لا يكاد المتأمل في أحوال المجتمع التونسي يجد شيئا يرضيه ما عدا تفوق أنس جابر عالميا في كرة المضرب. وفي المقابل فموجة استعمال الدارجة التونسية في الكتابة هي إضافة إلى ثقل العيوب الكثيرة لهذا المجتمع. إن تصاعد الكتابة بالدارجة هي جزء مما نسميه 'التخلف الآخر'. لفهم طبيعة هذا الأخير ينبغي معرفة الفرق بين الدارجة (وسيلة الحديث) واللغة. تُعرَّف الدارجة على أنها فرع خاص من لغة ما يقع الحديث به في جزء من بلد ما أو منطقة جغرافية معينة. والسؤال المشروع هنا: ما الفرق بين اللغة والدارجة ؟ اللغة هي ذلك الشيء الذي لا يفهمه غير المتحدثين بها. فالفرنسية والانكليزية هما لغتان وليستا دارجتين لأن حديث أي من الفريقين بلغته مع الآخر يكون غير مفهوم. أما الدارجات فهي تكون مفهومة لدى الناس عندما تكون فروعا للغة واحدة كما هو الحال مع الدارجات العربية المتفرعة عن اللغة العربية الفصحى.
العامية التونسية ليست لغة
إذن، فالدارجة التونسية ليست لغة كما يدعي عن جهل المناصرون لاستعمال العامية في الكتابة. إذ أنها مفهومة عموما في المجتمعات العربية لأنها ذات قرابة مع الفصحى. لكن تأتي صعوبةُ فهمها أحيانا من المواطنين العرب لأكثر من سبب موضوعي.1- يغلب على نطق التونسيين للكلمات العربية الميلُ إلى كثرة وضع السكون على حروفها. فالأمثلة على ذلك لا تُحصى: فكلمة بَحْرُ تنطق بْحْرْ وكِتَابُ/ كْتْابْ والسَمَاءُ/اسْمَاءْ والدَوَاءْ /الدْوَاءْ ومُصْطََفََى/مُصْطْفَى. أما اسما عُمَرْ وأَحْمَدُ فكانا قبل عقود ينطقان عْمُرْ واحْمْدْ. فهذا الميل إلى 'تسكين' الحروف في الكلمات العربية يُضْعف قدرة المواطن العربي في المشرق على فهم التونسي وهو يتحدث بالعامية التونسية. 2- تستعمل هذه الأخيرة كلمات وعبارات كثيرة باللغة الفرنسية (الفرنكوأ راب). 3- توجد في الدارجة التونسية كلمات عديدة من اللغة الأمازيغية وغيرها.
الدارجة التونسية وسيلة انغلاق
كما رأينا، فالدارجة التونسية ليست لغة وإنما هي عامية في الصميم وليدة الفصحى أساسا التي هي اللغة الوطنية للمجتمع التونسي. فمن وجهة أخلاقيات الشفافية الكاملة، فإن عدم معرفة واستعمال اللغة الوطنية والدفاع عنها هو سلوك غير وطني نحو أهم عناصر الهوية الفردية والجماعية لدى الشعوب. فاحتضان اللغة العربية كلغة وطنية عبارة عن جواز سفر يسمح للتونسيات والتونسيين بالتواصل السهل مع الثقافات الحاضرة والماضية والمستقبلية لكل المجتمعات العربية ناهيك عن المخزون الثقافي المكتوب بلغة الضاد والموجود في المكتبات العالمية. في زيارة للمغرب يذكر طه حسين أنه لم يفهم كلمة 'دْيَالْنا' من الدارجة المغربية وأن العربية الفصحى كانت السبيل لفهم معنى تلك الكلمة وللتواصل بين المصريين والمغاربة. فاشتراك الشعوب العربية في الفصحى يجعل التواصل بينها أمرا سهلا حتى عندما تسوء العلاقات السياسية بين الحكام وتغلق الحدود. ومنه، فالانطواءُ على الدارجة