تعيش تونس اليوم مرحلة مفصلية في تاريخها الاقتصادي والمالي، مرحلة تتغير فيها موازين القوى في علاقاتها مع المؤسسات الدولية المانحة، وفي مقدمتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. بعد عقودٍ كانت خلالها البلاد تُواجه قروضا مشروطة وسياسات مالية مفروضة من الخارج، تدخل تونس اليوم عهدا جديدا من السيادة الاقتصادية والمفاوضات المتكافئة. فقد أصبحت الدولة التونسية، بفضل انضباطها المالي والتزامها الصارم بسداد ديونها الخارجية، تتعامل مع المؤسسات المالية الكبرى من موقع الشريك لا التابع، ومن موقع الندّ لا المحتاج.
هذه النقلة النوعية في السياسة المالية تمثل خروجا تدريجيا من مرحلة التبعية التي كبّلت الاقتصاد الوطني، نحو مرحلة جديدة من الاستقلال الاقتصادي والرؤية الوطنية المستقلة في التعامل مع العالم.
من زمن الإملاءات إلى زمن الشراكة والسيادة
عرفت تونس خلال السنوات الماضية مراحل مالية دقيقة، تميزت بارتفاع نسب المديونية وتراجع الاستثمارات العمومية وضعف النمو. في تلك الفترة، كانت البلاد مضطرة للجوء إلى الاقتراض الخارجي لتغطية العجز في ميزان الدفوعات، وغالباً ما كانت هذه القروض مشروطة بإصلاحات هيكلية موجعة تمسّ النسيج الاجتماعي والاقتصادي. لكن خلال السنوات الأخيرة، تغيّرت المعادلة جذريا. فقد نجحت تونس في الالتزام التام بسداد أقساطها الخارجية في آجالها القانونية، بل سددت جزءا منها قبل مواعيده، ما أعاد الثقة في مصداقية الدولة لدى المانحين الدوليين. ووفق المعطيات الرسمية، التي تحصلت عليها «الصباح»، تمكنت تونس من تسديد ما يقرب من 80 في المائة من خدمة الدين الخارجي لسنة 2025 حتى منتصف العام، بفضل تحسن مداخيل السياحة وتحويلات الجالية بالخارج، إلى جانب تحسن مداخيل الدولة من الصادرات الفلاحية والطاقة.
هذا الأداء المالي الصارم جعل المؤسسات المالية العالمية تعيد النظر في طريقة تعاملها مع تونس. فقد أكدت وكالة التصنيف الائتماني «فيتش رايتنغ» أن قدرة تونس على تغطية التزاماتها الخارجية تحسنت بشكل واضح خلال سنتي 2024 و2025، مدعومة بزيادة احتياطي النقد الأجنبي الذي أصبح يغطي أكثر من ثلاثة أشهر من الواردات، وهو مؤشر حاسم يعكس استقرار السياسة النقدية وكفاءة إدارة المالية العمومية. كما أظهرت الأرقام الرسمية أن حجم الدين الخارجي العمومي بلغ في مارس 2025 حوالي 58.1 مليار دينار من أصل 135.2 مليار دينار إجمالي الدين العام، أي ما يمثل نحو 43 في المائة فقط، مقارنة بنسبة فاقت 70 في المائة سنة 2019، وهو تحسن جوهري يؤكد صلابة المسار المالي الجديد.
البنك الدولي يغيّر المعادلة.. تمويل ضخم بشروط تونسية
التحول الأبرز في علاقة تونس بالمؤسسات المالية العالمية تجلى بوضوح في الموقف الأخير للبنك الدولي، الذي أعلن عن انخراطه في تمويل مشاريع الطاقة في تونس بقيمة تتجاوز 430 مليون دولار، منها نحو 30 مليون دولار تمويلا ميسرا في إطار برنامج «تحسين موثوقية وكفاءة وحوكمة قطاع الكهرباء في تونس»(TEREG). هذا المشروع الطموح يهدف إلى تحديث قطاع الكهرباء التونسي وتعزيز كفاءته واستقطاب استثمارات خاصة تقدر بحوالي 2.8 مليار دولار، مع التركيز على إنتاج الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتوليد أكثر من 2.8 غيغاواط بحلول عام 2028.
