إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

خطة التنمية الاقتصادية لتونس 2026.. اختيارات كبرى لإعادة بناء الثقة وتحفيز النمو

في ظل وضع عالمي متقلب وضغوط مالية داخلية، حرصت الحكومة  التونسية على إعداد ميزانية واقعية تقوم على خمسة اختيارات وطنية كبرى، تمثل العمود الفقري للرؤية الجديدة التي تراهن على تحقيق التوازن بين الاستقرار المالي وتحفيز النمو.

خطة التنمية الاقتصادية لتونس 2026.. اختيارات كبرى لإعادة بناء الثقة وتحفيز النمو

الملامح العامة للميزانية، والتي اطلعت «الصباح» على نسخة منها، تؤكد أن الرهان ليس في إطلاق مشاريع ضخمة أو وعود براقة، بل في اعتماد نهج إصلاحي متدرج، يقوم على تعبئة القدرات الوطنية واستعادة الثقة في الاقتصاد، وفتح آفاق جديدة أمام التشغيل والاستثمار والتوازن الجهوي.

 رهان التشغيل... استثمار في الكفاءات لا في الأرقام

في مقدمة هذه الخيارات الخمسة، يأتي ملف التشغيل بوصفه محورا اجتماعيا واقتصاديا مركزيا. فقد اتجهت الدولة إلى معالجة أزمة البطالة ليس فقط من زاوية خلق مواطن شغل جديدة، بل عبر مقاربة شاملة تهدف إلى رفع قابلية تشغيل الشباب، وتطوير برامج التكوين المهني، وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

تم في هذا السياق إدراج مشروع قانون لتنظيم الإرسال نحو الخارج، بما يتيح للأطر والكفاءات التونسية فرص عمل في الخارج ضمن إطار منظم يضمن حقوقهم ويحدّ من الهجرة العشوائية.

كما أولت الحكومة اهتماما خاصا بالمؤسسات المجتمعية الصغيرة والمتوسطة، إذ بلغ عدد الشركات المجتمعية الحاصلة على رقم ضريبي إلى غاية أوت الماضي نحو 255 شركة، في حين تم تمديد خط الائتمان المخصص لها حتى سنة 2027 لدعم استمراريتها وقدرتها التشغيلية.

أما على المستوى الاجتماعي، فقد رُفع دعم الأسر محدودة الدخل من 240 إلى 260 دينارا شهريا، كما تم الإعلان عن 913 مسكنا اجتماعيا جديدا إلى جانب 2,926 وحدة سكنية قيد الإنجاز، بما يعكس توجهاً نحو سياسة اجتماعية واقعية تستند إلى مؤشرات ملموسة.

رأس المال البشري... التعليم والصحة  في قلب الإصلاح

المحور الثاني للميزانية يركز على تطوير رأس المال البشري باعتباره الركيزة الأساسية لأي نمو مستدام.

في قطاع التعليم، تسعى الحكومة إلى إدماج الرقمنة في مختلف مراحل التعليم، عبر ربط المؤسسات التربوية والجامعية بشبكة الإنترنات ذات النطاق العريض، وإطلاق المجلس الأعلى للتعليم لتوحيد الرؤية الإصلاحية بين مختلف الهياكل المعنية.

أما في قطاع الصحة، فقد تم وضع خطة لإعادة تنظيم قطاع الأدوية وتشجيع صناعة اللقاحات محليا، إلى جانب مشروع طموح لإنشاء مستشفى رقمي يعتمد على قاعدة بيانات وطنية للمرضى غير المقيمين، بما يعزز كفاءة الخدمات ويحدّ من الفوارق بين الجهات.

ويرى خبراء أن هذا التوجه نحو الاقتصاد المعرفي والصحي الرقمي يمكن أن يشكل أحد أهم محركات التنافسية الوطنية خلال السنوات المقبلة، إذا ما تم دعمه بإصلاحات هيكلية في منظومة التكوين والتعليم العالي.

