إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

أزمة الخطاب السياسي في تونس: عندما يتحول التواصل إلى "اشتباكات" وهتك أعراض.. وتقويض لاستقرار الدولة

تونس-الصباح

لم تتراجع حدة الخطاب السياسي في بلادنا حيث حافظت على ذات تركيبتها القائمة على نفي الآخر وترذيله، وقد اشتركت المعارضة كما السلطة في خطاب حاد قوامه التقسيم "نحن/هم" واتهامات "العمالة/الوطنية" والخيار/الأشرار"إلى جانب مصطلحات "الفقراء/الأغنياء".

وقد زادت هذه المصطلحات في نفور التونسيين من وضعهم العام في وقت انتظر فيه الجميع تغييرا كبيرا على مستوى الخطاب بعد 25جويلية على اعتبار أن هذا الموعد جاء ليطرح نفسه بديلا عن سابقيه إلا انه لم يغرق هو  في شعبوية الخطاب فحسب بل في تأزيم العلاقات الاجتماعية بين المواطنين أنفسهم.

ويجمع السياسيون على أن خطابهم موجه لعموم الشعب التونسي إلا أن ذلك لم يعد صحيحا بعد أن انقسم الشعب إلى شعوب وذلك حسب طبيعة الخطاب الموجه لهم.

وبات واضحا مثلا أن الرئيس قيس سعيد لم يعد في مقدوره إقناع "شعب" المعارضة التي لا ترى في إجراءات 25/7 سوى انقلاب على الدستور والديمقراطية عموما.

كما أن "شعب" الرئيس لن يميل في اتجاه خطابات المعارضة وتحركاتها بعد أن اقتنع بواجهة تمشي تصحيح المسار الذي افتتحه سعيد في جويلية من العام الماضي.

ورغم الأزمة المتشعبة اجتماعيا وسياسيا وإقرار كل الفاعلين بضرورة الانتباه إلى مآلات الواقع التونسي فان أحزابا مازالت تمارس هويتها في فسخ الآخر وترذيله وتأكيد أهميتها على حساب الآخر.

وتتصرف بعض الأحزاب كما لو أن واقعها الراهن هو واقع رخاء سياسي وديمقراطي والحال أن الجميع يتحرك ضمن مربعات اقتصادية واجتماعية رخوة تنبئ بانفجار في كل لحظة.

 العيش المشترك.. الخطاب المفقود

على وقع الشتائم والتحريض المباشر في وسائل الإعلام، وهستيريا الكلاش السياسي، أصبح صوت البذاءة الأكثر وضوحا بل مدعاة للفخر أحيانا لتنتهي بذلك ادوار السياسيين وتعوضها ألسنة هتك الأعراض واستباحة كرامة الشخصيات الوطنية.

وبلغ خطاب التحريض أحيانا حد التشفي وتوزيع أمنيات الموت على الخصوم في إحالة مباشرة على أن الخطاب السياسي في تونس بلغ نقطة اللاعودة.

ولم يكن الأفراد وحدهم عناوين للشتم والتحريض حيث انتقلت عدوى سوء الخطاب إلى النخب التي يفترض أن تلعب دور جدار صد لمنع سوء الخطاب لكنها انخرطت بدورها في لعبة السوء من خلال توظيف صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى عبر حضورها الإعلامي المباشر.

وقد تحولت الخطب إلى ساحة لحرب كلامية مفتوحة غرق معها الشارع السياسي في الفعل وردة الفعل وطغى على الأنصار والقيادات هوس واستعارات غريبة عن المعجم السياسي.

ولعل آخر الاشتباكات اللغوية بين الأحزاب تلك الاستعارة التي أطلقتها عبير موسي أول أمس الأربعاء في حق حركة الشعب وأمينها العام زهير المغزاوي، إذ وبعد أن عبر المغزاوي عن غبطته بلقاء رئيس الجمهورية بعد مدة من الانتظار والترجي فقد كان نصيبه "كلاش" حاد من قبل رئيسة الحزب الدستوري الحر والتي توجهت للمغزاوي وحركة الشعب بالقول" “ما تنجّمش تعبّي ‘لوّاج’ إنتي وتنظيمك في مجلس النوّاب!”.

