تُسمى العلوم الإنسانية والاجتماعية 'إنسانيات' لأنها تدرس سلوكيات الناس وحركة المجتمعات في إطار منظوماتها الثقافية (ثقافاتها): اللغة والفكر والدين والمعرفة والعلم والأساطير والقوانين والقيم والأعراف. يتميز الجنس البشري بتلك المعالم عن بقية الأجناس الأخرى على الكوكب الأرضي. فاللغة البشرية في شكليْها المنطوق والمكتوب مختلفة تماما عن وسائل التواصل والتخاطب لدى بقية الكائنات الأخرى. أي أن اللغة البشرية هي ميزة الإنسان العظمى على جميع الأجناس وهي التي جعلت الجنس البشري بكل أصنافه يتمتع بمنظومات ثقافية متنوعة.تتجلى أهمية اللغة في أنه لا يمكن لأي عنصر من المنظومات الثقافية كالدين والعلم والقيم ... أن توجد أصلا في غياب اللغة البشرية في شكلها الشفوي على الأقل. لذا، سميتُ اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعا. ومنه رأيتُ مشروعية كبيرة في إبراز دور الأهمية القصوى للغة في تمكين الجنس البشري وحده من الظفر بسمة الإنسانية:أستعمل اللغة البشرية، إذن، فأن إنسان. وهكذا، يتجلى من هذا التحليل المختصر أن اللغة هي بيت القصيد في تميز هوية الإنسان عن جميع هويات الكائنات الأخرى وتمكين الإنسان بفضل منظومة الرموز الثقافية وليدة اللغة من كسب رهان السيادة على جميع الأجناس الأخرى على وجه الأرض.
تهميش النخب التونسية للغة الوطنية
حضرتُ كمشارك في أنشطة منتدى إنسانيات في جامعة منوبة في 20-24 سبتمبر 2022. كمتخصص في علميْ الاجتماع والنفس لي بعض الملاحظات حول العديد من معالم هذا المنتدى. لكن أقتصر في هذا المقال على تحليل معلم واحد لهذا المنتدى وهو هيمنة اللغة الفرنسية على حديث التونسيات والتونسيين المسئولين الكبار على مجريات المنتدى كما تشهد على ذلك الجلسة الختامية للمنتدى. لكن، تتجلى هيمنة الفرنسية حتى في الأمور البسيطة جدا بين عامة الحاضرين. مثلا، فعند تبادل الأسماء والعناوين وأرقام الهواتف يكتب معظمُ هؤلاء تلقائيا أسماءهم العربية باللغة الفرنسية. أما في حلقات النقاش في الموائد المستديرة ، فالفرنسية هي أيضا الطاغية مثل ما نجد ذلك في نقاش موضوع الحركة النسوانية التونسية. أما الاغتراب اللغوي الصارخ فيتمثل في أن أستاذة تونسية تحدثت بالفرنسية في مائدة مستديرة حول موضوع التعريب مدافعة على ضرورة بقاء اللغة الفرنسية في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية وغيرها. تبيّن هذه الأمثلة أن جُل التونسيات والتونسيين في هذا المنتدى فاقدون لصفة الإنسانية مع لغتهم الوطنية أو لغة الأم بالمعنى المذكور سابقا: في أن الإنسان يكتسب إنسانيته من استعماله للغة الأم أو اللغة الوطنية باعتبارها اللغة الأصلية الأولى الطبيعية التي يتعلمها الناس في مجتمعاتهم بعد الولادة. فهؤلاء يختلفون عن النخب والمواطنين في مجتمعات أخرى معاصرة كسبتْ فعلا رهان الحداثة وذلك بجعل لغاتها الوطنية وهوياتها الثقافية في صلب عمليّة التحديث كما هو الحال في اليابان وكوريا الجنوبية والصين وكيباك وتركيا وإيران وإسرائيل. بينما ينادي كثير من النّخب التونسية والمواطنين بتهميش اللّغة العربيّة من عملية التحديث. يفتخر التونسيون بالمكانة العلمية والثقافية والمهنية للخريجين التونسيين من نظام التعليم السائد الذي طالما ينادي بإصلاحات جزئية 'ترقيعية' ولا يجرأ على الإصلاحات الرئيسية الجوهرية. فهؤلاء يصمتون عن الخدش النفسي الثقافي الذي يحمل أوزارَه هؤلاء الخريجون المتمثلة في فقدانهم للوطنية اللغوية وحضور الهوية المتذبذبة والمضطربة والشعور بمركب النقص لمَّا يستعملون لغتهم الوطنية/ العربية، وهي سمات تجعل العقل النّيّر لا يعتز حقا بهذا النوع من النخب والمواطنين الفاقدين للوطنية اللغوية و المرشحين حتى لطرد مجتمعهم لهم: ْ هجرة العقول و'الحرقة'.
