يوم 8 نوفمبر القادم ستكون الدولة التونسية في مهمة صعبة، أمام مجلس حقوق الإنسان تستعرض تقريرها الشامل حول وضعية حقوق الإنسان، بالنظر إلى الجدل المثار حول سلطة 25 جويلية في علاقة بمدى التزامها بحماية الحقوق والحرية، وسيكون هذا اللقاء بمثابة الاختبار الجدّي، لتوضيح نواياها بشأن وضع الحقوق والحريات ومدى التزامها بالاتفاقيات الدولية في هذا الشأن وبتعهّداتها لسابقة أمام المجتمع الدولي.
وتواجه السلطة اليوم في الداخل استياء المنظمات والجمعيات الحقوقية، المنددة بما تصفه بالانحرافات الكبيرة التي تشهدها المنظومة الحقوقية والحريات منذ دخول البلاد في مرحلة التدابير الاستثنائيةـ ومن بين هذه المواقف التي لم تبد ارتياحا حول كل ما يحصل والتغييرات العميقة التي تشهدها الدولة بمساراتها السياسية والتشريعية والدستورية، نجد رئيس الائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام ورئيس المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، شكري لطيف الذي قدم في هذا الحوار المطوّل لـ"الصباح" وجهة نظره وتقييمه لوضع الحقوق والحريات في بلادنا والذي يشهد منذ مدة الكثير من الهزات والارتدادات.
أجرت الحوار: منية العرفاوي
كيف تقيّم واقع الحقوق والحريات خلال مرحلة التدابير الاستثنائية المتواصلة في الزمن منذ إعلان إجراءات 25 جويلية؟
-الحالة الاستثنائية تعني مباشرة وبديهيا تعليق الحقوق والحريات، وهي وفقا لذلك تتناقض جوهريا بمجرد إعلانها ودخولها حيّز التنفيذ مع مبدأ احترام الحقوق والحريات. ما سجّلناه يوميا أنّ هناك بعد 25 جويلية 2021، استهدافا ممنهجا للمناضلين المدنيين والاجتماعيين وللصحفيين والمحامين. وقد تمّ في إطار هذا الاستهداف منع الحق في التظاهر والاعتداء بالعنف الشديد على المتظاهرين كما تكرّرت وقائع سوء المعاملة والتعذيب أثناء الإيقاف أو الملاحقة أو في مراكز الإيقاف، كما تعدّدت حالات الموت المسترابة الناتجة عن تلك الممارسات. ونحن نتابعُ في الأيام الأخيرة بعضا من نتائج هذه الممارسات من خلال الاحتجاجات العارمة والمواجهات اليومية الدامية في عدد من الأحياء الشعبية بالعاصمة بعد موت الشاب مالك السليمي اثر مطاردة بوليسية مماثلة لعديد الحالات الأخرى.
لقد كان الظنُّ أنّ فترة حكم النهضة وحلفائها وما رافقها من ممارسات قمعية فظيعة سيقع القطع معها بالنظر لما ردّدهُ الخطاب الرسمي السائد منذ اعتلاء قيس سعيد للحكم وخاصة منذ إزاحته لخصومه في السلطة. ولكن واقع الحقوق والحريات لم يتغيّر نوعيا عما شهدناه سابقا قبل 25 جويلية، بل شهدنا تواصلا لنفس الممارسات والأمثلة والحالات في هذا الصدد تُعدُّ بالعشرات. ولعلّ أحد أهمّ العوامل المُؤدّية لهذا التواصل هو غياب المساءلة والمحاسبة وسيادة الإفلات من العقاب ووضع حصانة لإطلاق يد أعوان الأجهزة الأمنية. وتجدر الإشارة إلى انتهاك الحقوق والحريات الذي نُدينهُ لا ينحصر في مجال الحريات السياسية بل نعتبره مرتبطا ارتباطا عضويا مع انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للتونسيين والتونسيات التي تشهد هي أيضا استهدافا ممنهجا.