وانتقدت موسي استقبال رئيس الجمهورية لأمين عام “حركة الشعب”، معتبرة أن هذه اللقاءات تعقد في “الغرف المظلمة”، خاصة وأن الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية لم تعلن عن اللقاء بين الطرفين. ولم يكن خطاب الاستهزاء من القوميين وحده عنوانا لتدخلات موسي حيث اتهمت حركة الشعب بالولاء للخارج.

وقالت رئيسة الدستوري الحر خلال استضافتها في إذاعة "أكسبراس أف أمط بتاريخ 4اوت الماضي، أن خصوم الولايات المتحدة الأمريكية في تونس يخوضون حربا بالوكالة "على رؤوسنا"، وانتقدت عبير موسي تصريحات زهير المغزاوي القيادي في حركة الشعب في هذا الخصوص قائلة:" ألا تستحون؟ هل زهير المغزاوي سيدافع عن السيادة الوطنية؟" مشيرة إلى وضع حركة الشعب لصورة جمال عبد الناصر في مكتبها "حتى زعيم الحركة ليس تونسيا وتعريف الحركة بالناصرية يؤكد أن ولاء الحركة للخارج".

من أروقة البرلمان  إلى القضاء

 ولم يكن البرلمان المنحل والإعلام والأحزاب الحاضنة الوحيدة للخلاف السياسي وما رافقه من أزمة في الخطاب حيث أقحم القضاء التونسي في زاوية الأحداث وإلحاقه عنوة بالمشهد بعد أن عجز السياسيون على احتضان مشاكلهم التي تحولت إلى أروقة المحاكم.

أزمة تكشف بوضوح غياب التفاعل بين مختلف الفاعلين السياسيين وعجزهم عن حل مشاكلهم ضمن الإطار الضيق وهي إشارة كبيرة على أن المشهد بلغ نقطة اللاعودة بعد أن اندثرت الثقة بين الجميع.

وقد بلغت الدعاوي القضائية أقصاها بين نواب مجلس 2019 لتنتهي بدعوة من عرض موسي  على النيابة إلى دعوة لعرضها على مستشفى الأمراض العقلية.

المغزاوي…اختصاص جبهة الخلاص

وإذ اختصت عبير موسي في إحراج حركة الشعب فقد اختص أمين عام هذه الحركة في إحراج جبهة الخلاص الوطني وزعيمها احمد نجيب الشابي.

ومن الملاحظ مثلا أن المغزاوي أكثر الشخصيات القومية سبا للشابي وللجبهة منذ أن تم الإعلان عن تأسيسها يوم 31ماي الماضي.

ففي تدخل إذاعي له يوم 3جوان اعتبر المغزاوي أن جبهة الخلاص ما هي إلا واجهة سياسية لحركة النهضة وإعادة إنتاج لحكومة هشام مشيشي.

ولم يتوقف المغزاوي عند ذلك الحد بعد أن شن حربا على الجبهة بالوكالة عن الرئيس قيس سعيد ليتهم زملاء الأمس بالعمالة والخيانة.

قال أمين عام حركة الشعب الأربعاء 27 جويلية 2022 إن جبهة الخلاص تستقوى بالأجانب، وأن أعضاءها توجهوا أمس إلى صندوق النقد الدولي وطلبوا منه عدم التفاوض مع حكومة نجلاء بودن.

وتابع في هذا الإطار ''بعد ما حدث أمس، أقول أنهم قاموا بتأبين مرحلة كانوا مسؤولين عن خرابها وهذه المرحلة لن تعود.. فلديهم سوء تقدير لتعاطي الأجنبي مع تونس في حين أن الأجنبي يعلم كم أنتم منبوذون ونحن لا نحترم العملاء..''.

من أزمة الخطاب إلى أزمة الحل

لم يكن الخطاب السياسي وحده عنوانا للازمة،بل أن طبيعته العنيفة نتيجة مباشرة لغياب التواصل لأي حوار أو التقاء بين مختلف الفواعل بعد أن احتمى كل منهم "بشعبه" ليتحول المشهد عموما إلى طوائف معزولة رغم نداءات الحوار العاجل والإنقاذ.

وعلى أهميتها في ضمان الاستقرار ومنع المد الشعبوي فقد عجزت حتى أطراف الحوار التقليدية عن خلق نواة صلبة لإطلاق قواعد الحوار المؤسس.

