سامي الجلولي المختص في العلاقات الدولية والاقتصادية لـ"الصباح": أكبر التحديات التي تواجه تونس اليوم هي كيفية التحول من بلد بيروقراطي إلى بلد يُدار عن بعد
* في "تيكاد"، نجحنا فقط في التنظيم واليابانيون جاؤوا للبحث عن فرص استثمار لكن الظاهر أنها لم تكن متوفرة بتونس
* لا يمكن أن نواصل بنفس القوانين التي وقع إقرارها منذ أكثر من قرن
* بنوكنا مجرد صناديق لحسابات تودع فيها رواتب الموظفين والعملة ولا تنتج الثروة
* علينا وضع كل الاتفاقيات التجارية على طاولة النقاش
* لا يمكن للشعب والخزينة أن يواصلا تمويل حسابات رجال أعمال يستوردون على حساب النسيج الاقتصادي
* على الدولة أن ترسم خارطة لتشبيك تونس بنيويا عبر شبكة طرق سريعة وشبكات نقل حديدي
تونس-الصباح
بعد المصادقة على دستور الجمهورية الثالثة عبر استفتاء شعبي قال فيه الشعب التونسي كلمته، لا بد اليوم من المرور إلى جملة من الإصلاحات التي تتطلبها البلاد وخاصة في المجال الاقتصادي حيث أصبح الوضع دقيقا ولم يعد قابلا لمزيد الانتظار حتى لا تغرق تونس أكثر ولا ينهار اقتصادها أكثر..
حول هذه الإصلاحات وأولوياتها كان لـ"الصباح" هذا اللقاء مع الدكتور سامي الجلولي المقيم في سويسرا المختص في العلاقات الدولية والاقتصادية والباحث في الأنظمة السياسية والعربية وصاحب عديد الكتب في المجال.
حاوره: سفيان رجب
في البداية كيف تستقرئون حصيلة منتدى "تيكاد" الذي احتضنته بلادنا منذ أيام؟
في الحقيقة حصيلة الملتقى لم تكن مثلما انتظرنا والـ30 مليار دولار هي حجم الغلاف المالي الذي تنوي اليابان وضعه في استثمارات في أفريقيا ليس بالأمر الكبير. أما عن مكاسب تونس فلا تتجاوز ثلاث اتفاقيات تتعلق بتمويل مشاريع للشركات الناشئة وأخرى في قطاع التأمين إلى جانب مشروع لتحلية مياه البح...، وغنمت باقي الدول الأفريقية حوالي 30 اتفاقية... اليابانيون لم يأتوا إلى تونس للفسحة والاستجمام. جاؤوا للبحث عن فرص استثمار لكن الظاهر أن هذه الفرص لم تكن متوفرة بتونس...
حسب علمي تونس اقترحت 47 مشروعا لكن لم تفز إلا بثلاثة فقط. والاتفاقيات هذه ليست عقود بل بروتوكول نوايا استثمار مرتبط بدراسات معمقة وسنوات من الانتظار... ! نجحنا في التنظيم نعم لكن فشلنا في كسب الاستثمارات.
دخلت تونس مؤخرا مرحلة الجمهورية الثالثة بدستور جديد وآفاق جديدة..، فهل يمكن اعتبار هذا الدستور والتشريعات الأخرى القائمة كفيلة بإحداث النقلة والنهوض المطلوب بعد عشرية رأينا فيها كل مظاهر الانحدار؟
الجريمة تطورت، بل عرفت تحولا راديكاليا... هناك سلسلة من الجرائم الجديدة كالالكترونية مثلا تفتقر إلى نصوص تجريمية خاصة بها، وبالتالي الافتقار إلى وجود قضاة مختصين في ذلك. لكن في الجهة المقابلة هناك أفعال كانت توصف بأفعال ذات صبغة إجرامية، مع التطورات التي عرفها المجتمع فقدت صفتها تلك، فما كان يمكن وصفه من قبل بالجريمة لم يعد وصفه الآن. تعويم النصوص الحالية على جرائم جديدة قد يكون قاصرا من جهة وقد يكون مشطا من جهة أخرى وسيؤدي في غالب الأحوال إلى التعسف وضياع الحقوق.