تحدثت مؤخرا عن أن هناك إرادة سياسية للتراجع عن تعليق عقوبة الإعدام.. فكيف ذلك؟
-في الحقيقة هناك تخوّف مشروع من أن يقع مثل هذا التراجع. فرغم مرور 30 سنة على تعليق تونس تنفيذ عقوبة الإعدام يبقى الوضع في غاية الهشاشة. ويتأتّى ذلك من غياب أية مراجعة للمجلة الجنائية وللتشريع التونسي عموما في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام من نصوصه ويتأتّى أيضا من عدم مصادقة الدولة التونسية لحدّ الآن على البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادقتْ عليه أغلب دول العالم، وعلى البروتوكول الإضافي بالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الذي صادقت عليه غالبية الدول الإفريقية. ومما زاد في وضعية الهشاشة المذكورة وفاقم من شعور التخوّف، أن رئيس الجمهورية الحالي أعلن منذ انتخابه سنة 2019 وفي عديد المناسبات عن موقف مؤيد لعقوبة الإعدام. ولعل المُؤّشر الأخير الدافع للتخوّف هو عدم توقّف القضاة عن إصدار أحكام بالإعدام بل وعن إصدارها أحيانا بوتيرة متصاعدة. وعلى سبيل المثال، ففي الفترة الممتدة بين جانفي 2022 وجويلية 2022 لوحدها، صدر أكثر من 46 حكما بالإعدام.
التشريعات الجديدة من دستور ومراسيم وقوانين التي أصدرها رئيس الجمهورية قيس سعيد.. هل ترى أنها تحترم حقوق الإنسان وتقدم ضمانات قوية في احترام الحريات؟
-لم تُقدّم التشريعات الجديدة أي ضمانات لاحترام إرادة وكرامة التونسيين والتونسيات ففي ما يتعلق بالمرجع الرئيسي لهذه التشريعات وهو الدستور، فهو من ناحية الشكل يعكس بوضوح التوجّه الانفرادي للرئيس قيس سعيد وذلك من خلال اعداده وصياغته وطريقة عرضه.
أما من ناحية المضمون فهو لا يُشكّلُ نقلة نوعية تتجاوز هنات ومطبّات دستور 2014، فهو لم يرتدّ فقط إلى نفي الطابع المدني للدولة وإلى إلغاء الاستناد إلى منظومة حقوق الإنسان كمرجعية تأسيسية بل انه اتّجه علاوة على ذلك إلى تكريس التداخل بين الديني والسياسي بما أوكله للدولة من أدوار ومهام دينية ليست مطلوبة من دولة مدنية تستمدُّ شرعيتها من تعاقد مواطناتها ومواطنيها ولا من شرعيات ما ورائية، كما ألغى هذا الدستور مبدأ أساسيا ناضلت من أجل تحقيقه أجيال متعاقبة من التونسيين والتونسيات وهو السيادة والرقابة الشعبية على السلطة، إذ أنه كرّس مركزة السلط لدى الرئيس الحاكم الفرد المطلق الذي يمسك بقبضة حديدية بكافة السلطات مع عدم إمكانية خضوعه لأي مساءلة سياسية أو جزائية في ظل حصانته المطلقة، كما أنه يُؤبّدُ قيام حالة الطوارئ والتدابير الاستثنائية خارج كل رقابة ويقوم هذا الدستور على نسف مبدأ التوازن بين السلطات وذلك بالحدّ من صلاحيات السلطات التشريعية والقضائية وتحويلها إلى وظائف تُعيّن وتُدار من رأس الدولة.
وضرب هذا الدستور مبدأ استقلال القضاء كركيزة للديمقراطية وضمان للحقوق والحريات وذلك بتشتيت السلطة القضائية إلى ثلاثة مجالس لا رابط بينها ودون ضمان في انتخابها وتمثيليتها للقضاة.
كما ألغى هذا الدستور الهيئات الدستورية المتصلة بالإعلام والقضاء ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان بصفتها مرجعا تعديليا مستقلا ليفسح بذلك المجال لعودة سيطرة السلطة التنفيذية على هذه المجالات الحيوية.
