على قيادات الأحزاب والمسؤولين في الدولة التعالي عن المصالح الشخصية ونكران الذات
ـ خيارات بورقيبة كانت مقنعة وواقعية أكثر من خيارات صالح بن يوسف
ـ محاكمة أحمد بن صالح كانت ظالمة
-كونت أول شعبة للطلبة الدستوريين في معهد الدراسات العليا
المصمودي سبب توتر العلاقات بين نويرة وعاشور
منوبة- الصباح
لتجاوز الأزمة التي تمر بها البلاد في الوقت الراهن يرى محمد الناصر رئيس الجمهورية السابق أنه من الضروري أن يعي الشعب التونسي بأهمية التضامن الوطني، وأن يحب التونسيون بعضهم البعض، وأضاف في تصريح لوسائل الإعلام على هامش المحاضرة التي ألقاها أمس بمناسبة افتتاح السنة الجامعية بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر الكائن بالمركب الجامعي بمنوبة أن الحوار شيء ضروري عندما يكون هناك اختلاف وخلاف، ولكن ما يقرب وجهات النظر ليس الحوار فقط بل هي القدرة على تجاوز حب الذات والتفكير في الغير، وشدد الرئيس السابق على أهمية نكران الذات وعدم التفكير في المصالح الشخصية والجهوية ودعا الجميع إلى التفكير في ما ينفع المجموعة الوطنية.
وتحدث الناصر في محاضرته التي استمع إليها عدد من الجامعيين والطلبة والسياسيين وأبرزهم الرئيس الأسبق فؤاد المبزع عن أبرز الأحداث التي عاشها خلال الفترة الفاصلة بين سنة 1940 تاريخ دخوله المدرسة الابتدائية الفرنكوـ عربية بالجم وسنة 1970 وأجاب عن أسئلة تعلقت خاصة بعلاقته المتينة بالاتحاد العام التونسي للشغل وبالأسباب التي جعلته من أنصار الزعيم الحبيب بورقيبة وليس صالح بن يوسف وبموقفه من محاكمة أحمد بن صالح على خلفية تجربة التعاضد.
وبين أن المدرسة الابتدائية بالجم التي درس فيها باللغتين العربية والفرنسية تجسم سياسة الاستعمار الفرنسي التي من بين عناصرها التعليم الموجه بالخصوص إلى استقطاب النخبة الوطنية ومحو الهوية الوطنية والتقليص منها، وكانت هذه النوعية من المدارس موجودة في بعض المدن والقرى فقط وكان فيها معلم فرنسية ومعلم عربية وبرنامجها موجه بالخصوص إلى تعليم اللغة الفرنسية واستجلاب التلاميذ لمعرفة تاريخ فرنسا وحضارتها، فإضافة إلى تعلم الكتابة كان التلاميذ يدرسون التاريخ والجغرافيا بالفرنسية والهاجس الوحيد للمدرسين هو التعامل مع التلاميذ كما لو أنهم فرنسيون، وأشار إلى أن الاستعدادات للاحتفال بـ14 جويلية كانت تنطلق قبل أشهر عديدة وكان الناس يشاركون في هذا الاحتفال والمقربون منهم من السلطات الفرنسية كانوا يحضرون "الكسكسي بالمسلان ".
وبالتوازي مع الدراسة كان هناك حسب قوله نشاط جمعياتي يحاول تعزيز الهوية وترسيخ التقاليد والعادات الوطنية لدى الناشئة وفي هذا السياق شارك في نهاية السنة الدراسة 1946 في الكشافة وتم في مصيف في بير الباي تحفيظهم أناشيد وطنية، وفي نفس السنة أنهى المرحلة الابتدائية وانتقل إلى المدرسة الصادقية التي كانت برامج التعليم فيها تغلب عليها اللغة الفرنسية ولكن كان الأساتذة يعاملونهم على أساس أنهم تونسيون حتى أن هناك مدرس مادة التاريخ كان يطلب منهم التركيز على تاريخ تونس.
كما تحدث الرئيس السابق عن فترة الحرب العالمية الثانية والاحتلال الألماني وكانت هذه الحرب على حد وصفه مخيفة ومرعبة، فهو يتذكر كيف أنه ذات يوم ولما كان التلاميذ يتأهبون للدخول إلى المدرسة الواقعة على مقربة من محطة القطار، شاهدوا طائرات تلقي القنابل على القطار ثم تم تكرار الغارات الجوية وهو ما أجبرهم على الاختفاء في مخبأ تحت الأرض وأمام تواصل الغارات اضطروا إلى مغادرة مدينة الجم نحو في اتجاه منطقة ريفية حيث مكثوا هناك عشرة أشهر. وأشار إلى أن فترة الحرب العالمية الثانية اتسمت بنقص في المواد الغذائية وبالمجاعة وعندما انتهت الحرب وغادر الألمان البلاد انتصب الجيش الانقليزي في الحي الذي كان يقطن فيه لتعود الحياة إلى مجراها.
وذكر الناصر أنه في شهر جانفي 1952 تم اعتقال الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يقود الحزب الحر الدستوري واتسمت تلك الفترة بتواصل الإضرابات في الصادقية ولهذا السبب فإنهم انتقلوا للدراسة في معهد خزندار بباردو وأضاف أنه بعد اعتقال الزعماء قرر الحزب الدخول في إضراب عام في المدارس وكان من بين المدرسين في الصادقية وخزندار عبد المجيد شاكر وحسيب بن عمار والشاذلي القليبي وبعد الإضراب تم طرد تلاميذ من الدراسة وقام إطارات الحزب الذين أطروا الإضراب بدعوة التلاميذ المطرودين إلى الالتحاق بجامع الزيتونة ومن ثمة تم إرسالهم إلى منازل بعض العائلات التي استضافتهم طيلة الأشهر الثلاثة التي طردوا فيها من الدراسة.