خليل الحناشي

أزمة الخطاب السياسي في تونس: عندما يتحول التواصل إلى "اشتباكات" وهتك أعراض.. وتقويض لاستقرار الدولة

تونس-الصباح

لم تتراجع حدة الخطاب السياسي في بلادنا حيث حافظت على ذات تركيبتها القائمة على نفي الآخر وترذيله، وقد اشتركت المعارضة كما السلطة في خطاب حاد قوامه التقسيم "نحن/هم" واتهامات "العمالة/الوطنية" والخيار/الأشرار"إلى جانب مصطلحات "الفقراء/الأغنياء".

وقد زادت هذه المصطلحات في نفور التونسيين من وضعهم العام في وقت انتظر فيه الجميع تغييرا كبيرا على مستوى الخطاب بعد 25جويلية على اعتبار أن هذا الموعد جاء ليطرح نفسه بديلا عن سابقيه إلا انه لم يغرق هو  في شعبوية الخطاب فحسب بل في تأزيم العلاقات الاجتماعية بين المواطنين أنفسهم.

ويجمع السياسيون على أن خطابهم موجه لعموم الشعب التونسي إلا أن ذلك لم يعد صحيحا بعد أن انقسم الشعب إلى شعوب وذلك حسب طبيعة الخطاب الموجه لهم.

وبات واضحا مثلا أن الرئيس قيس سعيد لم يعد في مقدوره إقناع "شعب" المعارضة التي لا ترى في إجراءات 25/7 سوى انقلاب على الدستور والديمقراطية عموما.

كما أن "شعب" الرئيس لن يميل في اتجاه خطابات المعارضة وتحركاتها بعد أن اقتنع بواجهة تمشي تصحيح المسار الذي افتتحه سعيد في جويلية من العام الماضي.

ورغم الأزمة المتشعبة اجتماعيا وسياسيا وإقرار كل الفاعلين بضرورة الانتباه إلى مآلات الواقع التونسي فان أحزابا مازالت تمارس هويتها في فسخ الآخر وترذيله وتأكيد أهميتها على حساب الآخر.

وتتصرف بعض الأحزاب كما لو أن واقعها الراهن هو واقع رخاء سياسي وديمقراطي والحال أن الجميع يتحرك ضمن مربعات اقتصادية واجتماعية رخوة تنبئ بانفجار في كل لحظة.

 العيش المشترك.. الخطاب المفقود

على وقع الشتائم والتحريض المباشر في وسائل الإعلام، وهستيريا الكلاش السياسي، أصبح صوت البذاءة الأكثر وضوحا بل مدعاة للفخر أحيانا لتنتهي بذلك ادوار السياسيين وتعوضها ألسنة هتك الأعراض واستباحة كرامة الشخصيات الوطنية.

وبلغ خطاب التحريض أحيانا حد التشفي وتوزيع أمنيات الموت على الخصوم في إحالة مباشرة على أن الخطاب السياسي في تونس بلغ نقطة اللاعودة.

ولم يكن الأفراد وحدهم عناوين للشتم والتحريض حيث انتقلت عدوى سوء الخطاب إلى النخب التي يفترض أن تلعب دور جدار صد لمنع سوء الخطاب لكنها انخرطت بدورها في لعبة السوء من خلال توظيف صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى عبر حضورها الإعلامي المباشر.

وقد تحولت الخطب إلى ساحة لحرب كلامية مفتوحة غرق معها الشارع السياسي في الفعل وردة الفعل وطغى على الأنصار والقيادات هوس واستعارات غريبة عن المعجم السياسي.

ولعل آخر الاشتباكات اللغوية بين الأحزاب تلك الاستعارة التي أطلقتها عبير موسي أول أمس الأربعاء في حق حركة الشعب وأمينها العام زهير المغزاوي، إذ وبعد أن عبر المغزاوي عن غبطته بلقاء رئيس الجمهورية بعد مدة من الانتظار والترجي فقد كان نصيبه "كلاش" حاد من قبل رئيسة الحزب الدستوري الحر والتي توجهت للمغزاوي وحركة الشعب بالقول" “ما تنجّمش تعبّي ‘لوّاج’ إنتي وتنظيمك في مجلس النوّاب!”.

