إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الحل في مسلسل "شوفلي حل"

بقلم: منير الشرفي

في عصر السرعة، العصر الذي أصبح فيه الخبر ينتقل بين أقاصي الأرض بشكل أسرع من البرق، تجد المعلومة في بلادنا كل الصعوبات لتنتقل بضعة أمتار أحيانا. ولم نعد نستغرب في مكوث ملفّ ما، في إدارة ما، أيّاما وربما أشهرا أو سنوات لينتقل من مكتب إلى آخر، أو من طابق إلى آخر.

كما لم نعد نستغرب من أن بعض القيادات في الدول، أو حتى في بعض الأحزاب والمنظمات والشركات الخاصّة، تصرف المليارات لضمان حسن التواصل بينها وبين العامّة، داخل البلاد وخارجها. لكننا في تونس، ما زلنا نرى أن مجال الاتّصال ليس في عاداتنا ولسنا في حاجة إلى تطويره أو حتى الالتجاء لأبسط قواعده. تماما مثل الذي مازال يكتب بالريشة والحبر في عصر الحواسيب، أو الذي يبعث برسائل خطيّة بواسطة رسول خاصّ في عصر الانترنت.

نحن في سنة 2022، ويُوجد في تونس قانون صريح يضمن الحق في النفاذ إلى المعلومة، ضمانا للشفافية، يُجبر نظريّا كل مسؤول في الدولة مهما كان منصبه على تعميم ما لديه من معلومات على المواطنين، وهو قانون يُفيد في مضمونه بأن من واجب كل من يتصرّف في المال العمومي أن يُعلم العموم بكل ما يقوم به، أو حتى ما ينوي القيام به. لكننا نجد في الفترة الأخيرة بالخصوص، تعتيما لم نرَ له مثيلا في السابق. وهو تعتيم فيه أحيانا لامبالاة بحقوق المواطنين وكأن الشأن العام لا يهمّ غير السلطة، وفيه أحيانا أخرى جهل بهذه الحقوق، والجهل لا يشفع لصاحبه إذا تعلّق الأمر بحقوق الآخرين. وفي حالة ثالثة نجد غموضا يبدو أنه مقصودا لأسباب مجهولة. من ذلك مثلا إصرار رئيس الجمهورية على الحديث عن أناس يُصرّ على عدم ذكرهم لأغراض غير مفهومة. واستعماله المُتكرّر لعبارة "هم" تجعل المواطن المُتلقي في حيرة من أمره. فهو يقصد على ما يبدو "جماعة النهضة" أو "المعارضين" أو الفاسدين" أو "المُضاربين"... حتى أن حديث الأصدقاء في المقاهي أصبح كثيرا ما يدور حول المقصود بـ"هم" في الخطاب الأخير للرئيس.

وبخصوص أخبار رئيس الجمهورية، أي أخبار السلطة في تونس، فمعلوم أن مجال الاتصال ليس من أهمّ اهتمامات الرئيس، ناهيك أن المصدر الوحيد لأخباره هو موقع رئاسة الجمهورية أو صفحة الفاسبوك التي تقتصر على بعض مقابلاته. أقول بعض المقابلات بما أن مقابلاتي رئيس الجمهورية خلال الأسبوع الماضي مع كل من زهير المغزاوي وعبيد البريكي لم نسمع بهما إلّا بفضل البلاغيْن الصادرين عن "حركة الشعب" و"حزب تونس إلى الأمام". أما اتصال علي الحفصي، الأمين العام لحزب صوت الجمهورية، برئيس الجمهورية فقد اطّلعنا على فحواه في تدوينة للحفصي نشرها في صفحته على الفايسبوك.