بعد أسابيع قليلة ستستعرض تونس تقريرها الشامل حول حقوق الإنسان أمام مجلس حقوق الإنسان.. برأيك كيف ستتعامل الدولة مع هذا الأمر؟
-من المؤسف أنّ الدولة أصبحت تتعامل باستهانة كبيرة مع مُكوّنات المجتمع المدني محليا، ومع المؤسسات الحقوقية الدولية التي اختارت بنفسها طوعيا منذ عقود الانضمام اليها واحترام آلياتها واتفاقياتها والتزاماتها معها. في البداية تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ الدولة التونسية أخّلت بواجب تشريك المنظمات المدنية الحقوقية دون استثناء في "الاستشارة الوطنية" لإعداد تقريرها. كما يُشار أيضا إلى أنها تعهّدت في الاستعراض الدوري الشامل الأخير لها سنة 2017 بتنفيذ العديد من التوصيات ولكن ذلك لم يقع تجسيمه عمليا وتشريعيا. كما تجدر الإشارة إلى أنّ الدولة التونسية سجّلت غيابا ملحوظا خلال الجلسة التمهيدية للاستعراض الدوري لتونس التي تمّت في شهر أوت الفارط، وهو مؤشر خطير وغياب غريب لم نشهد له مثيلا لدى أيّ دولة سيقع استعراض وضعها وتقريرها الشامل حول حقوق الإنسان. ونحن نرجو أن تُقدّم الدولة أجوبة ضافية خلال جلسة يوم 8 نوفمبر القادم أمام أعضاء مجلس حقوق الإنسان بجينيف، وأن تُرفق التزاماتها بتفعيل التوصيات المُقدّمة لها على وجه الخصوص في التقارير البديلة للمنظمات المدنية التونسية ومنها المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب والائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام وهي التقارير التي صُغْناها وأحلْناها منذ 30 مارس 2022 .
مؤخرا هناك تركيز من وزارة العدل على مسألة السجون من خلال زيارات ميدانية وندوات وتعهدات لأطراف حقوقية دولية.. كيف تقيّم واقع السجون التونسية اليوم؟
-الوضع في السجون التونسية يتطلّبُ معالجة عاجلة وجذرية لا تنتظر التأخير. فالبنية التحتية في الغالب متآكلة والموازنات تراجعت، أمّا الاكتظاظ فهو قنبلة موقوتة وعلى وجه الخصوص مع انتشار وباء كوفيد 19، حيث يفُوقُ عدد المُودعين 23 الف سجين يقبعون في ظروف سيئة لا تراعي المعايير الدولية وفي مقدمتها قواعد مانديلا من ناحية مساحة الزنزانات والتهوئة والتغذية والصحة وإعادة التأهيل، وذلك دون التعرّض لأوضاع وحالات العنف والاعتداءات المُؤدّية أحيانا للموت سواء فيما بين المساجين أو بينهم وبين الأعوان. وقد لا نبالغ حين نقول بأن كل العناصر المذكورة آنفا حوّلت المؤسسات السجنية إلى مؤسسات تفريخ للانحراف والإجرام الجنائي والإرهابي عوض أداء دور الإصلاح وإعادة الإدماج.
ونحن نأمل أن لا تكون الزيارات التي تُؤدّيها مؤخرا وزيرة العدل للسجون، مُجرّد زيارات بروتوكولية للاستهلاك الخارجي لتلميع الصورة بمناسبة الاستعراض القادم الدوري لتونس بل أن تكون تجسيما لإرادة حقيقية لمراجعة جذرية لوضعية السجون التونسية. كما لا بدّ من التأكيد أنّ الوزيرة أغلقت باب وزارة العدل في وجه المنظمات الحقوقية ورفضت الاجتماع بها، كما أنّها تُضيّق عليها في أداء الزيارات الرقابية التفقدية المستقلة للسجون.
