إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

لا يَصلحُ نظامُ تعليمنا ولا يُصْلَحُ ما دام يَنظر إلى الخطيئة العظمى على أنها عيْنُ الصّواب

 

 

بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

خُسران اللغة الوطنية لوطنيتها

تفيد مؤشرات كثيرة أن اللغة الوطنية (العربية الفصحى والدارجة العربية) محرومة من وطنيتها في المجتمع التونسي. علميا وعالميا تتمثل الوطنية مع اللغات في العالم في استعمال الناس والمجتمعات للغاتهم فقط في الحديث والكتابة. فالادعاء بوجود الوطنية اللغوية خارج تلك المعايير كذب على العلم والسياسات اللغوية في العالم. مع الأسف، فالأمثلة لا تكاد تحصى على فقدان الوطنية اللغوية لدى القمة والقاعدة ومن بينهما في المجتمع التونسي:

1ـ عُرف في العهد البورقيبي أن محاضر اجتماعات الوزراء لطالما كانت تُكتب بالفرنسية. كما كان الرئيس بورقيبة يتحدث بالفرنسية مع الأمريكان أو الألمان، فتقع ترجمة حديثه إلى الإنكليزية أو الألمانية.

2-خاطب الرئيس الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج الحاضرين والحاضرات من التونسيين والأجانب باللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية ، بينما توجه الرئيس النمساوي إلى هؤلاء باللغة الألمانية، لغته الوطنية.

3ـ تتعامل جل البنوك التونسية في الإجراءات المكتوبة مع حرفائها التونسيين باللغة الفرنسية.

4ـ لا تكاد التونسيات تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس. لتجلى هذا الميل الشديد للغة الفرنسية لدى المرأة التونسية في الخطاب الشفوي والكتابي بمركز بحوث المرأة (كريديف). يُنتظر أن يؤثر ذلك الميل القوي للفرنسية سلبا على علاقة الأجيال التونسية باللغة الوطنية/العربية.

5ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/شيكاتها إلا باللغة الفرنسية بحيث أصبح يُنظر لمن يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف أو متخلف.

6-سألتُ متاجر المونبري حول عدد احتجاجات التونسيات والتونسيين حول اللافتات المكتوبة بالفرنسية فقط في قسم الغلال والخضر فكانت الإجابة صفرا(0)، أي أن الغيرة على اللغة الوطنية غائبة.

الشعوب كالأفراد في الخطأ والصواب

يرى علما النفس والاجتماع أن الأفراد يخطئون ويصيبون في سلوكياتهم واعتقاداتهم وغيرهما وكذلك تفعل الجماعات والشعوب والمجتمعات البشرية. أي ليس هناك مناعة كاملة من الخطأ لدى كل هؤلاء أو قدرة تامة على كسب رهان الصواب دائما. فالأمثلة التونسية أعلاه تشير إلى خطأ التونسيات والتونسيين في تعاملهم مع لغتهم الوطنية. فتحليل علميْ النفس والاجتماع يكشف الحجاب عن أسباب ميلاد تصور ذهني عند معظم الشعب التونسي أن اللغة العربية عاجزة تماما على تدريس كل العلوم. وهذا تصور خاطئ ترفضه المعرفة المتينة بطبيعة اللغات التي تؤكد:' أن كل لغة تصبح قادرة على التعبير على كل شيء إن هي استُعملَتْ بالكامل في بيئتها، والعكس تُصاب بالإعاقة إذا حُرمت من الاستعمال التام '

أوروبا وكيباك ووطنيتهما اللغوية.

تجعل معظم أنظمة التعليم في أوروبا تعلّم لغة أو لغتين أجنبيتين أو أكثر أمرا واجبا على كل المتعلمين خاصة في المرحلتين الإعدادية والثانوية. لكن عملية التعلّم هذه في المجتمعات الأوروبية لا تفسد العلاقة السليمة مع لغاتها الوطنية. أي أن هذه الأخيرة تظل هي وحدها لغات الاستعمال الشفوي والكتابي في كل ميادين الحياة في تلك المجتمعات بما فيها وجوب التدريس باللغات الوطنية لكل المواد في جميع مراحل التعليم حتى نهاية المرحلة الثانوية على الأقل. أما الوطنية اللغوية في مقاطعة كيباك الناطقة بالفرنسية في كندا فقد جعلت استعمال اللغة الفرنسية فقط في الكتابة أمرا إجباريا في كل شؤون الحياة في المقاطعة. مثلا، تُمنع كتابةُ ُ كلمة ( وقوف) باللغة الانكليزية (سطوب) في الشوارع والطرقات وتُكتب هذه الكلمة بالفرنسية فقط

Arrêt.

