إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

المدير العام للأرشيف الوطني الهادي جلاب لـ"الصباح": رقمنة مليونين و500 ألف وثيقة.. وتونس نجحت في إرساء منظومة متكاملة لتاريخنا الوطني

-الأرشيف الوطني يستقبل حوالي 5 آلاف حافظة أرشيف سنويا

في قلب العاصمة تونس، وبين جدران تختزن قرونا من الذاكرة، يقف الأرشيف الوطني كأحد أكثر المؤسسات أهمية، ليس بوصفه مجرد مخزن للوثائق، بل باعتباره حارسا للتاريخ، وضامنا لذاكرة جماعية تشكل جوهر السيادة الوطنية. فالأرشيف ليس ماضيا نقرأه فقط، بل هو أيضا حاضرٌ نحتكم إليه، ومستقبل نبني على أسسه.

وفي وقت احتفلت تونس أمس باليوم الوطني للأرشيف الموافق لـ 9 ديسمبر من كل سنة، مثل الأرشيف الوطني الخزان الاستراتيجي لوثائق الدولة التونسية على امتداد فترات تاريخية متعاقبة، من العهد الحسيني إلى فترة الحماية الفرنسية ثم الدولة الوطنية بعد الاستقلال. وتكمن أهميته في كونه المرجع الرسمي لكل ما يتعلق بالتشريع، والتصرف الإداري، والقرارات السيادية، والحقوق العقارية، والذاكرة السياسية والاجتماعية للبلاد.

الأرشيف والسيادة الوطنية

لا يمكن الحديث عن السيادة الوطنية دون المرور عبر بوابة الأرشيف، فالوثائق هي التي تثبت الحقوق، وتحسم النزاعات، وتدعم المواقف الرسمية للدولة في القضايا الكبرى، سواء تعلقت بالحدود، أو الممتلكات، أو العلاقات الدولية.

حول هذه المقاربة وواقع هذا الصرح الوطني، تحدث المدير العام للأرشيف الوطني، الهادي جلاب لـ"الصباح"، مؤكدا أن تونس اليوم نجحت في إرساء منظومة متكاملة لتاريخنا الوطني عبر أرشيف يعد أحد مقومات السيادة الوطنية، التي لم تأت من فراغ بل نتيجة نشاط متواصل وعمل مشترك بين جميع هياكل الدولة، حسب تعبيره.

وأفاد المدير العام للأرشيف الوطني بأن تونس اليوم تحظى بإشعاع متميز عبر العالم في مجال الأرشيف من خلال تجربتها الناجحة التي يحتذى بها بين دول العالم، وكذلك من خلال تصديرها للكفاءات التونسية المختصة إلى دول الخارج، خاصة دول الخليج، مشيرا إلى أهمية تواجد تونس في برنامج ذاكرة العالم عبر تسجيل أرصدة لوثائق خاصة بها تتعلق بمواضيع ذات بعد إنساني مثل موضوع القرصنة والعلاقات في البحر الأبيض المتوسط، وموضوع إلغاء العبودية وتحرير العبيد.

كما أكد المدير العام في حديثه لـ"الصباح" أن تونس بلغت أشواطا متقدمة في هذا المجال، من خلال تركيز حزمة من المشاريع ذات الصلة، مثل إحداث هياكل خاصة بالأرشيف في جميع الوزارات والمرافق العمومية، وانتداب 1800 مختص في الأرشيف من خريجي المعهد العالي للتوثيق (في الفترة من 1999 إلى 2015).

إلى جانب ذلك، يمتلك الأرشيف الوطني أدوات التصرف في وثائق المؤسسات العمومية وهياكل الدولة على اختلافها، مما سهل عملية انتقالها من أرشيف المؤسسة إلى المركز، فضلا عن إحداث مدونة قانونية متكاملة تتضمن مناشير وقرارات وأوامر وقوانين، حسب ما أفاد به المدير العام.

وأشار محدثنا في هذا الإطار إلى أن الأرشيف الوطني يستقبل بصفة مسترسلة آلافا من الوثائق، حيث يصل المعدل السنوي إلى حوالي 5 آلاف حافظة أرشيف متأتية من الوزارات والهياكل العمومية للدولة، لتصبح سندا للذاكرة الوطنية وعلى ذمة الباحثين.

