عنف متكرر يعكس محنة عميقة تمزق واقع المؤسسات التربوية وخاصة واقع العنف الذي يستهدف المربي..فالمعلم الذي» كاد أن يكون رسولا» أصبح يضرب ويهان ويسحل سواء في الحرم المدرسي أو خارجه..تلاميذ متمردون وأولياء غاضبون يتطاولون على المربي.. اعتداءات لفظية ومادية باتت كابوسا يلاحق الملعم والأستاذ أمام تصاعد وتيرتها رغم محاولات تطويقها.
اعتداء جديد على مربية شهدته المدرسة الابتدائية بداموس التابعة لمعتمدية منزل تميم من ولاية نابل.. حادثة اعتداء أثارت استنكار الوسط التربوي بعد أن تعرضت معلمة يوم الاثنين 8 ديسمبر إلى اعتداء لفظي ومادي من طرف ولية اقتحمت المدرسة وتهجمت عليها داخل القسم.
تفاصيل الحادثة تفيد أن الولية اقتحمت المدرسة في غفلة من الحارس حوالي الساعة الثامنة صباحا ثم توجهت مباشرة نحو المعلمة واعتدت عليها بالضرب والتهديد.. المعلمة كانت حاملا في أشهرها الأولى، وقد تدخلت الحماية المدنية لإسعافها ونقلها إلى المستشفى الجهوي بعد تدهور حالتها الصحية.
ليست هذه المرة الأولى التي يتطاول فيها ولي على مرب حيث شهدت في وقت سابق المدرسة الابتدائية «الشُرفَة» بمدينة جندوبة إلى اعتداء لفظيا وبدنيا من قبل ولية على مرأى من الإطار التربوي والتلاميذ بالمدرسة المذكورة وتسبب في كسر أنف المعلمة ما استوجب خضوعها للتدخل الطبي.
الاعتداء على الإطار التربوي أصبح أمرا شبه يومي، فقد شهدت المدرسة الإعدادية الحبابسة بمعتمدية الروحية من ولاية سليانة في وقت سابق حادثة خطيرة تمثلت في اعتداء تلميذ يدرس بالسنة السابعة أساسي على أستاذ التربية البدنية بواسطة سكين من الحجم الكبير.
وقد تسبب الاعتداء في إصابة الأستاذ بعدة جروح على مستوى الرأس، قبل أن يتم نقله على وجه السرعة إلى المستشفى لتلقي الإسعافات اللازمة..و على إثر هذا الاعتداء تحولت السلطات الأمنية على عين المكان وباشرت الأبحاث الأولية، فيما فتحت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بسليانة تحقيقا قضائيا في ملابسات الحادثة وقد تم إيقاف التلميذ المعتدي.
كما تعرّضت أستاذة بمعهد ثانوي بسبيبة من ولاية القصرين إلى الاعتداء بالعنف الشديد من قبل تلميذة بسبب هاتف، عندما كانت الأستاذة تؤمّن درسها لتلاميذ السنة أولى ثانوي حين تفطّنت إلى استخدام التلميذة المعنية هاتفها الذكي فقامت بسحبه منها وواصلت درسها.
وبعد خروجها من الفصل تفاجأت الأستاذة بالتلميذة تلحق بها في ساحة المعهد وتسدد لها ضربة على «طريقة بريسلي»، على حد وصف شهود عيان وطرحتها أرضا ثم افتكت منها الهاتف وغادرت المعهد بهدوء تام على مرأى ومسمع من الجميع ودون أن يحرّك أحد ساكنا.
وتسبّب الاعتداء في إصابة الأستاذة التي تتأهب للتقاعد برضوض عديدة في أنحاء متفرقة من جسمها!!
وأمام تفشي ظاهرة العنف التي تستهدف المربي تقدم مجموعة من النواب بمبادرة تشريعية لزجر تلك الاعتداءات
وتتعلق المبادرة بقانون يتعلّق بزجر الاعتداء على الإطار التربوي (عدد 46 لسنة 2025) تقدم به 11 نائبا تنقيحا للفصل 218 من القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة وذلك بإضافة فقرة جديدة للفصل المذكور تتضمن عقوبة سجنية بخمس سنوات وخطية مالية قدرها 5 آلاف دينار دون تطبيق ظروف التخفيف ضد كل من ارتكب اعتداء بالعنف على أحد المنتمين لأسلاك التربية والتعليم.