الوطنية اللغوية واحترام بنود ميثاق اللغات

تتجلى الوطنية اللغوية في أبجدية بسيطة لإقامة الناس والمجتمعات لعلاقة وطنية مع لغاتهم. تقول هذه الأبجدية إن الوطنية اللغوية بين الناس والمجتمعات ولغاتهم تتمثل في ميثاق ذي أربعة بنود تؤهلهم للتعامل الوطني الحق مع اللغات الوطنية: 1- استعمالهم لها فقط شفويا في كل شؤون حياتهم الشخصية والجماعية .2 - استعمالهم لها فقط في الكتابة. 3- معرفتهم الوافية بمفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية والإملائية وغيرها. 4 - تنشأ عن البنود 1و2 و3 ما نسميها 'العلاقة الحميمة' مع تلك اللغات والتي تتجلى أساسا في المواصفات النفسية والسلوكية التالية: حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أو لغات أخرى يمكن أن يتعلمها الأفراد في مجتمعاتهم أو خارجها. تمثل تلك المواصفات الوطنية اللغوية الكاملة. بناء على تلك البنود، يسهل التعرّف على نوعية العلاقة التي يمارسها الناس والمجتمعات مع لغاتهم. فالذين يلبون بالكامل تلك البنود الأربعة مع لغاتهم هم قوم وطنيون لغويا. أما الذين لا يلبونها، فهم أصناف متنوعة حسب مدى تلبيتهم لأي عدد من البنود الأربعة فهم غير وطنيين لغويا. يمكن صياغة هذين النمطين من العلاقة مع اللغات الوطنية في معادلتين شبه حسابيتين: 1-الالتزام الكامل بمعالم البنود الأربعة (1+2+3+4) = علاقة وطنية مع لغاتهم و2- الالتزام الجزئي أو عدم الالتزام الكامل بالبنود الأربعة (+1-+2-3+-4+) = علاقة غير وطنية كثيرا أو قليلا أو ما بينهما مع لغاتهم.

أم بدايات الخطيئة العظمى مع خير الدين

سعيا لكسب الحداثة الغربية تبنى خير الدين باشا في تونس خطة لإصلاح التعليم في تونس بتعليم الفرنسية والتدريس بها لا مجرد تعلّمها فقط. فافتتح لها المدرسة الصادقية في 1875 . يبدو أن الرجل كان جاهلا بمدى التأثيرات السلبية للتدريس باللغات الأجنبية على اللغات الوطنية وعلى هويات أصحابها وعلى أن ذلك التدريس يؤدي إلى الاستعمار اللغوي المتمثل في استعمال لغة المستعمر في مجالات شتى بعد الاستقلال. وهذا ما يفسره الخوفُ من تلك المخاطر في المجتمعات الأوروبية وغيرها التي تمنع تدريس المواد باللغات الأجنبية حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل..

'المَدْرَسِيُّون' نموذج لنكبة الوطنية اللغوية

وقع تطبيق النموذج الصادقي من التعليم على المدارس الحكومية التونسية بعد الاستقلال. أي أن تلك المدارس تدرّس جميع أو معظم المواد باللغة الفرنسية. فسُمي خريجو هذه المدارس " المدرسيِّين". فهم مثل الصادقيين يختلفون عن خريجي التعليم الزيتوني الذين يدرسون كل المواد باللغة العربية. وهكذا، أدى إصلاح خير الدين في التعليم إلى انقسام لغوي وثقافي بين المتعلمين التونسيين جعل الصادقيين والمدرسيين يتمتعون – بسبب تعزيزهم لتواصل الاستعمار اللغوي- بمكانة أفضل من الزيتونيين في المجتمع التونسي قبل الاستقلال وبعده ، ومن ثم جاءت هيمنتهم على المدارس والمعاهد والجامعات الوطنية التونسية وهم ضُعفاء في الوطنية اللغوية.