الاستثمار والتنافسية... من مناخ معقد إلى بيئة محفزة

من خلال  المحور الثالث، تسعى ميزانية 2026 إلى تحسين مناخ الاستثمار ورفع القدرة التنافسية للاقتصاد التونسي.

فقد أطلقت الحكومة حملة واسعة لتبسيط الإجراءات الإدارية، حيث سيتم حذف جزء كبير من التراخيص المسبقة، ومراجعة دفاتر الشروط، إذ من المقرر مراجعة 100 دفتر شروط من أصل 167 خلال العام المقبل، بما يسهم في تخفيف البيروقراطية وتسهيل بعث المشاريع.

ومن المشاريع الرائدة التي تندرج ضمن هذا الإطار، مشروع المدينة الذكية لصناعة السيارات على مساحة 300 هكتار، والذي يهدف إلى استقطاب كبرى شركات مكونات السيارات الأوروبية والآسيوية.

كما يشمل التوجه الجديد تسريع نشر شبكة الجيل الخامس (5G) وتوسيع خدمات الدفع الإلكتروني، فضلاً عن تحديث الإطار القانوني للتجارة الإلكترونية، لتصبح تونس وجهة أكثر جاذبية للاستثمار التكنولوجي.

ويرى المراقبون أن هذا التحول الرقمي يمكن أن يعيد رسم خريطة الاقتصاد الوطني إذا تزامن مع إصلاح جبائي حقيقي يعزز الشفافية ويقلل من الاقتصاد الموازي الذي يستنزف الموارد العامة.

التنمية الجهوية... نحو عدالة اقتصادية

لم تغب التنمية الجهوية عن خيارات الميزانية، إذ تم تخصيص محور كامل لإعادة توزيع فرص النمو بين مختلف الجهات.

ستتم مراجعة حوكمة البرنامج المتكامل للتنمية الجهوية، مع التركيز على مشاريع التحول الطاقي والاقتصاد الأخضر، وتدعيم الاستثمارات في البنية التحتية المحلية.

كما يجري إعداد قانون خاص بمجلس البلديات يعيد تنظيم العلاقة بين المركز والجهات، في حين سيُعاد النظر في قانون التعمير لتسهيل بعث المشاريع العقارية والاقتصادية في المناطق الداخلية.

ويُنتظر أن تترجم هذه الإصلاحات إلى تحسين في الخدمات المحلية وتحفيز للأنشطة الاقتصادية في الولايات الأقل حظاً، مما يقلّص من الفوارق الجهوية المزمنة التي طالما شكلت أحد أكبر التحديات أمام التنمية المتوازنة في تونس.

الاستدامة والإدماج الاقتصادي... البيئة في صميم النمو

الاختيار الخامس في الميزانية يهمّ الإدماج الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إذ ربطت الحكومة لأول مرة بين أهداف التنمية والبعد الإيكولوجي، في انسجام مع التوجهات الدولية نحو الاقتصاد الأخضر.

في القطاع الفلاحي، تشمل الإجراءات الجديدة تحسين توفر الأعلاف، وتشجيع تصدير زيت الزيتون، وحماية الغابات، فضلاً عن مكافحة الصيد العشوائي.

أما في مجال المياه، فتخطط الدولة لترميم 200 كيلومتر من شبكات المياه القديمة، ورفع الطاقة الإنتاجية لمياه الشرب إلى 829.4 مليون متر مكعب، لمواجهة التغيرات المناخية والجفاف الذي ضرب البلاد في السنوات الأخيرة.

هذا التوجه يضع تونس أمام فرصة حقيقية لتبني نموذج تنموي أكثر استدامة، شرط أن ترافقه إصلاحات في إدارة الموارد الطبيعية ومكافحة التلوث، إضافة إلى تحفيز الاستثمار في الطاقات المتجددة.