والأرشيف الوطني في تونس ليس مجرد ذاكرة صامتة، بل هو شاهد حي على تاريخ دولة وشعب، وعلى مسار طويل من التحولات والانقطاعات. وبين إكراهات الواقع ورهانات المستقبل، يبقى التحدي الأكبر هو كيفية تحويل هذه الذاكرة من عبء إداري إلى قوة سيادية، ومن وثائق صامتة إلى رافعة للوعي، ومعين لا ينضب لبناء المستقبل.

بين التثمين والإكراهات

رغم الجهود المبذولة داخل مؤسسة الأرشيف الوطني، إلا أن واقع القطاع ما يزال محكوما بجملة من الصعوبات الهيكلية. أكد المسؤول بالأرشيف الوطني على أهمية تجاوزها من قبيل النقص الحاد في عدد الإطارات المختصة الذي تراجع اليوم إلى النصف بسبب توجيه عدد منهم إلى مهام أخرى في المرافق العمومية للدولة، فضلاً عن إشكاليات الخزن. حيث تمثل المخازن غير المطابقة للمواصفات خطرا مباشرا على سلامة الوثائق، خاصة تلك المعرضة للتلف بسبب الرطوبة والحرارة والعوامل البيولوجية، واليوم في عدد من هياكل الدولة مخازن لا تستجيب إلى معايير الحفظ السليم..

إلى جانب ذلك، فإن ضعف الهياكل الفرعية للأرشيف في المرافق العمومية لا تستجيب هي الأخرى إلى حجم الوثائق المجمعة. كما يعاني الأرشيف من هشاشة الثقافة الأرشيفية داخل عدد من المؤسسات العمومية، حيث ما يزال البعض لا يدرك خطورة عدم الاهتمام بالأرشيف، أو التأخر في إحالته على مؤسسة الأرشيف، وهو ما يتسبب في ضياع جزء من الذاكرة الإدارية للدولة.

وبالتزامن مع الاحتفال باليوم الوطني للأرشيف، يرى المدير العام للأرشيف الوطني عبر حديثه لـ"الصباح" أن شعار هذه السنة "الأرشيف دعامة للمعرفة ومصدر للبحوث والدراسات" سيكون فرصة لإثبات مدى اهتمام الدولة بالأرشيف باعتباره أداة فاعلة ومصدرا ناجعا للبحوث والدراسات، داعيا إلى أهمية تطوير المنظومة الإدارية والقانونية وتحديد سياسة موحدة لكل هياكل الدولة.

الرقمنة رهان استراتيجي

وفي مواجهة هذه التحديات، اتجه الأرشيف الوطني نحو خيار استراتيجي يتمثل في رقمنة الرصيد الأرشيفي، باعتبارها خط الدفاع الأول لحماية الذاكرة الوطنية من التلف والاندثار. وقد تمت بالفعل رقمنة ملايين الوثائق التي يعود معظمها إلى ما قبل سنة 1881، بالإضافة إلى جزء هام من الأرشيف الخاص.

وفي هذا الإطار، أفاد محدثنا بأن الأرشيف الوطني قد انخرط في المنظومة الرقمية في عمليات التخزين والأرشفة للوثائق والملفات منذ فترة من خلال تركيز مشاريع في هذا الاتجاه، وأهمها البوابة الرقمية العصرية التي تتضمن جميع أنشطة المؤسسات من بيانات ووثائق مرقمنة، فضلا عن المجلة الطبية، ومجلة النشرية الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من الوثائق الأخرى التي تصل في مجملها اليوم إلى مليونين و500 ألف وثيقة مرقمنة.

ولا تقتصر أهمية الرقمنة على حماية الوثيقة من التلف فحسب، بل تفتح آفاقا جديدة للباحثين والطلبة والمؤرخين، وتمكن من النفاذ السريع إلى المعلومة، وتقلص من الضغط على الأصل الورقي.

الأرشيف السمعي البصري ذاكرة مهددة

وفي تطور لافت، وسعت مؤسسة الأرشيف الوطني دائرة تدخلها لتشمل الأرشيف السمعي البصري للمرافق العمومية، في ظل ما يواجهه هذا الصنف من الوثائق من مخاطر الإتلاف والتقادم التكنولوجي. إذ تعمل المؤسسة على وضع استراتيجية متوسطة المدى لرقمنة الأشرطة القديمة ومعالجتها بطريقة علمية تحفظ ذاكرة الإنتاج الإذاعي والتلفزي والسينمائي العمومي.