ما زالت الإحالة والإيداع من أجل استهلاك مادة القنب الهندي تشغل المجتمع الحقوقي في تونس.. أنت كيف تقرأ هذا الأمر؟
-استهلاك مادة القنب الهندي أصبح مسموحا به وأبطل تجريمه في عدد كبير من البلدان آخرها المغرب التي سمحت قانونيا لا فقط بالاستهلاك بل بالزراعة والتسويق والتصدير وفق ضوابط مُحدّدة، ومن وجهة نظري فانه من غير المقبول أن يقع الرمي بشبان في طور الدراسة الثانوية والجامعية أو في بداية المسار المهني في السجن وتحطيم مستقبلهم لمجرد استهلاك القنب الهندي، وهذا ما حصل لآلاف من الشبان التونسيين وفقا لقانون جائر كان هدفه الأساسي التنكيل. من ناحيتي، اعتقد أنه على الدولة أن تعمل عوضا عن ذلك على تجفيف منابع شبكات التهريب وإيقاف سيل المخدرات الثقيلة الخطيرة التي تُؤدّي إلى ارتكاب جرائم شنيعة لم تعْهدها بلادنا من قبل، وهو الأمر الذي لا نرى لدى الدولة حماسة وتقدما في انجازه. وعموما ومن الناحية المبدئية، فأنا أعتقد أن المقاربات العقابية والردعية لا تمثل حلا جذريا لأيّ مشكل من هذه المشاكل، بل يتطلّبُ الأمر مقاربة شاملة تُعطى الأولوية فيها لأبعاد تربوية وثقافية بديلة.
واقع العدالة اليوم والسياسة العقابية التي تتوخاها الدولة كيف تقيمها اليوم؟
-تقوم السياسة العقابية السائدة للدولة على فلسفة ومرجعية لا بدّ من تجاوزها والقطع معها. فسلب الحرية هو المُتّبع كقاعدة عوض أن يكون الاستثناء وهو الأمر الذي أدّى في تونس إلى وجود 23 الف سجين مُودعين، وأكثر من نصفهم هم في إيقاف تحفظي لم يبلغوا طور المحاكمة. ولا غرابة في الأمر حين نعلم أنّ المجلة الجنائية التونسية بمرجعيتها العقابية القمعية صدرت سنة 1913، وأنّ من أصْدرها هو المحتل الفرنسي الذي كان يهدف من وراء ذلك إلى ترهيب وإخضاع الشعب التونسي. كما أنه ليس من المبالغة في شيء حين نقول أنّ واقع العدالة في تونس لا يتّصف بالإنصاف والعدل بل يتميز بطابع تمييزي طبقي حيث يُشكّلُ الفقراء النسبة الأكبر من المُودعين والمسجونين نظرا لافتقادهم للإمكانات والوسائل المعرفية والمادية والمالية للدفاع عن أنفسهم أمام جبروت وتغوّل أجهزة الدولة. كما لا يجب كذلك إغفال أنّ التشريعات التونسية المتوارثة منذ عهد البايات والاحتلال حافظت إلى حدّ اليوم على ترسانة من القوانين تُجرّمُ الفقر والفقراء..
أعتقد اعتقادا جازما أنّ التوقي من الجريمة باجتثاث أسبابها هو الحلّ الأصوب وليس المعالجة الأمنية والعقابية لها بعد حدوثها. كما اعتقد راسخا بأنّ سلب الحرية يجب أن يبقى الاستثناء المُقيّد، وأن يقع اعتماد العقوبات البديلة كالعمل للمصلحة العامة والسوار الالكتروني وغيرها من الوسائل التأهيلية والإدماجية التي أثبتتْ جدواها في تجارب عدّة دول. ومن المفارقات التي لابدّ من ذكرها أنّ بعض الدول تخلّت عن المؤسسة السجنية في حدّ ذاتها وانتهجت بنجاح طريق الإصلاح والتأهيل في حين ترصد دول أخرى مثل تونس الميزانيات الطائلة لبناء السجون وإيداع مواطنيها فيها وانتهاج طريق السياسة العقابية المحضة. فلتسثمر الدولة في التنمية والحرية عوض الاستثمار في السجون والمحتشدات.