فقدان الشعب التونسي لإنسانيته مع لغته
لا يقتصر فقدان صفة الإنسانية مع اللغة العربية لدى التونسيات والتونسيين الحاضرين في منتدى جامعة منوبة إنسانيات، بل يتجاوز ذلك ليشمل جميع فئات المجتمع التونسي. إذ تفيد مؤشرات كثيرة أن اللغة الوطنية (العربية الفصحى والدارجة العربية) محرومة من وطنيتها في المجتمع التونسي. علميا وعالميا تتمثل الوطنية مع اللغات في العالم في استعمال الناس والمجتمعات للغاتهم فقط في الحديث والكتابة. فالادعاء بوجود الوطنية اللغوية خارج تلك المعايير كذب على العلم والسياسات اللغوية في العالم. مع الأسف، فالأمثلة لا تكاد تحصى على فقدان الوطنية اللغوية لدى القمة والقاعدة ومن بينهما في المجتمع التونسي:
1ـ عُرف في العهد البورقيبي أن محاضر اجتماعات الوزراء لطالما كانت تُكتب بالفرنسية. كما كان الرئيس بورقيبة يتحدث بالفرنسية مع الأمريكان أو الألمان، فتقع ترجمة حديثه إلى الإنكليزية أو الألمانية.
2ـ تتعامل جل البنوك التونسية في الإجراءات المكتوبة مع حرفائها التونسيين باللغة الفرنسية.
3ـ لا تكاد التونسيات تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس. هذا الميل الشديد للغة الفرنسية لدى المرأة التونسية يُنتظر أن يجعلها أكثر ترحيبا من الرجل التونسي بالاستعمار اللغوي مما سيؤثر سلبا على علاقة الأجيال التونسية باللغة الوطنية/العربية.
4ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/شيكاتها إلا باللغة الفرنسية بحيث أصبح يُنظر لمن يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف أو متخلف.
تفسير نظرية الحجر اللغوي لفقدان الوطنية اللغوية
أطرح هنا نظرية لا تكاد تخطر على بال أحد لتفسير ظاهرة فقدان الوطنية لدى التونسيات والتونسيين مع لغتهم العربية. تفيد الملاحظات الميدانية وجود تشابه بين الإجراءات الصحية ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط خاصة في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية.. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو تحاشي تفشي استعمال اللغات الأجنبية وحدها أو مزجها مع لغة الأم أو اللغة الوطنية في الحديث والكتابة، من جهة أخرى.تصلح هذه النظرية لتحليل نظام التعليم التونسي. في مطلع الاستقلال، تبنى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس: 1- التدريس بلغتين هما الفرنسية والعربية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2- التدريس بلغة واحدة هي اللغة العربية في تلك المراحل. يمثل رقم 2 ما نود تسميته نظام تعليم الحجر اللغوي الذي يكون فيه التدريس باللغة العربية/الوطنية فقط في مراحل التعليم الثلاث. يتشابه الحجر اللغوي مع الحجر الصحي في تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا تحمي الناس كثيرا من الإصابة بالكورونا.وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة. وهكذا، فسلامة صحة الناس وسلامة لغتهم هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. تلقي نظرية الحجر اللغوي أضواء على المسائل التالية:
1-يعتقد معظمُ التونسيين والتونسيات خطأ أن إتقان خريجي المدرسة الصادقية والمدْرسيّين للغة العربية يجعلهم يحبونها مثل الفرنسية أو يفضلونها عليها. تفيد السلوكيات اللغوية لهؤلاء أن هذا غير صحيح. يعود ذلك بالنسبة للصادقيين والمدرسين إلى فقدان تعليمهم للحجر اللغوي لصالح استعمال العربية فقط في التدريس. فحتى عامل الاحتلال الفرنسي لا يكاد يفسر وحده تفضيل هؤلاء للغة الفرنسية. فخريجو المدارس الزيتونية يتمتعون بمناعة لغوية عربية أمتن من الصادقيين والمدرسين رغم خضوعهم للاستعمار الفرنسي كبقية التونسيين والتونسيات. إذن، فغياب الحجر اللغوي أو حضوره في التدريس هو العامل الحاسم والفاصل في علاقة هؤلاء باللغة العربية.
