تمر اليوم ثلاث سنوات عن تقلد قيس سعيد الأستاذ القادم من مدرج كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس لمقاليد الحكم بعد فوزه في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية المنتظمة بتاريخ 13 أكتوبر 2019 على منافسه نبيل القروي وذلك بحصوله على 72 فاصل 71 بالمائة من الأصوات وانتخابه رئيسا للجمهورية لمدة خمس سنوات.. وخلال هذه الفترة وخاصة منذ 25 جويلية 2021 بعثر رجل القانون المفاهيم التي استقر عليها الفكر السياسي منذ عشرات العقود، وتجرأ على تغيير الدستور الذي أقسم عليه، وأقدم على تنقيح أهم التشريعات الوطنية بجرة قلم وفي مقدمتها القانون الانتخابي وقانون المجلس الأعلى للقضاء وقانون الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وأعي الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية بالاحتجاج عليه وتعقب قراراته وتحليل خطاباته وانتقاد نصوصه، وأرهق السفارات الأجنبية بكتابة التقارير حول الصواريخ التي أخرجها من المنصات، وهاجم المعارضين وأغضب القضاة والحقوقيين والمعطلين عن العمل وأبعد من طريقه حتى من كانوا سندا له من مستشاريه المقربين منه، وفي المقابل بقي سعيد في مخيال الكثير من التونسيين ذلك الإنسان الطيب المثقف المتواضع نضيف اليد الذي جاء من حي شعبي ليطهر البلاد من منظومة فاسدة، لكن ما بيده حيلة لأن هذه المنظومة أقوى منه ومن مؤسسات الدولة..
وقبل دخوله قصر قرطاج كسابع رئيس منذ إعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 وتسلمه لمهامه من سلفه محمد الناصر، كان سعيد ألقى في نفس اليوم خطابا تحت قبة البرلمان خلال جلسة استثنائية وقال فيه بالخصوص إن المسؤولية الأولى لرئيس الدولة هي أن يكون دائما رمزا لوحدتها ضامنا لاستقلالها واستمراريتها وساهرا على احترام دستورها وأن يكون جامعا للجميع وأن يعلو فوق كل الصراعات الظرفية، وبين أن التونسيين والتونسيات في حاجة إلى علاقة جديدة بين الحكام والمحكومين ودعا الجميع إلى المساهمة في نحت هذه العلاقة، وذكر أن هناك أمانة كبيرة ملقاة على عاتقه وهي الحفاظ على الحقوق المشروعة للتونسيين لأنه ليس من حق أحد أن يخيب آمال الشعب، ولأنه لا مجال للتسامح في أي مليم واحد من عرق أبناء الشعب، ولا مجال للمساس بالحريات ولا مجال للمساس بحقوق المرأة.
وأضاف في تلك الجلسة التي افتتحها رئيس مجلس نواب الشعب عبد الفتاح مورو بالتهليل له والترحيب بمقدمه وحضرها أعضاء المجلس للمدة النيابية 2014ـ 2019 والرئيس السابق فؤاد المبزع، ورؤساء الحكومات السابقون ورئيس الحكومة المباشر يوسف الشاهد وأعضاء الحكومة وممثلي الهيئات المستقلة وممثلي المنظمات الوطنية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل إلى جانب العديد من الشخصيات الوطنية وأعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين بتونس ومفتي الجمهورية التونسية وكبير أساقفة المسيحيين التونسيين وكبير أحبار اليهود التونسيين، أضاف قائلا: "يا شعب تونس العظيم داخل حدود الوطن وفي كل أنحاء العالم إن ما يعيشه التونسيون والتونسيات أذهل العالم بأسره لان الشعب استنطق طرقا جديدة في احترام كامل للشرعية لم يسبقه إليها أحد وهو ارتفاع شاهق غير مسبوق في التاريخ بل هي ثورة حقيقة بمفهوم جديد لأن الثورات تكون ضد الشرعية في حين أن ما حصل في تونس ثورة حقيقة بإرادة شرعية كما أنها ثورة ثقافية غير مسبوقة، والثورات الثقافية ليست كتبا تنشر أو مناشير توزع بل هي وعي جديدة يتفجر بعد سكون ظاهر وانتظار طويل فهي لحظة تاريخية يتغير فيها مسار التاريخ بوعي الشعب".
وأقر سعيد يومها في تلك الجلسة التي أدى خلالها اليمين الدستورية بثقل أوزار الأمانة التي سلمها إليه الشعب، أمانة الحفاظ على الدولة التونسية وأول قواعد هذه الدولة حياد المرافق العمومية وبقاءها خارج الحسابات السياسة لأن الحسابات السياسية كالحشرات في الثمار مآلها التعفن ولأنه ليس أخطر على المجتمعات من تآكلها من الداخل، وأمانة الحفاظ على مكتسبات المجموعة الوطنية وثرواتها، وأمانة شهداء الثورة وجرحاها وجميع الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم فداء للوطن، وقال إن الشعب أمانة والدولة أمانة والأمن أمانة وأنات الفقراء والبؤساء أمانة وابتسامة رضيع في المهد أمانة ولنحفظ كل هذه الأمانات بنفس الصدق والعزم.. وقال أيضا جملته الشهيرة التي كررها في أبرز خطاباته على امتداد السنوات الثلاث الماضية وخاصة بعد 25 جويلية 2021 وهي أن الشعب لم يكتف بدولة القانون بل تحول إلى مجتمع القانون ويريد فرض القانون.