الحديث عن الاقتصاد والتطور الاقتصادي يجرنا إلى مسألة خلق الثروة وأهميتها وهذا يتطلب وجود قطاع بنكي متطور يدفع ويشجع الاستثمار..، فهل بنوكنا اليوم هي بنوك منتجة، تساهم في خلق التنمية؟
الواقع لا، فبنوكنا في أغلبها مجرد صناديق لحسابات تودع فيها رواتب الموظفين والعملة. إدارة بسيطة لحسابات زبائن في أغلبهم لا ينتجون الثروة بالمفهوم الاقتصادي رغم ما تحققه هذه البنوك من مرابيح نظير مسك تلك الحسابات. جزء قليل من خدمات هذه البنوك يتجه نحو القروض وهي ليست في متناول الجميع، بحكم أن هناك شريحة محدودة تستحوذ بطرق مختلفة على امتياز التمتع بالقروض المتوسطة والطويلة الأجل...
قطاعنا البنكي في حاجة إلى مراجعات وهذا يحتم تغيير القوانين المالية والصرفية وحتى أخلاقيات التعاملات والمعاملات. بنوكنا في حاجة إلى تغيير راديكالي.
قوانين الصرف ومسك والتصرف في حسابات العملة الأجنبية يجب أن تتغير. فما معنى أن يقع منع المواطن التونسي من استعمال بطاقة بنكية دولية تمكنه من التسوق أو خلاص خدمات خارج تونس أو منعه من خلاص مقتنياته عبر تطبيقات الكترونية مثل PayPal وغيرها من وسائل وتقنيات الدفع الأخرى.
أرى الكثير من الشباب العاجزين عن دفع بضعة دولارات من أجل اشتراء خدمة أو تطبيقة هم في أمسّ الحاجة إليها... فلو فرضا قمنا بتمكين ذلك الشاب من اقتناء ما يجب أن يقتنيه للقيام بعمله لأمكننا خلق الثروة مقابل مصاريف جدّ بسيطة. علينا أن نسأل، كم مشروعا وقع التخلي عنه نتيجة غياب آلية خلاص بالعملة الصعبة.
الأمر لا يتعلق بالطلبة والشباب فقط بل كذلك بالباحثين الذين يشاركون في دورات ومؤتمرات خارج تونس. يعجزون إلى آخر لحظة عن خلاص حجوزاتهم بالفنادق نتيجة عدم امتلاكهم لبطاقة بنكية تمكنهم من الحجز والخلاص خارج تونس، الشيء الذي يجعلهم يفكرون في حلول بديلة كالاستنجاد بأحد الأقارب أو المعارف خارج البلاد لكي يقومون بدلهم بإجراءات الحجز.
هل نساهم بهذه الطريقة المتخلفة في خلق الثروة.. هل نساهم في تقدم البلاد واستقطاب رؤوس أموال ومستثمرين من خارج تونس.. أبدا.
بتأخير كبير، بدأت تونس مؤخرا في التفكير في القطاع الرقمي، كيف تقيم هذه الخطوة..، وما يجب علينا فعله حتى نلحق بركب بقية الدول حتى القريبة منا؟
بالفعل هذه الخطوة متأخرة جدا، بطيئة وخجولة. أحد أكبر التحديات التي تواجه تونس اليوم هي كيفية التحول من بلد بيروقراطي إلى بلد يدار عن بعد. علينا أن نعجل بالرقمنة في مختلف الإدارات حتى وإن كان ذلك على حساب خسارة عدد من الوظائف. هذا لا يهم مقابل الفوائد الكبيرة التي ستجنيها تونس.
اليوم لا يمكننا إطلاقا مجاراة التحولات العالمية الكبرى ونحن مكبلون بطرق وبرامج عمل بالية ومتخلفة. المستقبل تجاوزنا ونحن مجبرون لا فقط على التأقلم ومواكبة التحولات بل المساهمة في صناعتها. علينا التحول من بلد مستهلك للبرامج إلى بلد يصنع برامج الإدارة والخدمات الرقمية وهذا ما تفعله العديد من المؤسسات في القطاع الخاص لكن يبقى ذلك كما ذكرت سالفا مقيدا ومكبلا بسلسلة من القوانين والإجراءات البيروقراطية المعقدة والمتخلفة.
