تحت شعار "الرقابة الدستورية في تنمية الشعوب الإفريقية «عُقد منذ ثلاثة أسابيع في القاهرة الاجتماع السادس لرؤساء المحاكم العليا والمجالس الدستورية الافريقية بمشاركة 40 دولة افريقية يمثلهم 51 رئيس محكمة دستورية ومجلس دستوري ومحكمة عليا.. وكانت تونس أبرز المتغيبين ومقعدها شاغر في هذا الاجتماع الإفريقي الأهم على المستوى القاري، لأننا إلى اليوم ليس لدينا محكمة دستورية ولا هيئة وقتية لمراقبة دستورية القوانين والتي تم حلها.. وغياب المحكمة الدستورية قادنا في الماضي الى سيناريوهات وخيارات قاسية واليوم ما زال عدم تركيزها الى الآن يطرح تساؤلات ومخاوف.
حيث وبالنظر الى المسارات السياسية والدستورية التي شهدتها البلاد بدا غياب المحكمة الدستورية مؤثرا وفارقا..، فهذه المحكمة التي كان يفترض تركيزها منذ سنة 2015 أي بعد سنة من المصادقة على دستور 2014 تم اخضاعها خلال تلك المدة البرلمانية التي سبقت انتخابات 2019 الى حسابات الأحزاب والقوى السياسية ولذلك تعطل تركيزها لمدة سبع سنوات، وحتى بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة لم تطرح مسألة تركيز محكمة دستورية بشكل جدّي وبقيت حبيسة أهواء الأحزاب الى لحظة 25 جويلية عندما قام رئيس الجمهورية قيس سعيد بتفعيل الفصل 80 من الدستور وقتها تذكّر الجميع أهمية وجود محكمة دستورية وندمت الأحزاب عن تلكؤها لسنوات في تركيزها..
ولكن في المقابل فان قيس سعيد كان متمسكا بضرورة وجود محكمة دستورية وفي دستوره الجديد تم التنصيص عليها ولكن بشروط منسجمة مع توجهات رئيس الجمهورية..، والسؤال اليوم متى سيتم تركيز هذه المحكمة رسميا باعتبار أن تركيبتها موضوعيا هي موجودة.
المحكمة الدستورية في دستور سعيد
كان السؤال الأبرز بعد التنصيص على المحكمة الدستورية في الدستور الجديد، هل فعلا ستكون تلك المحكمة بتركيبة هيئتها وخصوصية ذلك مقارنة مع التجارب المقارنة قادرة على فرض علوية الدستور وحماية الحقوق والحريات والتصدّي لأي انحراف بالسلطة وهي التي تأتي في مرتبة أدنى من رئيس الجمهورية في العلوية والقوة؟
وكان الرئيس قيس سعيد قد دعا رئيسة الحكومة نجلاء بودن بعد المصادقة على الدستور الى ضرورة اعداد مشروع نصّ للمحكمة الدستورية وذلك تطبيقا لأحكام الدستور، ولكن إلى اليوم لم يكتمل مشروع هذا النص والذي لا نعلم بعد إن كان سيكون قانونا او مرسوما حيث لم توضح الرئاسة طبيعة هذا النص رغم انه مبدئيا لا يمكن إصدار القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية بمجرد مرسوم، لأن الدستور يتحدث عن ضرورة إصدار قانون أساسي ينظمها وجميع الهيئات، والقانون يقتضي أن يصادق عليه البرلمان الذي لم ينتخب بعد ولكن رئيس الجمهورية لا شيء يمنعه من مواصلة العمل بالأمر117 حتى بعد صياغة الدستور الجديد وإصدار القوانين بواسطة المراسيم.
ووفق ما جاء به الدستور الجديد فان عددا هاما من المختصين في القانون الدستوري يرون أن هذه المحكمة ستكون محكمة دستورية محدودة الصلاحيات والتركيبة حيث تم حصرها في تركيبة قضائية بحتة عكس ما هو موجود في التجارب المقارنة حيث لا تقتصر تركيبة المحكمة على القضاة بل على رجال قانون من اختصاصات مختلفة ومحامين أيضا.. وقد أهمل قيس سعيد تشريك المحامين في هذه المحكمة رغم مواقف قطاع المحاماة المؤيد لأغلب القرارات التي اتخذها الرئيس ولمسار 25 جويلية، واقتصار المحكمة في تركيبتها على قضاة متقاعدين شبهه البعض بأن هذه المحكمة يمكن أن تتحول إلى ناد للقضاة المتقاعدين، كما يرى بعض المختصين في القانون الدستوري أن هذه المحكمة وبتلك التركيبة ستكون محكمة محافظة ولن تنتصر للحقوق والحريات بل ستكون قريبة ومتقاطعة في مواقفها مع السلطة خاصة بعد أن حول الدستور الجديد القضاء الى مجرد وظيفة يتحكم في تعيينهم وعزلهم رئيس الجمهورية.