ماذا يقول علم الاجتماع؟
وفق الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي فقد صارت مسألة « العنف المدرسي» في تونس تأخذ حيزا واسعا من النقاش، يدور أغلبه في وسائل الإعلام حول المسألة التربوية، ومستقبل المدرسة بشكل عام وذلك بسبب حوادث العنف المتكرر في الفضاءات المدرسية حيث تشير إحصائيات وزارة التربية سنة 2022 إلى أن الوسط المدرسي يسجِّل سنوياً بين 13 ألف و21 ألف حالة عنف خاصة في المدارس الإعدادية والمعاهد.
وتشير إحصائيات أخرى إلى أنه وقع تسجيل 24 ألف حالة عنف في المؤسسات التربوية، مما وضع تونس في المرتبة الثالثة عالميا من حيث انتشار هذه الظاهرة كما شهدت الفترة بين عامي 2023 و2024 زيادة بنسبة 19 في المائة في حالات العنف داخل الوسط المدرسي.
ويرى غربالي أن دولة الاستقلال بنت إيديولوجيتها المتعلقة بالتعليم على «رسولية المعلم» ووضعته في مصاف الأنبياء، وهو تقديس لا يرتبط فقط بمجرد تعبيرات التبجيل، أي ليس لفظيا فحسب بل هو في الأساس انعكاس لمكانة اجتماعية تُطابِق بين المعلم والسلطة المعرفية والأخلاقية، فتوكَل إليه مهمة تشكيل الأجيال وصناعة المجتمع.. المعلم كان جزءاً من مشروع أكبر يتعلق بتحديث المجتمع. . لكن مع تهاوي «المشروع الوطني» وتآكل العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، صار المعلم يواجه محنة مزدوجة: اضمحلال سلطته الرمزية، وتراجع الاعتراف الاجتماعي بوظيفته وذلك لأن الأفراد في سياق المجتمع التونسي الحالي خاصة في المدن الكبرى توقفوا عن صياغة هوياتهم من خلال الأطر والمرجعيات الجماعية التقليدية التي كانت تمنح المعلم موقعه الاعتباري والتي لم يتم تعويضها بأطر جديدة مما خلق حالاً من «اللامعيارية» المعممة.
تصاعد للعنف
هذا التغيّر يتجلى في تصاعد العنف تجاه المدرِّسين، ليس كأفعال فردية معزولة، بل كمؤشر على فقدان المدرسة لدورها كحاضنة للمشترَك والقيم الجماعية الكبرى..وأصبح العنف ضد المعلمين سواء كان لفظيا أو جسديا، ليس مجرد تجاوزات سلوكية، بل تعبيراً عن اختلال عميق، في علاقة الأجيال الجديدة مع السلطة الرمزية للمدرسة وللمجتمع ككل.
ويرى غربالي أن تصاعد العنف المدرسي لا يعود فقط إلى أزمة تأطير أو خلل في القوانين الرادعة، بل هو انعكاس لتحول عميق في العلاقة بين التلميذ والمؤسسة التعليمية، إذ يتواجه نموذج المدرسة التقليدي القائم على الانضباط مع تلميذ مفردَن، يدرك ذاته بوصفه فاعلاً مستقلاً له حقوقه ورؤيته الذاتية في العدالة المدرسية.
في ظل هذا التناقض يصبح العنف شكلاً من أشكال التفاوض القسري حول موقع التلميذ داخل المؤسسة، وهو ما يجعل من الضروري إعادة التفكير في دور المدرسة في مجتمع تتغير فيه الأشكال التقليدية للسلطة والتنشئة..فمن وجهة نظر التلاميذ قد لا يكون العنف مجرد سلوك عدواني فقط، بل هو استراتيجية تفاعلية، يعبرون بها عن رفضهم لنظام مدرسي لم يعد بالنسبة إليهم شرعياً، الأمر الذي يعني أن التلاميذ لا يخضعون بشكل مطلق للقواعد مثلما ترغب في ذلك المدرسة بل يتفاعلون معها، إما بالامتثال أو المقاومة..وبالتالي فالسلطة لم تعد تمارَس فقط من الأعلى إلى الأسفل، بل يتم التفاوض حولها باستمرار بين الفاعلين في الحقل المدرسي..هذا التفاوض يمكن أن يكون صامتا من خلال أشكال من المقاومة السلبية، مثل عدم الاكتراث بالدروس أو التسرب المدرسي (100 ألف حالة تسرب مدرسي سنوياً في تونس)، لكنه قد يأخذ أيضاً شكلاً عنيفاً، عندما لا يجد التلميذ قنوات شرعية للتعبير عن رفضه.