انشقاق بن يوسف
وأشار الرئيس السابق محمد الناصر إلى أنه في سنة 1954 حصل الاستقلال الداخلي ثم الانشقاق مع صالح بن يوسف، وأضاف انه كان منخرطا في الحزب الدستوري وكون أول شعبة للطلبة الدستوريين في معهد الدراسات العليا ومثل انشقاق صالح بن يوسف صدمة بالنسبة للشباب لان هذا الانشقاق لم يكن فقط من الحزب لأن المرحوم بن يوسف اعتبر نفسه مستمرا في الحزب الدستوري وكانت لديه خلايا دستورية في الكثير من الجهات وهو يحظى بتأييد الكثير من الأطراف على غرار اتحاد المزارعين وأساتذة جامع الزيتونة، وقد ألقى صالح بن يوسف خطابا شهيرا في جامع الزيتونة أعلن فيه أنه الممثل الوحيد للحزب الدستوري وقال فيه إن الاستقلال الداخلي هو خطوة إلى الوراء. وأوضح الرئيس السابق أن بورقيبة عاد في غرة جوان 1955 إلى البلاد وكانت الاحتفالات بعودة المجاهد الأكبر من اكبر الاحتفالات التي عاشها الشعب وأشار إلى أنه مازال يتذكر إلى اليوم التفاف الشعب حول المجاهد الأكبر وكان ذلك اليوم من أسعد الأحداث التي عاشها في حياته فالناس قدموا من جميع الجهات للاحتفال بعودة الزعيم وكان الاحتفال بعودته رائعا حسب وصفه. وأشار إلى أن عودة المجاهد الأكبر تزامنت مع انشقاق المرحوم صالح بن يوسف الذي كان أمينا عاما للحزب وأرجع المقاومة، وفي ظل هذا الانشقاق هناك شعب وهياكل حزبية ومنظمات وخاصة اتحاد المزارعين اتبعت بن يوسف.. وأضاف أنه في تلك الأجواء تم تنظيم مؤتمر صفاقس وكان هذا المؤتمر حاسما حيث تم تأييد توجه بورقيبة واعتبر الاستقلال الداخلي خطوة إلى الأمام وإضافة إلى دعم بورقيبة فقد اتسم المؤتمر بمشاركة اتحاد الشعل وساعدت هذه المشاركة على دعم التوجه الذي اختاره بورقيبة. كما أن مؤتمر صفاقس حسب قوله كان مناسبة لوضع خطة وطنية انبثقت عن الخطة التي أقرها الاتحاد بين هياكله ومثلت هذه الخطة برنامج الحزب الذي تم اعتماده في مؤتمر صفاقس وهو برنامج اشتراكي يقوم على مفهوم الرفاه الاجتماعي ويعتبر الإنسان غاية كل مجهود اقتصادي.
ولاحظ الناصر أن هذا البرنامج كان قاعدة لبرنامج الحكومة الأولى بعد الاستقلال التي ترأسها بورقيبة وكان من أول القرارات السياسية الجريئة التي تم اتخاذها بعد الاستقلال إصدار مجلة الأحوال الشخصية وتعميم التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وهذه الإجراءات الشجاعة تم تدعيهما بانتهاج النظام الاشتراكي الذي يقوم على مشروع قومي للازدهار الاقتصادي والرقي الاجتماعي كما أن مؤتمر الحزب في سنة 1964 تبنى الاشتراكية وركز نظام الحزب الواحد وأعطى الحزب الدستوري صلاحية للتدخل في المنظمات الوطنية وهو ما عارضه الحبيب عاشور الذي تمسك باستقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل.
تعميم التعاضد
وفسر محمد الناصر أن الحزب الدستوري كان مسيطرا على دواليب الدولة والمنظمات الوطنية وتم وضع مخطط عشري ومخطط رباعي ومخطط ثلاثي وتم بناء الاشتراكية الدستورية على أساس تعميم التعاضد، ولكن هذا التعميم لم يقم على سياسة إقناع الناس بأهمية التعاضد، وذكر أن الاشتراكية الدستورية كانت تتطلع الى بناء المستقبل أكثر منها إلى مستحقات الحاضر وكان من أهدافها الكبرى تغيير الهياكل الاقتصادية والاجتماعية وتغيير العقليات، ولكن تغيير العقليات لا يتم بالقوة بل بالإقناع لكن قيادات الحزب كانوا يرغبون في تعميم التعاضد ولم يركزوا على الإقناع، وأضاف الرئيس السابق أن المواطن التونسي كان يؤمن بالملكية الفردية ويريد نصيبه في الأرض وبالتالي كان من الصعب إقناعه بالتعاضد ولهذا السبب تم تعميم التعاضد بطريقة تعسفية وهو ما أدى إلى القيام بوقفة تأمل في سنة 1969 والقيام بتغيير جذري للهياكل السياسة حيث قرر بورقيبة على حل الديوان السياسي وتكوين هيئة وقتية كلفها بإعداد نظام جديد وتمت محاسبة المرحوم أحمد بن صالح والمجموعة المرافقة له ومحاكمتهم بالسجن، ووصف ما تعرض له بن صالح بالمظلمة لأن اختيار التعاضد على حد تأكيده لم يكن اختيارا شخصيا قام به بن صالح وإنما هو اختيار لهياكل الحزب، وذكر أن المجاهد الأكبر نفسه كان في مؤتمر صفاقس يحث بن صلاح على تعميم التعاضد، كما أنه في نفس الوقت تم بعث هيكل جديد وهو اتحاد التعاضد الذي كان منافسا للحزب الحر الدستوري وهناك بعض من إطارات الحزب كانوا يعتبرون أن هناك فرصة لكي يعوض بن صالح المجاهد الأكبر، ففي هذا السياق حسب تفسيره يمكن فهم التغيير الذي تم في سنة 1969.
وخلص محمد الناصر إلى أنه طيلة ثلاثين سنة كان هناك استمرار في القيادة فبورقيبة كان رئيسا للدولة والحزب وفي نفس الوقت كان هناك عدم استقرار في الدولة وفي سياسة الدولة فبعد انتهاج السياسة اشتراكية في الستينات ثم في السبعينات اعتماد سياسة ليبرالية، وكانت هذه الفترة مناسبة لبروز الخط الثاني من القيادة الوطنية والسياسيين الذين أرادوا المرور من المتربة الثانية إلى المرتبة الأولى لخلافة المجاهد الأكبر وهو عنصر أساسي تسبب في الاضطرابات. وأضاف الرئيس السابق انه في تلك الفترة تم تحسين ظروف عيش التونسيين وإحداث هياكل اقتصادية للتنمية الجهوية وهذه الهياكل كانت من انجازات فترة الاشتراكية وذكر أن الأهداف التي رسمها الحزب في تلك الفترة كانت تتجاوز القدرات الاقتصادية للبلاد والقدرات على الإقناع وهو ما أدى إلى إخفاق نسبي في تنفيذ المبادئ التي دعا إليها بورقيبة وفي مقدمتها نكران الذات فنكران الذات، لم يتوفر في كل القيادات التي اضطلعت بالمسؤولية، ويرى الناصر ان نكران الذات صفة أساسية يجب أن تتوفر في كل قيادي يضطلع بمسؤولية وطنية، وعدم توفر هذه الصفة وجد في الماضي وهو متواصل.