وبالنسبة لصلاحيات هذه المحكمة فان البعض يراها صلاحيات محدودة لأنه تم حصرها في الرقابة على دستورية القوانين، على عكس المحاكم الدستورية في القوانين المقارنة التي تعد مراقبة دستورية القوانين فيها جزء من العدالة الدستورية التي تتجاوز مراقبة دستورية القوانين على الرقابة على السلطات الثلاث وفرض احترامها للدستور، فمثلا نص دستور 2014 على أن مهام المحكمة الدستورية فض نزاعات الاختصاص بين رئيسي الحكومة والجمهورية وإمكانية عزل رئيس الجمهورية في الفصل 88 عند ارتكابه الخرق الجسيم ولكن وفق الدستور الجديد فانه إمكانية عزل الرئيس غير واردة تحت أي سبب من الأسباب.
ومؤخرا عاد الجدل بشأن هذه المحكمة الدستورية بعد صدور حكم المحكمة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب والذي نص على أن الرئيس التونسي قيس سعيد يحقّ له دستوريا اتخاذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية والتي قد يكون من بينها إصدار أوامر رئاسية لمجابهة حالة الخطر الداهم المهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها ولكن هذه السلطة المخوّلة لرئيس الجمهورية مقيّدة بالشروط الموضوعية والإجراءات المنصوص عليها في الفصل 80 من دستور 2014 والذي ينصّ على ضرورة استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية قبل الإقدام على اتخاذ مثل تلك التدابير الاستثنائية. وبالتالي فان الإجراءات التي كانت متخذة في 25 جويلية كانت منقوصة في غياب المحكمة الدستورية والتي لو كانت موجودة وقتها لجنبت البلاد أزمتها السياسية الحالية.
وفي علاقة بالمحكمة الدستورية فان غيابها الى الآن أحدث فراغا دستوريا حيث نص الدستور الجديد وفصله 109 من باب الوظيفة التنفيذية انه عند شغور منصب رئاسة الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام أو لأي سبب من الأسباب يتولى فورا رئيس المحكمة الدستورية مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما. ويؤدي القائم بمهام رئيس الجمهورية اليمين الدستورية أمام مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم مجتمعين، وإن تعذّر ذلك، فأمام المحكمة الدستورية..، وكل ذلك يفرض التسريع بتركيز هذه المحكمة حتى تكون ضمانة قوية في الحفاظ على حياة سياسية مستقرة حتى ولو في حدّها الأدنى والأهم على مدنية الحكم.
منية العرفاوي
تونس- الصباح
تحت شعار "الرقابة الدستورية في تنمية الشعوب الإفريقية «عُقد منذ ثلاثة أسابيع في القاهرة الاجتماع السادس لرؤساء المحاكم العليا والمجالس الدستورية الافريقية بمشاركة 40 دولة افريقية يمثلهم 51 رئيس محكمة دستورية ومجلس دستوري ومحكمة عليا.. وكانت تونس أبرز المتغيبين ومقعدها شاغر في هذا الاجتماع الإفريقي الأهم على المستوى القاري، لأننا إلى اليوم ليس لدينا محكمة دستورية ولا هيئة وقتية لمراقبة دستورية القوانين والتي تم حلها.. وغياب المحكمة الدستورية قادنا في الماضي الى سيناريوهات وخيارات قاسية واليوم ما زال عدم تركيزها الى الآن يطرح تساؤلات ومخاوف.
حيث وبالنظر الى المسارات السياسية والدستورية التي شهدتها البلاد بدا غياب المحكمة الدستورية مؤثرا وفارقا..، فهذه المحكمة التي كان يفترض تركيزها منذ سنة 2015 أي بعد سنة من المصادقة على دستور 2014 تم اخضاعها خلال تلك المدة البرلمانية التي سبقت انتخابات 2019 الى حسابات الأحزاب والقوى السياسية ولذلك تعطل تركيزها لمدة سبع سنوات، وحتى بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة لم تطرح مسألة تركيز محكمة دستورية بشكل جدّي وبقيت حبيسة أهواء الأحزاب الى لحظة 25 جويلية عندما قام رئيس الجمهورية قيس سعيد بتفعيل الفصل 80 من الدستور وقتها تذكّر الجميع أهمية وجود محكمة دستورية وندمت الأحزاب عن تلكؤها لسنوات في تركيزها..
ولكن في المقابل فان قيس سعيد كان متمسكا بضرورة وجود محكمة دستورية وفي دستوره الجديد تم التنصيص عليها ولكن بشروط منسجمة مع توجهات رئيس الجمهورية..، والسؤال اليوم متى سيتم تركيز هذه المحكمة رسميا باعتبار أن تركيبتها موضوعيا هي موجودة.