أين الرئيس الجامع؟
ولكن منذ الأشهر الأولى من الحكم بدأ رئيس الجمهورية قيس سعيد يفقد رويدا رويدا صورة الرئيس الجامع الذي يعلو فوق الصراعات إذ وجد نفسه في مواجهة مخططات ائتلاف برلماني غير طبيعي توجد فيه كتلة حاكمة وهي حركة النهضة لكنها في نفس الوقت تعمل في تنسيق تام مع كتلتي ائتلاف الكرامة وقلب تونس المعارضتين، وبذلت هذه الكتل الثلاث كل ما في وسعها لقطع الطريق على حكومة إلياس الفخفاخ وتمكنت من خلال لجنة التحقيق البرلمانية في شبهة تضارب مصالح لدى رئيس الحكومة من دفع هذا الأخير إلى الاستقالة بعد فترة قصيرة. وقد سبقت الاستقالة محاولات من الكتل المذكورة لتجميع العدد المطلوب من الأصوات للتصويت على لائحة اللوم ضد حكومة الفخفاخ على خلفية "توفر معلومات جدية وشبهات قوية تخص الفخفاخ حول تورطه في فضيحة تضارب مصالح واستغلال موقعه عن طريق استعمال معلومات متميزة وهو ما يمكن أن يرتقي حتى إلى شبهات الفساد وعلى خلفية رفض رئيس الحكومة كل دعوات الاستقالة أو تعليق مهامه لحين انتهاء أعمال لجان التحقيق والرقابة البرلمانية والإدارية والمالية في شبهات تضارب المصالح التي تحوم حول شخصه وعلى خلفية انعدام الانسجام بين مكونات الائتلاف الحاكم وبين عديد الوزراء ورئيس الحكومة وغياب جلي لمبدإ التضامن الحكومي وتعمد رئيس الحكومة وعدد من وزرائه تصدير خلافاتهم الداخلية إلى العلن وضرب الاستقرار الحكومي والبرلماني بشكل متكرر ومتعمد ورابعا على خلفية طريقة تعامل رئيس الحكومة مع السلطة التشريعية القائمة على الاستعلاء وغياب اللياقة المطلوبة في مخاطبة نواب الشعب".
وحتى بعد استقالة الفخفاخ لم تتوقف الكتل الثلاث عن تضييق الخناق على رئيس الجمهورية من خلال إفساد الود بينه وبين حكومة هشام مشيشي التي لم تنأ بنفسها عن التجاذبات السياسية رغم أنها جاءت تحت عنوان حكومة الكفاءات ورغم أن رئيسها كان من المقربين من سعيد والمحسوبين عليه، ثم تعكرت الأجواء أكثر بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيس الحكومة والائتلاف المساند له من جهة أخرى بمناسبة التحوير الوزاري الذي تم الإعلان عنه في 16 جانفي 2021 والذي من خلاله تم استبعاد الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية وتم اقتراح الأعضاء الآتي ذكرهم وزير العدل: يوسف الزواغي، وزير الداخلية: وليد الذهبي، وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية: عبد اللطيف الميساوي، وزير الشؤون المحلية والبيئة : شهاب بن أحمد، وزير الصحة: الهادي خيري، وزير الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة: رضا بن مصباح، وزير الطاقة والمناجم : سفيان بن تونس، وزير الفلاحة والموارد المائية: أسامة الخريجي، وزير الثقافة وتثمين التراث: يوسف بن إبراهيم، وزير التكوين المهني والتشغيل والاقتصاد الاجتماعي والتضامني: يوسف فنيرة، وزير الشباب والرياضة: زكرياء بلخوجة، وتم بمقتضى التحوير التخلي عن خطة كاتب دولة للمالية وعن وزارة الهيئات الدستورية والعلاقة مع المجتمع المدني وضم المصالح التابعة لها إلى رئاسة الحكومة..
ورغم نيل الوزراء المقترحين ثقة البرلمان، وفي سابقة في تاريخ البلاد لم يستقبل الرئيس سعيد الوزراء المذكورين لأداء القسم، وظلت مقاعدهم شاغرة لفترة طويلة مخلفة فراغا كبيرا في ظرف حساس اتسم بتفاقم الصراعات السياسية وانتشار وباء كورونا وهو ما دفع مصطفى بن أحمد قبل يومين فقط من تعليق أشغال البرلمان إلى توجيه رسالة مفتوحة لزملائه النواب دعاهم فيها إلى تمرير لائحة لوم ضد حكومة هشام مشيشي لفشلها في إدارة الأزمة الصحية واقترح تشكيل حكومة إنقاذ وطني تتكون من كفاءات سياسية تعمل على مجابهة وباء كورونا والأزمة المالية من ناحية وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة من ناجية أخرى. وقال في نفس الرسالة إن تونس تدخل منعرجا خطيرا بعد أن باتت حالة التفكّك والانقسام بين مؤسسات الدّولة ورئاساتها الثلاث واضحة للعيان مما أثر على صورة الدولة وأضعف هيبتها. إذ وقع حسب تأكيده الالتفاف على هياكل مجلس نواب الشعب ومصادرة دور الجلسة العامة وهي السلطة العليا في البرلمان من طرف رئاسة المجلس وأصبحت سلطة القرار داخل المجلس بيد أغلبية بسيطة بمكتب المجلس تتكون من سبعة أعضاء من التحالف الثلاثي أي من كتل النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة..
تغيير الدستور الذي أقسم عليه
وقبل ثلاث سنوات، وتحت قبة البرلمان أدى رئيس الجمهورية قيس سعيد أمام مجلس نواب الشعب اليمين الدستورية التي نص عليها دستور 2014 وهي التالية: " أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال تونس وسلامة ترابها وأن أحترم دستورها وتشريعها وأن أرعى مصالحها وأن ألتزم بالولاء لها"..