وفي مداخلته التمهيدية أشار الأستاذ خالد عبيد منسق الملتقى المنتظم بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر إلى أن المعهد يعمل على المحافظة على الذاكرة الوطنية للشعب والدولة.. ذاكرة تأبى النسيان لشعب تعرض للاستعمار وناضل من اجل تحرير الوطن ويحتوي المعهد حسب قوله على آلاف الوثائق الأرشيفية وهو المؤسسة الوحيدة الموجودة في البلدان التي اكتوت بالاستعمار والمؤسسة الوحيدة التي حصلت على أرشيف الدولة التونسية من الدولة التي استعمرتها وهي فرنسا، فالمعهد حسب وصفه مفخرة لتونس وللمجموعة الوطنية. وبعد الاستماع إلى محاضرة الرئيس السابق محمد الناصر استفسره الحاضرون عن معركة بنزرت، ولماذا انحاز لبورقيبة رغم أن الكثير من الشباب وقتها اتبعوا صالح بن يوسف وكيف عاش فترة المحاولة الانقلابية لسنة 1962 لمجموعة لزهر الشرايطي، وما هي أسباب أحداث 26 جانفي 1978، كما تساءلوا عن قرار حل الأحباس الذي تم اتخاذه في مؤتمر صفاقس وهل كان هذا القرار قرار بورقيبة أم اتحاد الشغل أم قرار النخبة السياسية، وعن علاقته بالاتحاد العام التونسي للشغل وخاصة بالحبيب عاشور.
معركة بنزرت
وتعقيبا على هذه الأسئلة أشار محمد الناصر إلى أنه خلال معركة بنزرت كان يشغل خطة رئيس ديوان منذر بن عمار وزير الصحة والشؤون الاجتماعية وتابع الأحداث عن كثب وساهم في إعداد ملف احتوى على مجموعة من صور أناس مساجين تم شد وثاقهم وقتلهم من قبل السلطات الفرنسية وتم تقديم هذا الملف كملف احتجاج ضد السلطة الفرنسية للأمم المتحدة. وأضاف أنهم كانوا يقضون كامل الليل في المكتب بالوزارة ولا ينامون وكانت معركة بنزرت مشرفة رغم وجود انتقادات مفادها انه لم يكن من الضروري دفع الشباب للمشاركة فيها وهم غير مسلحين وأن هذه المعركة كانت وسيلة لكي يثبت بها بورقيبة انه ليس عميلا لفرنسا كما كان يدعيه عبد الناصر فبعد معركة بنزرت قام بورقيبة بدعوة عبد الناصر وبن بلة وقام بجولة بهما وهو ما يدل على أن هذا الادعاء حز في نفسه، وكان يريد من اجل سمعة تونس وسمعته الشخصية أن يؤكد للجميع أن حصول تونس على الاستقلال كان بفضل التضحيات التي قام بها الشباب وهذه التضحيات كانت باسم تونس وليس باسم بورقيبة.
وردا عن سؤال حول الانشقاق بين بورقيبة وبن يوسف، ذكر الناصر أنه في تلك الفترة كان طالبا ورئيس شعبة الطلبة في معهد الدراسات العليا وكان يدرس مع الحبيب بولعراس في الصادقية وقد اختار بولعراس الذهاب مع بن يوسف لكن هيئة الشعبة والمجموعة التي كانت موجودة فيها خيرت التمشي الذي اختاره بورقيبة رغم أن الانشقاق حز في نفوسهم لأنه قسم الحزب وقسم الشعب إلى أناس مع بورقيبة وآخرين مع بن يوسف وأضاف أنهم اعتبروا أن تمشي بورقيبة فيه حكمة لكن بن يوسف كان توجهه قومي عربي وكان يرى أن التحرير لا يجب أن لا يشمل تونس فقط بل المغرب العربي وبالتالي فإنهم قدروا أن موقف بورقيبة أكثر قربا من الواقع وأكثر حكمة من توجه صالح بن يوسف الذي كان يشكل خطرا كبيرا على مستقبل البلاد لأنه سيجعل تونس في مقاومة مفتوحة لا يعرف أحدا كيف ستكون نهايتها.