التونسية يحرم المجتمعَ التونسي من التواصل مع محيطه العربي الواسع القريب و المباشر، و من ثم، من التواصل مع ثقافاته الأمر الذي يفتح عهدا جديدا لعزلة المجتمع التونسي. وعكس ذلك التوجه الانطوائي على الدارجة التونسية، تستعمل السلطاتُ التونسية اللغة الفرنسية للتقارب والتحالف من المجتمعات المستعملة للفرنسية في إفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. ومن ثم، كانت تونس من المؤسسين لمنظمة الفرنكوفونية. يتجلى عن هذا الموقف ذي المكيالين النفور من اللغة العربية، من جهة، والترحيب باللغة الفرنسية (لغة المستعمر)، من جهة أخرى.كما يفسر هذا الموقف غير الصديق للفصحى تناقضا في ادعاء المجتمع التونسي أنه مجتمع يرحب دائما بتعلم المزيد من اللغات حتى لو كانت غير مفيدة كثيرا في مجال العلم والمعرفة العصريين. والسؤال هنا: لماذا يقع إقصاء تعلم العربية الفصحى كجزء أولا من عملية إثراء الرصيد اللغوي للتونسيين وثانيا باعتبار اللغة العربية اللغة الوطنية الرسمية للبلاد؟ بالطبع هناك مفارقة واضحة المعالم ذات مخالب استعمارية تنفر من احتضان اللغة العربية بمودة حميمة وترحب بقوة باستعمال الفرنسية/لغة المستعمِر في الحديث والكتابة لدى الأفراد والمؤسسات والأماكن العامة كما تشهد على ذلك لغة اللافتات في الشوارع والمتاجر ووو.
الرئيس مع الفصحى وغيره مع الدارجة ؟
يجوز القول إن السلوك اللغوي بفصيح اللسان العربي الذي يتبناه الرئيس قيس سعيّد قد يدل ظاهريا أن الرجل هو أكثر رؤساء تونس تحمسا للغة العربية الفصحى واستعمالا لها في حديثه العادي. وهي ظاهرة لا فتة للنظر في المجتمع التونسي. رغم ذلك،. فالسعي لمعرفة سبب/أسباب هذا السلوك اللغوي أمر مشروع للغاية علميا ووطنيا. فاستعمال الرئيس للفصحى في الحديث لا يبدو أنه يعود إلى تحمس حقيقي عميق و نزيه إلى اللسان العربي وذلك لثلاثة أسباب على الأقل: 1- ليس ضروريا أن يؤدي استعمال الفصحى إلى إقصاء الدارجة العربية التونسية من الاستعمال باعتبارها أولا ابنة الفصحى في معظم كلماتها وثانيا لأن الدارجة لغة التواصل المعمول به في المجتمع التونسي. 2- لو كان الرئيس متحمسا حقا للفصحى لتحدث عن توطين العلاقة معها بكل جدية في خطبه الكثيرة ولدعا بالمشروعية الوطنية والقانونية ، مثلا، إلى احترام وتطبيق قوانين كتابة اللافتات في المدن والقرى لصالح اللغة العربية/الوطنية. 3- هناك حملة واسعة جارية أمس واليوم في المجتمع التونسي لصالح الكتابة بالدارجة التونسية في الوزارات والمؤسسات الوطنية (مثل القناة الوطنية 1 التي تستعمل الدارجة في الإشهار للاستفتاء) وفي الشوارع وغيرها. لم يُعرف عن الرئيس أنه تحدث عن هذه الظاهرة التي تتعارض مع استعمال الفصحى اللغة الوطنية التي يفضل الرئيس استعمالها في حديثه مع الخاصة والعامة. يمثل هذا التناقض في موقف الرئيس لغزا يترشح علم النفس بامتياز أكثر من غيره لإلقاء الضوء عليه.