لكن ما يجعل هذا الاتفاق فريدا هو طبيعته السياسية والاقتصادية الجديدة، فالبنك الدولي لم يفرض على تونس أي شروط مجحفة تتعلق بإصلاحات هيكلية أو بتقليص الإنفاق الاجتماعي كما كان يحدث في السابق، بل أبرم الاتفاق وفق الشروط التي وضعتها تونس نفسها ضمن إستراتيجيتها الوطنية للتحول الطاقي. هذا التمويل يعكس بوضوح تغيرا في نظرة البنك الدولي لتونس، حيث أصبح يعتبرها شريكا ذا سيادة مالية قادرة على إدارة مشاريعها التنموية وفق أولوياتها الوطنية، لا مجرد دولة تطلب المساعدة.
ولم يكن هذا المشروع استثناءً، إذ سبق للبنك الدولي أن دعم سنة 2023 مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا بقيمة 268.4 مليون دولار، وهو مشروع استراتيجي يعرف باسم «إلمِد» (ELMED)، ويهدف إلى ربط الشبكة التونسية بالشبكة الأوروبية، بما يسمح لتونس بتصدير الكهرباء الخضراء نحو أوروبا، ويكرّس موقعها كمركز إقليمي للطاقة المتجددة في البحر الأبيض المتوسط. إن موافقة البنك الدولي على تمويل هذين المشروعين الضخمين في ظرف مالي عالمي معقد يعد مؤشراً قويا على ثقة المؤسسات الدولية في قدرة تونس على إدارة اقتصادها بمسؤولية وسيادة.
التزام صارم بالسداد... رسالة الثقة للمجتمع المالي الدولي
السبب الرئيسي وراء هذا التحول في الموقف الدولي هو التزام تونس الصارم بسداد ديونها الخارجية، بما في ذلك القروض المبرمة مع صندوق النقد الدولي، الذي من المقرر أن تُسدَّد آخر دفعاته، وفق ما أفاد به بعض خبراء الاقتصاد لـ«الصباح»، في نوفمبر 2029. وقد أثبتت تونس، رغم كل التحديات، قدرتها على الإيفاء بجميع التزاماتها المالية دون اللجوء إلى إعادة الجدولة أو التعثر، وهو ما منحها مصداقية نادرة بين الدول النامية. كما أن مؤشرات الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي التي بلغت نحو 83 في المائة سنة 2024، مع اتجاه واضح نحو التراجع، تؤكد أن الدولة باتت تتحكم تدريجيا في وتيرة الاقتراض الخارجي وتحسن توجيهه نحو المشاريع المنتجة ذات الأثر المستدام.
هذه الثقة الجديدة انعكست كذلك على رغبة البنوك والمؤسسات المالية الدولية في التعامل مع تونس بشروط أكثر مرونة. فقد أبدت مؤسسات أوروبية وآسيوية استعدادها لإقراض تونس في مشاريع تنموية بشروط ميسرة، وبنسب فائدة منخفضة، إدراكا منها أن الدولة التونسية باتت أكثر التزاما من أي وقت مضى، وأنها تسير نحو استقرار مالي يضمن السداد في آجاله دون حاجة إلى تدخل أو مراقبة خارجية.
تونس تفرض شروطها وفق مصلحتها الوطنية
إنّ أكثر ما يميز السياسة المالية التونسية الجديدة هو انتقالها من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل. فالمفاوض التونسي اليوم لا يكتفي بقبول شروط التمويل، بل يحدد بنفسه إطارها العام بما يتماشى مع المصلحة الوطنية. لقد باتت تونس تتعامل مع المؤسسات المانحة على أساس الشراكة لا التبعية، وتشترط أن تكون كل القروض موجهة نحو المشاريع المنتجة التي تخلق قيمة مضافة وتشغل اليد العاملة. بهذه السياسة، نجحت الدولة في تحويل الاقتراض من عبء مالي إلى رافعة تنموية، وفي فرض مبدأ السيادة الاقتصادية على كل تفاوض خارجي.
