عَكساً لما قررتُه منذ قرابة الشهرين بالإقلاع عن الكتابة في الشأن العام لِما أصابني منها من كَمَدٍ وإحباط، سببُهما الرئيسي منظوماتُ الحكم المتعاقبة على هذا البلد في السنوات الإحدى عشرة الماضية بالأساس، وفي طليعتها رئيسُ الدولة الحالي، هداه الله وحفظه من كل سوء، بما زرعه من آمال في نفوس غالبية أفراد الشعب التونسي ذات يوم مشهود من صائفة عام 2021، ثم تركهم يلهثون وراءه وما رأوا من وعده وتوعده إلا سرابا لا يزيل عطشا ولا يسمن من جوع ولا يُطمئن القلوب الوجلة خوفا ولا يعاقب من أجرموا في حقهم وحق الوطن. بل ازداد حالهم بؤسا وازدات صفوفهم تفرقا. فلهم الله.. قلت، عَكسا لذاك القرار، وجدتُني أفتح حاسوبي دون أدنى تردد وأشرع في الكتابة !.
الحافزُ على تراجعي عن قراري مؤقتا وبصورة استثنائية، فأكتب هذه الورقة وبالذات بالعنوان المرفوع أعلاها، هو تلك المناسبة المهيبة الجميلة التي انتظمت صباح الأحد الماضي بقاعة الأفراح البلدية بمركز مدينة صفاقس وضمت صفوة مثقفي ومثقفات الجهة يتصدرهم عدد مهم من أكفأ ماعرفت صفاقس من رجالات ونساءات التربية والتعليم، تدريسا وتفقدا وإسهاما في وضع وإصلاح البرامج لهما. أما محور هذا اللقاء فكان كتاب الأستاذ إبراهيم بن صالح متفقد عام التعليم الثانوي لسنوات طويلة حتى بلغ سن التقاعد، وأحد المساهمين بفعالية في إصلاح برامج التعليم وبالذات لقانوني 1991 و2002. وهو إلى ذلك المناضل النقابي قطاعيا لسنوات والحقوقي عامةً على المستويين الجهوي والوطني.
لقد حمل الكتاب الذي صدر منذ أسابيع، عنوانا يفتح آفاقا واسعة للتأمل والبحث والحوار، هو "المدرسة التونسية.. من الأزمة إلى إعادة التأسيس". فكانت المناسبة منبراً تربويا ثريا رعته وأشرفت على تنظيمه باقتدار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان- فرع صفاقس الجنوبية بالإشتراك مع مكتبة علاء الدين الناشرة للكتاب.
وقد تولى تقديم الكتاب بدقة وتوسع الرجل الخبير، الأستاذ رضا بسباس متفقد عام التعليم الثانوي حتى سن التقاعد ومتحمل سابقا لعدد من المسؤوليات في الحقلين التربوي والثقافي. وكان ألقى قبله الأستاذ نعمان مزيد رئس فرع صفاقس الجنوبية للرابطة كلمة ترحيبية بالحضور، مشيدا فيها بقيمة الكتاب الجامع بين البعدين التربويين، التعليمي/التعلمي والإجتماعي/المواطني، وبالكاتب، الأستاذ إبراهيم بن صالح، الذي تحمل مسؤولية رئاسة الفرع قبله وساهم في إرساء تقاليد حميدة في نشر ثقافة حقوق الإنسان بالجمع بين الجانبين الثقافي والتكويني اللذين أصبحا أساسيْ نشاط الفرع بعد ذلك، زيادة على ما تضمنته برامجه لاحقا من ورشات ومنابر حوار، سواء حول إصدارات قيمة، مثل ماسبق، أو حول محاور اجتماعية وحقوقية متنوعة.
كتاب "المدرسة التونسية من الأزمة إلى إعادة التأسيس" يُعد نموذجا لكل باحث جاد يحترم العمل المُقدِمَ على إنجازه. ففضلا على الزاد المعرفي وعمق الخبرة في موضوع البحث، لابد له من تنويع مصادر ومراجع بحثه، إن تقابلا وتعارضا أو تطابقا وتكاملا، محليا ووطنيا ودوليا. وبمسحٍ تاريخي لجميع المراحل التي يشملها البحث من أجل الإلمام بمختلف العناصر المتداخلة بشكل أو بآخر في إضاءة الجوانب المتعلقة بالمبحث، من قريب او من بعيد. وهذا ما أنجزه الأستاذ إبراهيم بن صالح مع كتابه هذا بحرفية عالية وتمكنٍ معرفي متعدد الأبعاد ودقة الباحث العقلاني المتأني، فحاز تقدير وإشادة زملائه في التفقد في التدريس وكذلك منهم الذين واللاتي تتلمذوا على يديه فأحبوا اللغة العربية ومهنة التدريس من بيداغوجيته النافذة بسلاسة إلى العقول لتحرك السواكن داخلها وتحبب لديها السؤال الذي يكون مدخلا لاستقلال الفكر ومولدا لرغبة البحث والتعلم.