مؤشرات واعدة وسط تحديات قائمة

على المستوى الاقتصادي الكلي، تتوقع الحكومة تحقيق نسبة نمو في الناتج المحلي الخام بـ3.3 % سنة 2026، مقابل 2.6 % في 2025، مع توزيع متوازن بين القطاعات، 2.9 % للفلاحة، 4.8 % للصناعة، و2.9 % للخدمات. كما يُتوقّع أن يرتفع الدخل الفردي بنسبة 7.4 % ليبلغ نحو 15,691 ديناراً، في حين يُنتظر أن يتراجع التضخم تدريجيا من 6.5 % سنة 2024 إلى حوالي 5 % في 2026 .

ووفقا للفرضيات الماكرو-اقتصادية المرجعية التي بُنيت عليها الميزانية الاقتصادية لسنة 2026، تتوقع الحكومة أن يشهد الطلب الخارجي الموجّه نحو تونس ارتفاعا ملحوظا من 0.2 % سنة 2025 إلى 1.4 % سنة 2026، وهو ما يعكس تحسنا مرتقبا في وتيرة الصادرات التونسية نحو الأسواق التقليدية، خاصة الأوروبية منها.

أما على مستوى الإنتاج الفلاحي، فتُقدّر حصيلة الحبوب بنحو 18 مليون قنطار مقابل 20 مليونًا سنة 2025، في حين يُنتظر أن يستقر إنتاج الزيتون الموجّه للعصر عند 1.7 مليون طن، وهو ما يؤكد محافظة القطاع على أدائه رغم التحديات المناخية.

وفي المقابل، يُتوقع أن يشهد إنتاج الفسفاط ارتفاعا معتبرا من 4.5 ملايين طن سنة 2025 إلى 5.5 ملايين طن سنة 2026، مما يعزز مكانة هذا القطاع كمصدر رئيسي للعملة الصعبة وداعم لميزان الدفوعات.

كما تشير التقديرات إلى أن عدد السياح الوافدين على تونس سيصل إلى نحو 11.5 مليون سائح سنة 2026، مقابل 11 مليونا في السنة السابقة، وهو ما يعكس استعادة تدريجية لعافية القطاع السياحي بعد سنوات من الاضطرابات.

أما بخصوص الأسعار الدولية المرجعية التي استندت إليها التوقعات الاقتصادية، فقد تم اعتماد سعر برميل النفط الخام من نوع برنت عند 63.6 دولارا، وسعر طن الفسفاط في حدود 160 دولارا، في حين قُدّر سعر طن الأسمدة المركّبة (DAP) بـ 550 دولارا، وسعر القمح اللين بـ227 دولارا للطن الواحد.

أما سعر لتر زيت الزيتون في الأسواق العالمية فقد حُدّد بمتوسط 4.6 يورو، وهو مستوى يعكس استقرارا نسبيا في السوق العالمية للزيوت خلال الفترة المقبلة.

وتبرز هذه المؤشرات أنّ ميزانية 2026 ترتكز على فرضيات واقعية تراعي تقلبات الأسواق الدولية من جهة، وتستند إلى إمكانات الإنتاج الوطني من جهة أخرى، في محاولة للموازنة بين أهداف النموّ والاستقرار المالي ضمن رؤية تنموية شاملة.

بين واقعية الأهداف ومخاطر التنفيذ

تمنح الميزانية الاقتصادية لسنة 2026 لتونس فرصة لإعادة صياغة نموذجها التنموي على أسس جديدة، قوامها الرقمنة، والاستثمار في الكفاءات، والانفتاح على الاقتصاد الأخضر.

والتحسين المنتظر في مناخ الأعمال، مع مشاريع المدن الذكية وتبسيط الإجراءات، يمكن أن يشكل أرضية لاستقطاب رؤوس أموال أجنبية جديدة.

كذلك، فإن توجه الحكومة نحو دعم التعليم والصحة، وتوسيع الحماية الاجتماعية، يمثل خطوة مهمة نحو تعزيز رأس المال البشري وتحقيق نمو أكثر شمولاً.