إن التعامل الندّي الذي تنتهجه تونس اليوم ليس شعارا سياسيا بل واقعا عمليا، تدعمه الأرقام والالتزامات. فحين تتفاوض الدولة اليوم، مع مسؤولي البنك الدولي أو صندوق النقد، فإنها تفعل ذلك انطلاقا من منطق الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة، وليس من موقع الخضوع لإملاءات تقنية أو سياسية. هذا التحول هو الذي أعاد رسم صورة تونس في المشهد المالي الدولي كبلد يحترم التزاماته، يمتلك رؤية اقتصادية واضحة، ويسعى إلى بناء علاقات تعاون قائمة على الإنصاف والندية.
آفاق اقتصادية واعدة وسياسة نقدية متوازنة
تبدو آفاق الاقتصاد التونسي مشرقة في ضوء هذه التحولات. فالسياسة النقدية التي ينتهجها البنك المركزي خلال السنوات الأخيرة أظهرت قدرة ملحوظة على الحفاظ على استقرار سعر الصرف والحد من التضخم رغم الضغوط الخارجية، وهو ما عزز الثقة في العملة الوطنية وفي قدرة الدولة على التحكم في توازناتها المالية. ومع تحسن الاحتياطي من العملة الأجنبية وارتفاع العائدات من السياحة والصادرات، باتت تونس أقل اعتمادا على القروض قصيرة الأجل وأكثر توجها نحو التمويلات المهيكلة والمشاريع الطويلة الأمد.
كما أن التوجه نحو الاستثمار في الطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر يفتح أمام البلاد مجالات جديدة للنمو وتوليد الثروة، إذ يُتوقع أن تتحول تونس خلال السنوات المقبلة إلى مصدر رئيسي للكهرباء الخضراء نحو أوروبا، مما يعزز موقعها الجغرافي كحلقة وصل بين الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط. هذا التوجه الاستراتيجي لا يضمن فقط استقلالها الطاقي بل يجعلها فاعلا محوريا في الاقتصاد الإقليمي.
نهاية مرحلة وبداية عهد جديد
كل هذه المؤشرات تؤكد أن تونس دخلت فعلا مرحلة جديدة في علاقتها مع العالم المالي. لم تعد الدولة تنتظر إملاءات الخارج، بل تضع شروطها وتختار شركاءها بناءً على ما يخدم المصلحة الوطنية. ومع التزامها الدقيق بسداد ديونها وتوجيهها التمويل نحو القطاعات المنتجة، اكتسبت تونس مكانة تفاوضية لم تعرفها منذ عقود. بعض الخبراء الدوليين وصفوا هذا التحول في إدارة تونس لملفاتها الخارجية بالبنيوي في فلسفة الاقتصاد الوطني، يقوم على مبدأ السيادة والاعتماد على الكفاءة الوطنية، ويُعيد إلى الدولة مكانتها كفاعلٍ حرٍّ ومسؤول في محيطها المالي.
من هذا المنطلق، يمكن القول اليوم، إن تونس أنهت فعلا زمن الشروط المفروضة، ودخلت عهد الشروط الوطنية. عهد تتعامل فيه مع المؤسسات الدولية بندّية واحترام متبادل، وتضع فيه التنمية المستدامة في قلب أولوياتها. فبقدر ما حافظت على التزاماتها المالية، استطاعت أن تفرض رؤيتها الاقتصادية. ومع استقرار سياستها النقدية ووضوح استراتيجيتها الطاقية، تفتح البلاد صفحة جديدة من تاريخها الاقتصادي، عنوانها السيادة والشفافية والكفاءة. إن تونس اليوم لا تستدين لتسُدد، بل تستدين لتبني، وتُفاوض لتكسب، وتتعامل مع العالم وفق شروطها لا شروط غيرها.