تونس- الصباح
يوم 8 نوفمبر القادم ستكون الدولة التونسية في مهمة صعبة، أمام مجلس حقوق الإنسان تستعرض تقريرها الشامل حول وضعية حقوق الإنسان، بالنظر إلى الجدل المثار حول سلطة 25 جويلية في علاقة بمدى التزامها بحماية الحقوق والحرية، وسيكون هذا اللقاء بمثابة الاختبار الجدّي، لتوضيح نواياها بشأن وضع الحقوق والحريات ومدى التزامها بالاتفاقيات الدولية في هذا الشأن وبتعهّداتها لسابقة أمام المجتمع الدولي.
وتواجه السلطة اليوم في الداخل استياء المنظمات والجمعيات الحقوقية، المنددة بما تصفه بالانحرافات الكبيرة التي تشهدها المنظومة الحقوقية والحريات منذ دخول البلاد في مرحلة التدابير الاستثنائيةـ ومن بين هذه المواقف التي لم تبد ارتياحا حول كل ما يحصل والتغييرات العميقة التي تشهدها الدولة بمساراتها السياسية والتشريعية والدستورية، نجد رئيس الائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام ورئيس المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، شكري لطيف الذي قدم في هذا الحوار المطوّل لـ"الصباح" وجهة نظره وتقييمه لوضع الحقوق والحريات في بلادنا والذي يشهد منذ مدة الكثير من الهزات والارتدادات.
أجرت الحوار: منية العرفاوي
كيف تقيّم واقع الحقوق والحريات خلال مرحلة التدابير الاستثنائية المتواصلة في الزمن منذ إعلان إجراءات 25 جويلية؟
-الحالة الاستثنائية تعني مباشرة وبديهيا تعليق الحقوق والحريات، وهي وفقا لذلك تتناقض جوهريا بمجرد إعلانها ودخولها حيّز التنفيذ مع مبدأ احترام الحقوق والحريات. ما سجّلناه يوميا أنّ هناك بعد 25 جويلية 2021، استهدافا ممنهجا للمناضلين المدنيين والاجتماعيين وللصحفيين والمحامين. وقد تمّ في إطار هذا الاستهداف منع الحق في التظاهر والاعتداء بالعنف الشديد على المتظاهرين كما تكرّرت وقائع سوء المعاملة والتعذيب أثناء الإيقاف أو الملاحقة أو في مراكز الإيقاف، كما تعدّدت حالات الموت المسترابة الناتجة عن تلك الممارسات. ونحن نتابعُ في الأيام الأخيرة بعضا من نتائج هذه الممارسات من خلال الاحتجاجات العارمة والمواجهات اليومية الدامية في عدد من الأحياء الشعبية بالعاصمة بعد موت الشاب مالك السليمي اثر مطاردة بوليسية مماثلة لعديد الحالات الأخرى.
لقد كان الظنُّ أنّ فترة حكم النهضة وحلفائها وما رافقها من ممارسات قمعية فظيعة سيقع القطع معها بالنظر لما ردّدهُ الخطاب الرسمي السائد منذ اعتلاء قيس سعيد للحكم وخاصة منذ إزاحته لخصومه في السلطة. ولكن واقع الحقوق والحريات لم يتغيّر نوعيا عما شهدناه سابقا قبل 25 جويلية، بل شهدنا تواصلا لنفس الممارسات والأمثلة والحالات في هذا الصدد تُعدُّ بالعشرات. ولعلّ أحد أهمّ العوامل المُؤدّية لهذا التواصل هو غياب المساءلة والمحاسبة وسيادة الإفلات من العقاب ووضع حصانة لإطلاق يد أعوان الأجهزة الأمنية. وتجدر الإشارة إلى انتهاك الحقوق والحريات الذي نُدينهُ لا ينحصر في مجال الحريات السياسية بل نعتبره مرتبطا ارتباطا عضويا مع انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للتونسيين والتونسيات التي تشهد هي أيضا استهدافا ممنهجا.