ولكن في مساء يوم 25 جويلية 2021 وفي تأويل للفصل 80 من الدستور، أعلن الرئيس عن تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن أعضائه واحتكم في قراره إلى الاحتجاجات التي عمت البلاد للمطالبة بحل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه ومحاكمة المتورطين منهم في الفساد، وهز هذا القرار الرأي العام الوطني والدولي، وكان أشبه بالصاعقة السياسية الماحقة، واعتبرت العديد من الأحزاب وفي مقدمتها النهضة ورئيسها راشد الغنوشي هذا الإجراء انقلابا في حين وصفته أحزابا أخرى بأنه تعديل للمسار. وفي 22 سبتمبر من نفس السنة أصدر سعيد الأمر عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائية والذي بمقتضاه مسك بجميع السلط وأصبح هو المشرع عوضا عن مجلس نواب الشعب وأصبحت الحكومة تنفذ السياسة العامة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية، وهي مسؤولة عن تصرفها أمامه. وبمقتضى نفس الأمر علق الرئيس سعيد العمل بعدد من فصول الدستور وألغى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وأعلن عن توجهه نحو إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة على أن تهدف مشاريع هذه التعديلات إلى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي يكون فيه الشعب بالفعل هو صاحب السيادة ومصدر السلطات ويمارسها بواسطة نواب منتخبين أو عبر الاستفتاء ويقوم على أساس الفصل بين السلط والتوازن الفعلي بينها ويكرس دولة القانون ويضمن الحقوق والحريات العامة والفردية وتحقيق أهداف ثورة 17 ديسمبر 2010 في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، ليعرضها رئيس الجمهورية على الاستفتاء للمصادقة عليها.
حل البرلمان
ونظرا لطول فترة التدابير الاستثنائية وفي محاولة للعودة إلى قصر باردو نظم عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب المعلقة أشغاله جلسة عامة عن بعد لإنهاء العمل بالمراسيم ولكن مباشرة بعد مصادقته على المشروع المعروض على التصويت أعلن رئيس الجمهورية مساء 30 مارس المنقضي عن حل البرلمان ووصف المشاركين في تلك الجلسة بالمتآمرين على أمن الدولة الداخلي والخارجي وقال إنه ستتم ملاحقتهم جزائيا وإن وزيرة العدل تولت فتح دعوى لدى النيابة العمومية، وأشار خلال إشرافه يومها على اجتماع لمجلس الأمن القومي إلى وجود محاولة انقلابية لكنها محاولة فاشلة وقال إن الواجب يقتضي منه حماية الشعب والوطن بناء على أحكام الدستور لأن رئيس الجمهورية هو رمز الدولة ورمز وحدتها. وطمأن سعيد الشعب التونسي بأن مؤسسات الدولة قائمة وأن ما حصل محاولة فاشلة للانقلاب، وذكر أن الشعب سيعبر عن إرادته لكن في إطار سلمي وفي إطار احترام قوانين الدولة، وحذر من أي لجوء إلى العنف سيواجه بالقانون وفي إطار احترام القانون بقواتنا المسلحة العسكرية وبقواتنا المسلحة المدنية لان الدولة لا يمكن أن تكون لعبة بين أيدي هؤلاء الذين يريدون الانقلاب عليها. وقال إن الشعب سيحقق مطالبه وآماله وانه يتحمل المسؤولية أمام التاريخ وأمام الشعب وأن المسؤولية تقتضي المحافظة على الدولة وعلى إستمراريتها واستنكر رئيس الجمهورية ما أقدم عليه البرلمان من سن قانون يلغي الأوامر والمراسيم.. وقال إنه ضامن للحريات لكنهم لأي النواب خطر على الحريات وعلى الدولة. وتساءل لماذا يهاب هؤلاء الانتخابات وقد تم تحديد تاريخا لها.
ولكن بعد حل البرلمان، وتبعا لمقتضيات الأمر عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائية انتظر التونسيون تعديلات جزئية على الدستور وهو نفس ما اتجهت إليه نتائج الاستشارة الوطنية التي أطلقها الرئيس فأغلبية المشاركين في تلك الاستشارة كانوا مع تعديل الدستور وليس مع تغييره بدستور جديد، ورغم ذلك فقد قرر رئيس الجمهورية تشكيل لجنة استشارية وتعيين العميد الصادق بلعيد على رأسها وتولت هده اللجنة إعداد مشروع دستور جديد وقدمت أعمالها لرئيس الجمهورية ولكن الرئيس ارتأى إدخال تعديلات جوهرية على ذلك المشروع وهو ما جعل رئيس اللجنة يسارع بنشر النسخة التي قدمها لرئيس الجمهورية عبر أعمدة جريدة الصباح ويتبرأ من المسؤولية.
وقبل عرض مشروعه على الاستفتاء في 25 جويلية 2022 أصدر رئيس الجمهورية أمرا صحح بمقتضاه ما وصفه بالأخطاء التي تسربت لهذا المشروع وسط اتساع دائرة المعارضين له والذين ألبوا عليه منظمات دولية وأطراف خارجية لكنه واصل السير في نفس المسار ولم يتراجع قيد أنملة عن خارطة طريقه السياسية، وهكذا تم تنظيم الاستفتاء على مشروع الدستور من قبل هيئة الانتخابات وصفتها المعارضة بهيئة الرئيس غير المستقلة. ورغم ضعف نسبة المشاركة في هذا الاستفتاء فقد مر الدستور الجديد ودخل حيز النفاذ يوم 17 أوت 2022 وعلى أساسه سيتم يوم 17 ديسمبر المقبل وكما نصت عليه خارطة طريق سعيد انتخابات تشريعية بعد حل مجلس نواب الشعب في 30 مارس 2022.