مهندسينا بارعين في الخارج، بل يقودون أكبر المؤسسات الصناعية في الوقت الذي نبقى مكتوفي الأيدي، مقيدين ذاتيا بعدم الدفع نحو التغيير.
يتعرض قطاع الصناعات الغذائية والنسيجية إلى عمليات تعطيل، إلى أي مدى يمكن أن يؤثر ذلك على الوضع الاقتصادي بالبلاد؟
أي بلد في العالم لا يتنازل مطلقا على القطاعات المربحة والتي اكتسب فيها أسواقا خارجية. بل يسعى إلى دعمها، تطويرها وتجديدها عبر الابتكار.
ماذا فعلنا نحن خلال العشرية الأخيرة.. قمنا بالتفريط في أهم القطاعات التي كانت تتميز بها تونس منذ بداية السبعينات، تلك القطاعات التي كانت نتاج التحولات نحو سياسة الليبرالية الاقتصادية التي أرسى دعائمها الهادي نويرة. لقد أسسنا لصناعات خفيفة في القطاع الغذائي والنسيجي. اكتسبنا مهارات ونلنا ثقة كبرى الشركات خاصة في قطاع الملابس.
اليوم، الواقع يكاد يكون مختلف تماما. الجميع يعرف أن تونس لديها اتفاقيات شراكة مع العديد من التجمعات والدول، لعل أهمها مع الاتحاد الأوروبي ومع تركيا.
أثناء إمضاء اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995، تونس فاوضت من أجل جلب استثمارات أوروبية ونجحت في ذلك وكلنا يعرف الطفرة الاقتصادية التي عرفتها تونس من منتصف التسعينات حتى عشر سنوات لاحقة.لا يخفى أن الشركات الأوروبية العاملة في تونس بالآلاف، وهي مشغّل مهم لليد العاملة المختصة.
لكن، ماذا عن الاتفاقيات التجارية خاصة مع تركيا والصين؟
المبدأ في إبرام اتفاقيات التبادل التجاري أن يكون هناك توازن في تحصيل النتائج. وإلا ما الفائدة من ذلك. فما نستورده من تركيا بإمكاننا استيراده من أي دولة أخرى ونحن في حلّ من كل التزام تعاقدي.
المتابع لحركة التبادل التجاري بين البلدين سيلحظ عدم توازن خطير أضرّ بالاقتصاد التونسي، أنهك مؤسسات صناعية، أضر القطاع الغذائي والنسيجي وكل ما يتعلق بالمواد الاستهلاكية...، العجز التجاري مع تركيا فاق كل التوقعات، حوالي واحد مليار دولار (ما يعادل 3,4 مليار دينار).
أغلب ما نستورده من تركيا يمكننا التنازل عنه لأننا نقوم بتصنيعه في تونس... نستورد البلاستيك والملابس والبسكويت والحلوى والشكلاطة والعصائر بل وصل الأمر إلى منتوجات غذائية، تونس ليست فقط رائدة في صناعتها، بل لا علاقة لتركيا بها أصلا ولا تدخل ضمن عاداتها الغذائية.
سوف لن نتحدث عن بعض المكونات التي تدخل في صناعة ما نستورده من تركيا وهي مكونات محرّمة دوليا... وإلا لأمكن لتركيا مثلا تصدير سلعها نحو أوروبا وهي الأقرب إليها جغرافيا بل جزء منها يدخل ضمن القارة الأوروبية. فالسلع التركية لا نجدها في الفضاءات التجارية الكبرى بفرنسا أو سويسرا بل في المحلات التجارية الصغيرة التي يملكها بعض المهاجرين فقط.
تونس اليوم، عليها مراجعة هذه الاتفاقية وغيرها من الاتفاقيات وإن استوجب الأمر تعليقها أو حتى إلغائها، نفس الشيء مع السلع الصينية.
لا يمكن للشعب التونسي وللخزينة التونسية أن تواصل تمويل حسابات رجال أعمال يستوردون بضاعة من الخارج على حساب النسيج الاقتصادي التونسي. لا يمكن للدولة أن تساهم في ملء جيوب رجال أعمال مقابل ليس فقط قتل الاقتصاد المنتج بل ضرب كل نفس إصلاحي أو تطويري.