غير أن الطريق إلى التنفيذ لن يكون سهلا، فنجاح هذه الخيارات الخمسة مرهون بقدرة الدولة على تعبئة التمويلات، ومواصلة الإصلاحات الجبائية والهيكلية دون المساس بالاستقرار الاجتماعي.

كما أن استدامة النمو تتطلب معالجة جذور الاقتصاد الموازي، وتطوير الإدارة العمومية التي ما تزال تعاني من بطء الإجراءات وضعف التنسيق بين الهياكل.

وتبقى المخاطر الخارجية مثل تقلب أسعار الطاقة، وتباطؤ الطلب الأوروبي، عوامل محتملة قد تؤثر في مسار النمو المرتقب.

عام 2026... بداية دورة اقتصادية واعدة

تحمل ميزانية 2026 في طياتها ملامح مرحلة جديدة للاقتصاد الوطني، إذ لا تُعدّ مجرد ميزانية تسيير أو استمرارية، بل هي خطوة مدروسة نحو انطلاقة تنموية متوازنة ومستنيرة. فقد تم لأول مرة تحديد محاور كبرى واضحة للعمل، وضبط ضوابط دقيقة للتصرف المالي، بما يضمن نجاعة التنفيذ وشفافية التسيير.

ومع اعتماد خطة تنموية تمتد إلى أفق 2030، تبدو تونس مقبلة على عام اقتصادي مشرق تتلاقى فيه الإرادة السياسية مع الرؤية الإصلاحية، في مسار يوازن بين النمو والاستقرار، ويستثمر في الإنسان والتكنولوجيا والجهات والبيئة على حدّ سواء.

ويمنح وضوح الخيارات الخمسة التي ترتكز عليها ميزانية البلاد فرصة حقيقية لتجاوز منطق الأزمات نحو منطق البناء، ويجعل من سنة 2026 بداية دورة اقتصادية واعدة، يمكن أن تعيد لتونس إشعاعها التنموي وتؤسس لمرحلة أكثر ازدهارا واستقرارا.

سفيان المهداوي

خطة التنمية الاقتصادية لتونس 2026.. اختيارات كبرى لإعادة بناء الثقة وتحفيز النمو

في ظل وضع عالمي متقلب وضغوط مالية داخلية، حرصت الحكومة  التونسية على إعداد ميزانية واقعية تقوم على خمسة اختيارات وطنية كبرى، تمثل العمود الفقري للرؤية الجديدة التي تراهن على تحقيق التوازن بين الاستقرار المالي وتحفيز النمو.

خطة التنمية الاقتصادية لتونس 2026.. اختيارات كبرى لإعادة بناء الثقة وتحفيز النمو

الملامح العامة للميزانية، والتي اطلعت «الصباح» على نسخة منها، تؤكد أن الرهان ليس في إطلاق مشاريع ضخمة أو وعود براقة، بل في اعتماد نهج إصلاحي متدرج، يقوم على تعبئة القدرات الوطنية واستعادة الثقة في الاقتصاد، وفتح آفاق جديدة أمام التشغيل والاستثمار والتوازن الجهوي.

 رهان التشغيل... استثمار في الكفاءات لا في الأرقام

في مقدمة هذه الخيارات الخمسة، يأتي ملف التشغيل بوصفه محورا اجتماعيا واقتصاديا مركزيا. فقد اتجهت الدولة إلى معالجة أزمة البطالة ليس فقط من زاوية خلق مواطن شغل جديدة، بل عبر مقاربة شاملة تهدف إلى رفع قابلية تشغيل الشباب، وتطوير برامج التكوين المهني، وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

تم في هذا السياق إدراج مشروع قانون لتنظيم الإرسال نحو الخارج، بما يتيح للأطر والكفاءات التونسية فرص عمل في الخارج ضمن إطار منظم يضمن حقوقهم ويحدّ من الهجرة العشوائية.

