غيرة منّي أنا المتفقّد العامّ للتربية، على مصلحة الناشئة التونسيّة التي تنفق وزارة التربية الجهود المضنية في سبيل تكوينها معرفيّا والارتقاء بمستواها ذهنيّا ووجدانيّا،
ونظرا لاضطلاعي بعضويّة لجنة بناء برامج العربيّة المتّصلة بقانون 29 جويلية 1991 ، ورئاسة لجنة برامج العربيّة المتّصلة بقانون 23 جويلية 2002 بحيث تسنّت لي المساهمة في صياغة مقاصدها ومعايير بنائها،
وبعد الذي وقفت عليه في تاريخ سابق من مسوّغات، (كتقليص زمن التعلّمات بسبب وباء الكرونة)، قضت بحذف "رسالة الغفران" مؤقّتا من برنامج الأدب العربيّ بالتعليم الثانوي.
وبعد الذي تناهى إليّ من نزوع بعضهم إلى عدم إدراج هذا الأثر من جديد في برنامج الرابعة آداب رغم انتفاء الأسباب التي كانت دعت إلى إسقاط هذه المفردة من البرنامج سابقا، فإنّي رأيت الواجب يقتضي منّي أن أفيد الرأي العامّ التربوي ببعض المقاصد والمعايير التي اعتمدتها لجنة بناء البرامج في سنتي 1991 و2002 لإدراج الأثر المذكور في مستوى السنة الرابعة (آداب) لعلّها تساعد الزميلات والزملاء في اختصاص العربيّة على مزيد ترشيد الاختيارات التربويّة ، ومن هذه المعايير أذكر ما يلي :
أوّلا: ترقية الملكة الفنّية
" رسالة الغفران" هي عمل قصصيّ متميّز يأتي تتويجا لفنون قصصيّة قديمة حرصنا على إطلاع التلميذ التونسيّ عليها في تدرّجها الفنّي من جهة وفي مقاصدها التربويّة والفكريّة المتنامية من جهة أخرى ، وهذه الفنون القصصية هي " الحكاية المثليّة " لابن المقفّع (القرن2 هـ) للسنة الأولى من التعليم الثانوي و" النادرة " عند الجاحظ (القرنان 2 و3 هـ) للسنة الثانية من التعليم الثانوي ، و" المقامة " للهمذاني (القرن4 هـ) للسنة الثالثة من التعليم الثانوي و" رسالة الغفران " للمعرّي ( القرنان 4 و5 هـ) للسنة الرابعة من التعليم الثانوي (آداب).
ولذلك فإنّ حذف " رسالة الغفران " يُعتبر إجهاضا للتصوّر الذي بنته اللجنة عن سيرورة الفنّ القصصي العربيّ القديم ، وإسقاطا لمفردة أساسيّة من مفردات النثر الفنّي في تطوّره وتناميه صياغة وتخييلا في الوقت الذي أضحى فيه هذا العمل أثرا أدبيّا عالميّا .
ثانيا: تنمية الملكة النقديّة
" رسالة الغفران" من أهمّ الكتابات العربيّة التي تنمّي المنزع العقليّ في التلميذ وتربّي فيه ملكة النقد لمرحلة ثقافيّة سادت فيها المذهبيّة الدينية المتناحرة بحيث كانت كلّ فرقة تدّعي أنّها الناجية ، أو تحتكر لنفسها وحدها النجاة ، وقد كان هذا وحده عاملا كافيا للتقاتل بين المسلمين ، وزرع نوازع الحقد والكراهيّة بينهم ، لذلك رأت لجنة بناء البرامج أن يتبصّر التلاميذ بفضل هذا الأثر وغيره من الكتابات ذات المنزع العقليّ ، فيذهبوا بالإسلام إلى التجربة الدينيّة الأصيلة غير التجاريّة ، وإلى روح الإيمان التي توحّد البشر، وإلى كلّ ما يُجلي قيم الرحمة والمغفرة في الذات العليّة بعيدا عن إيمان الاستعباد عدوّ الرحمة .
ثالثا: تنقية صورة الله
اختارت اللجنة إدراج هذا الأثر في برنامج العربية لأنّ صاحبه أراد أن يُقاوم العقليّة التي تشوّه صورة الله فتخرجه مخرج العدوّ للإنسان أو في مظهر مسدي الخدمات بين يديه. أرادت اللجنة أن تتكرّس لدى التلاميذ صورة الله بما هو قيم عليا: محبّة وحقّا وحرّية وجمالا وخيرا وسلاما، وأن يقع تنزيه الذات الإلهية عن الكراهيّة والانتقام والقبح والتمييز، وهو ما يغذّي مشاعر العنف والقتل في المجتمعات. وهذا لا شكّ ما يساعد كثيرا على بناء قيم المواطنة ومبادئ الجمهوريّة كما جاءت في غائيات القوانين التربوية الثلاثة .