أحداث جانفي 78
وفي علاقة بأحداث جانفي 1978 ذكر محمد الناصر أنهم في تلك الفترة كانوا في أوج إعداد السياسة التعاقدية وكان وراء هذه السياسة تحالف بين الهادي نويرة كأمين عام للحزب والحبيب عاشور كأمين عام للاتحاد العام التونسي للشغل، فبعد وقفة التأمل وإزاحة أحمد بن صالح ومحاكمته تم تنظيم مؤتمر المنستير الأول ثم مؤتمر المنستير الثاني وكان المؤتمر الأول قد انتهى دون نتيجة لأنه في تلك الفترة كان هناك اتجاه داخل الحزب لدعم الديمقراطية صلب الحزب وتزعمه أحمد المستيري وكانت مجموعة المستيري أغلبية وتمكنت من التأثير على لوائح المؤتمر التي ركزت على التعددية ومن لوائح المؤتمر المطالبة بانتخاب الديوان السياسي لكن بورقيبة رفض مقترح الانتخاب وتمسك بالإبقاء على آلية تعيين الديوان ولهذا السبب غادر المستيري، وفي المؤتمر الثاني بالمنستير شارك الحبيب عاشور كدستوري لأن الاتحاد كان قريبا من الحزب ولأن أعضاء الاتحاد كانوا أعضاء في الحزب ومنهم عاشور الذي كان عضوا في الديوان السياسي، وبين الناصر أن عاشور في المؤتمر الثاني بالمنستير شارك بقوة، وفي ذلك المؤتمر حصل انسلاخ للكثير من الشعب الدستورية، وأضاف أن الحبيب عاشور ساند الهادي نويرة لكن هناك شعبا انتقدت نويرة وعارضت انتخابه في المؤتمر ولكن نقابات الاتحاد كانت في الأثناء توجه رسائل دعم لنويرة.. ومن المطالب الكبرى للاتحاد في ذلك الوقت حسب ما أشار إليه محمد الناصر هو أن لا تكون الأجور بقرار من الحكومة وبما أن الحبيب عاشور ينتسب إلى الشق الذي يخير التفاوض حول الأجور فإنه كان يخير أن تكون الأجور محل مفاوضات بين العمال وأصحاب العمل وهذا الخيار كان وراء السياسة التعاقدية فهذه السياسة، يقف خلفها الحبيب عاشور والهادي نويرة.. وذكر أنه منذ بداية السبعينات والى غاية 1978 انفتح الاتحاد على المعارضة فكل قياديي أحزاب المعارضة كانوا في الاتحاد وأصبح الاتحاد المظلة التي تجمع المعارضة.. وفي سنة 1974 وأثناء مؤتمر الاتحاد صعد إلى المكتب التنفيذي الطيب البكوش وهو يساري كما أن الاتجاه اليساري برز في مؤتمرات الاتحاد اللاحقة وكان هناك عتاب على عاشور لأنه يتعامل مع نويرة الميال حسب رأيهم لرأس المال أكثر منه إلى النقابات، وبين أنه شيئا فشيئا ظهر الاتحاد كمنافس للحزب الدستوري، ولعل ما زاد الطين بلة في تلك الفترة هو توتر العلاقات بين بورقيية ومعمر القدافي على خلفية ملف جربة، حيث استاء نويرة من تصريح عاشور الذي عبر عن دعم الوحدة العربية، وتكونت داخل الحزب حركة مناهضة للاتحاد سعت إلى التقليص من قوة الاتحاد والتقليل من دوره، وحصلت مناوشات ومحاولة إحداث منظمة نقابية مضاهية للاتحاد.وأشار إلى أن علاقة معمر القذافي بنويرة كانت متوترة لذلك أستاء نويرة من تصريح عاشور المؤيد للوحدة العربية وتم العمل على إضعاف الحركة العمالية وإحداث منظمة نقابية منافسة وهو ما نجم عنه توتر العلاقات بين الحكومة والاتحاد وحصلت إضرابات أعلن عنها عاشور وتمت هذه الإضرابات في فترة صعبة وفي الموسم السياحي وفي نفس الوقت تم طرد بين 30 و40 ألف عامل تونسي من ليبيا وهو ما زاد في تأزيم العلاقات بين الحبيب عاشور والهادي نويرة وبين الاتحاد والحكومة، كما حصلت أحداث أخرى برز فيها الحبيب عاشور مناهضا للحزب ولهذا السبب حدثت قطيعة بين الحزب والاتحاد ومن نتائج هذه القطيعة الإعلان عن الإضراب الذي تم في جانفي 1978 والذي سقطت فيه أرواح بشرية وتمخض عن أزمة سياسية كبيرة. وعن سؤال حول حل الأحباس أجاب الناصر أن هذا القرار تم اتخاذه في مؤتمر صفاقس الذي شارك فيه اتحاد الشغل بقوة وهذا القرار هو من خيارات الحزب أكثر من أن يكون من خيارات احمد بن صالح والاتحاد.
علاقة المصمودي بالقذافي
وبخصوص علاقته باتحاد الشغل، بين محمد الناصر أنه منذ أن كان في جامعة الطلبة كان يعرف احمد بن صالح وكان هناك تجاوب وتعاطف بين اتحاد الشغل واتحاد الطلبة فاتحاد الطلبة كان عبارة عن مؤسسة نقابية للطلبة وبعد مؤتمر صفاقس أصبح احمد بن صالح وزيرا للشؤون الاجتماعية والصحة وفي عام 1959 عينه بن صالح في الديوان وأضاف انه كان يتردد على مؤتمرات المنظمة العالمية للشغل في إطار وفد يجمع نوابا من الحكومة ونوابا من اتحاد الشغل ونوابا من اتحاد الصناعة والتجارة وذكر أنه كان على اتصال متواصل مع الحبيب عاشور. وردا عن سؤال حول دور محمد المصمودي في الدفع نحو التوقيع على اتفاقية جربة أشار الناصر إلى أن المرحوم محمد المصمودي كان قريبا من القذافي فهو يظن انه كان للمصمودي دور في التقريب بين القذافي والحبيب عاشور، وكان المصمودي منافسا للهادي نويرة على قيادة الحزب، ففي مؤتمر المنستير الثاني قال بورقيبة إن الشخص الذي يأتي بعده هو نويرة وبعد نويرة يأتي المصمودي، وعندما عاد الحبيب عاشور من زيارته إلى القذافي قام بتصريح لفائدة المصمودي وقال إن المصمودي له القدرة على قيادة تونس وهذا التصريح استاء منه نويرة واعتبره مناوئا له وهو ما زاد في توتر العلاقات بين نويرة وعاشور.
وعن موقفه من محاكمة احمد بن صالح قال محمد الناصر انه كان يرى أن المحاكمة لم تكن في محلها وكانت مشطة لأن الخيارات التي سار فيها بن صالح كانت انطلاقا من قرار جماعي تم اتخاذه من قبل الحزب لكن العقاب سلط على بن صالح فقط والمحاكمة كانت ظالمة له، وذكر أنه لم تسمح له الفرصة للتعبير عن هذا الموقف أمام الرئيس بورقيبة لكنه لما كان وليا في سوسة زاره شخصان من الدستارة القدامى وطبا منه بحث فرصة لمقابلة بورقيبة من اجل دعوته إلى إطلاق سراح بن صالح فتولى نقل الطلب لكن رد فعل الرئيس لم يكن إيجابيا لأنه كان يعتقد أن السياسة التي انتهجها بن صالح أضرت به كزعيم وأضرت بصورته فبورقيبة لم يكن مستعدا للصفح عنه.