حجب المعلومة على المواطن يجعله جاهلا تماما لوضعه ولوضع البلاد اليوم وغدا. وهو أمر يُشجّع كثيرا على نشر الأخبار الزائفة وعلى الشائعات، التي تبقى الملاذ الأخير لتبادل"المعلومات" بين المواطنين، بغثّها وسمينها وبصحيحها وخاطئها. ولعلّ أكثر الشائعات سخافة من بين التي تداولتها الألسن في تونس في الفترة الأخيرة، قبيل الاستفتاء على الدستور، هي القائلة بأن التصويت ب"نعم" سيُمكّن من إيجاد السكر في الأسواق بعد أيام قليلة من الاستفتاء، بعد النقص الملحوظ لهذه المادّة في تلك الفترة. وهو ما يدلّ بكل وضوح على أن المعلومة الصحيحة والدقيقة لا تصل إلى المواطنين.

ولأنّ الشائعات ليست هي الحلّ الأمثل لتبادل الأخبار بالنظر إلى ما تتضمّنه في كثير من الحالات من أخبار زائفة، أم مُبالغ فيها، أو مُحرّفة، وجب الحد منها بمرسوم. وهو ما تمّ فعلا في المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 والمتعلق"بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال". غير أن هذا المرسوم تمّت صياغته بشكل زجري ومُفزع، يجعل ناقل الخبر عن الغير في وضعيّة مُخيفة، لدرجة أن إعادة خبر أسرّ لك به صديق يُمكن أن تزجّ بك في السجن لمدّة خمس سنوات مع خطية بخمسين ألف دينار، إن تبيّن أن ذلك الخبر لم يكن صحيحا. لذلك فإنه، إذا قال لك مسؤول في مؤسسة تعمل في صناعة الحليب، مثلا، بأن هذه المادة ستشهد غلاء في سعرها في المستقبل القريب، فلا تُعد هذا الكلام حتى وإن حلف بسيدي بلحسن وبسيدي محرز.

في الخلاصة، أصبح اليوم في بلادنا الخبر اليقين والرسمي محجوبا بشكل غير مسبوق، والخبر المُتداول بين الناس يُمثّل نقله مجازفة كبرى يُمكن أن تكون وخيمة العواقب. والحل هو الكف عن الاهتمام بالشأن العام وعن مطالعة الصحف والاستماع إلى نشرات الأخبار، والاكتفاء بإعادة مشاهدة مسلسل "شوفلي حل" للمرّة العشرين.

 

 

 

 

 

الحل في مسلسل "شوفلي حل"

بقلم: منير الشرفي

في عصر السرعة، العصر الذي أصبح فيه الخبر ينتقل بين أقاصي الأرض بشكل أسرع من البرق، تجد المعلومة في بلادنا كل الصعوبات لتنتقل بضعة أمتار أحيانا. ولم نعد نستغرب في مكوث ملفّ ما، في إدارة ما، أيّاما وربما أشهرا أو سنوات لينتقل من مكتب إلى آخر، أو من طابق إلى آخر.

كما لم نعد نستغرب من أن بعض القيادات في الدول، أو حتى في بعض الأحزاب والمنظمات والشركات الخاصّة، تصرف المليارات لضمان حسن التواصل بينها وبين العامّة، داخل البلاد وخارجها. لكننا في تونس، ما زلنا نرى أن مجال الاتّصال ليس في عاداتنا ولسنا في حاجة إلى تطويره أو حتى الالتجاء لأبسط قواعده. تماما مثل الذي مازال يكتب بالريشة والحبر في عصر الحواسيب، أو الذي يبعث برسائل خطيّة بواسطة رسول خاصّ في عصر الانترنت.

نحن في سنة 2022، ويُوجد في تونس قانون صريح يضمن الحق في النفاذ إلى المعلومة، ضمانا للشفافية، يُجبر نظريّا كل مسؤول في الدولة مهما كان منصبه على تعميم ما لديه من معلومات على المواطنين، وهو قانون يُفيد في مضمونه بأن من واجب كل من يتصرّف في المال العمومي أن يُعلم العموم بكل ما يقوم به، أو حتى ما ينوي القيام به. لكننا نجد في الفترة الأخيرة بالخصوص، تعتيما لم نرَ له مثيلا في السابق. وهو تعتيم فيه أحيانا لامبالاة بحقوق المواطنين وكأن الشأن العام لا يهمّ غير السلطة، وفيه أحيانا أخرى جهل بهذه الحقوق، والجهل لا يشفع لصاحبه إذا تعلّق الأمر بحقوق الآخرين. وفي حالة ثالثة نجد غموضا يبدو أنه مقصودا لأسباب مجهولة. من ذلك مثلا إصرار رئيس الجمهورية على الحديث عن أناس يُصرّ على عدم ذكرهم لأغراض غير مفهومة. واستعماله المُتكرّر لعبارة "هم" تجعل المواطن المُتلقي في حيرة من أمره. فهو يقصد على ما يبدو "جماعة النهضة" أو "المعارضين" أو الفاسدين" أو "المُضاربين"... حتى أن حديث الأصدقاء في المقاهي أصبح كثيرا ما يدور حول المقصود بـ"هم" في الخطاب الأخير للرئيس.