سفيان المهداوي
تعيش تونس اليوم مرحلة مفصلية في تاريخها الاقتصادي والمالي، مرحلة تتغير فيها موازين القوى في علاقاتها مع المؤسسات الدولية المانحة، وفي مقدمتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. بعد عقودٍ كانت خلالها البلاد تُواجه قروضا مشروطة وسياسات مالية مفروضة من الخارج، تدخل تونس اليوم عهدا جديدا من السيادة الاقتصادية والمفاوضات المتكافئة. فقد أصبحت الدولة التونسية، بفضل انضباطها المالي والتزامها الصارم بسداد ديونها الخارجية، تتعامل مع المؤسسات المالية الكبرى من موقع الشريك لا التابع، ومن موقع الندّ لا المحتاج.
هذه النقلة النوعية في السياسة المالية تمثل خروجا تدريجيا من مرحلة التبعية التي كبّلت الاقتصاد الوطني، نحو مرحلة جديدة من الاستقلال الاقتصادي والرؤية الوطنية المستقلة في التعامل مع العالم.
من زمن الإملاءات إلى زمن الشراكة والسيادة
عرفت تونس خلال السنوات الماضية مراحل مالية دقيقة، تميزت بارتفاع نسب المديونية وتراجع الاستثمارات العمومية وضعف النمو. في تلك الفترة، كانت البلاد مضطرة للجوء إلى الاقتراض الخارجي لتغطية العجز في ميزان الدفوعات، وغالباً ما كانت هذه القروض مشروطة بإصلاحات هيكلية موجعة تمسّ النسيج الاجتماعي والاقتصادي. لكن خلال السنوات الأخيرة، تغيّرت المعادلة جذريا. فقد نجحت تونس في الالتزام التام بسداد أقساطها الخارجية في آجالها القانونية، بل سددت جزءا منها قبل مواعيده، ما أعاد الثقة في مصداقية الدولة لدى المانحين الدوليين. ووفق المعطيات الرسمية، التي تحصلت عليها «الصباح»، تمكنت تونس من تسديد ما يقرب من 80 في المائة من خدمة الدين الخارجي لسنة 2025 حتى منتصف العام، بفضل تحسن مداخيل السياحة وتحويلات الجالية بالخارج، إلى جانب تحسن مداخيل الدولة من الصادرات الفلاحية والطاقة.
هذا الأداء المالي الصارم جعل المؤسسات المالية العالمية تعيد النظر في طريقة تعاملها مع تونس. فقد أكدت وكالة التصنيف الائتماني «فيتش رايتنغ» أن قدرة تونس على تغطية التزاماتها الخارجية تحسنت بشكل واضح خلال سنتي 2024 و2025، مدعومة بزيادة احتياطي النقد الأجنبي الذي أصبح يغطي أكثر من ثلاثة أشهر من الواردات، وهو مؤشر حاسم يعكس استقرار السياسة النقدية وكفاءة إدارة المالية العمومية. كما أظهرت الأرقام الرسمية أن حجم الدين الخارجي العمومي بلغ في مارس 2025 حوالي 58.1 مليار دينار من أصل 135.2 مليار دينار إجمالي الدين العام، أي ما يمثل نحو 43 في المائة فقط، مقارنة بنسبة فاقت 70 في المائة سنة 2019، وهو تحسن جوهري يؤكد صلابة المسار المالي الجديد.
البنك الدولي يغيّر المعادلة.. تمويل ضخم بشروط تونسية
التحول الأبرز في علاقة تونس بالمؤسسات المالية العالمية تجلى بوضوح في الموقف الأخير للبنك الدولي، الذي أعلن عن انخراطه في تمويل مشاريع الطاقة في تونس بقيمة تتجاوز 430 مليون دولار، منها نحو 30 مليون دولار تمويلا ميسرا في إطار برنامج «تحسين موثوقية وكفاءة وحوكمة قطاع الكهرباء في تونس»(TEREG). هذا المشروع الطموح يهدف إلى تحديث قطاع الكهرباء التونسي وتعزيز كفاءته واستقطاب استثمارات خاصة تقدر بحوالي 2.8 مليار دولار، مع التركيز على إنتاج الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتوليد أكثر من 2.8 غيغاواط بحلول عام 2028.