ويعد هذا التوجه استجابة مباشرة للإكراهات التي تواجهها العديد من المؤسسات العمومية في مجال معالجة أرشيفها السمعي البصري، خاصة في غياب مخابر وطنية مختصة في ترميم الأشرطة والأفلام القديمة، وهو ما دفع الأرشيف الوطني إلى الانفتاح على برامج تعاون دولي مع مؤسسات أوروبية ومخابر متخصصة في بولونيا وفرنسا وإيطاليا، تمهيدا لإحداث مختبر وطني لترميم هذا النوع من الوثائق.

وقد مكنت هذه الجهود من تجميع عشرات الآلاف من الوثائق السمعية البصرية من أقراص مضغوطة، وأشرطة مصورة، وأشرطة صوتية، وأفلام، سواء من المؤسسات العمومية أو الخاصة، في خطوة نوعية لحماية جزء بالغ الأهمية من الذاكرة المعاصرة لتونس.

الأرشيف الخاص مكمل لذاكرة الدولة

إلى جانب الأرشيف العمومي، يحتل الأرشيف الخاص مكانة متزايدة الأهمية داخل الأرشيف الوطني. فهو يمثل ذاكرة الأفراد، والعائلات، والنخب الثقافية والسياسية، وهو ما يجعله مصدرا لا غنى عنه لإعادة كتابة التاريخ الاجتماعي لتونس.

وقد ساهمت حملات التحسيس في تشجيع عدد متزايد من المواطنين على التبرع بأرشيفاتهم الخاصة لفائدة الدولة، في خطوة تعكس تنامي الوعي بقيمة الوثيقة، والخروج بها من الانتماء الفردي الضيق إلى المجال العمومي الواسع.

نحو تطوير المنظومة الوطنية للتصرف في الأرشيف

وما يحتاجه الأرشيف الوطني اليوم ليس فقط حلولا ظرفية، بل سياسة وطنية شاملة للأرشيف، تدمج البعد التشريعي، والتقني، والمالي، والتكويني، واعتماد سياسة تجعل من الأرشيف جزءا من منظومة الأمن القومي، وليس مجرد مصلحة إدارية. كما يتطلب الأمر توسيع الشراكات مع الجامعات، ومخابر البحث والمؤسسات الدولية المختصة، من أجل تطوير البحث العلمي في علوم الأرشيف، وتحويله من مجال هامشي إلى رافد أساسي من روافد المعرفة والحوكمة الرشيدة.

وفاء بن محمد

المدير العام للأرشيف الوطني الهادي جلاب لـ"الصباح":   رقمنة مليونين و500 ألف وثيقة.. وتونس نجحت في إرساء منظومة متكاملة لتاريخنا الوطني

-الأرشيف الوطني يستقبل حوالي 5 آلاف حافظة أرشيف سنويا

في قلب العاصمة تونس، وبين جدران تختزن قرونا من الذاكرة، يقف الأرشيف الوطني كأحد أكثر المؤسسات أهمية، ليس بوصفه مجرد مخزن للوثائق، بل باعتباره حارسا للتاريخ، وضامنا لذاكرة جماعية تشكل جوهر السيادة الوطنية. فالأرشيف ليس ماضيا نقرأه فقط، بل هو أيضا حاضرٌ نحتكم إليه، ومستقبل نبني على أسسه.

وفي وقت احتفلت تونس أمس باليوم الوطني للأرشيف الموافق لـ 9 ديسمبر من كل سنة، مثل الأرشيف الوطني الخزان الاستراتيجي لوثائق الدولة التونسية على امتداد فترات تاريخية متعاقبة، من العهد الحسيني إلى فترة الحماية الفرنسية ثم الدولة الوطنية بعد الاستقلال. وتكمن أهميته في كونه المرجع الرسمي لكل ما يتعلق بالتشريع، والتصرف الإداري، والقرارات السيادية، والحقوق العقارية، والذاكرة السياسية والاجتماعية للبلاد.

الأرشيف والسيادة الوطنية

لا يمكن الحديث عن السيادة الوطنية دون المرور عبر بوابة الأرشيف، فالوثائق هي التي تثبت الحقوق، وتحسم النزاعات، وتدعم المواقف الرسمية للدولة في القضايا الكبرى، سواء تعلقت بالحدود، أو الممتلكات، أو العلاقات الدولية.

حول هذه المقاربة وواقع هذا الصرح الوطني، تحدث المدير العام للأرشيف الوطني، الهادي جلاب لـ"الصباح"، مؤكدا أن تونس اليوم نجحت في إرساء منظومة متكاملة لتاريخنا الوطني عبر أرشيف يعد أحد مقومات السيادة الوطنية، التي لم تأت من فراغ بل نتيجة نشاط متواصل وعمل مشترك بين جميع هياكل الدولة، حسب تعبيره.