تحدثت مؤخرا عن أن هناك إرادة سياسية للتراجع عن تعليق عقوبة الإعدام.. فكيف ذلك؟
-في الحقيقة هناك تخوّف مشروع من أن يقع مثل هذا التراجع. فرغم مرور 30 سنة على تعليق تونس تنفيذ عقوبة الإعدام يبقى الوضع في غاية الهشاشة. ويتأتّى ذلك من غياب أية مراجعة للمجلة الجنائية وللتشريع التونسي عموما في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام من نصوصه ويتأتّى أيضا من عدم مصادقة الدولة التونسية لحدّ الآن على البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادقتْ عليه أغلب دول العالم، وعلى البروتوكول الإضافي بالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الذي صادقت عليه غالبية الدول الإفريقية. ومما زاد في وضعية الهشاشة المذكورة وفاقم من شعور التخوّف، أن رئيس الجمهورية الحالي أعلن منذ انتخابه سنة 2019 وفي عديد المناسبات عن موقف مؤيد لعقوبة الإعدام. ولعل المُؤّشر الأخير الدافع للتخوّف هو عدم توقّف القضاة عن إصدار أحكام بالإعدام بل وعن إصدارها أحيانا بوتيرة متصاعدة. وعلى سبيل المثال، ففي الفترة الممتدة بين جانفي 2022 وجويلية 2022 لوحدها، صدر أكثر من 46 حكما بالإعدام.
التشريعات الجديدة من دستور ومراسيم وقوانين التي أصدرها رئيس الجمهورية قيس سعيد.. هل ترى أنها تحترم حقوق الإنسان وتقدم ضمانات قوية في احترام الحريات؟
-لم تُقدّم التشريعات الجديدة أي ضمانات لاحترام إرادة وكرامة التونسيين والتونسيات ففي ما يتعلق بالمرجع الرئيسي لهذه التشريعات وهو الدستور، فهو من ناحية الشكل يعكس بوضوح التوجّه الانفرادي للرئيس قيس سعيد وذلك من خلال اعداده وصياغته وطريقة عرضه.
أما من ناحية المضمون فهو لا يُشكّلُ نقلة نوعية تتجاوز هنات ومطبّات دستور 2014، فهو لم يرتدّ فقط إلى نفي الطابع المدني للدولة وإلى إلغاء الاستناد إلى منظومة حقوق الإنسان كمرجعية تأسيسية بل انه اتّجه علاوة على ذلك إلى تكريس التداخل بين الديني والسياسي بما أوكله للدولة من أدوار ومهام دينية ليست مطلوبة من دولة مدنية تستمدُّ شرعيتها من تعاقد مواطناتها ومواطنيها ولا من شرعيات ما ورائية، كما ألغى هذا الدستور مبدأ أساسيا ناضلت من أجل تحقيقه أجيال متعاقبة من التونسيين والتونسيات وهو السيادة والرقابة الشعبية على السلطة، إذ أنه كرّس مركزة السلط لدى الرئيس الحاكم الفرد المطلق الذي يمسك بقبضة حديدية بكافة السلطات مع عدم إمكانية خضوعه لأي مساءلة سياسية أو جزائية في ظل حصانته المطلقة، كما أنه يُؤبّدُ قيام حالة الطوارئ والتدابير الاستثنائية خارج كل رقابة ويقوم هذا الدستور على نسف مبدأ التوازن بين السلطات وذلك بالحدّ من صلاحيات السلطات التشريعية والقضائية وتحويلها إلى وظائف تُعيّن وتُدار من رأس الدولة.
وضرب هذا الدستور مبدأ استقلال القضاء كركيزة للديمقراطية وضمان للحقوق والحريات وذلك بتشتيت السلطة القضائية إلى ثلاثة مجالس لا رابط بينها ودون ضمان في انتخابها وتمثيليتها للقضاة.
كما ألغى هذا الدستور الهيئات الدستورية المتصلة بالإعلام والقضاء ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان بصفتها مرجعا تعديليا مستقلا ليفسح بذلك المجال لعودة سيطرة السلطة التنفيذية على هذه المجالات الحيوية.