نظرية الحجر اللغوي مفتاح التفسير
تركز بحوثنا منذ عقود على فقدان العلاقة السليمة بين المجتمعات المغاربية واللغة العربية لغتها الوطنية. فأطلقنا مسميات متعددة على ذلك الفقدان. فكان مفهوم 'التخلف الآخر' أول تلك المسميات. ثم تلت ذلك مجموعة من المفاهيم مثل 'الفرنكوأراب الأنثوية' و'الازدواجية اللغوية الأمارة' و'ضُعف المناعة اللغوية' و'الاستيطان اللغوي'. تقول رؤية علم الاجتماع إن ميلاد بعض المفاهيم حول ظاهرة ما يرشحها لكي تساهم في إنشاء نظرية حول تلك الظاهرة. فالنظرية في العلوم الاجتماعية هي إطار فكري يفسر معالم الحياة الاجتماعية، والسلوك اللغوي هو بالتأكيد أحد تلك المعالم. يمثل اكتشافنا الأخير لنظرية الحجر اللغوي الصالحة لتفسير العلاقة غير السليمة مع اللغة العربية في المجتمع التونسي وغيره من المجتمعات المغاربية الفرنكوفونية.
هدتنا صدفة منافعُ الحجر الصحي ضدّ وباء الكورونا إلى حجر آخر له أيضا فوائد جمة رغم الاختلاف الكبير في طبيعتهما. فرب صدفة خير من ألف ميعاد. وُلدت لدينا نظرية جديدة لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. إنها نظرية الحجر اللغوي: استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في كل شيء بما فيه التدريس ابتداء من حاضنات صغار الأطفال وفي المراحل الثلاث على الأقل للتعليم: الابتدائية والإعدادية والثانوية. فعلا، تلك هي العلاقة الطبيعية/السليمة بين المجتمعات والناس ولغاتهم. فحضور الحجر اللغوي أو غيابه يساعد ،مثلا، على تفسير سلوكيات التونسيات والتونسيين السليمة وغير السليمة مع اللغة العربية/الوطنية أو مع أو ضد الدارجة التونسية . يُلاحظ على التونسيات والتونسيين الذين استعملوا الفرنسية والعربية معا في الدراسة في تلك المراحل الثلاث من التعليم أنهم لا يعارضون استعمال الفرنسية حتى في أبسط الأشياء مثل كتابة شيكاتهم بالفرنسية فقط ويرحبون باستعمال الدارجة في الكتابة. وفي المقابل، فالتونسيون والتونسيات الذين درسوا في نظام الحجر اللغوي في مطلع الاستقلال في ما يُسمى شُعبة (أ) المعرَّبة هم أكثر تحمسا من غيرهم من خريجي المداس التونسية بعد الاستقلال والمدرسة الصادقية قبله في استعمال اللغة العربية والدفاع عنها ومعارضة لاستعمال الدارجة في الكتابة. تساعد مقاربة ُ الحجر اللغوي مع الحجر الصحي على تفسير الفرق بين هذين الصنفين من الخريجين. تتشابه تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) تحمي الأفراد كثيرا من الإصابة بالكورونا.وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة. فسلامة صحة الأفرد وسلامة لغتهم هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. وهكذا، فالحجر اللغوي يربي نفسيا فسلوكيا الملتزمين به على إنشاء علاقة سليمة مع لغاتهم. فطه حسين المدافع على الفصحى مثال على تأثير الحجر اللغوي. فالرجل درس في الأزهر حيث العربية هي لغة تدريس كل المواد. فدراسته بالفرنسة في الجامعات الفرنسية وحداثته الفكرية لم تفسدا علاقته بالفصحى (فهو لا يكاد يتحدث بالدارجة المصرية). إنه موقف في الاتجاه المعاكس لكثير من المثقفين التونسيات والتونسيين أصحاب ما نسميها 'الحداثة المغشوشة' كما هو الحال في ضُعفِ صداقة بيت الحكمة للغة العربية.