نحن في حاجة إلى تنويع الثروة وهذا يقتضي ظهور رجال أعمال جدد. لا يجب أن يفهم من حديثي هذا إعلان الحرب على كارتلات الاقتصاد الحالي، بل ضرورة فتح الباب لرجال أعمال جدد ولأفكار ودماء جديدة.
تونس دولة لها تاريخ عريق فيما يعرف بالصناعات الخفيفة (الغذائية والنسيج والمواد المنزلية...) وما علينا إلا فتح باب الاستثمار للتونسيين والأجانب للاستثمار في تونس..، ليبنوا هنا مصانعهم ولتخرج سلعهم تحت علامة "صنع في تونس"...
في الوقت الحالي، تواصل الجالية التونسية بالخارج دعم الاقتصاد التونسي عبر ضخها للعملة الصعبة... وهي تكاد تكون اليوم المتنفس الأبرز قبل عائدات الفسفاط، لكن هذه الجالية تطالب بتغيير القوانين وبتسهيل عمليات الاستثمار والتوطين، فهي غير مستعدة للدعم إلى ما لا نهاية مقابل النكران والجحود...، كل الاتفاقيات التجارية يجب وضعها على الطاولة...، علينا أن نحدد إلى أين نحن متجهون.
المناطق الداخلية لم تجد إقبالا ورغبة كبيرة من المستثمرين رغم بعض التشجيعات، حسب رأيك أين تكمن العراقيل؟
لا يمكن لاقتصاد أن ينهض في غياب خطط بناء واضحة، سريعة وعملية للبنية التحتية.
جغرافيا، تونس بلد موقعه أكثر من ممتاز، يفتح على البحر المتوسط من جهتين وحدوده الجنوبية ضاربة في أعماق الصحراء. إضافة إلى ذلك كبلد مساحته الجغرافية تسمح له بالتحول سريعا إلى ورشة إنتاج عملاقة. ضرورة ربط الجهات بشبكة من الطرق السريعة، التشجيع على الاستثمار الخاص في النقل الحديدي سواء كان للمسافرين أو للبضائع.
الاستثمار في البنية التحتية يجب أن يكون أولوية قصوى. على الدولة أن ترسم خارطة لتشبيك تونس بنيويا عبر شبكة من الطرق السريعة وشبكات النقل الحديدي. المال للقيام بذلك لا يمثل عائقا. الدولة عليها أن تقوم بالدراسات الفنية وتحدد مطالبها ثم تعرضها على المحافظ الاستثمارية مقابل عقود لزمة دولية... هناك مكاتب دولية مختصة في البحث عن التمويل. المحافظ والصناديق الاستثمارية جاهزة للعمل وهي تبحث عن الاستثمار. يبقى فقط ضرورة توفر شروط أعتقد أنها سهلة وبإمكان تونس توفيرها وهي الأمن والاستقرار السياسي. أما الاستقرار الاجتماعي فسيحدث مع الوقت وتحديدا مع البوادر الأولى للإنتاج.
هل الاقتصاد التونسي بإمكانه المزاحمة خارجيا في قطاعات محددة؟
نعم بإمكان الاقتصاد التونسي المزاحمة. لا أحد بإمكانه تجاهل كفاءة مهندسي وتقنيي وعملة العديد من القطاعات وتحديدا في القطاع الصناعات الغذائية، الدوائية، التكنولوجية والنسيجية. هناك قطاعات لها أسواق خارجية علينا دعمها كما علينا مساندة قطاعات جديدة نحو التصدير.
طيلة سنوات عديد استطاعت تونس بناء شبكة من العلاقات الاستثمارية مع عدة بلدان. اليوم تونس نتيجة ضعف في اللوجستيك بما يعنيه من تعطيل في الإدارة وفي ظروف النقل والشحن، تتعرض استثماراتنا وأسواقنا في كثير من البلدان الخارجية إلى منافسة غير شريفة. لهذا، بالإمكان تغيير مناهج وقوانين التصدير تماما والدفع نحو تأسيس وكالة جديدة رقمية تقوم بالدعاية لمنتوجاتنا بمختلف أصنافها، حماية استثماراتنا الخارجية والبحث عن جديدة... قد نتحدث حتى عن وكالة تجمع بين العمل الدعائي، التجاري والاستعلاماتي.