غياب التحرر من الاستعمار اللغوي

 نظرا لضُعف أو غياب مفهوم الوطنية اللغوية عند الصادقيين والمدرسيين الذين قادوا مسيرة البلاد بعد الاستقلال مباشرة، فإن هؤلاء نادوا بقوة بالتحرر من الاستعمار الفرنسي العسكري والسياسي والفلاحي، لكن لم يفعلوا ذلك بالنسبة للتحرر من الاستعمار اللغوي الفرنسي. ويعود هذا أساسا إلى فقدان ما نسميه الحجر اللغوي في إصلاح التعليم الذي دعا إليه خير الدين وتبناه الصادقيون والمدرسيُّون الذين سيطروا على حكم البلاد باحتضان موقف ضُعف أو فقدان الصداقة للغة الوطنية..يشير هذا الواقع التونسي أن الاستعمار اللّغوي الفرنسي المتواصل أفسد/ يُفسد الوطنية اللغوية لدى هؤلاء .فهم بذلك يختلفون عن بعض النخب القيادية في مجتمعات أخرى معاصرة كسبتْ فعلا رهان الحداثة وذلك بجعل لغاتها الوطنية وهوياتها الثقافية في صلب عمليّة التحديث كما هو الحال في اليابان وكوريا الجنوبية والصين ومقاطعة كيباك بكندا وتركيا وإيران وإسرائيل. بينما ينادي كثير من تلك النّخب التونسية بتهميش اللّغة العربيّة من عملية التحديث. في الواقع، يبدأ هذا التهميش في المجتمع التونسي في حاضنات الأطفال التي تحرص على تعليمهم الفرنسية والانكليزية اللتين تربكان علاقتهم بالعربية لغتهم الوطنية في ذلك العمر المبكر.

الحجر اللغوي مفتاح بوابة الوطنية اللغوية

في نقاشنا هنا لفقدان الوطنية اللغوية في المجتمع التونسي، نطرح فكرة جديدة لا تكاد تخطر على بال.تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية الصارمة المتمثلة في استعمال اللغة الوطنية فقط في التدريس (الحجر اللغوي) في المراحل الثلاث الأولى للتعليم على الأقل. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من ناحية، أو تحاشي تفشي المزج اللغوي بين اللغة الوطنية واللغة الأجنبية في الحديث والكتابة، من ناحية أخرى. نذكر مثالين للعلاقة الوطنية أو غير الوطنية التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:

1-إن خريجي التعليم التونسي في ما يسمى 'شعبة أ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال لتماسك الوطنية اللغوية كنتيجة لنظام تعليم (الحجر اللغوي) الذي يُدرّس التلاميذَ المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.

2-أما خريجو بقية التعليم التونسي من الصادقيين والمدرسيين فهم فاقدون للحجر اللغوي. ومنه، فالسلوكيات اللغوية الستة غير الوطنية مع اللغة العربية المذكورة سابقا نجدها منتشرة بقوة بين الصادقيين والمدرسيين وضعيفة الحضور للغاية(إن وُجدتْ) بين خريجي الحجر اللغوي في نظام' شعبة أ'. فالخطيئة العظمى(التدريس باللغات الأجنبية) تبناه معظم وزراء التربية بعد الاستقلال وفي طليعتهم السيد محمود المسعدي الذي صرح في مجلة حوار للحزب الدستوري قائلا " يجب التدريس بالفرنسية وتعلّم العربية". يفتخر التونسيون بالمكانة العلمية والثقافية والمهنية للخريجين التونسيين من نظام التعليم السائد الذي طالما ينادي بإصلاحات جزئية 'ترقيعية' ولا يجرأ على الإصلاحات الرئيسية الجوهرية. فهؤلاء يصمتون عن الخدش النفسي الثقافي الذي يحمل أوزاره هؤلاء الخريجون المتمثلة في فقدانهم للوطنية اللغوية وحضور الهوية المتذبذبة والمضطربة والشعور بمركب النقص لمَّا يستعملون لغتهم الوطنية/ العربية، وهي سمات تجعل العقل النّيّر لا يعتز حقا بهذا النوع من التونسيات والتونسيين الفاقدين للوطنية اللغوية و المرشحين بقوة حتى لطرد مجتمعهم لهم: ْ هجرة العقول و 'الحرقة'. نفسيا واجتماعيا، لا يُنتظر تغيير لصالح الوطنية اللغوية من طرف هؤلاء التونسيات و التونسيين. ومنه، يحتاج الأمر إلى قرار سياسي من القمة كما فعل الرئيس بن علي. من جهته، يبدو الرئيس قيس سعيّد متحمسا للغة الضاد في سلوكه اللغوي العام وفي ما جاء في خطابه يوم العلم مما قد يفاجئ الجميع بإصداره مراسيم ثورية لصالح الوطنية اللغوية في المجتمع التونسي.