(*)عالم الاجتماع
أ.د. محمود الذوادي (*)
الفرق بين اللغة والدارجة
لا يكاد المتأمل في أحوال المجتمع التونسي يجد شيئا يرضيه ما عدا تفوق أنس جابر عالميا في كرة المضرب. وفي المقابل فموجة استعمال الدارجة التونسية في الكتابة هي إضافة إلى ثقل العيوب الكثيرة لهذا المجتمع. إن تصاعد الكتابة بالدارجة هي جزء مما نسميه 'التخلف الآخر'. لفهم طبيعة هذا الأخير ينبغي معرفة الفرق بين الدارجة (وسيلة الحديث) واللغة. تُعرَّف الدارجة على أنها فرع خاص من لغة ما يقع الحديث به في جزء من بلد ما أو منطقة جغرافية معينة. والسؤال المشروع هنا: ما الفرق بين اللغة والدارجة ؟ اللغة هي ذلك الشيء الذي لا يفهمه غير المتحدثين بها. فالفرنسية والانكليزية هما لغتان وليستا دارجتين لأن حديث أي من الفريقين بلغته مع الآخر يكون غير مفهوم. أما الدارجات فهي تكون مفهومة لدى الناس عندما تكون فروعا للغة واحدة كما هو الحال مع الدارجات العربية المتفرعة عن اللغة العربية الفصحى.
العامية التونسية ليست لغة
إذن، فالدارجة التونسية ليست لغة كما يدعي عن جهل المناصرون لاستعمال العامية في الكتابة. إذ أنها مفهومة عموما في المجتمعات العربية لأنها ذات قرابة مع الفصحى. لكن تأتي صعوبةُ فهمها أحيانا من المواطنين العرب لأكثر من سبب موضوعي.1- يغلب على نطق التونسيين للكلمات العربية الميلُ إلى كثرة وضع السكون على حروفها. فالأمثلة على ذلك لا تُحصى: فكلمة بَحْرُ تنطق بْحْرْ وكِتَابُ/ كْتْابْ والسَمَاءُ/اسْمَاءْ والدَوَاءْ /الدْوَاءْ ومُصْطََفََى/مُصْطْفَى. أما اسما عُمَرْ وأَحْمَدُ فكانا قبل عقود ينطقان عْمُرْ واحْمْدْ. فهذا الميل إلى 'تسكين' الحروف في الكلمات العربية يُضْعف قدرة المواطن العربي في المشرق على فهم التونسي وهو يتحدث بالعامية التونسية. 2- تستعمل هذه الأخيرة كلمات وعبارات كثيرة باللغة الفرنسية (الفرنكوأ راب). 3- توجد في الدارجة التونسية كلمات عديدة من اللغة الأمازيغية وغيرها.
الدارجة التونسية وسيلة انغلاق
كما رأينا، فالدارجة التونسية ليست لغة وإنما هي عامية في الصميم وليدة الفصحى أساسا التي هي اللغة الوطنية للمجتمع التونسي. فمن وجهة أخلاقيات الشفافية الكاملة، فإن عدم معرفة واستعمال اللغة الوطنية والدفاع عنها هو سلوك غير وطني نحو أهم عناصر الهوية الفردية والجماعية لدى الشعوب. فاحتضان اللغة العربية كلغة وطنية عبارة عن جواز سفر يسمح للتونسيات والتونسيين بالتواصل السهل مع الثقافات الحاضرة والماضية والمستقبلية لكل المجتمعات العربية ناهيك عن المخزون الثقافي المكتوب بلغة الضاد والموجود في المكتبات العالمية. في زيارة للمغرب يذكر طه حسين أنه لم يفهم كلمة 'دْيَالْنا' من الدارجة المغربية وأن العربية الفصحى كانت السبيل لفهم معنى تلك الكلمة وللتواصل بين المصريين والمغاربة. فاشتراك الشعوب العربية في الفصحى يجعل التواصل بينها أمرا سهلا حتى عندما تسوء العلاقات السياسية بين الحكام وتغلق