وأفاد المدير العام للأرشيف الوطني بأن تونس اليوم تحظى بإشعاع متميز عبر العالم في مجال الأرشيف من خلال تجربتها الناجحة التي يحتذى بها بين دول العالم، وكذلك من خلال تصديرها للكفاءات التونسية المختصة إلى دول الخارج، خاصة دول الخليج، مشيرا إلى أهمية تواجد تونس في برنامج ذاكرة العالم عبر تسجيل أرصدة لوثائق خاصة بها تتعلق بمواضيع ذات بعد إنساني مثل موضوع القرصنة والعلاقات في البحر الأبيض المتوسط، وموضوع إلغاء العبودية وتحرير العبيد.

كما أكد المدير العام في حديثه لـ"الصباح" أن تونس بلغت أشواطا متقدمة في هذا المجال، من خلال تركيز حزمة من المشاريع ذات الصلة، مثل إحداث هياكل خاصة بالأرشيف في جميع الوزارات والمرافق العمومية، وانتداب 1800 مختص في الأرشيف من خريجي المعهد العالي للتوثيق (في الفترة من 1999 إلى 2015).

إلى جانب ذلك، يمتلك الأرشيف الوطني أدوات التصرف في وثائق المؤسسات العمومية وهياكل الدولة على اختلافها، مما سهل عملية انتقالها من أرشيف المؤسسة إلى المركز، فضلا عن إحداث مدونة قانونية متكاملة تتضمن مناشير وقرارات وأوامر وقوانين، حسب ما أفاد به المدير العام.

وأشار محدثنا في هذا الإطار إلى أن الأرشيف الوطني يستقبل بصفة مسترسلة آلافا من الوثائق، حيث يصل المعدل السنوي إلى حوالي 5 آلاف حافظة أرشيف متأتية من الوزارات والهياكل العمومية للدولة، لتصبح سندا للذاكرة الوطنية وعلى ذمة الباحثين.

والأرشيف الوطني في تونس ليس مجرد ذاكرة صامتة، بل هو شاهد حي على تاريخ دولة وشعب، وعلى مسار طويل من التحولات والانقطاعات. وبين إكراهات الواقع ورهانات المستقبل، يبقى التحدي الأكبر هو كيفية تحويل هذه الذاكرة من عبء إداري إلى قوة سيادية، ومن وثائق صامتة إلى رافعة للوعي، ومعين لا ينضب لبناء المستقبل.

بين التثمين والإكراهات

رغم الجهود المبذولة داخل مؤسسة الأرشيف الوطني، إلا أن واقع القطاع ما يزال محكوما بجملة من الصعوبات الهيكلية. أكد المسؤول بالأرشيف الوطني على أهمية تجاوزها من قبيل النقص الحاد في عدد الإطارات المختصة الذي تراجع اليوم إلى النصف بسبب توجيه عدد منهم إلى مهام أخرى في المرافق العمومية للدولة، فضلاً عن إشكاليات الخزن. حيث تمثل المخازن غير المطابقة للمواصفات خطرا مباشرا على سلامة الوثائق، خاصة تلك المعرضة للتلف بسبب الرطوبة والحرارة والعوامل البيولوجية، واليوم في عدد من هياكل الدولة مخازن لا تستجيب إلى معايير الحفظ السليم..

إلى جانب ذلك، فإن ضعف الهياكل الفرعية للأرشيف في المرافق العمومية لا تستجيب هي الأخرى إلى حجم الوثائق المجمعة. كما يعاني الأرشيف من هشاشة الثقافة الأرشيفية داخل عدد من المؤسسات العمومية، حيث ما يزال البعض لا يدرك خطورة عدم الاهتمام بالأرشيف، أو التأخر في إحالته على مؤسسة الأرشيف، وهو ما يتسبب في ضياع جزء من الذاكرة الإدارية للدولة.

وبالتزامن مع الاحتفال باليوم الوطني للأرشيف، يرى المدير العام للأرشيف الوطني عبر حديثه لـ"الصباح" أن شعار هذه السنة "الأرشيف دعامة للمعرفة ومصدر للبحوث والدراسات" سيكون فرصة لإثبات مدى اهتمام الدولة بالأرشيف باعتباره أداة فاعلة ومصدرا ناجعا للبحوث والدراسات، داعيا إلى أهمية تطوير المنظومة الإدارية والقانونية وتحديد سياسة موحدة لكل هياكل الدولة.