غير إن الكتاب الذي احتفى به جمهور المدرسين والمثقفين في تلك المناسبة العلمية الثقافية بامتياز، لا يقف عند هذا الحد على أهميته، بل هو، مثلما هو واضح في ورقاته التسع وملاحقه السبعة، بل ومن المدخل الذي صدّر به المؤلف بحثه منذ الوهلة الأولى حيث قال".. سأقف في متن الكتاب على بعض مظاهر أزمة المدرسة التونسية ممّا رأيته أكثر خطورة من غيره وأبلغ تأثيرا في سيرها اليومي تقودني في نظرتي إلى الأزمة تقديم القراءة السياسية التربوية على القراءة البيداغوجية التقنوية لأني اعتبر أزمة المدرسة التونسية لا تعود إلى أسباب بيداغوجية أو تعليمية بصفة رئيسية، وإن كنت أقرّ بها سبباً من أسباب الأزمة، وإنما السبب الرئيسي فيها يرجع إلى الإختيارات السياسية التربوية أولا وآخرا. لذلك فإن من يتحدث عن "الإصلاح التربوي" اليوم ينبغي في نظري أن يجيب عن السؤال التالي : ما المقصود بالإصلاح التربوي؟.
ثم يمضي الكاتب بعد طرح أو توليد عدد من الأسئلة المتفرعة عن هذا السؤال المركزي، إلى الإستخلاص التالي في شكل مسلمتين كما أطلقه عليهما فيقول :
• أولا: إن الحديث في "الإصلاح التربوي" يُعَدّ نوعا من التدبير السياسي الصرف، لذلك يُعتبر الحوار بين الفاعلين التربويين والمتنفذين السياسيين أمرا متأكداً.
• وثانيا : إن لكل عمل سياسي تحديات ورهانات مجتمعية فيها ماهو ثابت وفيها ماهو متغيّر، لذلك تُعتبر المراجعات في السياسة التربوية أمرا واقعيا وطبيعيا.
الأكيد أن هذا التقديم الموجز أو التأطير الأولي للمناسبة وللكتاب وللكاتب وللمشرفين على الحدث لا يفي أيا منهم حقه. ولكني أردتها دعوة ملحة لكل من يهمهم أمر التربية والتعليم في بلادنا، من مدرسين وأولياء وأصحاب المواقع النافذة في الدولة والمنظمات الوطنية والأحزاب السياسية، إلى الإطلاع بتمعن على ما طرحه الكاتب من أفكار واقتراحاتِ حلولٍ مبنية على درس معمق لوضع المدرسة التونسية الحالي المزري وما هو ناتج عنه من أوضاع كارثية ظاهرة للعيان لكل ذي بصيرة قبل البصر، على مستوى التلاميذ المزاولين منهم والمكتظة بهم أقسام ومدارس رثة لا تساعد في الغالب على الحد الأدنى من التعلم السليم، كل هذا زيادة على جحافل المنقطعين سنويا ومدى تأثيرهم على المجتمع تبعا لكل ذلك.
وأختم بعد هذا بالإكتفاء بعرض عناوين ورقات الكتاب التسع علها تعطي القراء فكرة أولية عن قيمة الكتاب وجدية البحث فيه. وقد أتبعها الأستاذ إبراهيم بسبعة ملاحق وقائمة بأكثر من أربعين مصدرا ومرجعا بين تونسي وعربي وأجنبي، اعتمدها في إثراء بحثه.
1- الورقة الأولى : المدرسة التونسية بين "الوعي والوعي الزائف"
2- الورقة الثانية : المدرسة التونسية : الهوية البيداغوجية الغائمة
3- الورقة الثالثة : في الإنصاف المدرسي : نحو صياغةٍ جديدة لمفهوم العدالة التربوية.
4- الورقة الرابعة : المدرسة العمومية والمدرسة الخاصة : هل هما مدرستان لجمهوريةٍ واحدة؟
5- الورقة الخامسة : طفل جديد في مدرسة قديمة : ما العمل؟
6- الورقة السادسة : مهنة التدريس : من الاختيار إلى الإضطرار.
7- الورقة السابغة : السلطة التربوية إلى أين؟
8- الورقة الثامنة : العائلة والمدرسة : دقت ساعة الحوار.
9- الورقة التاسعة : التفقد البيداغوجي بالتعليم الثانوي بين السلطة والوظيفة.