الحدود. ومنه، فالانطواءُ على الدارجة التونسية يحرم المجتمعَ التونسي من التواصل مع محيطه العربي الواسع القريب و المباشر، و من ثم، من التواصل مع ثقافاته الأمر الذي يفتح عهدا جديدا لعزلة المجتمع التونسي. وعكس ذلك التوجه الانطوائي على الدارجة التونسية، تستعمل السلطاتُ التونسية اللغة الفرنسية للتقارب والتحالف من المجتمعات المستعملة للفرنسية في إفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. ومن ثم، كانت تونس من المؤسسين لمنظمة الفرنكوفونية. يتجلى عن هذا الموقف ذي المكيالين النفور من اللغة العربية، من جهة، والترحيب باللغة الفرنسية (لغة المستعمر)، من جهة أخرى.كما يفسر هذا الموقف غير الصديق للفصحى تناقضا في ادعاء المجتمع التونسي أنه مجتمع يرحب دائما بتعلم المزيد من اللغات حتى لو كانت غير مفيدة كثيرا في مجال العلم والمعرفة العصريين. والسؤال هنا: لماذا يقع إقصاء تعلم العربية الفصحى كجزء أولا من عملية إثراء الرصيد اللغوي للتونسيين وثانيا باعتبار اللغة العربية اللغة الوطنية الرسمية للبلاد؟ بالطبع هناك مفارقة واضحة المعالم ذات مخالب استعمارية تنفر من احتضان اللغة العربية بمودة حميمة وترحب بقوة باستعمال الفرنسية/لغة المستعمِر في الحديث والكتابة لدى الأفراد والمؤسسات والأماكن العامة كما تشهد على ذلك لغة اللافتات في الشوارع والمتاجر ووو.
الرئيس مع الفصحى وغيره مع الدارجة ؟
يجوز القول إن السلوك اللغوي بفصيح اللسان العربي الذي يتبناه الرئيس قيس سعيّد قد يدل ظاهريا أن الرجل هو أكثر رؤساء تونس تحمسا للغة العربية الفصحى واستعمالا لها في حديثه العادي. وهي ظاهرة لا فتة للنظر في المجتمع التونسي. رغم ذلك،. فالسعي لمعرفة سبب/أسباب هذا السلوك اللغوي أمر مشروع للغاية علميا ووطنيا. فاستعمال الرئيس للفصحى في الحديث لا يبدو أنه يعود إلى تحمس حقيقي عميق و نزيه إلى اللسان العربي وذلك لثلاثة أسباب على الأقل: 1- ليس ضروريا أن يؤدي استعمال الفصحى إلى إقصاء الدارجة العربية التونسية من الاستعمال باعتبارها أولا ابنة الفصحى في معظم كلماتها وثانيا لأن الدارجة لغة التواصل المعمول به في المجتمع التونسي. 2- لو كان الرئيس متحمسا حقا للفصحى لتحدث عن توطين العلاقة معها بكل جدية في خطبه الكثيرة ولدعا بالمشروعية الوطنية والقانونية ، مثلا، إلى احترام وتطبيق قوانين كتابة اللافتات في المدن والقرى لصالح اللغة العربية/الوطنية. 3- هناك حملة واسعة جارية أمس واليوم في المجتمع التونسي لصالح الكتابة بالدارجة التونسية في الوزارات والمؤسسات الوطنية (مثل القناة الوطنية 1 التي تستعمل الدارجة في الإشهار للاستفتاء) وفي الشوارع وغيرها. لم يُعرف عن الرئيس أنه تحدث عن هذه الظاهرة التي تتعارض مع استعمال الفصحى اللغة الوطنية التي يفضل الرئيس استعمالها في حديثه مع الخاصة والعامة. يمثل هذا التناقض في موقف الرئيس لغزا يترشح علم النفس بامتياز أكثر من غيره لإلقاء الضوء عليه.