وفي المذكرة التي عرضها على الشعب لتفسير الدستور، ذكر الرئيس التونسيين كيف أفلت الكثيرون من المحاسبة فزاد الفساد انتشارا وتفاقمت أوضاع الشعب على كل صعيد، وكتب في الوثيقة ما يلي :" فساد وافتعال للازمات فلا يكاد ينتهي التصدي لأزمة إلا وتم اختلاق أزمة جديدة لصرف أنظار الشعب عن مطالبه المشروعه التي رفعها في ديسمبر 2010 وما فتئ يرددها منذ ذلك التاريخ.. تفقير وتنكيل ومغالطات ومناورات وقوانين توضع ويعلم من وضعها بأنها لن تجد طريقها إلى التنفيذ وقوانين أخرى توضع على المقاس لخدمة هذا الطرف أو ذاك كما وضع دستور 2014 يجد فيه كل طرف نصيب. أفرغوا خزائن الدولة وسائر المؤسسات والمنشآت العمومية وزاد الفقراء فقرا وإملاقا وزاد الذين أفسدوا في كل مكان ثراء خارج أي إطار شرعي ومشروع.. وكان الشعب التونسي في الداخل والخارج يتابع ويحتج لأنه لم تعد تخفى عليه خافية، كان يتابع وكله حسرة على ما حصل داخل مجلس نواب الشعب المنحل فلا تشريعات تحقق مطالبه وآماله ولا ممارسات مقبولة على أي مقياس من المقاييس، سب وشتم وهتك للأعراض بل وتبادل للعنف حتى سالت الدماء وقد طالب في إحدى المناسبات عدد غير قليل من أعضاء هذا المجلس المنحل بحله، هذا فضلا عن الدعوات الشعبية في كل مكان والتي كانت تتصاعد مطالبة بحله.. واقتضى الواجب المقدس واقتضت المسؤولية التاريخية أن يتم تجميد عمل المجلس قبل حله لإنقاذ الشعب وإنقاذ مؤسسات الدولة التي كانت على وشك الانهيار، وكان لا بد من التفكير الجدي في وضع دستور جديد ولأن عملية الوضع يجب أن تكون ديمقراطية تم الاختيار على تنظيم استشارة وطنية علاوة على حوار وطني قبل وضع مشروع دستور جديد ليعرض يوم 25 جويلية على صاحب السيادة عليكم أنتهم شعبنا العظيم. ولم يوضع هذا المشروع إلا بناء على ما عبر عنه الشعب التونسي منذ اندلاع الثورة إلى غاية اتخاذ قرار تصحيح مسارها يوم 25 جويلية 2021. يا أبناء شعبنا العظيم في كل مكان، إن الدستور روح قبل أن يكون مجرد مؤسسات وهذا المشروع المعروض عليكم يعبر عن روح الثورة ولا مساس فيه على الإطلاق بالحقوق والحريات، والغاية من إنشاء مجلس وطني للجهات والأقاليم هي مشاركة الجميع في صنع القرار فمن تم تهميشه سيسعى بطبيعته إلى وضع النصوص القانونية التي تخرجه من دائرة التهميش والإقصاء والمهمة الأولى للدولة هي تحقيق الاندماج ولن يتحقق هذا الهدف إلا بتشريك الجميع على قدم المساواة في وضع التشريعات التي تضعها الأغلبية الحقيقية تحت الرقابة المستمرة لصاحب السيادة وهو الشعب.. فلا خوف على الحقوق والحريات إذا كانت النصوص القانونية تضعها الأغلبية تحت الرقابة الشعبية سواء داخل المجلس الأول أو المجلس الثاني هذا فضلا عن رقابة دستورية القوانين من قبل محكمة دستورية تسهر على ضمان علوية الدستور بعيدا عن كل محاولات التوظيف بناء على الولاء لهذا أو لذاك. ويدعي من دأب على الافتراء والادعاء أن مشروع الدستور ينبئ بعودة الاستبداد لأنه لم يكلف نفسه عناء النظر في كل بنوده وأحكامه بل لم ينظر لا في تركيبة المحكمة الدستورية ولا في إمكانية سحب الوكالة ولا في حق المجلس في مساءلة الحكومة ولا في تجديد حق الترشح لرئاسة الدولة إلا مرة واحدة فما ابعد ما يروجونه عن الحقيقة وما أبعد من يفترون عن الواقع. إن التاريخ لن يعود أبدا إلى الوراء فلا خير في التاريخ إن كان سيعيد نفسه، ولن يعيد نفسه بكل تأكيد.." .
ووصف رئيس الجمهورية في هذه الوثيقة التاريخية منتقدي الدستور بالمفترين، والحال أنه كان هناك شبه إجماع لدى زملائه من أساتذة القانون بأن الدستور ملغم وخطير ويضرب مبدأ التفريق بين السلط والتوازن فيما بينها ويكرس النظام الرئاسوي ويمهد للنظام القاعدي الذي سبق لسعيد أن تحدث عنه في بيانه الانتخابي.. وكان البيان الانتخابي لسعيد قد تضمن ما يلي :" إن السبيل للتعبير عن إرادتكم الحقيقية هو إعادة البناء من القاعدة، من المحلي إلى المركز حتى تكون القوانين والتشريعات كلها على اختلاف أصنافها ودرجاتها معبرة عن إرادتكم حاملة لآمالكم صدى لمطالبكم وتطلعاتكم متسقة مع الانفجار الثوري الذي انطلق من القرى والمعتمديات قبل أن يبلغ ذروته في المركز"..
ورغم الصد الكبير الذي أبداه المجتمع المدني من أحزاب سياسية ومنظمات وطنية لمشروع الدستور فقد تمسك الرئيس قيس سعيد بعرض دستوره على الاستفتاء وذلك بعد أن غير هيئة الانتخابات وعدل قانونها وتركيبتها وطريقة تعيين أعضائها وعدل القانون الانتخابي، وبعد صدور الدستور دعا الرئيس سعيد الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب في 17 ديسمبر المقبل ونقح مرة أخرى المرسوم الانتخابي بأحكام عسرت شروط الترشح لهذه الانتخابات وغيرت تقسيم الدوائر الانتخابية وأقرت إجراء سحب الوكالة من النائب.