الخاتمة – أية مدرسة؟ لأي مجتمع؟
بقلم:مختار اللواتي
عَكساً لما قررتُه منذ قرابة الشهرين بالإقلاع عن الكتابة في الشأن العام لِما أصابني منها من كَمَدٍ وإحباط، سببُهما الرئيسي منظوماتُ الحكم المتعاقبة على هذا البلد في السنوات الإحدى عشرة الماضية بالأساس، وفي طليعتها رئيسُ الدولة الحالي، هداه الله وحفظه من كل سوء، بما زرعه من آمال في نفوس غالبية أفراد الشعب التونسي ذات يوم مشهود من صائفة عام 2021، ثم تركهم يلهثون وراءه وما رأوا من وعده وتوعده إلا سرابا لا يزيل عطشا ولا يسمن من جوع ولا يُطمئن القلوب الوجلة خوفا ولا يعاقب من أجرموا في حقهم وحق الوطن. بل ازداد حالهم بؤسا وازدات صفوفهم تفرقا. فلهم الله.. قلت، عَكسا لذاك القرار، وجدتُني أفتح حاسوبي دون أدنى تردد وأشرع في الكتابة !.
الحافزُ على تراجعي عن قراري مؤقتا وبصورة استثنائية، فأكتب هذه الورقة وبالذات بالعنوان المرفوع أعلاها، هو تلك المناسبة المهيبة الجميلة التي انتظمت صباح الأحد الماضي بقاعة الأفراح البلدية بمركز مدينة صفاقس وضمت صفوة مثقفي ومثقفات الجهة يتصدرهم عدد مهم من أكفأ ماعرفت صفاقس من رجالات ونساءات التربية والتعليم، تدريسا وتفقدا وإسهاما في وضع وإصلاح البرامج لهما. أما محور هذا اللقاء فكان كتاب الأستاذ إبراهيم بن صالح متفقد عام التعليم الثانوي لسنوات طويلة حتى بلغ سن التقاعد، وأحد المساهمين بفعالية في إصلاح برامج التعليم وبالذات لقانوني 1991 و2002. وهو إلى ذلك المناضل النقابي قطاعيا لسنوات والحقوقي عامةً على المستويين الجهوي والوطني.
لقد حمل الكتاب الذي صدر منذ أسابيع، عنوانا يفتح آفاقا واسعة للتأمل والبحث والحوار، هو "المدرسة التونسية.. من الأزمة إلى إعادة التأسيس". فكانت المناسبة منبراً تربويا ثريا رعته وأشرفت على تنظيمه باقتدار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان- فرع صفاقس الجنوبية بالإشتراك مع مكتبة علاء الدين الناشرة للكتاب.
وقد تولى تقديم الكتاب بدقة وتوسع الرجل الخبير، الأستاذ رضا بسباس متفقد عام التعليم الثانوي حتى سن التقاعد ومتحمل سابقا لعدد من المسؤوليات في الحقلين التربوي والثقافي. وكان ألقى قبله الأستاذ نعمان مزيد رئس فرع صفاقس الجنوبية للرابطة كلمة ترحيبية بالحضور، مشيدا فيها بقيمة الكتاب الجامع بين البعدين التربويين، التعليمي/التعلمي والإجتماعي/المواطني، وبالكاتب، الأستاذ إبراهيم بن صالح، الذي تحمل مسؤولية رئاسة الفرع قبله وساهم في إرساء تقاليد حميدة في نشر ثقافة حقوق الإنسان بالجمع بين الجانبين الثقافي والتكويني اللذين أصبحا أساسيْ نشاط الفرع بعد ذلك، زيادة على ما تضمنته برامجه لاحقا من ورشات ومنابر حوار، سواء حول إصدارات قيمة، مثل ماسبق، أو حول محاور اجتماعية وحقوقية متنوعة.
كتاب "المدرسة التونسية من الأزمة إلى إعادة التأسيس" يُعد نموذجا لكل باحث جاد يحترم العمل المُقدِمَ على إنجازه. ففضلا على الزاد المعرفي وعمق الخبرة في موضوع البحث، لابد له من تنويع مصادر ومراجع بحثه، إن تقابلا وتعارضا أو تطابقا وتكاملا، محليا ووطنيا ودوليا. وبمسحٍ تاريخي لجميع المراحل التي يشملها البحث من أجل الإلمام بمختلف العناصر المتداخلة بشكل أو بآخر في إضاءة الجوانب المتعلقة بالمبحث، من قريب او من بعيد. وهذا ما أنجزه الأستاذ إبراهيم بن صالح مع كتابه هذا بحرفية عالية وتمكنٍ معرفي متعدد الأبعاد ودقة الباحث العقلاني المتأني، فحاز تقدير وإشادة زملائه في التفقد في التدريس وكذلك منهم الذين واللاتي تتلمذوا على يديه فأحبوا اللغة العربية ومهنة التدريس من بيداغوجيته النافذة بسلاسة إلى العقول لتحرك السواكن داخلها وتحبب لديها السؤال الذي يكون مدخلا لاستقلال الفكر ومولدا لرغبة البحث والتعلم.