بعد أسابيع قليلة ستستعرض تونس تقريرها الشامل حول حقوق الإنسان أمام مجلس حقوق الإنسان.. برأيك كيف ستتعامل الدولة مع هذا الأمر؟
-من المؤسف أنّ الدولة أصبحت تتعامل باستهانة كبيرة مع مُكوّنات المجتمع المدني محليا، ومع المؤسسات الحقوقية الدولية التي اختارت بنفسها طوعيا منذ عقود الانضمام اليها واحترام آلياتها واتفاقياتها والتزاماتها معها. في البداية تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ الدولة التونسية أخّلت بواجب تشريك المنظمات المدنية الحقوقية دون استثناء في "الاستشارة الوطنية" لإعداد تقريرها. كما يُشار أيضا إلى أنها تعهّدت في الاستعراض الدوري الشامل الأخير لها سنة 2017 بتنفيذ العديد من التوصيات ولكن ذلك لم يقع تجسيمه عمليا وتشريعيا. كما تجدر الإشارة إلى أنّ الدولة التونسية سجّلت غيابا ملحوظا خلال الجلسة التمهيدية للاستعراض الدوري لتونس التي تمّت في شهر أوت الفارط، وهو مؤشر خطير وغياب غريب لم نشهد له مثيلا لدى أيّ دولة سيقع استعراض وضعها وتقريرها الشامل حول حقوق الإنسان. ونحن نرجو أن تُقدّم الدولة أجوبة ضافية خلال جلسة يوم 8 نوفمبر القادم أمام أعضاء مجلس حقوق الإنسان بجينيف، وأن تُرفق التزاماتها بتفعيل التوصيات المُقدّمة لها على وجه الخصوص في التقارير البديلة للمنظمات المدنية التونسية ومنها المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب والائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام وهي التقارير التي صُغْناها وأحلْناها منذ 30 مارس 2022 .
مؤخرا هناك تركيز من وزارة العدل على مسألة السجون من خلال زيارات ميدانية وندوات وتعهدات لأطراف حقوقية دولية.. كيف تقيّم واقع السجون التونسية اليوم؟
-الوضع في السجون التونسية يتطلّبُ معالجة عاجلة وجذرية لا تنتظر التأخير. فالبنية التحتية في الغالب متآكلة والموازنات تراجعت، أمّا الاكتظاظ فهو قنبلة موقوتة وعلى وجه الخصوص مع انتشار وباء كوفيد 19، حيث يفُوقُ عدد المُودعين 23 الف سجين يقبعون في ظروف سيئة لا تراعي المعايير الدولية وفي مقدمتها قواعد مانديلا من ناحية مساحة الزنزانات والتهوئة والتغذية والصحة وإعادة التأهيل، وذلك دون التعرّض لأوضاع وحالات العنف والاعتداءات المُؤدّية أحيانا للموت سواء فيما بين المساجين أو بينهم وبين الأعوان. وقد لا نبالغ حين نقول بأن كل العناصر المذكورة آنفا حوّلت المؤسسات السجنية إلى مؤسسات تفريخ للانحراف والإجرام الجنائي والإرهابي عوض أداء دور الإصلاح وإعادة الإدماج.
ونحن نأمل أن لا تكون الزيارات التي تُؤدّيها مؤخرا وزيرة العدل للسجون، مُجرّد زيارات بروتوكولية للاستهلاك الخارجي لتلميع الصورة بمناسبة الاستعراض القادم الدوري لتونس بل أن تكون تجسيما لإرادة حقيقية لمراجعة جذرية لوضعية السجون التونسية. كما لا بدّ من التأكيد أنّ الوزيرة أغلقت باب وزارة العدل في وجه المنظمات الحقوقية ورفضت الاجتماع بها، كما أنّها تُضيّق عليها في أداء الزيارات الرقابية التفقدية المستقلة للسجون.