سعيدة بوهلال
تونس: الصباح
تمر اليوم ثلاث سنوات عن تقلد قيس سعيد الأستاذ القادم من مدرج كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس لمقاليد الحكم بعد فوزه في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية المنتظمة بتاريخ 13 أكتوبر 2019 على منافسه نبيل القروي وذلك بحصوله على 72 فاصل 71 بالمائة من الأصوات وانتخابه رئيسا للجمهورية لمدة خمس سنوات.. وخلال هذه الفترة وخاصة منذ 25 جويلية 2021 بعثر رجل القانون المفاهيم التي استقر عليها الفكر السياسي منذ عشرات العقود، وتجرأ على تغيير الدستور الذي أقسم عليه، وأقدم على تنقيح أهم التشريعات الوطنية بجرة قلم وفي مقدمتها القانون الانتخابي وقانون المجلس الأعلى للقضاء وقانون الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وأعي الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية بالاحتجاج عليه وتعقب قراراته وتحليل خطاباته وانتقاد نصوصه، وأرهق السفارات الأجنبية بكتابة التقارير حول الصواريخ التي أخرجها من المنصات، وهاجم المعارضين وأغضب القضاة والحقوقيين والمعطلين عن العمل وأبعد من طريقه حتى من كانوا سندا له من مستشاريه المقربين منه، وفي المقابل بقي سعيد في مخيال الكثير من التونسيين ذلك الإنسان الطيب المثقف المتواضع نضيف اليد الذي جاء من حي شعبي ليطهر البلاد من منظومة فاسدة، لكن ما بيده حيلة لأن هذه المنظومة أقوى منه ومن مؤسسات الدولة..
وقبل دخوله قصر قرطاج كسابع رئيس منذ إعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 وتسلمه لمهامه من سلفه محمد الناصر، كان سعيد ألقى في نفس اليوم خطابا تحت قبة البرلمان خلال جلسة استثنائية وقال فيه بالخصوص إن المسؤولية الأولى لرئيس الدولة هي أن يكون دائما رمزا لوحدتها ضامنا لاستقلالها واستمراريتها وساهرا على احترام دستورها وأن يكون جامعا للجميع وأن يعلو فوق كل الصراعات الظرفية، وبين أن التونسيين والتونسيات في حاجة إلى علاقة جديدة بين الحكام والمحكومين ودعا الجميع إلى المساهمة في نحت هذه العلاقة، وذكر أن هناك أمانة كبيرة ملقاة على عاتقه وهي الحفاظ على الحقوق المشروعة للتونسيين لأنه ليس من حق أحد أن يخيب آمال الشعب، ولأنه لا مجال للتسامح في أي مليم واحد من عرق أبناء الشعب، ولا مجال للمساس بالحريات ولا مجال للمساس بحقوق المرأة.
وأضاف في تلك الجلسة التي افتتحها رئيس مجلس نواب الشعب عبد الفتاح مورو بالتهليل له والترحيب بمقدمه وحضرها أعضاء المجلس للمدة النيابية 2014ـ 2019 والرئيس السابق فؤاد المبزع، ورؤساء الحكومات السابقون ورئيس الحكومة المباشر يوسف الشاهد وأعضاء الحكومة وممثلي الهيئات المستقلة وممثلي المنظمات الوطنية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل إلى جانب العديد من الشخصيات الوطنية وأعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين بتونس ومفتي الجمهورية التونسية وكبير أساقفة المسيحيين التونسيين وكبير أحبار اليهود التونسيين، أضاف قائلا: "يا شعب تونس العظيم داخل حدود الوطن وفي كل أنحاء العالم إن ما يعيشه التونسيون والتونسيات أذهل العالم بأسره لان الشعب استنطق طرقا جديدة في احترام كامل للشرعية لم يسبقه إليها أحد وهو ارتفاع شاهق غير مسبوق في التاريخ بل هي ثورة حقيقة بمفهوم جديد لأن الثورات تكون ضد الشرعية في حين أن ما حصل في تونس ثورة حقيقة بإرادة شرعية كما أنها ثورة ثقافية غير مسبوقة، والثورات الثقافية ليست كتبا تنشر أو مناشير توزع بل هي وعي جديدة يتفجر بعد سكون ظاهر وانتظار طويل فهي لحظة تاريخية يتغير فيها مسار التاريخ بوعي الشعب".
وأقر سعيد يومها في تلك الجلسة التي أدى خلالها اليمين الدستورية بثقل أوزار الأمانة التي سلمها إليه الشعب، أمانة الحفاظ على الدولة التونسية وأول قواعد هذه الدولة حياد المرافق العمومية وبقاءها خارج الحسابات السياسة لأن الحسابات السياسية كالحشرات في الثمار مآلها التعفن ولأنه ليس أخطر على المجتمعات من تآكلها من الداخل، وأمانة الحفاظ على مكتسبات المجموعة الوطنية وثرواتها، وأمانة شهداء الثورة وجرحاها وجميع الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم فداء للوطن، وقال إن الشعب أمانة والدولة أمانة والأمن أمانة وأنات الفقراء والبؤساء أمانة وابتسامة رضيع في المهد أمانة ولنحفظ كل هذه الأمانات بنفس الصدق والعزم.. وقال أيضا جملته الشهيرة التي كررها في أبرز خطاباته على امتداد السنوات الثلاث الماضية وخاصة بعد 25 جويلية 2021 وهي أن الشعب لم يكتف بدولة القانون بل تحول إلى مجتمع القانون ويريد فرض القانون.