 (*) عالم الاجتماع

 

لا يَصلحُ نظامُ تعليمنا ولا يُصْلَحُ ما دام يَنظر إلى الخطيئة العظمى على أنها عيْنُ الصّواب

 

 

بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

خُسران اللغة الوطنية لوطنيتها

تفيد مؤشرات كثيرة أن اللغة الوطنية (العربية الفصحى والدارجة العربية) محرومة من وطنيتها في المجتمع التونسي. علميا وعالميا تتمثل الوطنية مع اللغات في العالم في استعمال الناس والمجتمعات للغاتهم فقط في الحديث والكتابة. فالادعاء بوجود الوطنية اللغوية خارج تلك المعايير كذب على العلم والسياسات اللغوية في العالم. مع الأسف، فالأمثلة لا تكاد تحصى على فقدان الوطنية اللغوية لدى القمة والقاعدة ومن بينهما في المجتمع التونسي:

1ـ عُرف في العهد البورقيبي أن محاضر اجتماعات الوزراء لطالما كانت تُكتب بالفرنسية. كما كان الرئيس بورقيبة يتحدث بالفرنسية مع الأمريكان أو الألمان، فتقع ترجمة حديثه إلى الإنكليزية أو الألمانية.

2-خاطب الرئيس الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج الحاضرين والحاضرات من التونسيين والأجانب باللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية ، بينما توجه الرئيس النمساوي إلى هؤلاء باللغة الألمانية، لغته الوطنية.

3ـ تتعامل جل البنوك التونسية في الإجراءات المكتوبة مع حرفائها التونسيين باللغة الفرنسية.

4ـ لا تكاد التونسيات تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس. لتجلى هذا الميل الشديد للغة الفرنسية لدى المرأة التونسية في الخطاب الشفوي والكتابي بمركز بحوث المرأة (كريديف). يُنتظر أن يؤثر ذلك الميل القوي للفرنسية سلبا على علاقة الأجيال التونسية باللغة الوطنية/العربية.

5ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/شيكاتها إلا باللغة الفرنسية بحيث أصبح يُنظر لمن يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف أو متخلف.

6-سألتُ متاجر المونبري حول عدد احتجاجات التونسيات والتونسيين حول اللافتات المكتوبة بالفرنسية فقط في قسم الغلال والخضر فكانت الإجابة صفرا(0)، أي أن الغيرة على اللغة الوطنية غائبة.

الشعوب كالأفراد في الخطأ والصواب

يرى علما النفس والاجتماع أن الأفراد يخطئون ويصيبون في سلوكياتهم واعتقاداتهم وغيرهما وكذلك تفعل الجماعات والشعوب والمجتمعات البشرية. أي ليس هناك مناعة كاملة من الخطأ لدى كل هؤلاء أو قدرة تامة على كسب رهان الصواب دائما. فالأمثلة التونسية أعلاه تشير إلى خطأ التونسيات والتونسيين في تعاملهم مع لغتهم الوطنية. فتحليل علميْ النفس والاجتماع يكشف الحجاب عن أسباب ميلاد تصور ذهني عند معظم الشعب التونسي أن اللغة العربية عاجزة تماما على تدريس كل العلوم. وهذا تصور خاطئ ترفضه المعرفة المتينة بطبيعة اللغات التي تؤكد:' أن كل لغة تصبح قادرة على التعبير على كل شيء إن هي استُعملَتْ بالكامل في بيئتها، والعكس تُصاب بالإعاقة إذا حُرمت من الاستعمال التام '

أوروبا وكيباك ووطنيتهما اللغوية.

تجعل معظم أنظمة التعليم في أوروبا تعلّم لغة أو لغتين أجنبيتين أو أكثر أمرا واجبا على كل المتعلمين خاصة في المرحلتين الإعدادية والثانوية. لكن عملية التعلّم هذه في المجتمعات الأوروبية لا تفسد العلاقة السليمة مع لغاتها الوطنية. أي أن هذه الأخيرة تظل هي وحدها لغات الاستعمال الشفوي والكتابي في كل ميادين الحياة في تلك المجتمعات بما فيها وجوب التدريس باللغات الوطنية لكل المواد في جميع مراحل التعليم حتى نهاية المرحلة الثانوية على الأقل. أما الوطنية اللغوية في مقاطعة كيباك الناطقة بالفرنسية في كندا فقد جعلت استعمال اللغة الفرنسية فقط في الكتابة أمرا إجباريا في كل شؤون الحياة في المقاطعة. مثلا، تُمنع كتابةُ ُ كلمة ( وقوف) باللغة الانكليزية (سطوب) في الشوارع والطرقات وتُكتب هذه الكلمة بالفرنسية فقط

Arrêt.