مفيدة القيزاني
عنف متكرر يعكس محنة عميقة تمزق واقع المؤسسات التربوية وخاصة واقع العنف الذي يستهدف المربي..فالمعلم الذي» كاد أن يكون رسولا» أصبح يضرب ويهان ويسحل سواء في الحرم المدرسي أو خارجه..تلاميذ متمردون وأولياء غاضبون يتطاولون على المربي.. اعتداءات لفظية ومادية باتت كابوسا يلاحق الملعم والأستاذ أمام تصاعد وتيرتها رغم محاولات تطويقها.
اعتداء جديد على مربية شهدته المدرسة الابتدائية بداموس التابعة لمعتمدية منزل تميم من ولاية نابل.. حادثة اعتداء أثارت استنكار الوسط التربوي بعد أن تعرضت معلمة يوم الاثنين 8 ديسمبر إلى اعتداء لفظي ومادي من طرف ولية اقتحمت المدرسة وتهجمت عليها داخل القسم.
تفاصيل الحادثة تفيد أن الولية اقتحمت المدرسة في غفلة من الحارس حوالي الساعة الثامنة صباحا ثم توجهت مباشرة نحو المعلمة واعتدت عليها بالضرب والتهديد.. المعلمة كانت حاملا في أشهرها الأولى، وقد تدخلت الحماية المدنية لإسعافها ونقلها إلى المستشفى الجهوي بعد تدهور حالتها الصحية.
ليست هذه المرة الأولى التي يتطاول فيها ولي على مرب حيث شهدت في وقت سابق المدرسة الابتدائية «الشُرفَة» بمدينة جندوبة إلى اعتداء لفظيا وبدنيا من قبل ولية على مرأى من الإطار التربوي والتلاميذ بالمدرسة المذكورة وتسبب في كسر أنف المعلمة ما استوجب خضوعها للتدخل الطبي.
الاعتداء على الإطار التربوي أصبح أمرا شبه يومي، فقد شهدت المدرسة الإعدادية الحبابسة بمعتمدية الروحية من ولاية سليانة في وقت سابق حادثة خطيرة تمثلت في اعتداء تلميذ يدرس بالسنة السابعة أساسي على أستاذ التربية البدنية بواسطة سكين من الحجم الكبير.
وقد تسبب الاعتداء في إصابة الأستاذ بعدة جروح على مستوى الرأس، قبل أن يتم نقله على وجه السرعة إلى المستشفى لتلقي الإسعافات اللازمة..و على إثر هذا الاعتداء تحولت السلطات الأمنية على عين المكان وباشرت الأبحاث الأولية، فيما فتحت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بسليانة تحقيقا قضائيا في ملابسات الحادثة وقد تم إيقاف التلميذ المعتدي.
كما تعرّضت أستاذة بمعهد ثانوي بسبيبة من ولاية القصرين إلى الاعتداء بالعنف الشديد من قبل تلميذة بسبب هاتف، عندما كانت الأستاذة تؤمّن درسها لتلاميذ السنة أولى ثانوي حين تفطّنت إلى استخدام التلميذة المعنية هاتفها الذكي فقامت بسحبه منها وواصلت درسها.
وبعد خروجها من الفصل تفاجأت الأستاذة بالتلميذة تلحق بها في ساحة المعهد وتسدد لها ضربة على «طريقة بريسلي»، على حد وصف شهود عيان وطرحتها أرضا ثم افتكت منها الهاتف وغادرت المعهد بهدوء تام على مرأى ومسمع من الجميع ودون أن يحرّك أحد ساكنا.
وتسبّب الاعتداء في إصابة الأستاذة التي تتأهب للتقاعد برضوض عديدة في أنحاء متفرقة من جسمها!!
وأمام تفشي ظاهرة العنف التي تستهدف المربي تقدم مجموعة من النواب بمبادرة تشريعية لزجر تلك الاعتداءات
وتتعلق المبادرة بقانون يتعلّق بزجر الاعتداء على الإطار التربوي (عدد 46 لسنة 2025) تقدم به 11 نائبا تنقيحا للفصل 218 من القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة وذلك بإضافة فقرة جديدة للفصل المذكور تتضمن عقوبة سجنية بخمس سنوات وخطية مالية قدرها 5 آلاف دينار دون تطبيق ظروف التخفيف ضد كل من ارتكب اعتداء بالعنف على أحد المنتمين لأسلاك التربية والتعليم.