* في "تيكاد"، نجحنا فقط في التنظيم واليابانيون جاؤوا للبحث عن فرص استثمار لكن الظاهر أنها لم تكن متوفرة بتونس
* لا يمكن أن نواصل بنفس القوانين التي وقع إقرارها منذ أكثر من قرن
* بنوكنا مجرد صناديق لحسابات تودع فيها رواتب الموظفين والعملة ولا تنتج الثروة
* علينا وضع كل الاتفاقيات التجارية على طاولة النقاش
* لا يمكن للشعب والخزينة أن يواصلا تمويل حسابات رجال أعمال يستوردون على حساب النسيج الاقتصادي
* على الدولة أن ترسم خارطة لتشبيك تونس بنيويا عبر شبكة طرق سريعة وشبكات نقل حديدي
تونس-الصباح
بعد المصادقة على دستور الجمهورية الثالثة عبر استفتاء شعبي قال فيه الشعب التونسي كلمته، لا بد اليوم من المرور إلى جملة من الإصلاحات التي تتطلبها البلاد وخاصة في المجال الاقتصادي حيث أصبح الوضع دقيقا ولم يعد قابلا لمزيد الانتظار حتى لا تغرق تونس أكثر ولا ينهار اقتصادها أكثر..
حول هذه الإصلاحات وأولوياتها كان لـ"الصباح" هذا اللقاء مع الدكتور سامي الجلولي المقيم في سويسرا المختص في العلاقات الدولية والاقتصادية والباحث في الأنظمة السياسية والعربية وصاحب عديد الكتب في المجال.
حاوره: سفيان رجب
في البداية كيف تستقرئون حصيلة منتدى "تيكاد" الذي احتضنته بلادنا منذ أيام؟
في الحقيقة حصيلة الملتقى لم تكن مثلما انتظرنا والـ30 مليار دولار هي حجم الغلاف المالي الذي تنوي اليابان وضعه في استثمارات في أفريقيا ليس بالأمر الكبير. أما عن مكاسب تونس فلا تتجاوز ثلاث اتفاقيات تتعلق بتمويل مشاريع للشركات الناشئة وأخرى في قطاع التأمين إلى جانب مشروع لتحلية مياه البح...، وغنمت باقي الدول الأفريقية حوالي 30 اتفاقية... اليابانيون لم يأتوا إلى تونس للفسحة والاستجمام. جاؤوا للبحث عن فرص استثمار لكن الظاهر أن هذه الفرص لم تكن متوفرة بتونس...
حسب علمي تونس اقترحت 47 مشروعا لكن لم تفز إلا بثلاثة فقط. والاتفاقيات هذه ليست عقود بل بروتوكول نوايا استثمار مرتبط بدراسات معمقة وسنوات من الانتظار... ! نجحنا في التنظيم نعم لكن فشلنا في كسب الاستثمارات.
دخلت تونس مؤخرا مرحلة الجمهورية الثالثة بدستور جديد وآفاق جديدة..، فهل يمكن اعتبار هذا الدستور والتشريعات الأخرى القائمة كفيلة بإحداث النقلة والنهوض المطلوب بعد عشرية رأينا فيها كل مظاهر الانحدار؟
الجريمة تطورت، بل عرفت تحولا راديكاليا... هناك سلسلة من الجرائم الجديدة كالالكترونية مثلا تفتقر إلى نصوص تجريمية خاصة بها، وبالتالي الافتقار إلى وجود قضاة مختصين في ذلك. لكن في الجهة المقابلة هناك أفعال كانت توصف بأفعال ذات صبغة إجرامية، مع التطورات التي عرفها المجتمع فقدت صفتها تلك، فما كان يمكن وصفه من قبل بالجريمة لم يعد وصفه الآن. تعويم النصوص الحالية على جرائم جديدة قد يكون قاصرا من جهة وقد يكون مشطا من جهة أخرى وسيؤدي في غالب الأحوال إلى التعسف وضياع الحقوق.