كما أولت الحكومة اهتماما خاصا بالمؤسسات المجتمعية الصغيرة والمتوسطة، إذ بلغ عدد الشركات المجتمعية الحاصلة على رقم ضريبي إلى غاية أوت الماضي نحو 255 شركة، في حين تم تمديد خط الائتمان المخصص لها حتى سنة 2027 لدعم استمراريتها وقدرتها التشغيلية.

أما على المستوى الاجتماعي، فقد رُفع دعم الأسر محدودة الدخل من 240 إلى 260 دينارا شهريا، كما تم الإعلان عن 913 مسكنا اجتماعيا جديدا إلى جانب 2,926 وحدة سكنية قيد الإنجاز، بما يعكس توجهاً نحو سياسة اجتماعية واقعية تستند إلى مؤشرات ملموسة.

رأس المال البشري... التعليم والصحة  في قلب الإصلاح

المحور الثاني للميزانية يركز على تطوير رأس المال البشري باعتباره الركيزة الأساسية لأي نمو مستدام.

في قطاع التعليم، تسعى الحكومة إلى إدماج الرقمنة في مختلف مراحل التعليم، عبر ربط المؤسسات التربوية والجامعية بشبكة الإنترنات ذات النطاق العريض، وإطلاق المجلس الأعلى للتعليم لتوحيد الرؤية الإصلاحية بين مختلف الهياكل المعنية.

أما في قطاع الصحة، فقد تم وضع خطة لإعادة تنظيم قطاع الأدوية وتشجيع صناعة اللقاحات محليا، إلى جانب مشروع طموح لإنشاء مستشفى رقمي يعتمد على قاعدة بيانات وطنية للمرضى غير المقيمين، بما يعزز كفاءة الخدمات ويحدّ من الفوارق بين الجهات.

ويرى خبراء أن هذا التوجه نحو الاقتصاد المعرفي والصحي الرقمي يمكن أن يشكل أحد أهم محركات التنافسية الوطنية خلال السنوات المقبلة، إذا ما تم دعمه بإصلاحات هيكلية في منظومة التكوين والتعليم العالي.

الاستثمار والتنافسية... من مناخ معقد إلى بيئة محفزة

من خلال  المحور الثالث، تسعى ميزانية 2026 إلى تحسين مناخ الاستثمار ورفع القدرة التنافسية للاقتصاد التونسي.

فقد أطلقت الحكومة حملة واسعة لتبسيط الإجراءات الإدارية، حيث سيتم حذف جزء كبير من التراخيص المسبقة، ومراجعة دفاتر الشروط، إذ من المقرر مراجعة 100 دفتر شروط من أصل 167 خلال العام المقبل، بما يسهم في تخفيف البيروقراطية وتسهيل بعث المشاريع.

ومن المشاريع الرائدة التي تندرج ضمن هذا الإطار، مشروع المدينة الذكية لصناعة السيارات على مساحة 300 هكتار، والذي يهدف إلى استقطاب كبرى شركات مكونات السيارات الأوروبية والآسيوية.

كما يشمل التوجه الجديد تسريع نشر شبكة الجيل الخامس (5G) وتوسيع خدمات الدفع الإلكتروني، فضلاً عن تحديث الإطار القانوني للتجارة الإلكترونية، لتصبح تونس وجهة أكثر جاذبية للاستثمار التكنولوجي.

ويرى المراقبون أن هذا التحول الرقمي يمكن أن يعيد رسم خريطة الاقتصاد الوطني إذا تزامن مع إصلاح جبائي حقيقي يعزز الشفافية ويقلل من الاقتصاد الموازي الذي يستنزف الموارد العامة.

التنمية الجهوية... نحو عدالة اقتصادية

لم تغب التنمية الجهوية عن خيارات الميزانية، إذ تم تخصيص محور كامل لإعادة توزيع فرص النمو بين مختلف الجهات.

ستتم مراجعة حوكمة البرنامج المتكامل للتنمية الجهوية، مع التركيز على مشاريع التحول الطاقي والاقتصاد الأخضر، وتدعيم الاستثمارات في البنية التحتية المحلية.