سعيدة بوهلال
على قيادات الأحزاب والمسؤولين في الدولة التعالي عن المصالح الشخصية ونكران الذات
ـ خيارات بورقيبة كانت مقنعة وواقعية أكثر من خيارات صالح بن يوسف
ـ محاكمة أحمد بن صالح كانت ظالمة
-كونت أول شعبة للطلبة الدستوريين في معهد الدراسات العليا
المصمودي سبب توتر العلاقات بين نويرة وعاشور
منوبة- الصباح
لتجاوز الأزمة التي تمر بها البلاد في الوقت الراهن يرى محمد الناصر رئيس الجمهورية السابق أنه من الضروري أن يعي الشعب التونسي بأهمية التضامن الوطني، وأن يحب التونسيون بعضهم البعض، وأضاف في تصريح لوسائل الإعلام على هامش المحاضرة التي ألقاها أمس بمناسبة افتتاح السنة الجامعية بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر الكائن بالمركب الجامعي بمنوبة أن الحوار شيء ضروري عندما يكون هناك اختلاف وخلاف، ولكن ما يقرب وجهات النظر ليس الحوار فقط بل هي القدرة على تجاوز حب الذات والتفكير في الغير، وشدد الرئيس السابق على أهمية نكران الذات وعدم التفكير في المصالح الشخصية والجهوية ودعا الجميع إلى التفكير في ما ينفع المجموعة الوطنية.
وتحدث الناصر في محاضرته التي استمع إليها عدد من الجامعيين والطلبة والسياسيين وأبرزهم الرئيس الأسبق فؤاد المبزع عن أبرز الأحداث التي عاشها خلال الفترة الفاصلة بين سنة 1940 تاريخ دخوله المدرسة الابتدائية الفرنكوـ عربية بالجم وسنة 1970 وأجاب عن أسئلة تعلقت خاصة بعلاقته المتينة بالاتحاد العام التونسي للشغل وبالأسباب التي جعلته من أنصار الزعيم الحبيب بورقيبة وليس صالح بن يوسف وبموقفه من محاكمة أحمد بن صالح على خلفية تجربة التعاضد.
وبين أن المدرسة الابتدائية بالجم التي درس فيها باللغتين العربية والفرنسية تجسم سياسة الاستعمار الفرنسي التي من بين عناصرها التعليم الموجه بالخصوص إلى استقطاب النخبة الوطنية ومحو الهوية الوطنية والتقليص منها، وكانت هذه النوعية من المدارس موجودة في بعض المدن والقرى فقط وكان فيها معلم فرنسية ومعلم عربية وبرنامجها موجه بالخصوص إلى تعليم اللغة الفرنسية واستجلاب التلاميذ لمعرفة تاريخ فرنسا وحضارتها، فإضافة إلى تعلم الكتابة كان التلاميذ يدرسون التاريخ والجغرافيا بالفرنسية والهاجس الوحيد للمدرسين هو التعامل مع التلاميذ كما لو أنهم فرنسيون، وأشار إلى أن الاستعدادات للاحتفال بـ14 جويلية كانت تنطلق قبل أشهر عديدة وكان الناس يشاركون في هذا الاحتفال والمقربون منهم من السلطات الفرنسية كانوا يحضرون "الكسكسي بالمسلان ".
وبالتوازي مع الدراسة كان هناك حسب قوله نشاط جمعياتي يحاول تعزيز الهوية وترسيخ التقاليد والعادات الوطنية لدى الناشئة وفي هذا السياق شارك في نهاية السنة الدراسة 1946 في الكشافة وتم في مصيف في بير الباي تحفيظهم أناشيد وطنية، وفي نفس السنة أنهى المرحلة الابتدائية وانتقل إلى المدرسة الصادقية التي كانت برامج التعليم فيها تغلب عليها اللغة الفرنسية ولكن كان الأساتذة يعاملونهم على أساس أنهم تونسيون حتى أن هناك مدرس مادة التاريخ كان يطلب منهم التركيز على تاريخ تونس.
كما تحدث الرئيس السابق عن فترة الحرب العالمية الثانية والاحتلال الألماني وكانت هذه الحرب على حد وصفه مخيفة ومرعبة، فهو يتذكر كيف أنه ذات يوم ولما كان التلاميذ يتأهبون للدخول إلى المدرسة الواقعة على مقربة من محطة القطار، شاهدوا طائرات تلقي القنابل على القطار ثم تم تكرار الغارات الجوية وهو ما أجبرهم على الاختفاء في مخبأ تحت الأرض وأمام تواصل الغارات اضطروا إلى مغادرة مدينة الجم نحو في اتجاه منطقة ريفية حيث مكثوا هناك عشرة أشهر. وأشار إلى أن فترة الحرب العالمية الثانية اتسمت بنقص في المواد الغذائية وبالمجاعة وعندما انتهت الحرب وغادر الألمان البلاد انتصب الجيش الانقليزي في الحي الذي كان يقطن فيه لتعود الحياة إلى مجراها.
وذكر الناصر أنه في شهر جانفي 1952 تم اعتقال الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يقود الحزب الحر الدستوري واتسمت تلك الفترة بتواصل الإضرابات في الصادقية ولهذا السبب فإنهم انتقلوا للدراسة في معهد خزندار بباردو وأضاف أنه بعد اعتقال الزعماء قرر الحزب الدخول في إضراب عام في المدارس وكان من بين المدرسين في الصادقية وخزندار عبد المجيد شاكر وحسيب بن عمار والشاذلي القليبي وبعد الإضراب تم طرد تلاميذ من الدراسة وقام إطارات الحزب الذين أطروا الإضراب بدعوة التلاميذ المطرودين إلى الالتحاق بجامع الزيتونة ومن ثمة تم إرسالهم إلى منازل بعض العائلات التي استضافتهم طيلة الأشهر الثلاثة التي طردوا فيها من الدراسة.