2- يمثل الحجر اللغوي أبجدية العلاقة الطبيعية/السليمة مع اللغات الوطنية أو لغات الأم في استعمال أي منهما فقط شفويا وكتابيا في كل شيء. فالمجتمعات الأوروبية، مثلا، تدرس جميع المواد العلمية وغيرها بلغاتها الوطنية حتى نهاية مرحلة التعليم الثانوي على الأقل. 3-بعبارة علم الاجتماع، فالحجر اللغوي يعني التفاعل المكثف مع اللغة باستعمالها هي فقط مما يؤدي إلى ما يسميه علماءُ اجتماع المعرفة وغيرهم العلاقة الأولية مع اللغة. وهي علاقة نَدِّية بالعواطف والشعور والتحمس لصالحها. كل ذلك هو حصيلة (الحجر اللغوي) على المستويين الشفوي والكتابي.
4- هناك قانون لغوي يشير إلى أن درجة استعمال لغة ما يُحدّد نوعية العلاقة بها (ضعيفة، متوسطة، حميمة)، مثلا، فالتونسيون الذين يُدرّسون اللغة العربية يتعاطفون معها ويدافعون عنها بحماس رغم أنهم لم يدرسوا في نظام تعليم الحجر اللغوي وذلك بسبب استعمالهم للغة العربية أكثر من غيرهم من المُدرِّسين.
5- يشخص مؤلف كتاب العقل العربي 1983 رفائيل باتاي آثار نظام التعليم الفاقد للحجر اللغوي في المجتمعات العربية كما هو الحال في المجتمع التونسي، فوجد الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج المتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية. 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته.
*عالم الاجتماع
بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)
تُسمى العلوم الإنسانية والاجتماعية 'إنسانيات' لأنها تدرس سلوكيات الناس وحركة المجتمعات في إطار منظوماتها الثقافية (ثقافاتها): اللغة والفكر والدين والمعرفة والعلم والأساطير والقوانين والقيم والأعراف. يتميز الجنس البشري بتلك المعالم عن بقية الأجناس الأخرى على الكوكب الأرضي. فاللغة البشرية في شكليْها المنطوق والمكتوب مختلفة تماما عن وسائل التواصل والتخاطب لدى بقية الكائنات الأخرى. أي أن اللغة البشرية هي ميزة الإنسان العظمى على جميع الأجناس وهي التي جعلت الجنس البشري بكل أصنافه يتمتع بمنظومات ثقافية متنوعة.تتجلى أهمية اللغة في أنه لا يمكن لأي عنصر من المنظومات الثقافية كالدين والعلم والقيم ... أن توجد أصلا في غياب اللغة البشرية في شكلها الشفوي على الأقل. لذا، سميتُ اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعا. ومنه رأيتُ مشروعية كبيرة في إبراز دور الأهمية القصوى للغة في تمكين الجنس البشري وحده من الظفر بسمة الإنسانية:أستعمل اللغة البشرية، إذن، فأن إنسان. وهكذا، يتجلى من هذا التحليل المختصر أن اللغة هي بيت القصيد في تميز هوية الإنسان عن جميع هويات الكائنات الأخرى وتمكين الإنسان بفضل منظومة الرموز الثقافية وليدة اللغة من كسب رهان السيادة على جميع الأجناس الأخرى على وجه الأرض.