أين الرئيس الجامع؟
ولكن منذ الأشهر الأولى من الحكم بدأ رئيس الجمهورية قيس سعيد يفقد رويدا رويدا صورة الرئيس الجامع الذي يعلو فوق الصراعات إذ وجد نفسه في مواجهة مخططات ائتلاف برلماني غير طبيعي توجد فيه كتلة حاكمة وهي حركة النهضة لكنها في نفس الوقت تعمل في تنسيق تام مع كتلتي ائتلاف الكرامة وقلب تونس المعارضتين، وبذلت هذه الكتل الثلاث كل ما في وسعها لقطع الطريق على حكومة إلياس الفخفاخ وتمكنت من خلال لجنة التحقيق البرلمانية في شبهة تضارب مصالح لدى رئيس الحكومة من دفع هذا الأخير إلى الاستقالة بعد فترة قصيرة. وقد سبقت الاستقالة محاولات من الكتل المذكورة لتجميع العدد المطلوب من الأصوات للتصويت على لائحة اللوم ضد حكومة الفخفاخ على خلفية "توفر معلومات جدية وشبهات قوية تخص الفخفاخ حول تورطه في فضيحة تضارب مصالح واستغلال موقعه عن طريق استعمال معلومات متميزة وهو ما يمكن أن يرتقي حتى إلى شبهات الفساد وعلى خلفية رفض رئيس الحكومة كل دعوات الاستقالة أو تعليق مهامه لحين انتهاء أعمال لجان التحقيق والرقابة البرلمانية والإدارية والمالية في شبهات تضارب المصالح التي تحوم حول شخصه وعلى خلفية انعدام الانسجام بين مكونات الائتلاف الحاكم وبين عديد الوزراء ورئيس الحكومة وغياب جلي لمبدإ التضامن الحكومي وتعمد رئيس الحكومة وعدد من وزرائه تصدير خلافاتهم الداخلية إلى العلن وضرب الاستقرار الحكومي والبرلماني بشكل متكرر ومتعمد ورابعا على خلفية طريقة تعامل رئيس الحكومة مع السلطة التشريعية القائمة على الاستعلاء وغياب اللياقة المطلوبة في مخاطبة نواب الشعب".
وحتى بعد استقالة الفخفاخ لم تتوقف الكتل الثلاث عن تضييق الخناق على رئيس الجمهورية من خلال إفساد الود بينه وبين حكومة هشام مشيشي التي لم تنأ بنفسها عن التجاذبات السياسية رغم أنها جاءت تحت عنوان حكومة الكفاءات ورغم أن رئيسها كان من المقربين من سعيد والمحسوبين عليه، ثم تعكرت الأجواء أكثر بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيس الحكومة والائتلاف المساند له من جهة أخرى بمناسبة التحوير الوزاري الذي تم الإعلان عنه في 16 جانفي 2021 والذي من خلاله تم استبعاد الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية وتم اقتراح الأعضاء الآتي ذكرهم وزير العدل: يوسف الزواغي، وزير الداخلية: وليد الذهبي، وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية: عبد اللطيف الميساوي، وزير الشؤون المحلية والبيئة : شهاب بن أحمد، وزير الصحة: الهادي خيري، وزير الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة: رضا بن مصباح، وزير الطاقة والمناجم : سفيان بن تونس، وزير الفلاحة والموارد المائية: أسامة الخريجي، وزير الثقافة وتثمين التراث: يوسف بن إبراهيم، وزير التكوين المهني والتشغيل والاقتصاد الاجتماعي والتضامني: يوسف فنيرة، وزير الشباب والرياضة: زكرياء بلخوجة، وتم بمقتضى التحوير التخلي عن خطة كاتب دولة للمالية وعن وزارة الهيئات الدستورية والعلاقة مع المجتمع المدني وضم المصالح التابعة لها إلى رئاسة الحكومة..
ورغم نيل الوزراء المقترحين ثقة البرلمان، وفي سابقة في تاريخ البلاد لم يستقبل الرئيس سعيد الوزراء المذكورين لأداء القسم، وظلت مقاعدهم شاغرة لفترة طويلة مخلفة فراغا كبيرا في ظرف حساس اتسم بتفاقم الصراعات السياسية وانتشار وباء كورونا وهو ما دفع مصطفى بن أحمد قبل يومين فقط من تعليق أشغال البرلمان إلى توجيه رسالة مفتوحة لزملائه النواب دعاهم فيها إلى تمرير لائحة لوم ضد حكومة هشام مشيشي لفشلها في إدارة الأزمة الصحية واقترح تشكيل حكومة إنقاذ وطني تتكون من كفاءات سياسية تعمل على مجابهة وباء كورونا والأزمة المالية من ناحية وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة من ناجية أخرى. وقال في نفس الرسالة إن تونس تدخل منعرجا خطيرا بعد أن باتت حالة التفكّك والانقسام بين مؤسسات الدّولة ورئاساتها الثلاث واضحة للعيان مما أثر على صورة الدولة وأضعف هيبتها. إذ وقع حسب تأكيده الالتفاف على هياكل مجلس نواب الشعب ومصادرة دور الجلسة العامة وهي السلطة العليا في البرلمان من طرف رئاسة المجلس وأصبحت سلطة القرار داخل المجلس بيد أغلبية بسيطة بمكتب المجلس تتكون من سبعة أعضاء من التحالف الثلاثي أي من كتل النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة..
تغيير الدستور الذي أقسم عليه
وقبل ثلاث سنوات، وتحت قبة البرلمان أدى رئيس الجمهورية قيس سعيد أمام مجلس نواب الشعب اليمين الدستورية التي نص عليها دستور 2014 وهي التالية: " أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال تونس وسلامة ترابها وأن أحترم دستورها وتشريعها وأن أرعى مصالحها وأن ألتزم بالولاء لها"..