لكن ما يجعل هذا الاتفاق فريدا هو طبيعته السياسية والاقتصادية الجديدة، فالبنك الدولي لم يفرض على تونس أي شروط مجحفة تتعلق بإصلاحات هيكلية أو بتقليص الإنفاق الاجتماعي كما كان يحدث في السابق، بل أبرم الاتفاق وفق الشروط التي وضعتها تونس نفسها ضمن إستراتيجيتها الوطنية للتحول الطاقي. هذا التمويل يعكس بوضوح تغيرا في نظرة البنك الدولي لتونس، حيث أصبح يعتبرها شريكا ذا سيادة مالية قادرة على إدارة مشاريعها التنموية وفق أولوياتها الوطنية، لا مجرد دولة تطلب المساعدة.
ولم يكن هذا المشروع استثناءً، إذ سبق للبنك الدولي أن دعم سنة 2023 مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا بقيمة 268.4 مليون دولار، وهو مشروع استراتيجي يعرف باسم «إلمِد» (ELMED)، ويهدف إلى ربط الشبكة التونسية بالشبكة الأوروبية، بما يسمح لتونس بتصدير الكهرباء الخضراء نحو أوروبا، ويكرّس موقعها كمركز إقليمي للطاقة المتجددة في البحر الأبيض المتوسط. إن موافقة البنك الدولي على تمويل هذين المشروعين الضخمين في ظرف مالي عالمي معقد يعد مؤشراً قويا على ثقة المؤسسات الدولية في قدرة تونس على إدارة اقتصادها بمسؤولية وسيادة.
التزام صارم بالسداد... رسالة الثقة للمجتمع المالي الدولي
السبب الرئيسي وراء هذا التحول في الموقف الدولي هو التزام تونس الصارم بسداد ديونها الخارجية، بما في ذلك القروض المبرمة مع صندوق النقد الدولي، الذي من المقرر أن تُسدَّد آخر دفعاته، وفق ما أفاد به بعض خبراء الاقتصاد لـ«الصباح»، في نوفمبر 2029. وقد أثبتت تونس، رغم كل التحديات، قدرتها على الإيفاء بجميع التزاماتها المالية دون اللجوء إلى إعادة الجدولة أو التعثر، وهو ما منحها مصداقية نادرة بين الدول النامية. كما أن مؤشرات الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي التي بلغت نحو 83 في المائة سنة 2024، مع اتجاه واضح نحو التراجع، تؤكد أن الدولة باتت تتحكم تدريجيا في وتيرة الاقتراض الخارجي وتحسن توجيهه نحو المشاريع المنتجة ذات الأثر المستدام.
هذه الثقة الجديدة انعكست كذلك على رغبة البنوك والمؤسسات المالية الدولية في التعامل مع تونس بشروط أكثر مرونة. فقد أبدت مؤسسات أوروبية وآسيوية استعدادها لإقراض تونس في مشاريع تنموية بشروط ميسرة، وبنسب فائدة منخفضة، إدراكا منها أن الدولة التونسية باتت أكثر التزاما من أي وقت مضى، وأنها تسير نحو استقرار مالي يضمن السداد في آجاله دون حاجة إلى تدخل أو مراقبة خارجية.
تونس تفرض شروطها وفق مصلحتها الوطنية
إنّ أكثر ما يميز السياسة المالية التونسية الجديدة هو انتقالها من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل. فالمفاوض التونسي اليوم لا يكتفي بقبول شروط التمويل، بل يحدد بنفسه إطارها العام بما يتماشى مع المصلحة الوطنية. لقد باتت تونس تتعامل مع المؤسسات المانحة على أساس الشراكة لا التبعية، وتشترط أن تكون كل القروض موجهة نحو المشاريع المنتجة التي تخلق قيمة مضافة وتشغل اليد العاملة. بهذه السياسة، نجحت الدولة في تحويل الاقتراض من عبء مالي إلى رافعة تنموية، وفي فرض مبدأ السيادة الاقتصادية على كل تفاوض خارجي.