الوطنية اللغوية واحترام بنود ميثاق اللغات

تتجلى الوطنية اللغوية في أبجدية بسيطة لإقامة الناس والمجتمعات لعلاقة وطنية مع لغاتهم. تقول هذه الأبجدية إن الوطنية اللغوية بين الناس والمجتمعات ولغاتهم تتمثل في ميثاق ذي أربعة بنود تؤهلهم للتعامل الوطني الحق مع اللغات الوطنية: 1- استعمالهم لها فقط شفويا في كل شؤون حياتهم الشخصية والجماعية .2 - استعمالهم لها فقط في الكتابة. 3- معرفتهم الوافية بمفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية والإملائية وغيرها. 4 - تنشأ عن البنود 1و2 و3 ما نسميها 'العلاقة الحميمة' مع تلك اللغات والتي تتجلى أساسا في المواصفات النفسية والسلوكية التالية: حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أو لغات أخرى يمكن أن يتعلمها الأفراد في مجتمعاتهم أو خارجها. تمثل تلك المواصفات الوطنية اللغوية الكاملة. بناء على تلك البنود، يسهل التعرّف على نوعية العلاقة التي يمارسها الناس والمجتمعات مع لغاتهم. فالذين يلبون بالكامل تلك البنود الأربعة مع لغاتهم هم قوم وطنيون لغويا. أما الذين لا يلبونها، فهم أصناف متنوعة حسب مدى تلبيتهم لأي عدد من البنود الأربعة فهم غير وطنيين لغويا. يمكن صياغة هذين النمطين من العلاقة مع اللغات الوطنية في معادلتين شبه حسابيتين: 1-الالتزام الكامل بمعالم البنود الأربعة (1+2+3+4) = علاقة وطنية مع لغاتهم و2- الالتزام الجزئي أو عدم الالتزام الكامل بالبنود الأربعة (+1-+2-3+-4+) = علاقة غير وطنية كثيرا أو قليلا أو ما بينهما مع لغاتهم.

أم بدايات الخطيئة العظمى مع خير الدين

سعيا لكسب الحداثة الغربية تبنى خير الدين باشا في تونس خطة لإصلاح التعليم في تونس بتعليم الفرنسية والتدريس بها لا مجرد تعلّمها فقط. فافتتح لها المدرسة الصادقية في 1875 . يبدو أن الرجل كان جاهلا بمدى التأثيرات السلبية للتدريس باللغات الأجنبية على اللغات الوطنية وعلى هويات أصحابها وعلى أن ذلك التدريس يؤدي إلى الاستعمار اللغوي المتمثل في استعمال لغة المستعمر في مجالات شتى بعد الاستقلال. وهذا ما يفسره الخوفُ من تلك المخاطر في المجتمعات الأوروبية وغيرها التي تمنع تدريس المواد باللغات الأجنبية حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل..

'المَدْرَسِيُّون' نموذج لنكبة الوطنية اللغوية

وقع تطبيق النموذج الصادقي من التعليم على المدارس الحكومية التونسية بعد الاستقلال. أي أن تلك المدارس تدرّس جميع أو معظم المواد باللغة الفرنسية. فسُمي خريجو هذه المدارس " المدرسيِّين". فهم مثل الصادقيين يختلفون عن خريجي التعليم الزيتوني الذين يدرسون كل المواد باللغة العربية. وهكذا، أدى إصلاح خير الدين في التعليم إلى انقسام لغوي وثقافي بين المتعلمين التونسيين جعل الصادقيين والمدرسيين يتمتعون – بسبب تعزيزهم لتواصل الاستعمار اللغوي- بمكانة أفضل من الزيتونيين في المجتمع التونسي قبل الاستقلال وبعده ، ومن ثم جاءت هيمنتهم على المدارس والمعاهد والجامعات الوطنية التونسية وهم ضُعفاء في الوطنية اللغوية.

