- الانتقال من دبلوماسية الخطاب إلى دبلوماسية الفعل
من العواصم العربية إلى الفضاءات الإفريقية والأوروبية، تتحرك الدبلوماسية التونسية اليوم خارج الأطر التقليدية، حاملة معها صورة دولة تجعل من المعرفة رافعة أساسية للمستقبل، ومن الانفتاح الاقتصادي خيارا استراتيجيا، ومن الثقافة أداة للتأثير العابرة للحدود، بما يؤشر إلى إشعاع صورة تونس في الخارج كبلد يستثمر في أدوات القوة الناعمة ويعزز من شراكاته الدولية، ليكون لاعبا مؤثرا وقادرا على أن يكون شريكا فاعلا في صياغة التوازنات الإقليمية والدولية.
وتراهن تونس اليوم على الإشعاع دوليا بعيدا عن منطق الخطابات التقليدية، معدلة بوصلتها نحو حضور ذكي ومتعدد المستويات في الفضاءات التي تُصاغ فيها الشراكات وتُبنى فيها الثقة.
لتبرز تونس كدولة تراكم حضورها الخارجي برصانة، عبر ملتقيات دولية ومنصّات تعاون تمتد من البحث العلمي إلى السياحة، ومن الاقتصاد إلى الثقافة، مقدمة نموذجا لدبلوماسية عملية متعددة الأطراف وفاعلة.
في هذا الخصوص، تكشف حصيلة أنشطة البعثات الدبلوماسية التونسية في بحر الأسبوع الجاري والأسبوع الماضي عن اعتماد مقاربة تنص على تنوّع في المسارات وتكامل في الرؤية، بما يتماشى مع رهانات التنمية ويعزز الشراكات الدولية الناعمة العابرة للقارات.
أولى هذه المحطات تجلّت في الحضور التونسي داخل الفضاء العلمي العربي، حيث يُنظر إلى البحث العلمي كقطاع استراتيجي لما له من أهمية رائدة في نحت مستقبل الأجيال.
فقد مثلت مشاركة تونس خلال الأسبوع المنقضي في مجلس اتحاد مجالس البحث العلمي العربية بمسقط محطة هامة، حملت في طياتها رسالة واضحة مفادها أن الاستثمار في العقول والابتكار أصبح اليوم ضرورة ركيزة للسيادة المعرفية وللتموقع في عالم إيقاعه أكثر من سريع.
وفي تأكيدها على مركزية التعاون العربي في هذا المجال، قدّمت تونس نفسها كطرف يؤمن بالعمل المشترك وبأهمية ربط المعرفة بالتنمية.
من المعرفة إلى السياحة...
وفي مسار مواز، يتجسّد الإشعاع التونسي من خلال الدبلوماسية السياحية، التي لم تعد تُختزل في الترويج التقليدي للوجهات، بل أصبحت أداة لتعزيز التقارب بين الشعوب وبناء شراكات اقتصادية متينة ودائمة.
وهو طرح عززته اللقاءات التي عُقدت في العاصمة العراقية بغداد على هامش اجتماع مجلس وزراء السياحة العرب، حيث برزت تونس كوجهة قادرة على التنويع، والانفتاح، وتقديم عروض متكاملة تجمع بين السياحة الاستشفائية والبيئية وسياحة المؤتمرات. وهو ما يعزّز صورتها كبلد يتكيّف مع تطوّر الطلب السياحي الإقليمي، ويبحث عن أسواق جديدة ومتنوعة.
ولا يقلّ البعد الاقتصادي أهمية في معادلة الإشعاع الدولي. ففي جنوب إفريقيا، كما في إيطاليا، تتحرّك البعثات التونسية خارج الإطار البروتوكولي الكلاسيكي المتعارف عليه، لتلعب دور الوسيط والميسر بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين، مروّجة لمناخ استثماري يقوم على الحوافز، والاستقرار النسبي، والانفتاح على التكنولوجيا الحديثة.
وهذه اللقاءات، وإن بدت تقنية في ظاهرها، إلا أنها تحمل في جوهرها رسالة سياسية واقتصادية مفادها أن تونس تسعى إلى الاندماج الإيجابي في سلاسل القيمة الدولية واستقطاب استثمارات نوعية قادرة على خلق القيمة المضافة.