غير إن الكتاب الذي احتفى به جمهور المدرسين والمثقفين في تلك المناسبة العلمية الثقافية بامتياز، لا يقف عند هذا الحد على أهميته، بل هو، مثلما هو واضح في ورقاته التسع وملاحقه السبعة، بل ومن المدخل الذي صدّر به المؤلف بحثه منذ الوهلة الأولى حيث قال".. سأقف في متن الكتاب على بعض مظاهر أزمة المدرسة التونسية ممّا رأيته أكثر خطورة من غيره وأبلغ تأثيرا في سيرها اليومي تقودني في نظرتي إلى الأزمة تقديم القراءة السياسية التربوية على القراءة البيداغوجية التقنوية لأني اعتبر أزمة المدرسة التونسية لا تعود إلى أسباب بيداغوجية أو تعليمية بصفة رئيسية، وإن كنت أقرّ بها سبباً من أسباب الأزمة، وإنما السبب الرئيسي فيها يرجع إلى الإختيارات السياسية التربوية أولا وآخرا. لذلك فإن من يتحدث عن "الإصلاح التربوي" اليوم ينبغي في نظري أن يجيب عن السؤال التالي : ما المقصود بالإصلاح التربوي؟.
ثم يمضي الكاتب بعد طرح أو توليد عدد من الأسئلة المتفرعة عن هذا السؤال المركزي، إلى الإستخلاص التالي في شكل مسلمتين كما أطلقه عليهما فيقول :
• أولا: إن الحديث في "الإصلاح التربوي" يُعَدّ نوعا من التدبير السياسي الصرف، لذلك يُعتبر الحوار بين الفاعلين التربويين والمتنفذين السياسيين أمرا متأكداً.
• وثانيا : إن لكل عمل سياسي تحديات ورهانات مجتمعية فيها ماهو ثابت وفيها ماهو متغيّر، لذلك تُعتبر المراجعات في السياسة التربوية أمرا واقعيا وطبيعيا.
الأكيد أن هذا التقديم الموجز أو التأطير الأولي للمناسبة وللكتاب وللكاتب وللمشرفين على الحدث لا يفي أيا منهم حقه. ولكني أردتها دعوة ملحة لكل من يهمهم أمر التربية والتعليم في بلادنا، من مدرسين وأولياء وأصحاب المواقع النافذة في الدولة والمنظمات الوطنية والأحزاب السياسية، إلى الإطلاع بتمعن على ما طرحه الكاتب من أفكار واقتراحاتِ حلولٍ مبنية على درس معمق لوضع المدرسة التونسية الحالي المزري وما هو ناتج عنه من أوضاع كارثية ظاهرة للعيان لكل ذي بصيرة قبل البصر، على مستوى التلاميذ المزاولين منهم والمكتظة بهم أقسام ومدارس رثة لا تساعد في الغالب على الحد الأدنى من التعلم السليم، كل هذا زيادة على جحافل المنقطعين سنويا ومدى تأثيرهم على المجتمع تبعا لكل ذلك.
وأختم بعد هذا بالإكتفاء بعرض عناوين ورقات الكتاب التسع علها تعطي القراء فكرة أولية عن قيمة الكتاب وجدية البحث فيه. وقد أتبعها الأستاذ إبراهيم بسبعة ملاحق وقائمة بأكثر من أربعين مصدرا ومرجعا بين تونسي وعربي وأجنبي، اعتمدها في إثراء بحثه.
1- الورقة الأولى : المدرسة التونسية بين "الوعي والوعي الزائف"
2- الورقة الثانية : المدرسة التونسية : الهوية البيداغوجية الغائمة
3- الورقة الثالثة : في الإنصاف المدرسي : نحو صياغةٍ جديدة لمفهوم العدالة التربوية.
4- الورقة الرابعة : المدرسة العمومية والمدرسة الخاصة : هل هما مدرستان لجمهوريةٍ واحدة؟
5- الورقة الخامسة : طفل جديد في مدرسة قديمة : ما العمل؟
6- الورقة السادسة : مهنة التدريس : من الاختيار إلى الإضطرار.
7- الورقة السابغة : السلطة التربوية إلى أين؟
8- الورقة الثامنة : العائلة والمدرسة : دقت ساعة الحوار.
9- الورقة التاسعة : التفقد البيداغوجي بالتعليم الثانوي بين السلطة والوظيفة.