انشقاق بن يوسف
وأشار الرئيس السابق محمد الناصر إلى أنه في سنة 1954 حصل الاستقلال الداخلي ثم الانشقاق مع صالح بن يوسف، وأضاف انه كان منخرطا في الحزب الدستوري وكون أول شعبة للطلبة الدستوريين في معهد الدراسات العليا ومثل انشقاق صالح بن يوسف صدمة بالنسبة للشباب لان هذا الانشقاق لم يكن فقط من الحزب لأن المرحوم بن يوسف اعتبر نفسه مستمرا في الحزب الدستوري وكانت لديه خلايا دستورية في الكثير من الجهات وهو يحظى بتأييد الكثير من الأطراف على غرار اتحاد المزارعين وأساتذة جامع الزيتونة، وقد ألقى صالح بن يوسف خطابا شهيرا في جامع الزيتونة أعلن فيه أنه الممثل الوحيد للحزب الدستوري وقال فيه إن الاستقلال الداخلي هو خطوة إلى الوراء. وأوضح الرئيس السابق أن بورقيبة عاد في غرة جوان 1955 إلى البلاد وكانت الاحتفالات بعودة المجاهد الأكبر من اكبر الاحتفالات التي عاشها الشعب وأشار إلى أنه مازال يتذكر إلى اليوم التفاف الشعب حول المجاهد الأكبر وكان ذلك اليوم من أسعد الأحداث التي عاشها في حياته فالناس قدموا من جميع الجهات للاحتفال بعودة الزعيم وكان الاحتفال بعودته رائعا حسب وصفه. وأشار إلى أن عودة المجاهد الأكبر تزامنت مع انشقاق المرحوم صالح بن يوسف الذي كان أمينا عاما للحزب وأرجع المقاومة، وفي ظل هذا الانشقاق هناك شعب وهياكل حزبية ومنظمات وخاصة اتحاد المزارعين اتبعت بن يوسف.. وأضاف أنه في تلك الأجواء تم تنظيم مؤتمر صفاقس وكان هذا المؤتمر حاسما حيث تم تأييد توجه بورقيبة واعتبر الاستقلال الداخلي خطوة إلى الأمام وإضافة إلى دعم بورقيبة فقد اتسم المؤتمر بمشاركة اتحاد الشعل وساعدت هذه المشاركة على دعم التوجه الذي اختاره بورقيبة. كما أن مؤتمر صفاقس حسب قوله كان مناسبة لوضع خطة وطنية انبثقت عن الخطة التي أقرها الاتحاد بين هياكله ومثلت هذه الخطة برنامج الحزب الذي تم اعتماده في مؤتمر صفاقس وهو برنامج اشتراكي يقوم على مفهوم الرفاه الاجتماعي ويعتبر الإنسان غاية كل مجهود اقتصادي.
ولاحظ الناصر أن هذا البرنامج كان قاعدة لبرنامج الحكومة الأولى بعد الاستقلال التي ترأسها بورقيبة وكان من أول القرارات السياسية الجريئة التي تم اتخاذها بعد الاستقلال إصدار مجلة الأحوال الشخصية وتعميم التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وهذه الإجراءات الشجاعة تم تدعيهما بانتهاج النظام الاشتراكي الذي يقوم على مشروع قومي للازدهار الاقتصادي والرقي الاجتماعي كما أن مؤتمر الحزب في سنة 1964 تبنى الاشتراكية وركز نظام الحزب الواحد وأعطى الحزب الدستوري صلاحية للتدخل في المنظمات الوطنية وهو ما عارضه الحبيب عاشور الذي تمسك باستقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل.
تعميم التعاضد
وفسر محمد الناصر أن الحزب الدستوري كان مسيطرا على دواليب الدولة والمنظمات الوطنية وتم وضع مخطط عشري ومخطط رباعي ومخطط ثلاثي وتم بناء الاشتراكية الدستورية على أساس تعميم التعاضد، ولكن هذا التعميم لم يقم على سياسة إقناع الناس بأهمية التعاضد، وذكر أن الاشتراكية الدستورية كانت تتطلع الى بناء المستقبل أكثر منها إلى مستحقات الحاضر وكان من أهدافها الكبرى تغيير الهياكل الاقتصادية والاجتماعية وتغيير العقليات، ولكن تغيير العقليات لا يتم بالقوة بل بالإقناع لكن قيادات الحزب كانوا يرغبون في تعميم التعاضد ولم يركزوا على الإقناع، وأضاف الرئيس السابق أن المواطن التونسي كان يؤمن بالملكية الفردية ويريد نصيبه في الأرض وبالتالي كان من الصعب إقناعه بالتعاضد ولهذا السبب تم تعميم التعاضد بطريقة تعسفية وهو ما أدى إلى القيام بوقفة تأمل في سنة 1969 والقيام بتغيير جذري للهياكل السياسة حيث قرر بورقيبة على حل الديوان السياسي وتكوين هيئة وقتية كلفها بإعداد نظام جديد وتمت محاسبة المرحوم أحمد بن صالح والمجموعة المرافقة له ومحاكمتهم بالسجن، ووصف ما تعرض له بن صالح بالمظلمة لأن اختيار التعاضد على حد تأكيده لم يكن اختيارا شخصيا قام به بن صالح وإنما هو اختيار لهياكل الحزب، وذكر أن المجاهد الأكبر نفسه كان في مؤتمر صفاقس يحث بن صلاح على تعميم التعاضد، كما أنه في نفس الوقت تم بعث هيكل جديد وهو اتحاد التعاضد الذي كان منافسا للحزب الحر الدستوري وهناك بعض من إطارات الحزب كانوا يعتبرون أن هناك فرصة لكي يعوض بن صالح المجاهد الأكبر، ففي هذا السياق حسب تفسيره يمكن فهم التغيير الذي تم في سنة 1969.
وخلص محمد الناصر إلى أنه طيلة ثلاثين سنة كان هناك استمرار في القيادة فبورقيبة كان رئيسا للدولة والحزب وفي نفس الوقت كان هناك عدم استقرار في الدولة وفي سياسة الدولة فبعد انتهاج السياسة اشتراكية في الستينات ثم في السبعينات اعتماد سياسة ليبرالية، وكانت هذه الفترة مناسبة لبروز الخط الثاني من القيادة الوطنية والسياسيين الذين أرادوا المرور من المتربة الثانية إلى المرتبة الأولى لخلافة المجاهد الأكبر وهو عنصر أساسي تسبب في الاضطرابات. وأضاف الرئيس السابق انه في تلك الفترة تم تحسين ظروف عيش التونسيين وإحداث هياكل اقتصادية للتنمية الجهوية وهذه الهياكل كانت من انجازات فترة الاشتراكية وذكر أن الأهداف التي رسمها الحزب في تلك الفترة كانت تتجاوز القدرات الاقتصادية للبلاد والقدرات على الإقناع وهو ما أدى إلى إخفاق نسبي في تنفيذ المبادئ التي دعا إليها بورقيبة وفي مقدمتها نكران الذات فنكران الذات، لم يتوفر في كل القيادات التي اضطلعت بالمسؤولية، ويرى الناصر ان نكران الذات صفة أساسية يجب أن تتوفر في كل قيادي يضطلع بمسؤولية وطنية، وعدم توفر هذه الصفة وجد في الماضي وهو متواصل.
وفي مداخلته التمهيدية أشار الأستاذ خالد عبيد منسق الملتقى المنتظم بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر إلى أن المعهد يعمل على المحافظة على الذاكرة الوطنية للشعب والدولة.. ذاكرة تأبى النسيان لشعب تعرض للاستعمار وناضل من اجل تحرير الوطن ويحتوي المعهد حسب قوله على آلاف الوثائق الأرشيفية وهو المؤسسة الوحيدة الموجودة في البلدان التي اكتوت بالاستعمار والمؤسسة الوحيدة التي حصلت على أرشيف الدولة التونسية من الدولة التي استعمرتها وهي فرنسا، فالمعهد حسب وصفه مفخرة لتونس وللمجموعة الوطنية. وبعد الاستماع إلى محاضرة الرئيس السابق محمد الناصر استفسره الحاضرون عن معركة بنزرت، ولماذا انحاز لبورقيبة رغم أن الكثير من الشباب وقتها اتبعوا صالح بن يوسف وكيف عاش فترة المحاولة الانقلابية لسنة 1962 لمجموعة لزهر الشرايطي، وما هي أسباب أحداث 26 جانفي 1978، كما تساءلوا عن قرار حل الأحباس الذي تم اتخاذه في مؤتمر صفاقس وهل كان هذا القرار قرار بورقيبة أم اتحاد الشغل أم قرار النخبة السياسية، وعن علاقته بالاتحاد العام التونسي للشغل وخاصة بالحبيب عاشور.
معركة بنزرت
وتعقيبا على هذه الأسئلة أشار محمد الناصر إلى أنه خلال معركة بنزرت كان يشغل خطة رئيس ديوان منذر بن عمار وزير الصحة والشؤون الاجتماعية وتابع الأحداث عن كثب وساهم في إعداد ملف احتوى على مجموعة من صور أناس مساجين تم شد وثاقهم وقتلهم من قبل السلطات الفرنسية وتم تقديم هذا الملف كملف احتجاج ضد السلطة الفرنسية للأمم المتحدة. وأضاف أنهم كانوا يقضون كامل الليل في المكتب بالوزارة ولا ينامون وكانت معركة بنزرت مشرفة رغم وجود انتقادات مفادها انه لم يكن من الضروري دفع الشباب للمشاركة فيها وهم غير مسلحين وأن هذه المعركة كانت وسيلة لكي يثبت بها بورقيبة انه ليس عميلا لفرنسا كما كان يدعيه عبد الناصر فبعد معركة بنزرت قام بورقيبة بدعوة عبد الناصر وبن بلة وقام بجولة بهما وهو ما يدل على أن هذا الادعاء حز في نفسه، وكان يريد من اجل سمعة تونس وسمعته الشخصية أن يؤكد للجميع أن حصول تونس على الاستقلال كان بفضل التضحيات التي قام بها الشباب وهذه التضحيات كانت باسم تونس وليس باسم بورقيبة.
وردا عن سؤال حول الانشقاق بين بورقيبة وبن يوسف، ذكر الناصر أنه في تلك الفترة كان طالبا ورئيس شعبة الطلبة في معهد الدراسات العليا وكان يدرس مع الحبيب بولعراس في الصادقية وقد اختار بولعراس الذهاب مع بن يوسف لكن هيئة الشعبة والمجموعة التي كانت موجودة فيها خيرت التمشي الذي اختاره بورقيبة رغم أن الانشقاق حز في نفوسهم لأنه قسم الحزب وقسم الشعب إلى أناس مع بورقيبة وآخرين مع بن يوسف وأضاف أنهم اعتبروا أن تمشي بورقيبة فيه حكمة لكن بن يوسف كان توجهه قومي عربي وكان يرى أن التحرير لا يجب أن لا يشمل تونس فقط بل المغرب العربي وبالتالي فإنهم قدروا أن موقف بورقيبة أكثر قربا من الواقع وأكثر حكمة من توجه صالح بن يوسف الذي كان يشكل خطرا كبيرا على مستقبل البلاد لأنه سيجعل تونس في مقاومة مفتوحة لا يعرف أحدا كيف ستكون نهايتها.