تهميش النخب التونسية للغة الوطنية
حضرتُ كمشارك في أنشطة منتدى إنسانيات في جامعة منوبة في 20-24 سبتمبر 2022. كمتخصص في علميْ الاجتماع والنفس لي بعض الملاحظات حول العديد من معالم هذا المنتدى. لكن أقتصر في هذا المقال على تحليل معلم واحد لهذا المنتدى وهو هيمنة اللغة الفرنسية على حديث التونسيات والتونسيين المسئولين الكبار على مجريات المنتدى كما تشهد على ذلك الجلسة الختامية للمنتدى. لكن، تتجلى هيمنة الفرنسية حتى في الأمور البسيطة جدا بين عامة الحاضرين. مثلا، فعند تبادل الأسماء والعناوين وأرقام الهواتف يكتب معظمُ هؤلاء تلقائيا أسماءهم العربية باللغة الفرنسية. أما في حلقات النقاش في الموائد المستديرة ، فالفرنسية هي أيضا الطاغية مثل ما نجد ذلك في نقاش موضوع الحركة النسوانية التونسية. أما الاغتراب اللغوي الصارخ فيتمثل في أن أستاذة تونسية تحدثت بالفرنسية في مائدة مستديرة حول موضوع التعريب مدافعة على ضرورة بقاء اللغة الفرنسية في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية وغيرها. تبيّن هذه الأمثلة أن جُل التونسيات والتونسيين في هذا المنتدى فاقدون لصفة الإنسانية مع لغتهم الوطنية أو لغة الأم بالمعنى المذكور سابقا: في أن الإنسان يكتسب إنسانيته من استعماله للغة الأم أو اللغة الوطنية باعتبارها اللغة الأصلية الأولى الطبيعية التي يتعلمها الناس في مجتمعاتهم بعد الولادة. فهؤلاء يختلفون عن النخب والمواطنين في مجتمعات أخرى معاصرة كسبتْ فعلا رهان الحداثة وذلك بجعل لغاتها الوطنية وهوياتها الثقافية في صلب عمليّة التحديث كما هو الحال في اليابان وكوريا الجنوبية والصين وكيباك وتركيا وإيران وإسرائيل. بينما ينادي كثير من النّخب التونسية والمواطنين بتهميش اللّغة العربيّة من عملية التحديث. يفتخر التونسيون بالمكانة العلمية والثقافية والمهنية للخريجين التونسيين من نظام التعليم السائد الذي طالما ينادي بإصلاحات جزئية 'ترقيعية' ولا يجرأ على الإصلاحات الرئيسية الجوهرية. فهؤلاء يصمتون عن الخدش النفسي الثقافي الذي يحمل أوزارَه هؤلاء الخريجون المتمثلة في فقدانهم للوطنية اللغوية وحضور الهوية المتذبذبة والمضطربة والشعور بمركب النقص لمَّا يستعملون لغتهم الوطنية/ العربية، وهي سمات تجعل العقل النّيّر لا يعتز حقا بهذا النوع من النخب والمواطنين الفاقدين للوطنية اللغوية و المرشحين حتى لطرد مجتمعهم لهم: ْ هجرة العقول و'الحرقة'.
فقدان الشعب التونسي لإنسانيته مع لغته
لا يقتصر فقدان صفة الإنسانية مع اللغة العربية لدى التونسيات والتونسيين الحاضرين في منتدى جامعة منوبة إنسانيات، بل يتجاوز ذلك ليشمل جميع فئات المجتمع التونسي. إذ تفيد مؤشرات كثيرة أن اللغة الوطنية (العربية الفصحى والدارجة العربية) محرومة من وطنيتها في المجتمع التونسي. علميا وعالميا تتمثل الوطنية مع اللغات في العالم في استعمال الناس والمجتمعات للغاتهم فقط في الحديث والكتابة. فالادعاء بوجود الوطنية اللغوية خارج تلك المعايير كذب على العلم والسياسات اللغوية في العالم. مع الأسف، فالأمثلة لا تكاد تحصى على فقدان الوطنية اللغوية لدى القمة والقاعدة ومن بينهما في المجتمع التونسي:
1ـ عُرف في العهد البورقيبي أن محاضر اجتماعات الوزراء لطالما كانت تُكتب بالفرنسية. كما كان الرئيس بورقيبة يتحدث بالفرنسية مع الأمريكان أو الألمان، فتقع ترجمة حديثه إلى الإنكليزية أو الألمانية.
2ـ تتعامل جل البنوك التونسية في الإجراءات المكتوبة مع حرفائها التونسيين باللغة الفرنسية.