غياب التحرر من الاستعمار اللغوي

 نظرا لضُعف أو غياب مفهوم الوطنية اللغوية عند الصادقيين والمدرسيين الذين قادوا مسيرة البلاد بعد الاستقلال مباشرة، فإن هؤلاء نادوا بقوة بالتحرر من الاستعمار الفرنسي العسكري والسياسي والفلاحي، لكن لم يفعلوا ذلك بالنسبة للتحرر من الاستعمار اللغوي الفرنسي. ويعود هذا أساسا إلى فقدان ما نسميه الحجر اللغوي في إصلاح التعليم الذي دعا إليه خير الدين وتبناه الصادقيون والمدرسيُّون الذين سيطروا على حكم البلاد باحتضان موقف ضُعف أو فقدان الصداقة للغة الوطنية..يشير هذا الواقع التونسي أن الاستعمار اللّغوي الفرنسي المتواصل أفسد/ يُفسد الوطنية اللغوية لدى هؤلاء .فهم بذلك يختلفون عن بعض النخب القيادية في مجتمعات أخرى معاصرة كسبتْ فعلا رهان الحداثة وذلك بجعل لغاتها الوطنية وهوياتها الثقافية في صلب عمليّة التحديث كما هو الحال في اليابان وكوريا الجنوبية والصين ومقاطعة كيباك بكندا وتركيا وإيران وإسرائيل. بينما ينادي كثير من تلك النّخب التونسية بتهميش اللّغة العربيّة من عملية التحديث. في الواقع، يبدأ هذا التهميش في المجتمع التونسي في حاضنات الأطفال التي تحرص على تعليمهم الفرنسية والانكليزية اللتين تربكان علاقتهم بالعربية لغتهم الوطنية في ذلك العمر المبكر.

الحجر اللغوي مفتاح بوابة الوطنية اللغوية

في نقاشنا هنا لفقدان الوطنية اللغوية في المجتمع التونسي، نطرح فكرة جديدة لا تكاد تخطر على بال.تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية الصارمة المتمثلة في استعمال اللغة الوطنية فقط في التدريس (الحجر اللغوي) في المراحل الثلاث الأولى للتعليم على الأقل. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من ناحية، أو تحاشي تفشي المزج اللغوي بين اللغة الوطنية واللغة الأجنبية في الحديث والكتابة، من ناحية أخرى. نذكر مثالين للعلاقة الوطنية أو غير الوطنية التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:

1-إن خريجي التعليم التونسي في ما يسمى 'شعبة أ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال لتماسك الوطنية اللغوية كنتيجة لنظام تعليم (الحجر اللغوي) الذي يُدرّس التلاميذَ المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.

2-أما خريجو بقية التعليم التونسي من الصادقيين والمدرسيين فهم فاقدون للحجر اللغوي. ومنه، فالسلوكيات اللغوية الستة غير الوطنية مع اللغة العربية المذكورة سابقا نجدها منتشرة بقوة بين الصادقيين والمدرسيين وضعيفة الحضور للغاية(إن وُجدتْ) بين خريجي الحجر اللغوي في نظام' شعبة أ'. فالخطيئة العظمى(التدريس باللغات الأجنبية) تبناه معظم وزراء التربية بعد الاستقلال وفي طليعتهم السيد محمود المسعدي الذي صرح في مجلة حوار للحزب الدستوري قائلا " يجب التدريس بالفرنسية وتعلّم العربية". يفتخر التونسيون بالمكانة العلمية والثقافية والمهنية للخريجين التونسيين من نظام التعليم السائد الذي طالما ينادي بإصلاحات جزئية 'ترقيعية' ولا يجرأ على الإصلاحات الرئيسية الجوهرية. فهؤلاء يصمتون عن الخدش النفسي الثقافي الذي يحمل أوزاره هؤلاء الخريجون المتمثلة في فقدانهم للوطنية اللغوية وحضور الهوية المتذبذبة والمضطربة والشعور بمركب النقص لمَّا يستعملون لغتهم الوطنية/ العربية، وهي سمات تجعل العقل النّيّر لا يعتز حقا بهذا النوع من التونسيات والتونسيين الفاقدين للوطنية اللغوية و المرشحين بقوة حتى لطرد مجتمعهم لهم: ْ هجرة العقول و 'الحرقة'. نفسيا واجتماعيا، لا يُنتظر تغيير لصالح الوطنية اللغوية من طرف هؤلاء التونسيات و التونسيين. ومنه، يحتاج الأمر إلى قرار سياسي من القمة كما فعل الرئيس بن علي. من جهته، يبدو الرئيس قيس سعيّد متحمسا للغة الضاد في سلوكه اللغوي العام وفي ما جاء في خطابه يوم العلم مما قد يفاجئ الجميع بإصداره مراسيم ثورية لصالح الوطنية اللغوية في المجتمع التونسي.

 (*) عالم الاجتماع