إن التعامل الندّي الذي تنتهجه تونس اليوم ليس شعارا سياسيا بل واقعا عمليا، تدعمه الأرقام والالتزامات. فحين تتفاوض الدولة اليوم، مع مسؤولي البنك الدولي أو صندوق النقد، فإنها تفعل ذلك انطلاقا من منطق الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة، وليس من موقع الخضوع لإملاءات تقنية أو سياسية. هذا التحول هو الذي أعاد رسم صورة تونس في المشهد المالي الدولي كبلد يحترم التزاماته، يمتلك رؤية اقتصادية واضحة، ويسعى إلى بناء علاقات تعاون قائمة على الإنصاف والندية.
آفاق اقتصادية واعدة وسياسة نقدية متوازنة
تبدو آفاق الاقتصاد التونسي مشرقة في ضوء هذه التحولات. فالسياسة النقدية التي ينتهجها البنك المركزي خلال السنوات الأخيرة أظهرت قدرة ملحوظة على الحفاظ على استقرار سعر الصرف والحد من التضخم رغم الضغوط الخارجية، وهو ما عزز الثقة في العملة الوطنية وفي قدرة الدولة على التحكم في توازناتها المالية. ومع تحسن الاحتياطي من العملة الأجنبية وارتفاع العائدات من السياحة والصادرات، باتت تونس أقل اعتمادا على القروض قصيرة الأجل وأكثر توجها نحو التمويلات المهيكلة والمشاريع الطويلة الأمد.
كما أن التوجه نحو الاستثمار في الطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر يفتح أمام البلاد مجالات جديدة للنمو وتوليد الثروة، إذ يُتوقع أن تتحول تونس خلال السنوات المقبلة إلى مصدر رئيسي للكهرباء الخضراء نحو أوروبا، مما يعزز موقعها الجغرافي كحلقة وصل بين الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط. هذا التوجه الاستراتيجي لا يضمن فقط استقلالها الطاقي بل يجعلها فاعلا محوريا في الاقتصاد الإقليمي.
نهاية مرحلة وبداية عهد جديد
كل هذه المؤشرات تؤكد أن تونس دخلت فعلا مرحلة جديدة في علاقتها مع العالم المالي. لم تعد الدولة تنتظر إملاءات الخارج، بل تضع شروطها وتختار شركاءها بناءً على ما يخدم المصلحة الوطنية. ومع التزامها الدقيق بسداد ديونها وتوجيهها التمويل نحو القطاعات المنتجة، اكتسبت تونس مكانة تفاوضية لم تعرفها منذ عقود. بعض الخبراء الدوليين وصفوا هذا التحول في إدارة تونس لملفاتها الخارجية بالبنيوي في فلسفة الاقتصاد الوطني، يقوم على مبدأ السيادة والاعتماد على الكفاءة الوطنية، ويُعيد إلى الدولة مكانتها كفاعلٍ حرٍّ ومسؤول في محيطها المالي.
من هذا المنطلق، يمكن القول اليوم، إن تونس أنهت فعلا زمن الشروط المفروضة، ودخلت عهد الشروط الوطنية. عهد تتعامل فيه مع المؤسسات الدولية بندّية واحترام متبادل، وتضع فيه التنمية المستدامة في قلب أولوياتها. فبقدر ما حافظت على التزاماتها المالية، استطاعت أن تفرض رؤيتها الاقتصادية. ومع استقرار سياستها النقدية ووضوح استراتيجيتها الطاقية، تفتح البلاد صفحة جديدة من تاريخها الاقتصادي، عنوانها السيادة والشفافية والكفاءة. إن تونس اليوم لا تستدين لتسُدد، بل تستدين لتبني، وتُفاوض لتكسب، وتتعامل مع العالم وفق شروطها لا شروط غيرها.