المحكمة الدستورية في دستور سعيد
كان السؤال الأبرز بعد التنصيص على المحكمة الدستورية في الدستور الجديد، هل فعلا ستكون تلك المحكمة بتركيبة هيئتها وخصوصية ذلك مقارنة مع التجارب المقارنة قادرة على فرض علوية الدستور وحماية الحقوق والحريات والتصدّي لأي انحراف بالسلطة وهي التي تأتي في مرتبة أدنى من رئيس الجمهورية في العلوية والقوة؟
وكان الرئيس قيس سعيد قد دعا رئيسة الحكومة نجلاء بودن بعد المصادقة على الدستور الى ضرورة اعداد مشروع نصّ للمحكمة الدستورية وذلك تطبيقا لأحكام الدستور، ولكن إلى اليوم لم يكتمل مشروع هذا النص والذي لا نعلم بعد إن كان سيكون قانونا او مرسوما حيث لم توضح الرئاسة طبيعة هذا النص رغم انه مبدئيا لا يمكن إصدار القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية بمجرد مرسوم، لأن الدستور يتحدث عن ضرورة إصدار قانون أساسي ينظمها وجميع الهيئات، والقانون يقتضي أن يصادق عليه البرلمان الذي لم ينتخب بعد ولكن رئيس الجمهورية لا شيء يمنعه من مواصلة العمل بالأمر117 حتى بعد صياغة الدستور الجديد وإصدار القوانين بواسطة المراسيم.
ووفق ما جاء به الدستور الجديد فان عددا هاما من المختصين في القانون الدستوري يرون أن هذه المحكمة ستكون محكمة دستورية محدودة الصلاحيات والتركيبة حيث تم حصرها في تركيبة قضائية بحتة عكس ما هو موجود في التجارب المقارنة حيث لا تقتصر تركيبة المحكمة على القضاة بل على رجال قانون من اختصاصات مختلفة ومحامين أيضا.. وقد أهمل قيس سعيد تشريك المحامين في هذه المحكمة رغم مواقف قطاع المحاماة المؤيد لأغلب القرارات التي اتخذها الرئيس ولمسار 25 جويلية، واقتصار المحكمة في تركيبتها على قضاة متقاعدين شبهه البعض بأن هذه المحكمة يمكن أن تتحول إلى ناد للقضاة المتقاعدين، كما يرى بعض المختصين في القانون الدستوري أن هذه المحكمة وبتلك التركيبة ستكون محكمة محافظة ولن تنتصر للحقوق والحريات بل ستكون قريبة ومتقاطعة في مواقفها مع السلطة خاصة بعد أن حول الدستور الجديد القضاء الى مجرد وظيفة يتحكم في تعيينهم وعزلهم رئيس الجمهورية.
وبالنسبة لصلاحيات هذه المحكمة فان البعض يراها صلاحيات محدودة لأنه تم حصرها في الرقابة على دستورية القوانين، على عكس المحاكم الدستورية في القوانين المقارنة التي تعد مراقبة دستورية القوانين فيها جزء من العدالة الدستورية التي تتجاوز مراقبة دستورية القوانين على الرقابة على السلطات الثلاث وفرض احترامها للدستور، فمثلا نص دستور 2014 على أن مهام المحكمة الدستورية فض نزاعات الاختصاص بين رئيسي الحكومة والجمهورية وإمكانية عزل رئيس الجمهورية في الفصل 88 عند ارتكابه الخرق الجسيم ولكن وفق الدستور الجديد فانه إمكانية عزل الرئيس غير واردة تحت أي سبب من الأسباب.
ومؤخرا عاد الجدل بشأن هذه المحكمة الدستورية بعد صدور حكم المحكمة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب والذي نص على أن الرئيس التونسي قيس سعيد يحقّ له دستوريا اتخاذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية والتي قد يكون من بينها إصدار أوامر رئاسية لمجابهة حالة الخطر الداهم المهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها ولكن هذه السلطة المخوّلة لرئيس الجمهورية مقيّدة بالشروط الموضوعية والإجراءات المنصوص عليها في الفصل 80 من دستور 2014 والذي ينصّ على ضرورة استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية قبل الإقدام على اتخاذ مثل تلك التدابير الاستثنائية. وبالتالي فان الإجراءات التي كانت متخذة في 25 جويلية كانت منقوصة في غياب المحكمة الدستورية والتي لو كانت موجودة وقتها لجنبت البلاد أزمتها السياسية الحالية.
وفي علاقة بالمحكمة الدستورية فان غيابها الى الآن أحدث فراغا دستوريا حيث نص الدستور الجديد وفصله 109 من باب الوظيفة التنفيذية انه عند شغور منصب رئاسة الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام أو لأي سبب من الأسباب يتولى فورا رئيس المحكمة الدستورية مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما. ويؤدي القائم بمهام رئيس الجمهورية اليمين الدستورية أمام مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم مجتمعين، وإن تعذّر ذلك، فأمام المحكمة الدستورية..، وكل ذلك يفرض التسريع بتركيز هذه المحكمة حتى تكون ضمانة قوية في الحفاظ على حياة سياسية مستقرة حتى ولو في حدّها الأدنى والأهم على مدنية الحكم.