الحديث عن الاقتصاد والتطور الاقتصادي يجرنا إلى مسألة خلق الثروة وأهميتها وهذا يتطلب وجود قطاع بنكي متطور يدفع ويشجع الاستثمار..، فهل بنوكنا اليوم هي بنوك منتجة، تساهم في خلق التنمية؟
الواقع لا، فبنوكنا في أغلبها مجرد صناديق لحسابات تودع فيها رواتب الموظفين والعملة. إدارة بسيطة لحسابات زبائن في أغلبهم لا ينتجون الثروة بالمفهوم الاقتصادي رغم ما تحققه هذه البنوك من مرابيح نظير مسك تلك الحسابات. جزء قليل من خدمات هذه البنوك يتجه نحو القروض وهي ليست في متناول الجميع، بحكم أن هناك شريحة محدودة تستحوذ بطرق مختلفة على امتياز التمتع بالقروض المتوسطة والطويلة الأجل...
قطاعنا البنكي في حاجة إلى مراجعات وهذا يحتم تغيير القوانين المالية والصرفية وحتى أخلاقيات التعاملات والمعاملات. بنوكنا في حاجة إلى تغيير راديكالي.
قوانين الصرف ومسك والتصرف في حسابات العملة الأجنبية يجب أن تتغير. فما معنى أن يقع منع المواطن التونسي من استعمال بطاقة بنكية دولية تمكنه من التسوق أو خلاص خدمات خارج تونس أو منعه من خلاص مقتنياته عبر تطبيقات الكترونية مثل PayPal وغيرها من وسائل وتقنيات الدفع الأخرى.
أرى الكثير من الشباب العاجزين عن دفع بضعة دولارات من أجل اشتراء خدمة أو تطبيقة هم في أمسّ الحاجة إليها... فلو فرضا قمنا بتمكين ذلك الشاب من اقتناء ما يجب أن يقتنيه للقيام بعمله لأمكننا خلق الثروة مقابل مصاريف جدّ بسيطة. علينا أن نسأل، كم مشروعا وقع التخلي عنه نتيجة غياب آلية خلاص بالعملة الصعبة.
الأمر لا يتعلق بالطلبة والشباب فقط بل كذلك بالباحثين الذين يشاركون في دورات ومؤتمرات خارج تونس. يعجزون إلى آخر لحظة عن خلاص حجوزاتهم بالفنادق نتيجة عدم امتلاكهم لبطاقة بنكية تمكنهم من الحجز والخلاص خارج تونس، الشيء الذي يجعلهم يفكرون في حلول بديلة كالاستنجاد بأحد الأقارب أو المعارف خارج البلاد لكي يقومون بدلهم بإجراءات الحجز.
هل نساهم بهذه الطريقة المتخلفة في خلق الثروة.. هل نساهم في تقدم البلاد واستقطاب رؤوس أموال ومستثمرين من خارج تونس.. أبدا.
بتأخير كبير، بدأت تونس مؤخرا في التفكير في القطاع الرقمي، كيف تقيم هذه الخطوة..، وما يجب علينا فعله حتى نلحق بركب بقية الدول حتى القريبة منا؟
بالفعل هذه الخطوة متأخرة جدا، بطيئة وخجولة. أحد أكبر التحديات التي تواجه تونس اليوم هي كيفية التحول من بلد بيروقراطي إلى بلد يدار عن بعد. علينا أن نعجل بالرقمنة في مختلف الإدارات حتى وإن كان ذلك على حساب خسارة عدد من الوظائف. هذا لا يهم مقابل الفوائد الكبيرة التي ستجنيها تونس.
اليوم لا يمكننا إطلاقا مجاراة التحولات العالمية الكبرى ونحن مكبلون بطرق وبرامج عمل بالية ومتخلفة. المستقبل تجاوزنا ونحن مجبرون لا فقط على التأقلم ومواكبة التحولات بل المساهمة في صناعتها. علينا التحول من بلد مستهلك للبرامج إلى بلد يصنع برامج الإدارة والخدمات الرقمية وهذا ما تفعله العديد من المؤسسات في القطاع الخاص لكن يبقى ذلك كما ذكرت سالفا مقيدا ومكبلا بسلسلة من القوانين والإجراءات البيروقراطية المعقدة والمتخلفة.