وبخصوص أخبار رئيس الجمهورية، أي أخبار السلطة في تونس، فمعلوم أن مجال الاتصال ليس من أهمّ اهتمامات الرئيس، ناهيك أن المصدر الوحيد لأخباره هو موقع رئاسة الجمهورية أو صفحة الفاسبوك التي تقتصر على بعض مقابلاته. أقول بعض المقابلات بما أن مقابلاتي رئيس الجمهورية خلال الأسبوع الماضي مع كل من زهير المغزاوي وعبيد البريكي لم نسمع بهما إلّا بفضل البلاغيْن الصادرين عن "حركة الشعب" و"حزب تونس إلى الأمام". أما اتصال علي الحفصي، الأمين العام لحزب صوت الجمهورية، برئيس الجمهورية فقد اطّلعنا على فحواه في تدوينة للحفصي نشرها في صفحته على الفايسبوك.

حجب المعلومة على المواطن يجعله جاهلا تماما لوضعه ولوضع البلاد اليوم وغدا. وهو أمر يُشجّع كثيرا على نشر الأخبار الزائفة وعلى الشائعات، التي تبقى الملاذ الأخير لتبادل"المعلومات" بين المواطنين، بغثّها وسمينها وبصحيحها وخاطئها. ولعلّ أكثر الشائعات سخافة من بين التي تداولتها الألسن في تونس في الفترة الأخيرة، قبيل الاستفتاء على الدستور، هي القائلة بأن التصويت ب"نعم" سيُمكّن من إيجاد السكر في الأسواق بعد أيام قليلة من الاستفتاء، بعد النقص الملحوظ لهذه المادّة في تلك الفترة. وهو ما يدلّ بكل وضوح على أن المعلومة الصحيحة والدقيقة لا تصل إلى المواطنين.

ولأنّ الشائعات ليست هي الحلّ الأمثل لتبادل الأخبار بالنظر إلى ما تتضمّنه في كثير من الحالات من أخبار زائفة، أم مُبالغ فيها، أو مُحرّفة، وجب الحد منها بمرسوم. وهو ما تمّ فعلا في المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 والمتعلق"بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال". غير أن هذا المرسوم تمّت صياغته بشكل زجري ومُفزع، يجعل ناقل الخبر عن الغير في وضعيّة مُخيفة، لدرجة أن إعادة خبر أسرّ لك به صديق يُمكن أن تزجّ بك في السجن لمدّة خمس سنوات مع خطية بخمسين ألف دينار، إن تبيّن أن ذلك الخبر لم يكن صحيحا. لذلك فإنه، إذا قال لك مسؤول في مؤسسة تعمل في صناعة الحليب، مثلا، بأن هذه المادة ستشهد غلاء في سعرها في المستقبل القريب، فلا تُعد هذا الكلام حتى وإن حلف بسيدي بلحسن وبسيدي محرز.

في الخلاصة، أصبح اليوم في بلادنا الخبر اليقين والرسمي محجوبا بشكل غير مسبوق، والخبر المُتداول بين الناس يُمثّل نقله مجازفة كبرى يُمكن أن تكون وخيمة العواقب. والحل هو الكف عن الاهتمام بالشأن العام وعن مطالعة الصحف والاستماع إلى نشرات الأخبار، والاكتفاء بإعادة مشاهدة مسلسل "شوفلي حل" للمرّة العشرين.