ولكن في مساء يوم 25 جويلية 2021 وفي تأويل للفصل 80 من الدستور، أعلن الرئيس عن تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن أعضائه واحتكم في قراره إلى الاحتجاجات التي عمت البلاد للمطالبة بحل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه ومحاكمة المتورطين منهم في الفساد، وهز هذا القرار الرأي العام الوطني والدولي، وكان أشبه بالصاعقة السياسية الماحقة، واعتبرت العديد من الأحزاب وفي مقدمتها النهضة ورئيسها راشد الغنوشي هذا الإجراء انقلابا في حين وصفته أحزابا أخرى بأنه تعديل للمسار. وفي 22 سبتمبر من نفس السنة أصدر سعيد الأمر عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائية والذي بمقتضاه مسك بجميع السلط وأصبح هو المشرع عوضا عن مجلس نواب الشعب وأصبحت الحكومة تنفذ السياسة العامة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية، وهي مسؤولة عن تصرفها أمامه. وبمقتضى نفس الأمر علق الرئيس سعيد العمل بعدد من فصول الدستور وألغى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وأعلن عن توجهه نحو إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة على أن تهدف مشاريع هذه التعديلات إلى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي يكون فيه الشعب بالفعل هو صاحب السيادة ومصدر السلطات ويمارسها بواسطة نواب منتخبين أو عبر الاستفتاء ويقوم على أساس الفصل بين السلط والتوازن الفعلي بينها ويكرس دولة القانون ويضمن الحقوق والحريات العامة والفردية وتحقيق أهداف ثورة 17 ديسمبر 2010 في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، ليعرضها رئيس الجمهورية على الاستفتاء للمصادقة عليها.
حل البرلمان
ونظرا لطول فترة التدابير الاستثنائية وفي محاولة للعودة إلى قصر باردو نظم عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب المعلقة أشغاله جلسة عامة عن بعد لإنهاء العمل بالمراسيم ولكن مباشرة بعد مصادقته على المشروع المعروض على التصويت أعلن رئيس الجمهورية مساء 30 مارس المنقضي عن حل البرلمان ووصف المشاركين في تلك الجلسة بالمتآمرين على أمن الدولة الداخلي والخارجي وقال إنه ستتم ملاحقتهم جزائيا وإن وزيرة العدل تولت فتح دعوى لدى النيابة العمومية، وأشار خلال إشرافه يومها على اجتماع لمجلس الأمن القومي إلى وجود محاولة انقلابية لكنها محاولة فاشلة وقال إن الواجب يقتضي منه حماية الشعب والوطن بناء على أحكام الدستور لأن رئيس الجمهورية هو رمز الدولة ورمز وحدتها. وطمأن سعيد الشعب التونسي بأن مؤسسات الدولة قائمة وأن ما حصل محاولة فاشلة للانقلاب، وذكر أن الشعب سيعبر عن إرادته لكن في إطار سلمي وفي إطار احترام قوانين الدولة، وحذر من أي لجوء إلى العنف سيواجه بالقانون وفي إطار احترام القانون بقواتنا المسلحة العسكرية وبقواتنا المسلحة المدنية لان الدولة لا يمكن أن تكون لعبة بين أيدي هؤلاء الذين يريدون الانقلاب عليها. وقال إن الشعب سيحقق مطالبه وآماله وانه يتحمل المسؤولية أمام التاريخ وأمام الشعب وأن المسؤولية تقتضي المحافظة على الدولة وعلى إستمراريتها واستنكر رئيس الجمهورية ما أقدم عليه البرلمان من سن قانون يلغي الأوامر والمراسيم.. وقال إنه ضامن للحريات لكنهم لأي النواب خطر على الحريات وعلى الدولة. وتساءل لماذا يهاب هؤلاء الانتخابات وقد تم تحديد تاريخا لها.
ولكن بعد حل البرلمان، وتبعا لمقتضيات الأمر عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائية انتظر التونسيون تعديلات جزئية على الدستور وهو نفس ما اتجهت إليه نتائج الاستشارة الوطنية التي أطلقها الرئيس فأغلبية المشاركين في تلك الاستشارة كانوا مع تعديل الدستور وليس مع تغييره بدستور جديد، ورغم ذلك فقد قرر رئيس الجمهورية تشكيل لجنة استشارية وتعيين العميد الصادق بلعيد على رأسها وتولت هده اللجنة إعداد مشروع دستور جديد وقدمت أعمالها لرئيس الجمهورية ولكن الرئيس ارتأى إدخال تعديلات جوهرية على ذلك المشروع وهو ما جعل رئيس اللجنة يسارع بنشر النسخة التي قدمها لرئيس الجمهورية عبر أعمدة جريدة الصباح ويتبرأ من المسؤولية.
وقبل عرض مشروعه على الاستفتاء في 25 جويلية 2022 أصدر رئيس الجمهورية أمرا صحح بمقتضاه ما وصفه بالأخطاء التي تسربت لهذا المشروع وسط اتساع دائرة المعارضين له والذين ألبوا عليه منظمات دولية وأطراف خارجية لكنه واصل السير في نفس المسار ولم يتراجع قيد أنملة عن خارطة طريقه السياسية، وهكذا تم تنظيم الاستفتاء على مشروع الدستور من قبل هيئة الانتخابات وصفتها المعارضة بهيئة الرئيس غير المستقلة. ورغم ضعف نسبة المشاركة في هذا الاستفتاء فقد مر الدستور الجديد ودخل حيز النفاذ يوم 17 أوت 2022 وعلى أساسه سيتم يوم 17 ديسمبر المقبل وكما نصت عليه خارطة طريق سعيد انتخابات تشريعية بعد حل مجلس نواب الشعب في 30 مارس 2022.