الرقمنة رهان استراتيجي

وفي مواجهة هذه التحديات، اتجه الأرشيف الوطني نحو خيار استراتيجي يتمثل في رقمنة الرصيد الأرشيفي، باعتبارها خط الدفاع الأول لحماية الذاكرة الوطنية من التلف والاندثار. وقد تمت بالفعل رقمنة ملايين الوثائق التي يعود معظمها إلى ما قبل سنة 1881، بالإضافة إلى جزء هام من الأرشيف الخاص.

وفي هذا الإطار، أفاد محدثنا بأن الأرشيف الوطني قد انخرط في المنظومة الرقمية في عمليات التخزين والأرشفة للوثائق والملفات منذ فترة من خلال تركيز مشاريع في هذا الاتجاه، وأهمها البوابة الرقمية العصرية التي تتضمن جميع أنشطة المؤسسات من بيانات ووثائق مرقمنة، فضلا عن المجلة الطبية، ومجلة النشرية الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من الوثائق الأخرى التي تصل في مجملها اليوم إلى مليونين و500 ألف وثيقة مرقمنة.

ولا تقتصر أهمية الرقمنة على حماية الوثيقة من التلف فحسب، بل تفتح آفاقا جديدة للباحثين والطلبة والمؤرخين، وتمكن من النفاذ السريع إلى المعلومة، وتقلص من الضغط على الأصل الورقي.

الأرشيف السمعي البصري ذاكرة مهددة

وفي تطور لافت، وسعت مؤسسة الأرشيف الوطني دائرة تدخلها لتشمل الأرشيف السمعي البصري للمرافق العمومية، في ظل ما يواجهه هذا الصنف من الوثائق من مخاطر الإتلاف والتقادم التكنولوجي. إذ تعمل المؤسسة على وضع استراتيجية متوسطة المدى لرقمنة الأشرطة القديمة ومعالجتها بطريقة علمية تحفظ ذاكرة الإنتاج الإذاعي والتلفزي والسينمائي العمومي.

ويعد هذا التوجه استجابة مباشرة للإكراهات التي تواجهها العديد من المؤسسات العمومية في مجال معالجة أرشيفها السمعي البصري، خاصة في غياب مخابر وطنية مختصة في ترميم الأشرطة والأفلام القديمة، وهو ما دفع الأرشيف الوطني إلى الانفتاح على برامج تعاون دولي مع مؤسسات أوروبية ومخابر متخصصة في بولونيا وفرنسا وإيطاليا، تمهيدا لإحداث مختبر وطني لترميم هذا النوع من الوثائق.

وقد مكنت هذه الجهود من تجميع عشرات الآلاف من الوثائق السمعية البصرية من أقراص مضغوطة، وأشرطة مصورة، وأشرطة صوتية، وأفلام، سواء من المؤسسات العمومية أو الخاصة، في خطوة نوعية لحماية جزء بالغ الأهمية من الذاكرة المعاصرة لتونس.

الأرشيف الخاص مكمل لذاكرة الدولة

إلى جانب الأرشيف العمومي، يحتل الأرشيف الخاص مكانة متزايدة الأهمية داخل الأرشيف الوطني. فهو يمثل ذاكرة الأفراد، والعائلات، والنخب الثقافية والسياسية، وهو ما يجعله مصدرا لا غنى عنه لإعادة كتابة التاريخ الاجتماعي لتونس.

وقد ساهمت حملات التحسيس في تشجيع عدد متزايد من المواطنين على التبرع بأرشيفاتهم الخاصة لفائدة الدولة، في خطوة تعكس تنامي الوعي بقيمة الوثيقة، والخروج بها من الانتماء الفردي الضيق إلى المجال العمومي الواسع.

نحو تطوير المنظومة الوطنية للتصرف في الأرشيف

وما يحتاجه الأرشيف الوطني اليوم ليس فقط حلولا ظرفية، بل سياسة وطنية شاملة للأرشيف، تدمج البعد التشريعي، والتقني، والمالي، والتكويني، واعتماد سياسة تجعل من الأرشيف جزءا من منظومة الأمن القومي، وليس مجرد مصلحة إدارية. كما يتطلب الأمر توسيع الشراكات مع الجامعات، ومخابر البحث والمؤسسات الدولية المختصة، من أجل تطوير البحث العلمي في علوم الأرشيف، وتحويله من مجال هامشي إلى رافد أساسي من روافد المعرفة والحوكمة الرشيدة.

وفاء بن محمد