاب الذي جاء لينقذ الرئيس العجوز مما تردى فيه دون تنكيل أو إساءة له بل بالجلوس عند قدميه مشيدا بخصاله وهو الفيديو الذي تمّ تداوله في التلفزة التونسية حينها بشكل متواتر.

زعيم أعلن رئاسته للبلاد مدى الحياة لذلك تمّ تسويق خطاب مناقض لهذه الأطروحة ارتكز على التداول السلمي على السلطة عن طريق الانتخابات، والخروج من مرحلة الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية وهو ما جعل من الخطاب الذي ألقاه الرئيس الجديد يوم 7/11/87 بمثابة الوثيقة المرجعية على المستوى السياسي تؤسس لمرحلة جديدة من الانفتاح الديمقراطي والتعددية وحرية الرأي والتعبير، وهي مقولات وجدت صدى لدى شرائح كبيرة من المجتمع التونسي بعد سنوات من تفرد الزعيم الحبيب بورقيبة بالسلطة وهيمنة الحزب الاشتراكي الدستوري على كل مفاصل الدولة، فكان "فجر السابع من نوفمبر" وفقا للأدبيات السياسية حينها بمثابة انبلاج عصر جديد لم تشهد له تونس في تاريخها مثيل.

صورة الرئيس المنقذ بدأ التأسيس لها وتدعيمها بعد ذلك بالنجاحات الاقتصادية التي تم تحقيقها بعد الوعود السياسية، وهي نجاحات يرى المختصون في التاريخ الاقتصادي أنها أمر طبيعي بعد مرحلة ركود طويلة نسبيا، ليتم التسويق حينها للطفرة الاقتصادية وتصوير المنجز الاقتصادي بمثابة المعجزة التي تحققت بفضل الاختيارات الصائبة للرئيس الجديد والفريق العامل معه.

نجاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عمل النظام على تسويقها من خلال مقولات مركزية في الخطاب السياسي وهي تلازم البعدين السياسي والاجتماعي في السياسة التونسية والمعجزة التونسية والاستثناء التونسي وهو ما سنتحدث عنه في الأسبوع المقبل.