رابعا: نحو أنسنة الدين
إنّ من أهمّ مقاصد اللجنة من اختيار هذا الأثر للدراسة بالتعليم الثانوي تحرير المسلم من الخرافات والأساطير التي تُنسج حول الدين حتّى صارت عند بعضهم هي الدين نفسه ، وقد عرض المعرّي نماذج منها كشكل من أشكال التديّن. إنّ شكل التديّن الذي عرضه المعرّي ونقده وكشف عيوبه هو الذي أرادت اللجنة أن يتدرّب التلاميذ على التوقّي منه والتحرّر من هيمنته. فتحرير الشباب من مشاعر الحقد المؤدّية إلى الإرهاب لا يكون إلا بتحرير الخطاب الديني الذي كان منذ قرون قائما على قراءة موغلة في العنف والتوحّش والنفعيّة المرذولة التي تحطّ من قيمة الدين وتذهب ببعده الروحيّ الخالص ، وما " رسالة الغفران " إلا إسهام في الحدّ من هذا المنزع العنيف والمتعصّب الذي كان سائدا في الخطاب الديني ومن هذه النفعيّة التي رانت على عقول المسلمين على مدى قرون. باختصار شديد هذا الأثر يسعى إلى تحرير الدين من القراءة الإيديولوجيّة ويعمل على تكريس النزعة الإنسانويّة فيه لذلك رأت اللجنة أنّه أثر جدير، وهو بهذا البعد التنويري فكرا وقيما، أن يكون مفردة أساسيّة في برامج العربيّة؟
ختاما
بناء على ما ذكرته آنفا من المقاصد، وغيرها كثير ممّا لا يتّسع مثل هذا الفضاء لتعداده أرى أنّ إلغاء " رسالة الغفران " من برنامج العربية في السنة الرابعة (آداب) خسارة كبرى لتلاميذنا من حيث التكوين الفنّي والجمالي والقيمي، وتعطيل غير مبرّر لتجسيم جانب من مقاصد القانون التربوي ، فالفكر لا يغيّره إلّا فكر من الخميرة ذاتها ولا يكون ذلك إلا باستكشاف الموروث واستيعاب المعارف الراهنة من أجل الإجابة عن أسئلة معيشة ، لذلك أهيب بالسلط التربويّة العليا أن تأذن بالمحافظة على هذا الأثر مفردة قارّة في برامج العربيّة بالتعليم الثانوي .
صفاقس في 25 سبتمبر 2022
إبراهيم بن صالح: متفقّد عامّ للتربية متقاعد
تمهيد :
غيرة منّي أنا المتفقّد العامّ للتربية، على مصلحة الناشئة التونسيّة التي تنفق وزارة التربية الجهود المضنية في سبيل تكوينها معرفيّا والارتقاء بمستواها ذهنيّا ووجدانيّا،
ونظرا لاضطلاعي بعضويّة لجنة بناء برامج العربيّة المتّصلة بقانون 29 جويلية 1991 ، ورئاسة لجنة برامج العربيّة المتّصلة بقانون 23 جويلية 2002 بحيث تسنّت لي المساهمة في صياغة مقاصدها ومعايير بنائها،
وبعد الذي وقفت عليه في تاريخ سابق من مسوّغات، (كتقليص زمن التعلّمات بسبب وباء الكرونة)، قضت بحذف "رسالة الغفران" مؤقّتا من برنامج الأدب العربيّ بالتعليم الثانوي.
وبعد الذي تناهى إليّ من نزوع بعضهم إلى عدم إدراج هذا الأثر من جديد في برنامج الرابعة آداب رغم انتفاء الأسباب التي كانت دعت إلى إسقاط هذه المفردة من البرنامج سابقا، فإنّي رأيت الواجب يقتضي منّي أن أفيد الرأي العامّ التربوي ببعض المقاصد والمعايير التي اعتمدتها لجنة بناء البرامج في سنتي 1991 و2002 لإدراج الأثر المذكور في مستوى السنة الرابعة (آداب) لعلّها تساعد الزميلات والزملاء في اختصاص العربيّة على مزيد ترشيد الاختيارات التربويّة ، ومن هذه المعايير أذكر ما يلي :
أوّلا: ترقية الملكة الفنّية
" رسالة الغفران" هي عمل قصصيّ متميّز يأتي تتويجا لفنون قصصيّة قديمة حرصنا على إطلاع التلميذ التونسيّ عليها في تدرّجها الفنّي من جهة وفي مقاصدها التربويّة والفكريّة المتنامية من جهة أخرى ، وهذه الفنون القصصية هي " الحكاية المثليّة " لابن المقفّع (القرن2 هـ) للسنة الأولى من التعليم الثانوي و" النادرة " عند الجاحظ (القرنان 2 و3 هـ) للسنة الثانية من التعليم الثانوي ، و" المقامة " للهمذاني (القرن4 هـ) للسنة الثالثة من التعليم الثانوي و" رسالة الغفران " للمعرّي ( القرنان 4 و5 هـ) للسنة الرابعة من التعليم الثانوي (آداب).