كما يجري إعداد قانون خاص بمجلس البلديات يعيد تنظيم العلاقة بين المركز والجهات، في حين سيُعاد النظر في قانون التعمير لتسهيل بعث المشاريع العقارية والاقتصادية في المناطق الداخلية.

ويُنتظر أن تترجم هذه الإصلاحات إلى تحسين في الخدمات المحلية وتحفيز للأنشطة الاقتصادية في الولايات الأقل حظاً، مما يقلّص من الفوارق الجهوية المزمنة التي طالما شكلت أحد أكبر التحديات أمام التنمية المتوازنة في تونس.

الاستدامة والإدماج الاقتصادي... البيئة في صميم النمو

الاختيار الخامس في الميزانية يهمّ الإدماج الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إذ ربطت الحكومة لأول مرة بين أهداف التنمية والبعد الإيكولوجي، في انسجام مع التوجهات الدولية نحو الاقتصاد الأخضر.

في القطاع الفلاحي، تشمل الإجراءات الجديدة تحسين توفر الأعلاف، وتشجيع تصدير زيت الزيتون، وحماية الغابات، فضلاً عن مكافحة الصيد العشوائي.

أما في مجال المياه، فتخطط الدولة لترميم 200 كيلومتر من شبكات المياه القديمة، ورفع الطاقة الإنتاجية لمياه الشرب إلى 829.4 مليون متر مكعب، لمواجهة التغيرات المناخية والجفاف الذي ضرب البلاد في السنوات الأخيرة.

هذا التوجه يضع تونس أمام فرصة حقيقية لتبني نموذج تنموي أكثر استدامة، شرط أن ترافقه إصلاحات في إدارة الموارد الطبيعية ومكافحة التلوث، إضافة إلى تحفيز الاستثمار في الطاقات المتجددة.

مؤشرات واعدة وسط تحديات قائمة

على المستوى الاقتصادي الكلي، تتوقع الحكومة تحقيق نسبة نمو في الناتج المحلي الخام بـ3.3 % سنة 2026، مقابل 2.6 % في 2025، مع توزيع متوازن بين القطاعات، 2.9 % للفلاحة، 4.8 % للصناعة، و2.9 % للخدمات. كما يُتوقّع أن يرتفع الدخل الفردي بنسبة 7.4 % ليبلغ نحو 15,691 ديناراً، في حين يُنتظر أن يتراجع التضخم تدريجيا من 6.5 % سنة 2024 إلى حوالي 5 % في 2026 .

ووفقا للفرضيات الماكرو-اقتصادية المرجعية التي بُنيت عليها الميزانية الاقتصادية لسنة 2026، تتوقع الحكومة أن يشهد الطلب الخارجي الموجّه نحو تونس ارتفاعا ملحوظا من 0.2 % سنة 2025 إلى 1.4 % سنة 2026، وهو ما يعكس تحسنا مرتقبا في وتيرة الصادرات التونسية نحو الأسواق التقليدية، خاصة الأوروبية منها.

أما على مستوى الإنتاج الفلاحي، فتُقدّر حصيلة الحبوب بنحو 18 مليون قنطار مقابل 20 مليونًا سنة 2025، في حين يُنتظر أن يستقر إنتاج الزيتون الموجّه للعصر عند 1.7 مليون طن، وهو ما يؤكد محافظة القطاع على أدائه رغم التحديات المناخية.

وفي المقابل، يُتوقع أن يشهد إنتاج الفسفاط ارتفاعا معتبرا من 4.5 ملايين طن سنة 2025 إلى 5.5 ملايين طن سنة 2026، مما يعزز مكانة هذا القطاع كمصدر رئيسي للعملة الصعبة وداعم لميزان الدفوعات.

كما تشير التقديرات إلى أن عدد السياح الوافدين على تونس سيصل إلى نحو 11.5 مليون سائح سنة 2026، مقابل 11 مليونا في السنة السابقة، وهو ما يعكس استعادة تدريجية لعافية القطاع السياحي بعد سنوات من الاضطرابات.