ما زالت الإحالة والإيداع من أجل استهلاك مادة القنب الهندي تشغل المجتمع الحقوقي في تونس.. أنت كيف تقرأ هذا الأمر؟
-استهلاك مادة القنب الهندي أصبح مسموحا به وأبطل تجريمه في عدد كبير من البلدان آخرها المغرب التي سمحت قانونيا لا فقط بالاستهلاك بل بالزراعة والتسويق والتصدير وفق ضوابط مُحدّدة، ومن وجهة نظري فانه من غير المقبول أن يقع الرمي بشبان في طور الدراسة الثانوية والجامعية أو في بداية المسار المهني في السجن وتحطيم مستقبلهم لمجرد استهلاك القنب الهندي، وهذا ما حصل لآلاف من الشبان التونسيين وفقا لقانون جائر كان هدفه الأساسي التنكيل. من ناحيتي، اعتقد أنه على الدولة أن تعمل عوضا عن ذلك على تجفيف منابع شبكات التهريب وإيقاف سيل المخدرات الثقيلة الخطيرة التي تُؤدّي إلى ارتكاب جرائم شنيعة لم تعْهدها بلادنا من قبل، وهو الأمر الذي لا نرى لدى الدولة حماسة وتقدما في انجازه. وعموما ومن الناحية المبدئية، فأنا أعتقد أن المقاربات العقابية والردعية لا تمثل حلا جذريا لأيّ مشكل من هذه المشاكل، بل يتطلّبُ الأمر مقاربة شاملة تُعطى الأولوية فيها لأبعاد تربوية وثقافية بديلة.
واقع العدالة اليوم والسياسة العقابية التي تتوخاها الدولة كيف تقيمها اليوم؟
-تقوم السياسة العقابية السائدة للدولة على فلسفة ومرجعية لا بدّ من تجاوزها والقطع معها. فسلب الحرية هو المُتّبع كقاعدة عوض أن يكون الاستثناء وهو الأمر الذي أدّى في تونس إلى وجود 23 الف سجين مُودعين، وأكثر من نصفهم هم في إيقاف تحفظي لم يبلغوا طور المحاكمة. ولا غرابة في الأمر حين نعلم أنّ المجلة الجنائية التونسية بمرجعيتها العقابية القمعية صدرت سنة 1913، وأنّ من أصْدرها هو المحتل الفرنسي الذي كان يهدف من وراء ذلك إلى ترهيب وإخضاع الشعب التونسي. كما أنه ليس من المبالغة في شيء حين نقول أنّ واقع العدالة في تونس لا يتّصف بالإنصاف والعدل بل يتميز بطابع تمييزي طبقي حيث يُشكّلُ الفقراء النسبة الأكبر من المُودعين والمسجونين نظرا لافتقادهم للإمكانات والوسائل المعرفية والمادية والمالية للدفاع عن أنفسهم أمام جبروت وتغوّل أجهزة الدولة. كما لا يجب كذلك إغفال أنّ التشريعات التونسية المتوارثة منذ عهد البايات والاحتلال حافظت إلى حدّ اليوم على ترسانة من القوانين تُجرّمُ الفقر والفقراء..
أعتقد اعتقادا جازما أنّ التوقي من الجريمة باجتثاث أسبابها هو الحلّ الأصوب وليس المعالجة الأمنية والعقابية لها بعد حدوثها. كما اعتقد راسخا بأنّ سلب الحرية يجب أن يبقى الاستثناء المُقيّد، وأن يقع اعتماد العقوبات البديلة كالعمل للمصلحة العامة والسوار الالكتروني وغيرها من الوسائل التأهيلية والإدماجية التي أثبتتْ جدواها في تجارب عدّة دول. ومن المفارقات التي لابدّ من ذكرها أنّ بعض الدول تخلّت عن المؤسسة السجنية في حدّ ذاتها وانتهجت بنجاح طريق الإصلاح والتأهيل في حين ترصد دول أخرى مثل تونس الميزانيات الطائلة لبناء السجون وإيداع مواطنيها فيها وانتهاج طريق السياسة العقابية المحضة. فلتسثمر الدولة في التنمية والحرية عوض الاستثمار في السجون والمحتشدات.