أحداث جانفي 78
وفي علاقة بأحداث جانفي 1978 ذكر محمد الناصر أنهم في تلك الفترة كانوا في أوج إعداد السياسة التعاقدية وكان وراء هذه السياسة تحالف بين الهادي نويرة كأمين عام للحزب والحبيب عاشور كأمين عام للاتحاد العام التونسي للشغل، فبعد وقفة التأمل وإزاحة أحمد بن صالح ومحاكمته تم تنظيم مؤتمر المنستير الأول ثم مؤتمر المنستير الثاني وكان المؤتمر الأول قد انتهى دون نتيجة لأنه في تلك الفترة كان هناك اتجاه داخل الحزب لدعم الديمقراطية صلب الحزب وتزعمه أحمد المستيري وكانت مجموعة المستيري أغلبية وتمكنت من التأثير على لوائح المؤتمر التي ركزت على التعددية ومن لوائح المؤتمر المطالبة بانتخاب الديوان السياسي لكن بورقيبة رفض مقترح الانتخاب وتمسك بالإبقاء على آلية تعيين الديوان ولهذا السبب غادر المستيري، وفي المؤتمر الثاني بالمنستير شارك الحبيب عاشور كدستوري لأن الاتحاد كان قريبا من الحزب ولأن أعضاء الاتحاد كانوا أعضاء في الحزب ومنهم عاشور الذي كان عضوا في الديوان السياسي، وبين الناصر أن عاشور في المؤتمر الثاني بالمنستير شارك بقوة، وفي ذلك المؤتمر حصل انسلاخ للكثير من الشعب الدستورية، وأضاف أن الحبيب عاشور ساند الهادي نويرة لكن هناك شعبا انتقدت نويرة وعارضت انتخابه في المؤتمر ولكن نقابات الاتحاد كانت في الأثناء توجه رسائل دعم لنويرة.. ومن المطالب الكبرى للاتحاد في ذلك الوقت حسب ما أشار إليه محمد الناصر هو أن لا تكون الأجور بقرار من الحكومة وبما أن الحبيب عاشور ينتسب إلى الشق الذي يخير التفاوض حول الأجور فإنه كان يخير أن تكون الأجور محل مفاوضات بين العمال وأصحاب العمل وهذا الخيار كان وراء السياسة التعاقدية فهذه السياسة، يقف خلفها الحبيب عاشور والهادي نويرة.. وذكر أنه منذ بداية السبعينات والى غاية 1978 انفتح الاتحاد على المعارضة فكل قياديي أحزاب المعارضة كانوا في الاتحاد وأصبح الاتحاد المظلة التي تجمع المعارضة.. وفي سنة 1974 وأثناء مؤتمر الاتحاد صعد إلى المكتب التنفيذي الطيب البكوش وهو يساري كما أن الاتجاه اليساري برز في مؤتمرات الاتحاد اللاحقة وكان هناك عتاب على عاشور لأنه يتعامل مع نويرة الميال حسب رأيهم لرأس المال أكثر منه إلى النقابات، وبين أنه شيئا فشيئا ظهر الاتحاد كمنافس للحزب الدستوري، ولعل ما زاد الطين بلة في تلك الفترة هو توتر العلاقات بين بورقيية ومعمر القدافي على خلفية ملف جربة، حيث استاء نويرة من تصريح عاشور الذي عبر عن دعم الوحدة العربية، وتكونت داخل الحزب حركة مناهضة للاتحاد سعت إلى التقليص من قوة الاتحاد والتقليل من دوره، وحصلت مناوشات ومحاولة إحداث منظمة نقابية مضاهية للاتحاد.وأشار إلى أن علاقة معمر القذافي بنويرة كانت متوترة لذلك أستاء نويرة من تصريح عاشور المؤيد للوحدة العربية وتم العمل على إضعاف الحركة العمالية وإحداث منظمة نقابية منافسة وهو ما نجم عنه توتر العلاقات بين الحكومة والاتحاد وحصلت إضرابات أعلن عنها عاشور وتمت هذه الإضرابات في فترة صعبة وفي الموسم السياحي وفي نفس الوقت تم طرد بين 30 و40 ألف عامل تونسي من ليبيا وهو ما زاد في تأزيم العلاقات بين الحبيب عاشور والهادي نويرة وبين الاتحاد والحكومة، كما حصلت أحداث أخرى برز فيها الحبيب عاشور مناهضا للحزب ولهذا السبب حدثت قطيعة بين الحزب والاتحاد ومن نتائج هذه القطيعة الإعلان عن الإضراب الذي تم في جانفي 1978 والذي سقطت فيه أرواح بشرية وتمخض عن أزمة سياسية كبيرة. وعن سؤال حول حل الأحباس أجاب الناصر أن هذا القرار تم اتخاذه في مؤتمر صفاقس الذي شارك فيه اتحاد الشغل بقوة وهذا القرار هو من خيارات الحزب أكثر من أن يكون من خيارات احمد بن صالح والاتحاد.
علاقة المصمودي بالقذافي
وبخصوص علاقته باتحاد الشغل، بين محمد الناصر أنه منذ أن كان في جامعة الطلبة كان يعرف احمد بن صالح وكان هناك تجاوب وتعاطف بين اتحاد الشغل واتحاد الطلبة فاتحاد الطلبة كان عبارة عن مؤسسة نقابية للطلبة وبعد مؤتمر صفاقس أصبح احمد بن صالح وزيرا للشؤون الاجتماعية والصحة وفي عام 1959 عينه بن صالح في الديوان وأضاف انه كان يتردد على مؤتمرات المنظمة العالمية للشغل في إطار وفد يجمع نوابا من الحكومة ونوابا من اتحاد الشغل ونوابا من اتحاد الصناعة والتجارة وذكر أنه كان على اتصال متواصل مع الحبيب عاشور. وردا عن سؤال حول دور محمد المصمودي في الدفع نحو التوقيع على اتفاقية جربة أشار الناصر إلى أن المرحوم محمد المصمودي كان قريبا من القذافي فهو يظن انه كان للمصمودي دور في التقريب بين القذافي والحبيب عاشور، وكان المصمودي منافسا للهادي نويرة على قيادة الحزب، ففي مؤتمر المنستير الثاني قال بورقيبة إن الشخص الذي يأتي بعده هو نويرة وبعد نويرة يأتي المصمودي، وعندما عاد الحبيب عاشور من زيارته إلى القذافي قام بتصريح لفائدة المصمودي وقال إن المصمودي له القدرة على قيادة تونس وهذا التصريح استاء منه نويرة واعتبره مناوئا له وهو ما زاد في توتر العلاقات بين نويرة وعاشور.
وعن موقفه من محاكمة احمد بن صالح قال محمد الناصر انه كان يرى أن المحاكمة لم تكن في محلها وكانت مشطة لأن الخيارات التي سار فيها بن صالح كانت انطلاقا من قرار جماعي تم اتخاذه من قبل الحزب لكن العقاب سلط على بن صالح فقط والمحاكمة كانت ظالمة له، وذكر أنه لم تسمح له الفرصة للتعبير عن هذا الموقف أمام الرئيس بورقيبة لكنه لما كان وليا في سوسة زاره شخصان من الدستارة القدامى وطبا منه بحث فرصة لمقابلة بورقيبة من اجل دعوته إلى إطلاق سراح بن صالح فتولى نقل الطلب لكن رد فعل الرئيس لم يكن إيجابيا لأنه كان يعتقد أن السياسة التي انتهجها بن صالح أضرت به كزعيم وأضرت بصورته فبورقيبة لم يكن مستعدا للصفح عنه.