ولذلك فإنّ حذف " رسالة الغفران " يُعتبر إجهاضا للتصوّر الذي بنته اللجنة عن سيرورة الفنّ القصصي العربيّ القديم ، وإسقاطا لمفردة أساسيّة من مفردات النثر الفنّي في تطوّره وتناميه صياغة وتخييلا في الوقت الذي أضحى فيه هذا العمل أثرا أدبيّا عالميّا .
ثانيا: تنمية الملكة النقديّة
" رسالة الغفران" من أهمّ الكتابات العربيّة التي تنمّي المنزع العقليّ في التلميذ وتربّي فيه ملكة النقد لمرحلة ثقافيّة سادت فيها المذهبيّة الدينية المتناحرة بحيث كانت كلّ فرقة تدّعي أنّها الناجية ، أو تحتكر لنفسها وحدها النجاة ، وقد كان هذا وحده عاملا كافيا للتقاتل بين المسلمين ، وزرع نوازع الحقد والكراهيّة بينهم ، لذلك رأت لجنة بناء البرامج أن يتبصّر التلاميذ بفضل هذا الأثر وغيره من الكتابات ذات المنزع العقليّ ، فيذهبوا بالإسلام إلى التجربة الدينيّة الأصيلة غير التجاريّة ، وإلى روح الإيمان التي توحّد البشر، وإلى كلّ ما يُجلي قيم الرحمة والمغفرة في الذات العليّة بعيدا عن إيمان الاستعباد عدوّ الرحمة .
ثالثا: تنقية صورة الله
اختارت اللجنة إدراج هذا الأثر في برنامج العربية لأنّ صاحبه أراد أن يُقاوم العقليّة التي تشوّه صورة الله فتخرجه مخرج العدوّ للإنسان أو في مظهر مسدي الخدمات بين يديه. أرادت اللجنة أن تتكرّس لدى التلاميذ صورة الله بما هو قيم عليا: محبّة وحقّا وحرّية وجمالا وخيرا وسلاما، وأن يقع تنزيه الذات الإلهية عن الكراهيّة والانتقام والقبح والتمييز، وهو ما يغذّي مشاعر العنف والقتل في المجتمعات. وهذا لا شكّ ما يساعد كثيرا على بناء قيم المواطنة ومبادئ الجمهوريّة كما جاءت في غائيات القوانين التربوية الثلاثة .
رابعا: نحو أنسنة الدين
إنّ من أهمّ مقاصد اللجنة من اختيار هذا الأثر للدراسة بالتعليم الثانوي تحرير المسلم من الخرافات والأساطير التي تُنسج حول الدين حتّى صارت عند بعضهم هي الدين نفسه ، وقد عرض المعرّي نماذج منها كشكل من أشكال التديّن. إنّ شكل التديّن الذي عرضه المعرّي ونقده وكشف عيوبه هو الذي أرادت اللجنة أن يتدرّب التلاميذ على التوقّي منه والتحرّر من هيمنته. فتحرير الشباب من مشاعر الحقد المؤدّية إلى الإرهاب لا يكون إلا بتحرير الخطاب الديني الذي كان منذ قرون قائما على قراءة موغلة في العنف والتوحّش والنفعيّة المرذولة التي تحطّ من قيمة الدين وتذهب ببعده الروحيّ الخالص ، وما " رسالة الغفران " إلا إسهام في الحدّ من هذا المنزع العنيف والمتعصّب الذي كان سائدا في الخطاب الديني ومن هذه النفعيّة التي رانت على عقول المسلمين على مدى قرون. باختصار شديد هذا الأثر يسعى إلى تحرير الدين من القراءة الإيديولوجيّة ويعمل على تكريس النزعة الإنسانويّة فيه لذلك رأت اللجنة أنّه أثر جدير، وهو بهذا البعد التنويري فكرا وقيما، أن يكون مفردة أساسيّة في برامج العربيّة؟
ختاما
بناء على ما ذكرته آنفا من المقاصد، وغيرها كثير ممّا لا يتّسع مثل هذا الفضاء لتعداده أرى أنّ إلغاء " رسالة الغفران " من برنامج العربية في السنة الرابعة (آداب) خسارة كبرى لتلاميذنا من حيث التكوين الفنّي والجمالي والقيمي، وتعطيل غير مبرّر لتجسيم جانب من مقاصد القانون التربوي ، فالفكر لا يغيّره إلّا فكر من الخميرة ذاتها ولا يكون ذلك إلا باستكشاف الموروث واستيعاب المعارف الراهنة من أجل الإجابة عن أسئلة معيشة ، لذلك أهيب بالسلط التربويّة العليا أن تأذن بالمحافظة على هذا الأثر مفردة قارّة في برامج العربيّة بالتعليم الثانوي .