وبالتوازي مع ذلك، تظلّ الدبلوماسية الثقافية أحد أبرز أدوات القوة الناعمة التونسية، فالمشاركة في البازارات الدبلوماسية على غرار بازار فارصوفيا الملتئم مؤخرا وباقي الفعاليات الخيرية الدولية لا تعدّ مجرد عرض لمنتوجات تقليدية أو أطباق محلية شهيرة، وإنما هي محطة رائدة تعيد تقديم تونس كحضارة متنوّعة، ومتجددة ومتصالحة مع هويتها.
في هذا الخضم، يبدو القاسم المشترك بين هذه الأنشطة كلها هو الانتقال من دبلوماسية الخطاب إلى دبلوماسية الفعل، ومن الحضور المناسباتي إلى الحضور المؤثّر. فحين تلتقي المعرفة بالسياحة، والاقتصاد بالثقافة، تتشكّل صورة دولة لا تكتفي بإدارة علاقاتها الخارجية، بل تعمل على صناعة مكانتها داخل مشهد دولي شديد التنافس.
تراكم حضوري مدروس..
ففي زمن تتزايد فيه التحديات الجيوسياسية والاقتصادية، يبدو أن تونس تراهن على مقاربة تقوم على التوازن والرصانة وتعدّد المسارات، معتبرة أن الإشعاع الدولي لا يُبنى على حدث واحد، بل في تراكم حضور ذكي مدروس ومتناسق يطال مختلف الميادين والمجالات.
وبالتالي، فإن جميع هذه الملتقيات والأنشطة لا يمكن أن تكون بمعزل عن بعضها، بل هي جزء من رؤية أوسع وأشمل، رؤية تجعل من الدبلوماسية أداة لخدمة التنمية، ومن الحضور الدولي رافعة لصورة الدولة ومصداقيتها، لا سيما فيما يتعلق بالعمل المتعدد الأطراف الذي تراهن عليه تونس بعد أن أقرّ رئيس الجمهورية قيس سعيد سنة 2025 سنة العمل متعدد الأطراف. لتعكس جميع هذه اللقاءات رسالة مفادها أن تونس، ورغم كل التحديات، ما تزال قادرة على أن تكون حاضرة، مسموعة، وفاعلة في أكثر من ساحة وعلى أكثر من صعيد.
منال حرزي
- الانتقال من دبلوماسية الخطاب إلى دبلوماسية الفعل
من العواصم العربية إلى الفضاءات الإفريقية والأوروبية، تتحرك الدبلوماسية التونسية اليوم خارج الأطر التقليدية، حاملة معها صورة دولة تجعل من المعرفة رافعة أساسية للمستقبل، ومن الانفتاح الاقتصادي خيارا استراتيجيا، ومن الثقافة أداة للتأثير العابرة للحدود، بما يؤشر إلى إشعاع صورة تونس في الخارج كبلد يستثمر في أدوات القوة الناعمة ويعزز من شراكاته الدولية، ليكون لاعبا مؤثرا وقادرا على أن يكون شريكا فاعلا في صياغة التوازنات الإقليمية والدولية.
وتراهن تونس اليوم على الإشعاع دوليا بعيدا عن منطق الخطابات التقليدية، معدلة بوصلتها نحو حضور ذكي ومتعدد المستويات في الفضاءات التي تُصاغ فيها الشراكات وتُبنى فيها الثقة.
لتبرز تونس كدولة تراكم حضورها الخارجي برصانة، عبر ملتقيات دولية ومنصّات تعاون تمتد من البحث العلمي إلى السياحة، ومن الاقتصاد إلى الثقافة، مقدمة نموذجا لدبلوماسية عملية متعددة الأطراف وفاعلة.
في هذا الخصوص، تكشف حصيلة أنشطة البعثات الدبلوماسية التونسية في بحر الأسبوع الجاري والأسبوع الماضي عن اعتماد مقاربة تنص على تنوّع في المسارات وتكامل في الرؤية، بما يتماشى مع رهانات التنمية ويعزز الشراكات الدولية الناعمة العابرة للقارات.
أولى هذه المحطات تجلّت في الحضور التونسي داخل الفضاء العلمي العربي، حيث يُنظر إلى البحث العلمي كقطاع استراتيجي لما له من أهمية رائدة في نحت مستقبل الأجيال.