أما بخصوص الأسعار الدولية المرجعية التي استندت إليها التوقعات الاقتصادية، فقد تم اعتماد سعر برميل النفط الخام من نوع برنت عند 63.6 دولارا، وسعر طن الفسفاط في حدود 160 دولارا، في حين قُدّر سعر طن الأسمدة المركّبة (DAP) بـ 550 دولارا، وسعر القمح اللين بـ227 دولارا للطن الواحد.

أما سعر لتر زيت الزيتون في الأسواق العالمية فقد حُدّد بمتوسط 4.6 يورو، وهو مستوى يعكس استقرارا نسبيا في السوق العالمية للزيوت خلال الفترة المقبلة.

وتبرز هذه المؤشرات أنّ ميزانية 2026 ترتكز على فرضيات واقعية تراعي تقلبات الأسواق الدولية من جهة، وتستند إلى إمكانات الإنتاج الوطني من جهة أخرى، في محاولة للموازنة بين أهداف النموّ والاستقرار المالي ضمن رؤية تنموية شاملة.

بين واقعية الأهداف ومخاطر التنفيذ

تمنح الميزانية الاقتصادية لسنة 2026 لتونس فرصة لإعادة صياغة نموذجها التنموي على أسس جديدة، قوامها الرقمنة، والاستثمار في الكفاءات، والانفتاح على الاقتصاد الأخضر.

والتحسين المنتظر في مناخ الأعمال، مع مشاريع المدن الذكية وتبسيط الإجراءات، يمكن أن يشكل أرضية لاستقطاب رؤوس أموال أجنبية جديدة.

كذلك، فإن توجه الحكومة نحو دعم التعليم والصحة، وتوسيع الحماية الاجتماعية، يمثل خطوة مهمة نحو تعزيز رأس المال البشري وتحقيق نمو أكثر شمولاً.

غير أن الطريق إلى التنفيذ لن يكون سهلا، فنجاح هذه الخيارات الخمسة مرهون بقدرة الدولة على تعبئة التمويلات، ومواصلة الإصلاحات الجبائية والهيكلية دون المساس بالاستقرار الاجتماعي.

كما أن استدامة النمو تتطلب معالجة جذور الاقتصاد الموازي، وتطوير الإدارة العمومية التي ما تزال تعاني من بطء الإجراءات وضعف التنسيق بين الهياكل.

وتبقى المخاطر الخارجية مثل تقلب أسعار الطاقة، وتباطؤ الطلب الأوروبي، عوامل محتملة قد تؤثر في مسار النمو المرتقب.

عام 2026... بداية دورة اقتصادية واعدة

تحمل ميزانية 2026 في طياتها ملامح مرحلة جديدة للاقتصاد الوطني، إذ لا تُعدّ مجرد ميزانية تسيير أو استمرارية، بل هي خطوة مدروسة نحو انطلاقة تنموية متوازنة ومستنيرة. فقد تم لأول مرة تحديد محاور كبرى واضحة للعمل، وضبط ضوابط دقيقة للتصرف المالي، بما يضمن نجاعة التنفيذ وشفافية التسيير.

ومع اعتماد خطة تنموية تمتد إلى أفق 2030، تبدو تونس مقبلة على عام اقتصادي مشرق تتلاقى فيه الإرادة السياسية مع الرؤية الإصلاحية، في مسار يوازن بين النمو والاستقرار، ويستثمر في الإنسان والتكنولوجيا والجهات والبيئة على حدّ سواء.

ويمنح وضوح الخيارات الخمسة التي ترتكز عليها ميزانية البلاد فرصة حقيقية لتجاوز منطق الأزمات نحو منطق البناء، ويجعل من سنة 2026 بداية دورة اقتصادية واعدة، يمكن أن تعيد لتونس إشعاعها التنموي وتؤسس لمرحلة أكثر ازدهارا واستقرارا.

سفيان المهداوي