مهندسينا بارعين في الخارج، بل يقودون أكبر المؤسسات الصناعية في الوقت الذي نبقى مكتوفي الأيدي، مقيدين ذاتيا بعدم الدفع نحو التغيير.
يتعرض قطاع الصناعات الغذائية والنسيجية إلى عمليات تعطيل، إلى أي مدى يمكن أن يؤثر ذلك على الوضع الاقتصادي بالبلاد؟
أي بلد في العالم لا يتنازل مطلقا على القطاعات المربحة والتي اكتسب فيها أسواقا خارجية. بل يسعى إلى دعمها، تطويرها وتجديدها عبر الابتكار.
ماذا فعلنا نحن خلال العشرية الأخيرة.. قمنا بالتفريط في أهم القطاعات التي كانت تتميز بها تونس منذ بداية السبعينات، تلك القطاعات التي كانت نتاج التحولات نحو سياسة الليبرالية الاقتصادية التي أرسى دعائمها الهادي نويرة. لقد أسسنا لصناعات خفيفة في القطاع الغذائي والنسيجي. اكتسبنا مهارات ونلنا ثقة كبرى الشركات خاصة في قطاع الملابس.
اليوم، الواقع يكاد يكون مختلف تماما. الجميع يعرف أن تونس لديها اتفاقيات شراكة مع العديد من التجمعات والدول، لعل أهمها مع الاتحاد الأوروبي ومع تركيا.
أثناء إمضاء اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995، تونس فاوضت من أجل جلب استثمارات أوروبية ونجحت في ذلك وكلنا يعرف الطفرة الاقتصادية التي عرفتها تونس من منتصف التسعينات حتى عشر سنوات لاحقة.لا يخفى أن الشركات الأوروبية العاملة في تونس بالآلاف، وهي مشغّل مهم لليد العاملة المختصة.
لكن، ماذا عن الاتفاقيات التجارية خاصة مع تركيا والصين؟
المبدأ في إبرام اتفاقيات التبادل التجاري أن يكون هناك توازن في تحصيل النتائج. وإلا ما الفائدة من ذلك. فما نستورده من تركيا بإمكاننا استيراده من أي دولة أخرى ونحن في حلّ من كل التزام تعاقدي.
المتابع لحركة التبادل التجاري بين البلدين سيلحظ عدم توازن خطير أضرّ بالاقتصاد التونسي، أنهك مؤسسات صناعية، أضر القطاع الغذائي والنسيجي وكل ما يتعلق بالمواد الاستهلاكية...، العجز التجاري مع تركيا فاق كل التوقعات، حوالي واحد مليار دولار (ما يعادل 3,4 مليار دينار).
أغلب ما نستورده من تركيا يمكننا التنازل عنه لأننا نقوم بتصنيعه في تونس... نستورد البلاستيك والملابس والبسكويت والحلوى والشكلاطة والعصائر بل وصل الأمر إلى منتوجات غذائية، تونس ليست فقط رائدة في صناعتها، بل لا علاقة لتركيا بها أصلا ولا تدخل ضمن عاداتها الغذائية.
سوف لن نتحدث عن بعض المكونات التي تدخل في صناعة ما نستورده من تركيا وهي مكونات محرّمة دوليا... وإلا لأمكن لتركيا مثلا تصدير سلعها نحو أوروبا وهي الأقرب إليها جغرافيا بل جزء منها يدخل ضمن القارة الأوروبية. فالسلع التركية لا نجدها في الفضاءات التجارية الكبرى بفرنسا أو سويسرا بل في المحلات التجارية الصغيرة التي يملكها بعض المهاجرين فقط.
تونس اليوم، عليها مراجعة هذه الاتفاقية وغيرها من الاتفاقيات وإن استوجب الأمر تعليقها أو حتى إلغائها، نفس الشيء مع السلع الصينية.
لا يمكن للشعب التونسي وللخزينة التونسية أن تواصل تمويل حسابات رجال أعمال يستوردون بضاعة من الخارج على حساب النسيج الاقتصادي التونسي. لا يمكن للدولة أن تساهم في ملء جيوب رجال أعمال مقابل ليس فقط قتل الاقتصاد المنتج بل ضرب كل نفس إصلاحي أو تطويري.