فقد مثلت مشاركة تونس خلال الأسبوع المنقضي في مجلس اتحاد مجالس البحث العلمي العربية بمسقط محطة هامة، حملت في طياتها رسالة واضحة مفادها أن الاستثمار في العقول والابتكار أصبح اليوم ضرورة ركيزة للسيادة المعرفية وللتموقع في عالم إيقاعه أكثر من سريع.
وفي تأكيدها على مركزية التعاون العربي في هذا المجال، قدّمت تونس نفسها كطرف يؤمن بالعمل المشترك وبأهمية ربط المعرفة بالتنمية.
من المعرفة إلى السياحة...
وفي مسار مواز، يتجسّد الإشعاع التونسي من خلال الدبلوماسية السياحية، التي لم تعد تُختزل في الترويج التقليدي للوجهات، بل أصبحت أداة لتعزيز التقارب بين الشعوب وبناء شراكات اقتصادية متينة ودائمة.
وهو طرح عززته اللقاءات التي عُقدت في العاصمة العراقية بغداد على هامش اجتماع مجلس وزراء السياحة العرب، حيث برزت تونس كوجهة قادرة على التنويع، والانفتاح، وتقديم عروض متكاملة تجمع بين السياحة الاستشفائية والبيئية وسياحة المؤتمرات. وهو ما يعزّز صورتها كبلد يتكيّف مع تطوّر الطلب السياحي الإقليمي، ويبحث عن أسواق جديدة ومتنوعة.
ولا يقلّ البعد الاقتصادي أهمية في معادلة الإشعاع الدولي. ففي جنوب إفريقيا، كما في إيطاليا، تتحرّك البعثات التونسية خارج الإطار البروتوكولي الكلاسيكي المتعارف عليه، لتلعب دور الوسيط والميسر بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين، مروّجة لمناخ استثماري يقوم على الحوافز، والاستقرار النسبي، والانفتاح على التكنولوجيا الحديثة.
وهذه اللقاءات، وإن بدت تقنية في ظاهرها، إلا أنها تحمل في جوهرها رسالة سياسية واقتصادية مفادها أن تونس تسعى إلى الاندماج الإيجابي في سلاسل القيمة الدولية واستقطاب استثمارات نوعية قادرة على خلق القيمة المضافة.
وبالتوازي مع ذلك، تظلّ الدبلوماسية الثقافية أحد أبرز أدوات القوة الناعمة التونسية، فالمشاركة في البازارات الدبلوماسية على غرار بازار فارصوفيا الملتئم مؤخرا وباقي الفعاليات الخيرية الدولية لا تعدّ مجرد عرض لمنتوجات تقليدية أو أطباق محلية شهيرة، وإنما هي محطة رائدة تعيد تقديم تونس كحضارة متنوّعة، ومتجددة ومتصالحة مع هويتها.
في هذا الخضم، يبدو القاسم المشترك بين هذه الأنشطة كلها هو الانتقال من دبلوماسية الخطاب إلى دبلوماسية الفعل، ومن الحضور المناسباتي إلى الحضور المؤثّر. فحين تلتقي المعرفة بالسياحة، والاقتصاد بالثقافة، تتشكّل صورة دولة لا تكتفي بإدارة علاقاتها الخارجية، بل تعمل على صناعة مكانتها داخل مشهد دولي شديد التنافس.
تراكم حضوري مدروس..
ففي زمن تتزايد فيه التحديات الجيوسياسية والاقتصادية، يبدو أن تونس تراهن على مقاربة تقوم على التوازن والرصانة وتعدّد المسارات، معتبرة أن الإشعاع الدولي لا يُبنى على حدث واحد، بل في تراكم حضور ذكي مدروس ومتناسق يطال مختلف الميادين والمجالات.
وبالتالي، فإن جميع هذه الملتقيات والأنشطة لا يمكن أن تكون بمعزل عن بعضها، بل هي جزء من رؤية أوسع وأشمل، رؤية تجعل من الدبلوماسية أداة لخدمة التنمية، ومن الحضور الدولي رافعة لصورة الدولة ومصداقيتها، لا سيما فيما يتعلق بالعمل المتعدد الأطراف الذي تراهن عليه تونس بعد أن أقرّ رئيس الجمهورية قيس سعيد سنة 2025 سنة العمل متعدد الأطراف. لتعكس جميع هذه اللقاءات رسالة مفادها أن تونس، ورغم كل التحديات، ما تزال قادرة على أن تكون حاضرة، مسموعة، وفاعلة في أكثر من ساحة وعلى أكثر من صعيد.