نظرية الحجر اللغوي مفتاح التفسير
تركز بحوثنا منذ عقود على فقدان العلاقة السليمة بين المجتمعات المغاربية واللغة العربية لغتها الوطنية. فأطلقنا مسميات متعددة على ذلك الفقدان. فكان مفهوم 'التخلف الآخر' أول تلك المسميات. ثم تلت ذلك مجموعة من المفاهيم مثل 'الفرنكوأراب الأنثوية' و'الازدواجية اللغوية الأمارة' و'ضُعف المناعة اللغوية' و'الاستيطان اللغوي'. تقول رؤية علم الاجتماع إن ميلاد بعض المفاهيم حول ظاهرة ما يرشحها لكي تساهم في إنشاء نظرية حول تلك الظاهرة. فالنظرية في العلوم الاجتماعية هي إطار فكري يفسر معالم الحياة الاجتماعية، والسلوك اللغوي هو بالتأكيد أحد تلك المعالم. يمثل اكتشافنا الأخير لنظرية الحجر اللغوي الصالحة لتفسير العلاقة غير السليمة مع اللغة العربية في المجتمع التونسي وغيره من المجتمعات المغاربية الفرنكوفونية.
هدتنا صدفة منافعُ الحجر الصحي ضدّ وباء الكورونا إلى حجر آخر له أيضا فوائد جمة رغم الاختلاف الكبير في طبيعتهما. فرب صدفة خير من ألف ميعاد. وُلدت لدينا نظرية جديدة لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. إنها نظرية الحجر اللغوي: استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في كل شيء بما فيه التدريس ابتداء من حاضنات صغار الأطفال وفي المراحل الثلاث على الأقل للتعليم: الابتدائية والإعدادية والثانوية. فعلا، تلك هي العلاقة الطبيعية/السليمة بين المجتمعات والناس ولغاتهم. فحضور الحجر اللغوي أو غيابه يساعد ،مثلا، على تفسير سلوكيات التونسيات والتونسيين السليمة وغير السليمة مع اللغة العربية/الوطنية أو مع أو ضد الدارجة التونسية . يُلاحظ على التونسيات والتونسيين الذين استعملوا الفرنسية والعربية معا في الدراسة في تلك المراحل الثلاث من التعليم أنهم لا يعارضون استعمال الفرنسية حتى في أبسط الأشياء مثل كتابة شيكاتهم بالفرنسية فقط ويرحبون باستعمال الدارجة في الكتابة. وفي المقابل، فالتونسيون والتونسيات الذين درسوا في نظام الحجر اللغوي في مطلع الاستقلال في ما يُسمى شُعبة (أ) المعرَّبة هم أكثر تحمسا من غيرهم من خريجي المداس التونسية بعد الاستقلال والمدرسة الصادقية قبله في استعمال اللغة العربية والدفاع عنها ومعارضة لاستعمال الدارجة في الكتابة. تساعد مقاربة ُ الحجر اللغوي مع الحجر الصحي على تفسير الفرق بين هذين الصنفين من الخريجين. تتشابه تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) تحمي الأفراد كثيرا من الإصابة بالكورونا.وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة. فسلامة صحة الأفرد وسلامة لغتهم هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. وهكذا، فالحجر اللغوي يربي نفسيا فسلوكيا الملتزمين به على إنشاء علاقة سليمة مع لغاتهم. فطه حسين المدافع على الفصحى مثال على تأثير الحجر اللغوي. فالرجل درس في الأزهر حيث العربية هي لغة تدريس كل المواد. فدراسته بالفرنسة في الجامعات الفرنسية وحداثته الفكرية لم تفسدا علاقته بالفصحى (فهو لا يكاد يتحدث بالدارجة المصرية). إنه موقف في الاتجاه المعاكس لكثير من المثقفين التونسيات والتونسيين أصحاب ما نسميها 'الحداثة المغشوشة' كما هو الحال في ضُعفِ صداقة بيت الحكمة للغة العربية.