وانتقدت موسي استقبال رئيس الجمهورية لأمين عام “حركة الشعب”، معتبرة أن هذه اللقاءات تعقد في “الغرف المظلمة”، خاصة وأن الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية لم تعلن عن اللقاء بين الطرفين. ولم يكن خطاب الاستهزاء من القوميين وحده عنوانا لتدخلات موسي حيث اتهمت حركة الشعب بالولاء للخارج.

وقالت رئيسة الدستوري الحر خلال استضافتها في إذاعة "أكسبراس أف أمط بتاريخ 4اوت الماضي، أن خصوم الولايات المتحدة الأمريكية في تونس يخوضون حربا بالوكالة "على رؤوسنا"، وانتقدت عبير موسي تصريحات زهير المغزاوي القيادي في حركة الشعب في هذا الخصوص قائلة:" ألا تستحون؟ هل زهير المغزاوي سيدافع عن السيادة الوطنية؟" مشيرة إلى وضع حركة الشعب لصورة جمال عبد الناصر في مكتبها "حتى زعيم الحركة ليس تونسيا وتعريف الحركة بالناصرية يؤكد أن ولاء الحركة للخارج".

من أروقة البرلمان  إلى القضاء

 ولم يكن البرلمان المنحل والإعلام والأحزاب الحاضنة الوحيدة للخلاف السياسي وما رافقه من أزمة في الخطاب حيث أقحم القضاء التونسي في زاوية الأحداث وإلحاقه عنوة بالمشهد بعد أن عجز السياسيون على احتضان مشاكلهم التي تحولت إلى أروقة المحاكم.

أزمة تكشف بوضوح غياب التفاعل بين مختلف الفاعلين السياسيين وعجزهم عن حل مشاكلهم ضمن الإطار الضيق وهي إشارة كبيرة على أن المشهد بلغ نقطة اللاعودة بعد أن اندثرت الثقة بين الجميع.

وقد بلغت الدعاوي القضائية أقصاها بين نواب مجلس 2019 لتنتهي بدعوة من عرض موسي  على النيابة إلى دعوة لعرضها على مستشفى الأمراض العقلية.

المغزاوي…اختصاص جبهة الخلاص

وإذ اختصت عبير موسي في إحراج حركة الشعب فقد اختص أمين عام هذه الحركة في إحراج جبهة الخلاص الوطني وزعيمها احمد نجيب الشابي.

ومن الملاحظ مثلا أن المغزاوي أكثر الشخصيات القومية سبا للشابي وللجبهة منذ أن تم الإعلان عن تأسيسها يوم 31ماي الماضي.

ففي تدخل إذاعي له يوم 3جوان اعتبر المغزاوي أن جبهة الخلاص ما هي إلا واجهة سياسية لحركة النهضة وإعادة إنتاج لحكومة هشام مشيشي.

ولم يتوقف المغزاوي عند ذلك الحد بعد أن شن حربا على الجبهة بالوكالة عن الرئيس قيس سعيد ليتهم زملاء الأمس بالعمالة والخيانة.

قال أمين عام حركة الشعب الأربعاء 27 جويلية 2022 إن جبهة الخلاص تستقوى بالأجانب، وأن أعضاءها توجهوا أمس إلى صندوق النقد الدولي وطلبوا منه عدم التفاوض مع حكومة نجلاء بودن.

وتابع في هذا الإطار ''بعد ما حدث أمس، أقول أنهم قاموا بتأبين مرحلة كانوا مسؤولين عن خرابها وهذه المرحلة لن تعود.. فلديهم سوء تقدير لتعاطي الأجنبي مع تونس في حين أن الأجنبي يعلم كم أنتم منبوذون ونحن لا نحترم العملاء..''.

من أزمة الخطاب إلى أزمة الحل

لم يكن الخطاب السياسي وحده عنوانا للازمة،بل أن طبيعته العنيفة نتيجة مباشرة لغياب التواصل لأي حوار أو التقاء بين مختلف الفواعل بعد أن احتمى كل منهم "بشعبه" ليتحول المشهد عموما إلى طوائف معزولة رغم نداءات الحوار العاجل والإنقاذ.

وعلى أهميتها في ضمان الاستقرار ومنع المد الشعبوي فقد عجزت حتى أطراف الحوار التقليدية عن خلق نواة صلبة لإطلاق قواعد الحوار المؤسس.

خليل الحناشي