نحن في حاجة إلى تنويع الثروة وهذا يقتضي ظهور رجال أعمال جدد. لا يجب أن يفهم من حديثي هذا إعلان الحرب على كارتلات الاقتصاد الحالي، بل ضرورة فتح الباب لرجال أعمال جدد ولأفكار ودماء جديدة.
تونس دولة لها تاريخ عريق فيما يعرف بالصناعات الخفيفة (الغذائية والنسيج والمواد المنزلية...) وما علينا إلا فتح باب الاستثمار للتونسيين والأجانب للاستثمار في تونس..، ليبنوا هنا مصانعهم ولتخرج سلعهم تحت علامة "صنع في تونس"...
في الوقت الحالي، تواصل الجالية التونسية بالخارج دعم الاقتصاد التونسي عبر ضخها للعملة الصعبة... وهي تكاد تكون اليوم المتنفس الأبرز قبل عائدات الفسفاط، لكن هذه الجالية تطالب بتغيير القوانين وبتسهيل عمليات الاستثمار والتوطين، فهي غير مستعدة للدعم إلى ما لا نهاية مقابل النكران والجحود...، كل الاتفاقيات التجارية يجب وضعها على الطاولة...، علينا أن نحدد إلى أين نحن متجهون.
المناطق الداخلية لم تجد إقبالا ورغبة كبيرة من المستثمرين رغم بعض التشجيعات، حسب رأيك أين تكمن العراقيل؟
لا يمكن لاقتصاد أن ينهض في غياب خطط بناء واضحة، سريعة وعملية للبنية التحتية.
جغرافيا، تونس بلد موقعه أكثر من ممتاز، يفتح على البحر المتوسط من جهتين وحدوده الجنوبية ضاربة في أعماق الصحراء. إضافة إلى ذلك كبلد مساحته الجغرافية تسمح له بالتحول سريعا إلى ورشة إنتاج عملاقة. ضرورة ربط الجهات بشبكة من الطرق السريعة، التشجيع على الاستثمار الخاص في النقل الحديدي سواء كان للمسافرين أو للبضائع.
الاستثمار في البنية التحتية يجب أن يكون أولوية قصوى. على الدولة أن ترسم خارطة لتشبيك تونس بنيويا عبر شبكة من الطرق السريعة وشبكات النقل الحديدي. المال للقيام بذلك لا يمثل عائقا. الدولة عليها أن تقوم بالدراسات الفنية وتحدد مطالبها ثم تعرضها على المحافظ الاستثمارية مقابل عقود لزمة دولية... هناك مكاتب دولية مختصة في البحث عن التمويل. المحافظ والصناديق الاستثمارية جاهزة للعمل وهي تبحث عن الاستثمار. يبقى فقط ضرورة توفر شروط أعتقد أنها سهلة وبإمكان تونس توفيرها وهي الأمن والاستقرار السياسي. أما الاستقرار الاجتماعي فسيحدث مع الوقت وتحديدا مع البوادر الأولى للإنتاج.
هل الاقتصاد التونسي بإمكانه المزاحمة خارجيا في قطاعات محددة؟
نعم بإمكان الاقتصاد التونسي المزاحمة. لا أحد بإمكانه تجاهل كفاءة مهندسي وتقنيي وعملة العديد من القطاعات وتحديدا في القطاع الصناعات الغذائية، الدوائية، التكنولوجية والنسيجية. هناك قطاعات لها أسواق خارجية علينا دعمها كما علينا مساندة قطاعات جديدة نحو التصدير.
طيلة سنوات عديد استطاعت تونس بناء شبكة من العلاقات الاستثمارية مع عدة بلدان. اليوم تونس نتيجة ضعف في اللوجستيك بما يعنيه من تعطيل في الإدارة وفي ظروف النقل والشحن، تتعرض استثماراتنا وأسواقنا في كثير من البلدان الخارجية إلى منافسة غير شريفة. لهذا، بالإمكان تغيير مناهج وقوانين التصدير تماما والدفع نحو تأسيس وكالة جديدة رقمية تقوم بالدعاية لمنتوجاتنا بمختلف أصنافها، حماية استثماراتنا الخارجية والبحث عن جديدة... قد نتحدث حتى عن وكالة تجمع بين العمل الدعائي، التجاري والاستعلاماتي.