3ـ لا تكاد التونسيات تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس. هذا الميل الشديد للغة الفرنسية لدى المرأة التونسية يُنتظر أن يجعلها أكثر ترحيبا من الرجل التونسي بالاستعمار اللغوي مما سيؤثر سلبا على علاقة الأجيال التونسية باللغة الوطنية/العربية.
4ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/شيكاتها إلا باللغة الفرنسية بحيث أصبح يُنظر لمن يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف أو متخلف.
تفسير نظرية الحجر اللغوي لفقدان الوطنية اللغوية
أطرح هنا نظرية لا تكاد تخطر على بال أحد لتفسير ظاهرة فقدان الوطنية لدى التونسيات والتونسيين مع لغتهم العربية. تفيد الملاحظات الميدانية وجود تشابه بين الإجراءات الصحية ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط خاصة في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية.. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو تحاشي تفشي استعمال اللغات الأجنبية وحدها أو مزجها مع لغة الأم أو اللغة الوطنية في الحديث والكتابة، من جهة أخرى.تصلح هذه النظرية لتحليل نظام التعليم التونسي. في مطلع الاستقلال، تبنى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس: 1- التدريس بلغتين هما الفرنسية والعربية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2- التدريس بلغة واحدة هي اللغة العربية في تلك المراحل. يمثل رقم 2 ما نود تسميته نظام تعليم الحجر اللغوي الذي يكون فيه التدريس باللغة العربية/الوطنية فقط في مراحل التعليم الثلاث. يتشابه الحجر اللغوي مع الحجر الصحي في تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا تحمي الناس كثيرا من الإصابة بالكورونا.وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة. وهكذا، فسلامة صحة الناس وسلامة لغتهم هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. تلقي نظرية الحجر اللغوي أضواء على المسائل التالية:
1-يعتقد معظمُ التونسيين والتونسيات خطأ أن إتقان خريجي المدرسة الصادقية والمدْرسيّين للغة العربية يجعلهم يحبونها مثل الفرنسية أو يفضلونها عليها. تفيد السلوكيات اللغوية لهؤلاء أن هذا غير صحيح. يعود ذلك بالنسبة للصادقيين والمدرسين إلى فقدان تعليمهم للحجر اللغوي لصالح استعمال العربية فقط في التدريس. فحتى عامل الاحتلال الفرنسي لا يكاد يفسر وحده تفضيل هؤلاء للغة الفرنسية. فخريجو المدارس الزيتونية يتمتعون بمناعة لغوية عربية أمتن من الصادقيين والمدرسين رغم خضوعهم للاستعمار الفرنسي كبقية التونسيين والتونسيات. إذن، فغياب الحجر اللغوي أو حضوره في التدريس هو العامل الحاسم والفاصل في علاقة هؤلاء باللغة العربية.
2- يمثل الحجر اللغوي أبجدية العلاقة الطبيعية/السليمة مع اللغات الوطنية أو لغات الأم في استعمال أي منهما فقط شفويا وكتابيا في كل شيء. فالمجتمعات الأوروبية، مثلا، تدرس جميع المواد العلمية وغيرها بلغاتها الوطنية حتى نهاية مرحلة التعليم الثانوي على الأقل. 3-بعبارة علم الاجتماع، فالحجر اللغوي يعني التفاعل المكثف مع اللغة باستعمالها هي فقط مما يؤدي إلى ما يسميه علماءُ اجتماع المعرفة وغيرهم العلاقة الأولية مع اللغة. وهي علاقة نَدِّية بالعواطف والشعور والتحمس لصالحها. كل ذلك هو حصيلة (الحجر اللغوي) على المستويين الشفوي والكتابي.
4- هناك قانون لغوي يشير إلى أن درجة استعمال لغة ما يُحدّد نوعية العلاقة بها (ضعيفة، متوسطة، حميمة)، مثلا، فالتونسيون الذين يُدرّسون اللغة العربية يتعاطفون معها ويدافعون عنها بحماس رغم أنهم لم يدرسوا في نظام تعليم الحجر اللغوي وذلك بسبب استعمالهم للغة العربية أكثر من غيرهم من المُدرِّسين.
5- يشخص مؤلف كتاب العقل العربي 1983 رفائيل باتاي آثار نظام التعليم الفاقد للحجر اللغوي في المجتمعات العربية كما هو الحال في المجتمع التونسي، فوجد الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج المتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية. 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته.