منذ نيل تونس لاستقلالها في 1956 شكّلت الديبلوماسية التونسية نقطة قوّة بلادنا حيث عرفت بهدوئها واستقلالها على نظام المحاور. وقد كانت من أولى الدول المنظمّة لدول عدم الانحياز التي تأسست في 1955. وهو تأكيد على رفض سياسة المحاور اتي كانت حينها سائدة ويمثلها الحلف السوفياتي من جهة والحلف الأمريكي من جهة أخرى .
وقد مكنت هذه الديبلوماسية المتوزانة من احتضان تونس لمنظمة التحرير الفلسطيني لسنوات بداية من 1982 عقب اخراجها من لبنان .فضلا عن احتضانها لمقر الجامعة العربية في سنة 1979 بعد تجميد عضوية مصر فيها وتجريدها من شرف الاحتضان الدائم للمقرّ منذ 1945 وذلك بسبب توقيع معاهدة سلام مع اسرائيل ، بصفه منفرده، وهو ما أغضب الدول العربية.قبل عودتها في عام 1989 الى القاهرة مرة أخرى بعد اعادة الدول العربية لعلاقاتها مع مصر في 1987.
كما احتضنت تونس البنك الافريقي للتنمية سنة 2003 اثر نشوب حرب أهلية بمقره الدائم بأبيدجان وذلك لحدود 2014.
والمحصّلة أنّ تونس كانت قبلة للديبلوماسية العربية والافريقية وكانت تقوم بدور الوسيط النزيه في الصراعات الاقليمية ما جعلها تحظى بثقة كلّ الدول وجعل من مواطنيها مرحّب بهم حيثما حلّوا.
كما كان لتونس الدور الكبير والريادي في تأسيس المغرب العربي في 1989 وعملت جاهدة على تطويره وتقريب وجهات النظر بين المغرب والجزائر. وكان للديبلوماسية الكلمة المسموعة من طرف الجانبين.
الخطيئة الكبرى
في بضع سنوات فقدت الديبلوماسية التونسية ما بنته خلال عقود و انتكست بفعل المدّ الثوري الذي انطلق في 2011 كما انتكست قطاعات أخرى كثيرة .وعوض استغلال شرارة الربيع العربي التي انطلقت من تونس لتدعيم هاته الديبلوماسية حشرت تونس و لأول مرّة في لعبة المحاور .وكانت الخطيئة الأولى التي ارتكبت وأخرجت تونس نهائيا من حيادها ونزعت عنها نعمة الثقة التي كانت تتمتع بها وهي تنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا في 24 فيفري 2012. والذي لاتزال تدفع تونس ثمنه الى اليوم .
والحقيقة أنّ هذا المؤتمر شكّل بداية الأخطاء الكبيرة والكارثية في السياسة الخارجية لتونس حيث انخرط الرأي العام والأحزاب في نظام المحاور وكان أهمها المحورين القطري التركي الذي اصطفت وراءه الديبلوماسية التونسية منذ 2011 والتي كانت رهينة لحزب النهضة ذو التوجهات الاخوانية التي تدعمها قطر وتركيا في السرّ والعلن .مقابل أطراف أخرى اصطفت وراء المحور الاماراتي السعودي المصري. والنتيجة أن الديبلوماسية التونسية تاهت وفقدت شخصيتها ما تسبّب في خسائر اقتصادية فادحة وعمّق من عزلة البلاد .
وقد كان لهذا تأثير أيضا على سير العمل في السفارات والقنصليات بالخارج والتي أصبحت محلّ تجاذبات حزبية وأصبحت التعيينات فيها لا تتمّ بمعيار الكفاءة وانّما بالولاءات الحزبية والمصالح الضيقة فكانت النتيجة جهاز قنصلي فاشل في اغلبه على الاضطلاع بمهمة خدمة التونسيين بالخارج .
25جويلية والعزلة والتذبذب
بعد 25جويلية 2021 والاجراءات الرئاسية التي قطعت مع الماضي تصوّر الملاحظون في تونس وفي الخارج أنّ الديبلوماسية التونسية ستستعيد عافيتها وأنهسيتم تطهير السفارات والقنصليات من الذين عبثوا بها لسنوات. لكن ذلك لم يحدث الى حد اليوم حيث تعيش الديبلوماسية التونسية حالة من الضبابية وعدم وضوح الرؤية ما ساهم في انكماشها رغم النجاح في تنظيم مؤتمر طوكيو لتنمية افريقيا التي احتضنته بلادنا لكن يخشى أن يؤثّر هذا الانكماش على تنظيم القمة الفرنكفونية في جربة وهو ما يقتضي تحرّكا ديبلوماسيا كبيرا لضمان أقصى درجات النجاح لهذا الحدث الكبير و استثماره اقتصاديا حيث وجب أن يكون تاريخا لعودة الديبلوماسية التونسية كما كانت قبل 2011.
لكن مع الاسف فالمؤشرات الحالية لاتوحي بذلك وأهمّها عدم اجراء الحركة الديبلوماسية لسنتي 2021 و2022.والنتيجة أنه لدينا شغور في أربعين منصبا دبلوماسيا وقنصليا على مستوى رؤساء البعثات. وهي ليست مناصب " ثانوية " . ولايفهم عدم تعيين سفراء في كل من الصين وألمانيا وإفريقيا الجنوبية وتركيا ومالي والبرازيل والكوت ديفوار ونيجيريا واليونان وبولونيا.
هذا فضلا عن انتهاء مهام سفراء في ما لا يقلّ عن 8 سفارات أخرى منذ سبتمبر الماضي ولم يتم تعويض المغادرين إلى حدّ اليوم. ومنها سفارات تونس بكل من إيطاليا وبريطانيا وكوريا الجنوبية والسينغال والأردن وكندا وصربيا.دون أن ننسى الشغور الحاصل في سفارتنا بالمغرب. كما توجد قنصليات بلا قناصل إلى حد اليوم على غرار قنصلياتنا بروما وباليرمو ومونريال وبروكسيل وليون وقرونوبل.
هي معطيات مفزعة لم تشهدها الديبلوماسية التونسية سابقا ولايفهم حقّا عدم الاهتمام الرئاسي بهذه المعضلة والتي ظهرت سلبياتها في قضية طفلة الاربع سنوات التي وصلت لإيطاليا دون والديها والتي لم يجد الجانب الايطالي مخاطبا ديبلوماسيا تونسيا يتباحث معه فتحولت القضية الى القضاء الايطالي وكان يمكن ان تحل ودّيا وديبلوماسيا لووجد سفير لنا هناك او حتى قنصل.كما كان لذلك تأثير سلبي كبير على مصالح الجالية التونسية في هذه الدول .
انّ ما تعيشه الديبلوماسية اليوم لم يعد مقبولا و الواجب يقتضي سدّ الشغورات فورا وتنشيط الديبلوماسية الاقتصادية القائمة على المصالح المتبادلة بعيدا عن خطاب المحاور والتوصيات والتدخل في شؤون بلادنا. اذ لا خروج لبلادنا من أزمتها سوى بالعودة الى الحضيرة الدولية وارسال رسائل ايجابية للأصدقاء والأشقاء وأقل ما يجب أن يفعل هو سدّ الشغورات الكبيرة التي تحدّثنا عنها. فديبلوماسيتنا في خطر وصورة تونس في الميزان .
بقلم :د.ريم بالخذيري
منذ نيل تونس لاستقلالها في 1956 شكّلت الديبلوماسية التونسية نقطة قوّة بلادنا حيث عرفت بهدوئها واستقلالها على نظام المحاور. وقد كانت من أولى الدول المنظمّة لدول عدم الانحياز التي تأسست في 1955. وهو تأكيد على رفض سياسة المحاور اتي كانت حينها سائدة ويمثلها الحلف السوفياتي من جهة والحلف الأمريكي من جهة أخرى .
وقد مكنت هذه الديبلوماسية المتوزانة من احتضان تونس لمنظمة التحرير الفلسطيني لسنوات بداية من 1982 عقب اخراجها من لبنان .فضلا عن احتضانها لمقر الجامعة العربية في سنة 1979 بعد تجميد عضوية مصر فيها وتجريدها من شرف الاحتضان الدائم للمقرّ منذ 1945 وذلك بسبب توقيع معاهدة سلام مع اسرائيل ، بصفه منفرده، وهو ما أغضب الدول العربية.قبل عودتها في عام 1989 الى القاهرة مرة أخرى بعد اعادة الدول العربية لعلاقاتها مع مصر في 1987.
كما احتضنت تونس البنك الافريقي للتنمية سنة 2003 اثر نشوب حرب أهلية بمقره الدائم بأبيدجان وذلك لحدود 2014.
والمحصّلة أنّ تونس كانت قبلة للديبلوماسية العربية والافريقية وكانت تقوم بدور الوسيط النزيه في الصراعات الاقليمية ما جعلها تحظى بثقة كلّ الدول وجعل من مواطنيها مرحّب بهم حيثما حلّوا.
كما كان لتونس الدور الكبير والريادي في تأسيس المغرب العربي في 1989 وعملت جاهدة على تطويره وتقريب وجهات النظر بين المغرب والجزائر. وكان للديبلوماسية الكلمة المسموعة من طرف الجانبين.
الخطيئة الكبرى
في بضع سنوات فقدت الديبلوماسية التونسية ما بنته خلال عقود و انتكست بفعل المدّ الثوري الذي انطلق في 2011 كما انتكست قطاعات أخرى كثيرة .وعوض استغلال شرارة الربيع العربي التي انطلقت من تونس لتدعيم هاته الديبلوماسية حشرت تونس و لأول مرّة في لعبة المحاور .وكانت الخطيئة الأولى التي ارتكبت وأخرجت تونس نهائيا من حيادها ونزعت عنها نعمة الثقة التي كانت تتمتع بها وهي تنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا في 24 فيفري 2012. والذي لاتزال تدفع تونس ثمنه الى اليوم .
والحقيقة أنّ هذا المؤتمر شكّل بداية الأخطاء الكبيرة والكارثية في السياسة الخارجية لتونس حيث انخرط الرأي العام والأحزاب في نظام المحاور وكان أهمها المحورين القطري التركي الذي اصطفت وراءه الديبلوماسية التونسية منذ 2011 والتي كانت رهينة لحزب النهضة ذو التوجهات الاخوانية التي تدعمها قطر وتركيا في السرّ والعلن .مقابل أطراف أخرى اصطفت وراء المحور الاماراتي السعودي المصري. والنتيجة أن الديبلوماسية التونسية تاهت وفقدت شخصيتها ما تسبّب في خسائر اقتصادية فادحة وعمّق من عزلة البلاد .
وقد كان لهذا تأثير أيضا على سير العمل في السفارات والقنصليات بالخارج والتي أصبحت محلّ تجاذبات حزبية وأصبحت التعيينات فيها لا تتمّ بمعيار الكفاءة وانّما بالولاءات الحزبية والمصالح الضيقة فكانت النتيجة جهاز قنصلي فاشل في اغلبه على الاضطلاع بمهمة خدمة التونسيين بالخارج .
25جويلية والعزلة والتذبذب
بعد 25جويلية 2021 والاجراءات الرئاسية التي قطعت مع الماضي تصوّر الملاحظون في تونس وفي الخارج أنّ الديبلوماسية التونسية ستستعيد عافيتها وأنهسيتم تطهير السفارات والقنصليات من الذين عبثوا بها لسنوات. لكن ذلك لم يحدث الى حد اليوم حيث تعيش الديبلوماسية التونسية حالة من الضبابية وعدم وضوح الرؤية ما ساهم في انكماشها رغم النجاح في تنظيم مؤتمر طوكيو لتنمية افريقيا التي احتضنته بلادنا لكن يخشى أن يؤثّر هذا الانكماش على تنظيم القمة الفرنكفونية في جربة وهو ما يقتضي تحرّكا ديبلوماسيا كبيرا لضمان أقصى درجات النجاح لهذا الحدث الكبير و استثماره اقتصاديا حيث وجب أن يكون تاريخا لعودة الديبلوماسية التونسية كما كانت قبل 2011.
لكن مع الاسف فالمؤشرات الحالية لاتوحي بذلك وأهمّها عدم اجراء الحركة الديبلوماسية لسنتي 2021 و2022.والنتيجة أنه لدينا شغور في أربعين منصبا دبلوماسيا وقنصليا على مستوى رؤساء البعثات. وهي ليست مناصب " ثانوية " . ولايفهم عدم تعيين سفراء في كل من الصين وألمانيا وإفريقيا الجنوبية وتركيا ومالي والبرازيل والكوت ديفوار ونيجيريا واليونان وبولونيا.
هذا فضلا عن انتهاء مهام سفراء في ما لا يقلّ عن 8 سفارات أخرى منذ سبتمبر الماضي ولم يتم تعويض المغادرين إلى حدّ اليوم. ومنها سفارات تونس بكل من إيطاليا وبريطانيا وكوريا الجنوبية والسينغال والأردن وكندا وصربيا.دون أن ننسى الشغور الحاصل في سفارتنا بالمغرب. كما توجد قنصليات بلا قناصل إلى حد اليوم على غرار قنصلياتنا بروما وباليرمو ومونريال وبروكسيل وليون وقرونوبل.
هي معطيات مفزعة لم تشهدها الديبلوماسية التونسية سابقا ولايفهم حقّا عدم الاهتمام الرئاسي بهذه المعضلة والتي ظهرت سلبياتها في قضية طفلة الاربع سنوات التي وصلت لإيطاليا دون والديها والتي لم يجد الجانب الايطالي مخاطبا ديبلوماسيا تونسيا يتباحث معه فتحولت القضية الى القضاء الايطالي وكان يمكن ان تحل ودّيا وديبلوماسيا لووجد سفير لنا هناك او حتى قنصل.كما كان لذلك تأثير سلبي كبير على مصالح الجالية التونسية في هذه الدول .
انّ ما تعيشه الديبلوماسية اليوم لم يعد مقبولا و الواجب يقتضي سدّ الشغورات فورا وتنشيط الديبلوماسية الاقتصادية القائمة على المصالح المتبادلة بعيدا عن خطاب المحاور والتوصيات والتدخل في شؤون بلادنا. اذ لا خروج لبلادنا من أزمتها سوى بالعودة الى الحضيرة الدولية وارسال رسائل ايجابية للأصدقاء والأشقاء وأقل ما يجب أن يفعل هو سدّ الشغورات الكبيرة التي تحدّثنا عنها. فديبلوماسيتنا في خطر وصورة تونس في الميزان .