وفي المذكرة التي عرضها على الشعب لتفسير الدستور، ذكر الرئيس التونسيين كيف أفلت الكثيرون من المحاسبة فزاد الفساد انتشارا وتفاقمت أوضاع الشعب على كل صعيد، وكتب في الوثيقة ما يلي :" فساد وافتعال للازمات فلا يكاد ينتهي التصدي لأزمة إلا وتم اختلاق أزمة جديدة لصرف أنظار الشعب عن مطالبه المشروعه التي رفعها في ديسمبر 2010 وما فتئ يرددها منذ ذلك التاريخ.. تفقير وتنكيل ومغالطات ومناورات وقوانين توضع ويعلم من وضعها بأنها لن تجد طريقها إلى التنفيذ وقوانين أخرى توضع على المقاس لخدمة هذا الطرف أو ذاك كما وضع دستور 2014 يجد فيه كل طرف نصيب. أفرغوا خزائن الدولة وسائر المؤسسات والمنشآت العمومية وزاد الفقراء فقرا وإملاقا وزاد الذين أفسدوا في كل مكان ثراء خارج أي إطار شرعي ومشروع.. وكان الشعب التونسي في الداخل والخارج يتابع ويحتج لأنه لم تعد تخفى عليه خافية، كان يتابع وكله حسرة على ما حصل داخل مجلس نواب الشعب المنحل فلا تشريعات تحقق مطالبه وآماله ولا ممارسات مقبولة على أي مقياس من المقاييس، سب وشتم وهتك للأعراض بل وتبادل للعنف حتى سالت الدماء وقد طالب في إحدى المناسبات عدد غير قليل من أعضاء هذا المجلس المنحل بحله، هذا فضلا عن الدعوات الشعبية في كل مكان والتي كانت تتصاعد مطالبة بحله.. واقتضى الواجب المقدس واقتضت المسؤولية التاريخية أن يتم تجميد عمل المجلس قبل حله لإنقاذ الشعب وإنقاذ مؤسسات الدولة التي كانت على وشك الانهيار، وكان لا بد من التفكير الجدي في وضع دستور جديد ولأن عملية الوضع يجب أن تكون ديمقراطية تم الاختيار على تنظيم استشارة وطنية علاوة على حوار وطني قبل وضع مشروع دستور جديد ليعرض يوم 25 جويلية على صاحب السيادة عليكم أنتهم شعبنا العظيم. ولم يوضع هذا المشروع إلا بناء على ما عبر عنه الشعب التونسي منذ اندلاع الثورة إلى غاية اتخاذ قرار تصحيح مسارها يوم 25 جويلية 2021. يا أبناء شعبنا العظيم في كل مكان، إن الدستور روح قبل أن يكون مجرد مؤسسات وهذا المشروع المعروض عليكم يعبر عن روح الثورة ولا مساس فيه على الإطلاق بالحقوق والحريات، والغاية من إنشاء مجلس وطني للجهات والأقاليم هي مشاركة الجميع في صنع القرار فمن تم تهميشه سيسعى بطبيعته إلى وضع النصوص القانونية التي تخرجه من دائرة التهميش والإقصاء والمهمة الأولى للدولة هي تحقيق الاندماج ولن يتحقق هذا الهدف إلا بتشريك الجميع على قدم المساواة في وضع التشريعات التي تضعها الأغلبية الحقيقية تحت الرقابة المستمرة لصاحب السيادة وهو الشعب.. فلا خوف على الحقوق والحريات إذا كانت النصوص القانونية تضعها الأغلبية تحت الرقابة الشعبية سواء داخل المجلس الأول أو المجلس الثاني هذا فضلا عن رقابة دستورية القوانين من قبل محكمة دستورية تسهر على ضمان علوية الدستور بعيدا عن كل محاولات التوظيف بناء على الولاء لهذا أو لذاك. ويدعي من دأب على الافتراء والادعاء أن مشروع الدستور ينبئ بعودة الاستبداد لأنه لم يكلف نفسه عناء النظر في كل بنوده وأحكامه بل لم ينظر لا في تركيبة المحكمة الدستورية ولا في إمكانية سحب الوكالة ولا في حق المجلس في مساءلة الحكومة ولا في تجديد حق الترشح لرئاسة الدولة إلا مرة واحدة فما ابعد ما يروجونه عن الحقيقة وما أبعد من يفترون عن الواقع. إن التاريخ لن يعود أبدا إلى الوراء فلا خير في التاريخ إن كان سيعيد نفسه، ولن يعيد نفسه بكل تأكيد.." .
ووصف رئيس الجمهورية في هذه الوثيقة التاريخية منتقدي الدستور بالمفترين، والحال أنه كان هناك شبه إجماع لدى زملائه من أساتذة القانون بأن الدستور ملغم وخطير ويضرب مبدأ التفريق بين السلط والتوازن فيما بينها ويكرس النظام الرئاسوي ويمهد للنظام القاعدي الذي سبق لسعيد أن تحدث عنه في بيانه الانتخابي.. وكان البيان الانتخابي لسعيد قد تضمن ما يلي :" إن السبيل للتعبير عن إرادتكم الحقيقية هو إعادة البناء من القاعدة، من المحلي إلى المركز حتى تكون القوانين والتشريعات كلها على اختلاف أصنافها ودرجاتها معبرة عن إرادتكم حاملة لآمالكم صدى لمطالبكم وتطلعاتكم متسقة مع الانفجار الثوري الذي انطلق من القرى والمعتمديات قبل أن يبلغ ذروته في المركز"..
ورغم الصد الكبير الذي أبداه المجتمع المدني من أحزاب سياسية ومنظمات وطنية لمشروع الدستور فقد تمسك الرئيس قيس سعيد بعرض دستوره على الاستفتاء وذلك بعد أن غير هيئة الانتخابات وعدل قانونها وتركيبتها وطريقة تعيين أعضائها وعدل القانون الانتخابي، وبعد صدور الدستور دعا الرئيس سعيد الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب في 17 ديسمبر المقبل ونقح مرة أخرى المرسوم الانتخابي بأحكام عسرت شروط الترشح لهذه الانتخابات وغيرت تقسيم الدوائر الانتخابية وأقرت إجراء سحب الوكالة من النائب.