ماذا يقول علم الاجتماع؟
وفق الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي فقد صارت مسألة « العنف المدرسي» في تونس تأخذ حيزا واسعا من النقاش، يدور أغلبه في وسائل الإعلام حول المسألة التربوية، ومستقبل المدرسة بشكل عام وذلك بسبب حوادث العنف المتكرر في الفضاءات المدرسية حيث تشير إحصائيات وزارة التربية سنة 2022 إلى أن الوسط المدرسي يسجِّل سنوياً بين 13 ألف و21 ألف حالة عنف خاصة في المدارس الإعدادية والمعاهد.
وتشير إحصائيات أخرى إلى أنه وقع تسجيل 24 ألف حالة عنف في المؤسسات التربوية، مما وضع تونس في المرتبة الثالثة عالميا من حيث انتشار هذه الظاهرة كما شهدت الفترة بين عامي 2023 و2024 زيادة بنسبة 19 في المائة في حالات العنف داخل الوسط المدرسي.
ويرى غربالي أن دولة الاستقلال بنت إيديولوجيتها المتعلقة بالتعليم على «رسولية المعلم» ووضعته في مصاف الأنبياء، وهو تقديس لا يرتبط فقط بمجرد تعبيرات التبجيل، أي ليس لفظيا فحسب بل هو في الأساس انعكاس لمكانة اجتماعية تُطابِق بين المعلم والسلطة المعرفية والأخلاقية، فتوكَل إليه مهمة تشكيل الأجيال وصناعة المجتمع.. المعلم كان جزءاً من مشروع أكبر يتعلق بتحديث المجتمع. . لكن مع تهاوي «المشروع الوطني» وتآكل العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، صار المعلم يواجه محنة مزدوجة: اضمحلال سلطته الرمزية، وتراجع الاعتراف الاجتماعي بوظيفته وذلك لأن الأفراد في سياق المجتمع التونسي الحالي خاصة في المدن الكبرى توقفوا عن صياغة هوياتهم من خلال الأطر والمرجعيات الجماعية التقليدية التي كانت تمنح المعلم موقعه الاعتباري والتي لم يتم تعويضها بأطر جديدة مما خلق حالاً من «اللامعيارية» المعممة.
تصاعد للعنف
هذا التغيّر يتجلى في تصاعد العنف تجاه المدرِّسين، ليس كأفعال فردية معزولة، بل كمؤشر على فقدان المدرسة لدورها كحاضنة للمشترَك والقيم الجماعية الكبرى..وأصبح العنف ضد المعلمين سواء كان لفظيا أو جسديا، ليس مجرد تجاوزات سلوكية، بل تعبيراً عن اختلال عميق، في علاقة الأجيال الجديدة مع السلطة الرمزية للمدرسة وللمجتمع ككل.
ويرى غربالي أن تصاعد العنف المدرسي لا يعود فقط إلى أزمة تأطير أو خلل في القوانين الرادعة، بل هو انعكاس لتحول عميق في العلاقة بين التلميذ والمؤسسة التعليمية، إذ يتواجه نموذج المدرسة التقليدي القائم على الانضباط مع تلميذ مفردَن، يدرك ذاته بوصفه فاعلاً مستقلاً له حقوقه ورؤيته الذاتية في العدالة المدرسية.
في ظل هذا التناقض يصبح العنف شكلاً من أشكال التفاوض القسري حول موقع التلميذ داخل المؤسسة، وهو ما يجعل من الضروري إعادة التفكير في دور المدرسة في مجتمع تتغير فيه الأشكال التقليدية للسلطة والتنشئة..فمن وجهة نظر التلاميذ قد لا يكون العنف مجرد سلوك عدواني فقط، بل هو استراتيجية تفاعلية، يعبرون بها عن رفضهم لنظام مدرسي لم يعد بالنسبة إليهم شرعياً، الأمر الذي يعني أن التلاميذ لا يخضعون بشكل مطلق للقواعد مثلما ترغب في ذلك المدرسة بل يتفاعلون معها، إما بالامتثال أو المقاومة..وبالتالي فالسلطة لم تعد تمارَس فقط من الأعلى إلى الأسفل، بل يتم التفاوض حولها باستمرار بين الفاعلين في الحقل المدرسي..هذا التفاوض يمكن أن يكون صامتا من خلال أشكال من المقاومة السلبية، مثل عدم الاكتراث بالدروس أو التسرب المدرسي (100 ألف حالة تسرب مدرسي سنوياً في تونس)، لكنه قد يأخذ أيضاً شكلاً عنيفاً، عندما لا يجد التلميذ قنوات شرعية للتعبير عن رفضه.